الاثنين، ٢ تشرين الثاني ٢٠٠٩

اسواق بيروت؟

اسواق بيروت؟
الياس خوري


القدس العربي
03/11/2009


كانت تمطر، وكنا نمشي وسط قباب جديدة، وشوارع مستقيمة ومتوازية، فرشت ارضها بالبازلت. نحن في اسواق بيروت القديمة، نبحث عن ذاكرتنا، فنجد انفسنا نمشي على الذاكرة.
سألت صديقي المهندس المعماري، الذي كان يقودني وسط الأسواق الثلاثة التي حافظت على اسمائها، عن الذاكرة. هل يمشي الانسان على ذاكرته؟ فابتسم وقال لي ان الذاكرة هي حذاء العمارة.
لم افهم قصده، لكنني ابتسمت وانا اتابع حكاية الأسواق التي تمت المحافظة على اسمائها: سوق الطويلة وسوق الجميل وسوق اياس.
لكنني اشعر انني في مجمع تجاري، مول كبير وضخم، له مداخل متعددة. كل معالم الماضي اندثرت، خان انطون بيك سوي بالأرض وسيقام في مكانه سوبر ماركت من تصميم زها حديد، الأسواق القديمة تلاشت، لن يكون هناك خياطون في سوق اياس، ولن يعود سوق الصاغة، ولا مكان لسوق الافرنج. وحده مبنى جريدة 'الاوريان'، بقي منتصبا في مكانه، وفي حاجة الى اعادة ترميم. بركة العنتبلي القديمة استبدلت ببركة رخامية صغيرة. مطعم العجمي لا اثر له، ورائحة بيروت اختفت.
سألت صديقي عن علاقة العمارة بالرائحة، قلت له اننا لا ندوس على ذاكرتنا فقط حين نمشي هنا، بل ندوس ايضاً على رائحة الأمكنة. الذاكرة قد تكون حذاء، مثلما يكتب الشعراء، لكنها حذاء الرائحة.
حكاية الاسواق، في منطقة باب ادريس، تشبه حكاية بيروت القديمة كلها. المدينة القديمة دمرت، في سياق مشروع اعادة الاعمار الذي تتولاه شركة 'سوليدير'. بيروت العثمانية التي كانت في محيط ساحة الشهداء، جرفت كلها ورميت في البحر، ولم تجر اعادة ترميم سوى منطقة ساحة النجمة، ذات الطابع المعماري الكولونيالي الفرنسي، التي صاروا يطلقون عليها اليوم اسم 'الداون تاون'، او اسم 'سوليدير'، وازدهرت فيها المطاعم، وصارت قبلة للسياح الخليجيين.
الأسواق، وهي ايضا ذات طابع عثماني وتقع داخل السور القديم، جرفت ايضا، وتقرر اعادة بنائها كأسواق. لكن الشركة العقارية، ارتأت بدل اعطاء كل سوق لمعماري، ضمن مخطط توجيهي وضعه المهندس جاد تابت، بهدف المحافظة على التنوع من ضمن الوحدة، وفي سياق احياء روح الأسواق القديمة والمحافظة على رائحتها، ان تعطي الأسواق لمصمم واحد. فجاء المعماري الاسباني رافائيل مونيو، بتصميم موحد، متجانس الى حد انه يلغي التمايز، ليبني هذا السوق الكبير المسقوف، والذي يشبه مولا كبيرا على الطريقة الامريكية الحديثة.
لمَ لا؟ قلت لصديقي المهندس.
وصديقي الذي غطى الأسى عينيه الصغيرتين اللامعتين، ليس مجرد مهندس معماري، بل هو من وضع المخطط التوجيهي لاعادة اعمار الأسواق.
كنا قد خرجنا مهزومين من المعركة الثقافية التي قادها معماريون ومثقفون، على رأسهم جاد تابت وعاصم سلام، بشعور مرير بالهزيمة. انتصرت 'سوليدير' على الثقافة اللبنانية بأسرها، التي كانت تقاوم من اجل استعادة النسيج التوحيدي لبيروت. عام 1994 وافق صديقي على رسم المخطط التوجيهي للأسواق، في محاولة منه لانقاذ ما يمكن انقاذه.
مشينا وسط محاولة الانقاذ هذه، لنجد انفسنا في مدينة جديدة. مخازن عالمية لبيع الثياب، لا اثر للدكاكين الصغيرة، او لما يطلقون عليه اسم البازار، عالم ما بعد حداثي يجعلك تشعر انك في لا مكان.
قلت له ان هذا هو منطق الرأسمالية الريعية، ان تكون في لا مكان.
ابتسم صديقي بمرارة وهو يروي لي عن بقايا السور العثماني المقبب الذي اكتشف في المنطقة. قال ان المخطط التوجيهي لحظ الابقاء على السور، وتحويل منطقته الى حديقة اثرية عامة. لكن منطق الشركة العقارية، الذي لا يريد للأسواق التحول ملتقى للسابلة، قام بتدمير السور، وترك منه بضعة امتار مسوّرة، لا معنى لها، كي يدّعي المحافظة على التراث!
لكن هذه الاسواق ليست قبيحة؟ قلت له.
كان المطر ينهمر، ونحن نحمل مظلة صغيرة، ونمشي في سوق اياس، الذي ترك وحده غير مسقوف. في الماضي، قال صديقي، كان سوق اياس هو السوق الوحيد المسقوف، لا ادري لماذا سقفوا سوقي الطويلة والجميل، وتركوا هذا بلا سقف. شيء غريب، على اية حال، الأسماء لم يعد لها اي معنى هنا، فهذا مجمع تجاري واحد، لا طابع له، وسيسمى سوليدير 2، ولا شيء آخر.
لم تكن المظلة الصغيرة قادرة على حمايتنا من المطر، نظرت الى صديقي فرأيت الماء يلتمع على صلعته، قلت له انه يجب ان يضع قبعة على رأسه، واخبرته عن خالي الذي كان يملك محلا في سوق الجميل، ومات من حسرته على تهديم الأسواق، وكيف انه رفض ان يخلع طربوشه العثماني، حتى عندما كان في المستشفى، يعاني سكرات الموت.
وقفنا في شارع فرعي مسقوف، حيث روى صديقي، عن سوق الخياطين، حيث فصّل له عمه بذلة عرسه، وعن المكتب الذي ورثه عن والده في تلك المنطقة، وعن السحلب الساخن، الذي كان يشربه في الثانية صباحا، عندما كان يضطر الى العمل حتى الصباح، من اجل انجاز مشروعاته الهندسية.
هل سيعود السحلب الى الأسواق؟ سألته.
ركبنا السيارة عائدين الى البيت، وفي الطريق توقفنا في مقهى 'التشايس'، في الجبل الصغير، الذي لا يزال يقدم سحلبا ساخنا.
من حول لهب الحليب الممزوج بالمستكة، قلت لصديقي ان مشكلتنا هي محاولتنا رتق هزيمتنا السياسية بالثقافة. خرجنا كوطنيين وديموقراطيين وعلمانيين من الحرب بحصاد الهزيمة، لكننا اعتقدنا اننا نستطيع متابعة حربنا في الثقافة وربما الانتصار ايضا. لكن معركة اعادة الاعمار اعادتنا الى الحقيقة العارية. فأعيد بناء بيروت كي تشبه بناتها من اصحاب رؤوس الأموال الريعية، واندثرت مدينتنا بحجة مسح آثار الحرب التي خضناها من اجل المحافظة على روحها.
هذه ليست مدينتنا، قال صديقي.
لكن السحلب طيّب الرائحة، جاوبته.
لم يبق لنا سوى ذاكرة السحلب، اجابني بأسى.