الأحد، ٣٠ آذار ٢٠٠٨

سيمريا أرض الضباب والغيوم

ربيع جابر الحياة - 25/03/08//

تُذكر مدينة سيمريا (حقيقية؟ خيالية؟) في السطر السادس عشر من الكتاب الحادي عشر في «أوذيسة» هوميروس. لا تُذكر المدينة ذاتها ولكن يذكر أهلها: السيمريون. من هؤلاء؟ وماذا تكون سيمريا؟ في السطر السابع عشر يخبرنا هوميروس أنها تتغطى بالضباب والغيوم. نحن في نهاية المقطع الأول من الكتاب الحادي عشر (تنقسم «الأوذيسة» – كما «الإلياذة» – الى 24 كتاباً. يتألف الكتاب الحادي عشر «مملكة الموتى» من 731 سطراً). انه المقطع الذي يأتي على ذكر السيمريين عرضاً ويصف في كلمات قليلة عالمهم وحياتهم (سبعة سطور هي ثم يتابع أوديسيوس مغامرته). هل يحتل السيمريون مكاناً في الكتب الكثيرة التي تحلل أعمال هوميروس؟ لا نقع على ذكر لهم في الكتاب الذي حرره جورج ستاينر وروبرت فايغلز سنة 1962. بعد سنوات طويلة، في العقد الأخير من القرن العشرين، سينشر روبرت فايغلز ترجمته الانكليزية للأوذيسة. في ملاحظاته على الترجمة نقرأ سطراً واحداً عن السيمريين: ناس يعيشون في جوار مملكة الموتى. هوميروس ذاته – الرجل الذي أنشد الأوذيسة قبل 27 قرناً – لا يتوسع في الحديث عن هؤلاء الناس: يمنحهم سبعة سطور فقط في ملحمة من 12 ألف سطر.

في هذه السطور السبعة (حتى في هذه السطور) لا يتكلم حقاً عنهم. ماذا يخبرنا هوميروس عن سيمريا؟ يقول ان السيمريين يحيون هناك، هناك بيوتهم، في أرض ومدينة مغطاة بالضباب والغيوم. عين الشمس تعجز عن اقتحام ظلمة عالمهم؛ لا يصل اليهم نور. تصعد الشمس الى قبّة السماء ثم تدور كالدولاب وتنحدر حتى تلمس قشرة الأرض من جديد. لكنها في صعودها وهبوطها تظل عاجزة عن اختراق الظلمة اللانهائية المخيمة على رؤوس هؤلاء الرجال البائسين.

هوميروس يقول هذا؟ تقريباً. الراوي الفعلي لهذا الجزء هو أوديسيوس. ننسى أحياناً أن كتباً كاملة من «الأوذيسة» لا يرويها هوميروس بل بطله أوديسيوس. تتحطم سفينة أوديسيوس في الكتاب الخامس ويلتقي في الكتاب السادس أميرة وتأخذه الأميرة في الكتاب السابع الى قصر أبيها. تدله الى القصر وتمضي قبله. هنا، في قصر السينوس وزوجته أريت، سيروي أوديسيوس جزءاً من مغامراته: في الكتاب التاسع يروي للملك السينوس وحاشيته قصة العملاق ذي العين الواحدة. في الكتاب العاشر يروي مغامرته مع سيرس، الملكة التي أرادته زوجاً مثل كاليبسو من قبلها. في الكتاب الحادي عشر يروي رحلته الى ارض الاموات وما رآه هناك وما تبادله من احاديث مع أمه الميتة ومع رفاقه الموتى (بعضهم سقط تحت أسوار طروادة، وبعضهم قتل بعد الرجوع من الحرب). هذا هو الكتاب الذي تُذكر فيه سيمريا من دون ان تُذكر. أوديسيوس يقول «السيمريين» ولا يقول سيمريا. اذا نسبنا هؤلاء الى مدينة نخترع للمدينة اسمها.

هل نثق بحكايات أوديسيوس؟ انه رجل مجبول على الكذب. كل أقرانه وجدوا عقله مملوءاً بالتواءات. آخيل رأى فيه رجلاً يقول شيئاً ويضمر شيئاً آخر. هل قال له هذا صراحة؟ هناك نقطة في «الإلياذة» يوشك فيها آخيل على ازاحة اوديسيوس من دربه كأنه يكشح ذبابة. هذا غضب آخيل وهياجه؟ يراوغ أوديسيوس في كلامه، حتى وهو يكلم أثينا يراوغ. هذه طبيعته؟ نعرف ان جده كان مثله (هناك جد آخر تنسب اليه ايضاً حكايات غريبة). عندما ينشد اوديسيوس مغامراته يصغي اليه المحتشدون في قصر السينوس. في مناسبات اخرى سيتكلم هذا الملك (علينا ان نتذكر انه ملك ايثاكا) وكلما تكلم نرى الناس يصغون الى كلماته: حتى وهو يلبس لباس شحاذ ويتصنع الفقر والبلاهة. حتى عندئذ نجد الناس يستمعون الى عباراته. يعطي هوميروس بطله هذه الخاصية (هذه القوة). الكلمات لا تموت في فمه. كلماته حيّة. ليست مستقيمة ككلمات الجامعة بن داوود لكنها مع هذا حيّة. هل نثق بكلمات اوديسيوس؟ هل نصدق ما يرويه عن اغاممنون في العالم الآخر؟ ولماذا لا نصدق؟ الكلمات فيها سحر.

لماذا تكلم اوديسيوس باقتضاب عندما ذكر السيمريين؟ يظهر من السطور السبعة المذكورة – نهاية المقطع الاول من الكتاب الحادي عشر – انه لم ينزل في مدينة سيمريا: كان مبحراً في النهر المحيط وجاوز ارض السيمريين فبلغ الضفة الأخيرة. نزل على هذه الضفة، عند تخوم العالم. نزل مع اقرانه يقود الخراف الى النقطة المحددة (سيرس دلته الى الهدف): هنا عليه ذبح الخراف وعندما يسيل الدم الاسود في الحفرة تبدأ رحلته الى مملكة الموتى. أوديسيوس يتكلم كلاماً سريعاً، يريد أن يبلغ تلك النقطة في قصته، يريد أن يرى مرة أخرى أمه الميتة، ويريد ان يسمع تايرسياس (العرّاف). لا يعرف في المرة الاولى انه سيرى أمه: لا يعرف بعد انها ماتت شوقاً اليه وهو يحارب في طروادة. لكنه في المرة الثانية يعرف. المرة الثانية؟ هذا صحيح: انه يروي للحاشية قصته، وهذا يعني انه يحيا رحلته مرة ثانية. يتلهف لرؤية أمه وأصحابه والعرّاف الذي سيخبره ما سيحدث له بعد ذلك: في طريقه الى المستقبل، الى ايام وشهور وسنوات آتية (ايثاكا هناك، في زمن آت).

لهفة اوديسيوس تشبه لهفة هوميروس؟ في «الإلياذة» تتحرك الشخصيات على مهل. الرواية كلها (رواية؟) تتحرك تحت أسوار طروادة: من الكتاب الاول (غضب آخيل يحتدم فيقرر الا يقاتل بعد الآن عقاباً لأغاممنون) الى الكتاب الأخير (أهل طروادة يحرقون جثة هكتور وينتظرون الأسوأ). في «الإلياذة» لا عجلة. (لهذا يبدو كاتبها مختلفاً عن كاتب «الأوذيسة»؟ نقاد كثر ومؤرخون للأدب يزعمون أن كاتب «الأوذيسة» هو كاتب «الإلياذة» ذاته وقد غدا عجوزاً، أشد حكمة، وأقل ميلاًَ الى الطعن والضرب. نقاد غيرهم يجدون المسافة الفاصلة بين الملحمتين كبيرة: الرؤيا الفنية والفلسفية للعالم في الملحمة الأولى لا علاقة لها برؤيا الملحمة الأخرى. هذه مسافة لا يقطعها انسان واحد! النظريات تتعارض وتتناقض. يمكن اضافة نظرية أخرى: كاتب «الإلياذة» عجوز أيضاً. ليس شاباً. «الأوذيسة» – مع تهكمها وسخريتها السوداء – ليست أشد نضجاً من «الإلياذة»). لا عجلة في «الإلياذة». الحركة بطيئة، فخمة، ومروعة. فيها جلال يؤسس السرد الكلاسيكي. تولستوي يستعين بوصف هلين (التي لا يصفها هوميروس) وهو يخطط شخصية آنا كاريننا؟ الادق القول ان آنا كاريننا ظهرت في أعماق تولستوي وهو يقرأ عن هلين في حياتها الطروادية. (أثر المرأة الجميلة في الرجال وفي عالمها).

«الأوذيسة» كلها عجلة. لكن هذا لا يجعلها أسرع أو أكثر امتاعاً للقارئ من «الإلياذة». تتحرك هذه الملحمة (الرواية) على أكثر من خط. هناك اثينا، وهناك تليماكوس ورحلاته، ثم نرى الاب اوديسيوس. هذا لا يحدث في «الإلياذة». في «الإلياذة» ايضاً لا يعطي هوميروس شخصياته ان يتكلموا صفحات تلو صفحات. كلهم يتكلمون ولكن المؤلف يبقى مسيطراً. الراوي الكلي المعرفة لا يدع للرواة ان يتسللوا الى كتابه. في «الأوذيسة» يتراجع هوميروس اكثر من مرة ويتقدم رواة آخرون (فرعيون). لعلنا نجد هنا أحد اسباب ولع هذه العصور الحديثة المهتزة بالأوذيسة على حساب الإلياذة (جيمس جويس مثل واحد).

تتجاور في «الأوذيسة» عوالم كثيرة، واقعية وخيالية. مدينة سيمريا رمز لهذا التوازي بين عوالم «الأوذيسة». انها جزء من عالمنا – بحسب أوديسيوس – لكنها ايضاً تقع عند التخوم، في جوار «بيت الموت» حيث يقيم الفانون بلا عظامهم. هل هذا «البيت» حقيقي؟ هل قصة أوديسيوس حقيقية؟ يكذب على مضيفه؟ يستدر عطفه؟ يلعب بأحاسيسه؟ ما يريده من هذا المضيف سفينة تأخذه الى بيته. في سبيل ذلك يقدر ان يؤلف قصصاً كثيرة. المضيف متلهف على سماعه: يقول ان الليل في أوله – ان هذا الليل لا نهائي – وأنه يقدر ان يسمع حكايات حتى يطلع الفجر. أوديسيوس تعبان ويشعر بالنعس لكنه يكافح ويروي قصة تلو أخرى (هذا بعد ان يملأ بطنه، «الكلب الجائع»). الغريب في رواية أوديسيوس عن مملكة الموتى انه يذكر مرة تلو اخرى المنامات. عندما يصف حركة الموتى تتكرر الكلمات ذاتها: يسبحون أمامه كأنهم في منام. هل رأى أوديسيوس هذا المقطع من مغامراته في منام؟ انه يذبح الخراف، يرى الدم الاسود يتجمع في الحفرة، وعندئذ فقط يرى تلك الاشباح ويرى امه تدنو ولا تعرف وجهه. (كم غيّرته الأعوام؟ كم غيّره البحر وكم غيّرته كاليبسو وكم غيّرته المغامرات؟). هل نام وهو ينظر الى السائل الاسود يتجمع في الحفرة؟ هل نام وكل الكتاب الحادي عشر قطعة من منام؟

لعله نام قبل أن يذبح الخراف (بعد قليل يذبح رفاقه خراف الشمس وتحل عليهم اللعنة). لعله نام قبل أن يجاوز ارض السيمريين، حيث يغطي الظلام «تلك الرؤوس البائسة». لعله نام وهو ينظر عبر الضباب (متعباً من الرحلة الطويلة، سامعاً الموج يلطم جانب السفينة)... ينظر الى أين؟ الضباب يغطي البحر، يتدحرج أبيض كثيفاً ثم يتباعد، وعبر الضباب يرى الرجل مدينة سيمريا. يراها وينام وهو ينظر اليها. ما هذه المدينة التي تنام وأنت تنظر اليها؟ ما هذا الهدوء الذي يملأ الخلايا فجأة ويخرجك من العالم الى مكان بعيد؟ أين أنت؟

تبحث عن مدينة سيمريا في كتاب صدر سنة 1972 ولا تعثر عليها. كالفينو يملأ «مدن غير مرئية» بالاسماء الموحية: زورا. انستازيا. زائيرا. دوروثيا. ايسيدورا. ديوميرا. دسبينا. زيرما. فيدورا. زنوبيا. اوفيميا. هيباتيا. ارميلا. ارسيليا. اسميرالدا. موريانا. بيرشينا. اوليندا. لودوميا. بيرنتيا. تيودورا. بيرينيس. اندريا. بروكوبيا... تبحث وتبحث، تمضي مع ماركو بولو ومضيفه قوبلاي خان من مدينة الى مدينة، تقطع الصين الخيالية من اقصاها الى اقصاها، تجاوز نيويورك وأبراجها، ومع ذلك لا تعثر على سيمريا. مدن كالفينو الخفية تحمل في أعماقها موسيقى واحدة: يكفي أن تكرر لفظ الاسماء حتى تتأكد. من أين تنبع تلك الموسيقى؟ من فينيسيا (مدينته الاولى وبيته الاول، مدينة ماركو بولو وبيت ماركو بولو).

هل استوقفت مدينة سيمريا كالفينو وهو يقرأ كلمات هوميروس قاعداً في فينيسيا السابحة على ماء؟ سيمريا موجودة؟ هوميروس لا يذكرها في الكتاب الحادي عشر (لعله ذكرها في كتب أخرى؛ مع انه لم يكتب: كان ينشد وغيره يكتب؟). سيمريا موجودة؟ كل ما ذكره هوميروس ان الناس هناك لا تصل اليهم اشعة الشمس. كيف تترجم كلماته الى العربية؟ تقرأ كلماته مترجمة من اليونانية الى الانكليزية وتحاول ان تترجمها الى لغتك وتعجز. سقط البرج في بابل وتبعثرنا على 72 لساناً (آلاف الالسنة هي، وفي كل نهار ينقرض لسان: في احدى الجزر البعيدة لغة يتكلمها انسان واحد واذا مات تنقرض هذه اللغة القديمة. على جزيرة أخرى سبع قرى وكل قرية تتكلم لغة تخصها، وكل قرية مفصولة عن القرى الاخرى بالتلال. اذا ارتفع موج البحر وغمر الجزيرة تختفي من هذا العالم اللانهائي سبع لغات. هذا حقيقي. مكتوب في كتب. يُدرس في جامعات. يُنشر في تقارير الامم المتحدة. ليس خيالياً). سقط برج بابل وتبعثرنا على 72 لساناً وعلى 72 عالماً. كل لسان عالم. كل لغة عالم. هوميروس الانكليزي ليس هوميروس الاغريقي. أوديسيوس لم يتكلم بألسنة. لم يترجم ولم يعبر لغات من عالم الى آخر. هل ترجم؟ هل قطع الحدود بين لغات وهو يغامر في جزر موزعة على بحار قديمة؟

هل تعلَّم يوماً لغة السيمريين؟ هل دخل يوماً مدينتهم؟ سيمريا أرض الضباب والغيوم، حيث الظلمة شديدة. مدينة شتوية هي؟ ابن فضلان بلغ اقاليم الظلمات لكن تلك بلاد البلغار وليست جزيرة في بحار اليونان القديمة. تبحث عن سيمريا في «معجم البلدان» لياقوت الحموي الرومي معاصر ماركو بولو. تجد سيبان. تجد سيتعور. تجد سيتكين وسيج وسيحاط وسيحان. تجد سيحون. سيداباد، سيديز، سيراف، سيران، سيراوند، سيراة، سيرجان، سيسمراباذ، سيسية. سيلا. سيلان. سيلحون. سيلون. سيلة. سينان. سينا. سينيرين. سيوح. أين سيمريا؟ تجد سيوستان، تجد سيوط، تجد سي، تجد سيهى، تجد سيّة. لا تجد سيمريا.

لماذا لم يذكر ياقوت الحموي الرومي هذه المدينة في معجمه؟ لم يعرفها؟ كان يعرفها ووجدها غير واقعية؟ لكنه طالما ذكر مدناً خيالية في كتابه. يعرف ابن فضلان وينقل عنه. يعرف زكريا القزويني؟ كان مولعاً بالكتب، يحمل في ذاكرته لغة يعرفها ولا يعرفها، ويبكي اذا احترقت مكتبة.

أُسر ياقوت وهو صغير فصار واحداً منا. منا؟ من نكون؟ الهوية حقيقية؟ أهل سيمريا من هم؟ يعرفون لغتهم؟ يحفظون تراثاً وتقاليد؟ ماذا؟ ياقوت لا يذكرهم. لم يعرفهم؟ لم يرَهم في منام يوماً؟

ماذا تكون سيمريا؟ نعرف مدينة على شط البحر، مدينة لا يهمّنا اسمها. مدينة يراها أهل البحر «جَمَلاً بعده تمتد رمال» ويراها أهل الصحراء «سفينة بعدها تمتد المياه». كالفينو رأى تلك المدينة وسمّاها. هل للمدينة اسم واحد؟ هل عرف ياقوت سيمريا مدينة الضباب والغيوم المعلقة عند حافة الحياة وسماها باسم آخر في كتابه؟

أهل سيمريا عندهم كتب؟ عندهم مؤلفات في الأدب والعلوم والتاريخ والجغرافيا؟ عندهم كهرباء ومياه شفة تصل الى بيوتهم؟ في الظلام يضيئون المصابيح، يشعلون ناراً؟ انقرضوا بمرور الاعوام؟ ما زالوا أحياء؟ هم هنا ونحيا بينهم؟ اين سيمريا؟

نعرف أين تقع التيبت. التيبت هضبة عالية تُسمى سقف العالم. تنتشر فيها شاحنات عسكرية هذه الايام. في زمن ماركو بولو انتشرت فيها صقور تصيد طرائد وغزلان مسك يستخرج المسك من بطونها. كافكا يذكر التيبت مرة واحدة في «سور الصين العظيم»: الراوي يقول إنه يأتي من الحدود الجنوبية للصين وان قريته تجاور التيبت. نعرف أين التيبت من دون أن نذهب اليها: نضع اصبعاً على الاطلس ونعرف مكانها. نعرف أين سيمريا؟

الطبعة الحادية عشرة من «البريتانيكا» تدلّنا؟ تبحث في المجلدات المطبوعة سنة 1911 (عالم ما قبل الحرب الكبرى، عالم ضاع كما يضيع كل شيء) فتجد في الصفحة 368 من المجلد السادس ما تبحث عنه. لا تجد المدينة لكنك تجد السيمريين وتعرف ان هوميروس ذكرهم في الكتاب الـ 11 من الأوذيسة وأن هيرودوتس أيضاً ذكرهم في تاريخه ولعلهم من أهالي جنوب روسيا. البريتانيكا القديمة تكتب اسمهم هكذا Cimmerii. وفايغلز يكتبها في ترجمته الصادرة سنة 1996 Cimmerians. البريتانيكا القديمة ادبية اللغة، موادها مشرعة على الحقيقي والخيالي. من أوراقها الصفراء القديمة تفوح رائحة الوقت، قوية وحزينة. تبحث عن سيمريا في الموسوعة ولا تعثر عليها. بلاد الروس المظلمة (سيبريا) مذكورة في رحلات لا تعد. ابن بطوطة يعرفها. أرض الصقالبة يمكن نقلها على الخريطة من شرق أوروبا الى غربها. رحلات عوليس تنتقل بسهولة من شرق المتوسط الى غربه أيضاً. الجغرافيا خيال. كان الادريسي يضع الشمال أسفل الخريطة والجنوب اعلاها. أهل اليابان يضعون اميركا حتى هذه الساعة في أقصى الشرق. الجغرافيا خيال. لكن أين تقع سيمريا؟ ولماذا ننعس ونحن ننظر الى الطيور تحوم في سمائها؟ هل سيمريا موجودة؟

تُذكر سيمريا في السطر السادس عشر من الكتاب الحادي عشر في «الأوذيسة». هوميروس لا يُسمّي المدينة ولكنه يذكر أهلها: السيمريون. الباحث عن هؤلاء في مؤلفات وأطالس وكتالوجات قديمة قد يعثر عليهم. ربما يعثر عليهم في مكان قريب، ربما في مكان أبعد مما تطاله يدك. هل يعثر أيضاً على مدينة سيمريا؟

طيور

ربيع جابر الحياة - 04/12/07//

طيور صغيرة الحجم هاجمت الجريدة. البناية تقع وسط بيروت. غير بعيد منها كاتدرائية مار جرجس للموارنة (جاوز عمرها مئة سنة). كانوا يهدمون بناية من بقايا الحرب الأهلية الطويلة، بناية تلاصق الكاتدرائية ذات الأجراس. كانوا يهدمون بناية خَرِبة تطلّ على مجمع اللعازارية فاقتحمت أسنان الحديد أوكار الطيور الهاجعة. الناس قالوا ليست طيوراً. هذه أكبر حجماً من النحل، أكبر من ملكات النحل، لكنها أصغر من الطيور.

عصافير الدوري تملأ بيروت. ليست كبيرة كالحمائم لكنها جميلة. يبتلّ ريشها فتتقافز على الرصيف، تحت أشجار تقطر في هذا الخريف. اذا رأت مظلة تهرب من المظلة. تقفز وتطير الى الجهة الأخرى. ربما تظل في هذا الجانب. لا تطير عالياً لأن ريشها مبلول. العصافير. لكن هذه الطيور التي تخرج من البناية المتساقطة ليست عصافير. ماذا تكون؟ دخلت من نوافذ الجريدة المشرعة على الآثار الرومانية. لم تدخل نوافذ غاسبر أند غامبيني لأنهم قبل وقت أقفلوه. قبل زمن كان الواحد يرى أناساً يقعدون هنا ويشربون قهوة تطفو على وجهها رغوة بيضاء وعلى الرغوة تطفو حروف شوكولا أجنبية. كيف ترسم بالشوكولا الهشة على الرغوة الهشة حروفاً؟ هذا فن. وتحريك القبضة الحديد فن. ضربت الكرة الحائط. خرجت الطيور الغريبة من أوكارها وملأت الفضاء. متى نزلت هذه الطيور في هذه الخرائب؟ وكم جيلاً أنجبت في هذه الظلمات؟ متى تخربت هذه البناية؟ كان خميساً عادياً وعادل لم يكن هنا. كان إجازة. اذا استدار في الكرسي يرى العمال يتسلقون البناية تحت الرذاذ الخفيف ويتعلقون في الفضاء. اذا سقط الواحد من هذا العلو الشاهق - اذا سقط على آثار الرومان – ماذا يحدث لعظامه؟ العظم رقيق. خافوا عندما هاجت الطيور. هذه الطيور تعقص، ليست طيوراً. هذه حشرات طائرة؟ لعلها كذلك.

«برج» يطل على اسطنبول ... تجهيز الفنان التركي سيم ساغبيل (أ ب)
«برج» يطل على اسطنبول ... تجهيز الفنان التركي سيم ساغبيل (أ ب)

الناس خافوا وهربوا بين المطاعم والمكاتب. كانوا يخبطون الهواء حول رؤوسهم كأن مسّاً أصابهم. ترى الخوف في عيونهم. ترى ذعراً غامضاً لا نهائياً غير مفهوم. المفروض أنهم رأوا مثل هذه الكائنات الطائرة من قبل. المفروض أنهم خبروا في حياة طويلة سبل النجاة من هذه الطيور. عندك المبيدات. وعندك إقفال الشبابيك (لكن ماذا تفعل بالحرارة؟ صحيح أنه الخريف، لكن الطقس حار. واذا اشتغل المكيف يضربنا هواء بارد ونمرض. لا نريد أن نمرض. اذاً؟).

المفروض أن الإنسان أقوى من الطيور. لكن هذه الطيور غريبة. كم سنة أقامت في هذه الخربة المفصولة عن خربة أخرى ببنايات مملوءة مكاتب؟ الأطلال لم تعد كثيرة هنا. تساقط القسم الأكبر منها. وراء اللعازارية عندك السينما القديمة: سيتي بالاس بالقبّة البيضاوية لم تقع بعد. البناية التي وقعت قبل أيام (بناية الطيور الغريبة) متى اقتحمها للمرة الأولى الخراب؟ اللعازارية – مجمع الأبنية التجاري المجاور - احترق للمرة الأولى في أيلول (سبتمبر) 1975. 1975 أم 1976؟ باتت «حرب السنتين» بعيدة. اذا أراد الواحد يغلط في التواريخ. من يقرأ جرايد 1975 في خريف 2007؟

ها نحن ندخل الكوانين. درجة الحرارة مفروض أن تهبط. الأمطار لا بد من أن تزيد. تجري نزولاً في الشوارع وترفع منسوب البحر. هذا يحدث منذ زمن سحيق. دورة الفصول. من يتأمل نجوم السماء هذه الليلة؟ واذا رأيت نجماً يشع ثم يموت، اذا رأيت بداية النجمة ونهايتها ماذا تظن؟ من يفكر في النجوم هذه الليلة؟ ذعر ضرب قلب المدينة عندما هاجت هذه الطيور. غداً نراها ميتة، سوداء وصفراء، على الرصيف أمام «ديو» و «لا بوستا». العمال يأتون بالثياب الخضر مع المكانس. أحياناً يتحرك الواحد منهم حركة غريبة. يدور على نفسه ويرفع ذراعه ويخبط الهواء حول أذنيه. الطائر الصغير الميت تململ فجأة وقفز من أمام المكنسة وارتفع. غاب تحت قناطر الشارع العالية. ما هذه الطيور الغريبة؟ من أين تأتي والى أين تذهب وكيف نعلم متى تعود؟

وليام بليك تطير فوق رأسه خفافيش. ماذا بقي من الشاعر القديم؟ نمر أصفر يقطع الغابة. حيوان مخيف يخرج من غبشة المساء ويدنو من البيت. فروته ذهب مخططة. البيت قائم على كتف الوادي. والنمر أتى من تحت. نمر في هذه العصور؟ كيف هذا؟ يدنو على مهل، يخطو خفيفاً مع أنه ضخم الجثة. يقترب ويقترب ويقترب. في عينيه شرّ. أين تهرب؟ تفرّ الى باب البيت المشرع. قبل أن ترد البابّ يلحق بك. تهرب منه الى غرف داخلية. يطاردك. كابوس؟ تستيقظ؟ لا؟

كانون الأول (ديسمبر) 2007 يتبعه كانون الثاني (يناير) 2008. تفتح باباً وتدخل غرفة أخرى. بلاد تفتح الأبواب وتقفل الأبواب. تنجو؟ كانون الأول يتبعه كانون الثاني. مفروض.

المدينة والخريف

ربيع جابر الحياة - 16/10/07//

الخريف. مرة أخرى تأتي الغيوم. عما قليل يتساقط المطر. يغسل الغبار عن الطرقات والسيارات والبيوت. زحف النمل يتراجع. البعوض يبرد في بيوضه ويموت. الخريف. مرة أخرى تأتي الغيوم.

الوقت باكر. الطرقات فارغة. سهروا طويلاً أمس. الآن ينامون. النوم حلو. تحت أسوار طروادة ناموا بعد المعركة. وعندما استيقظوا التحموا من جديد. المصابيح ما زالت مضاءة. عمال البلدية لم يستيقظوا بعد. السماء غائمة والنور أبيض ضارب الى الرمادي. الغيوم العالية تبدو رمادية – زرقاء. قاتمة. تفور فوق البحر وتقترب.

مونو متسخ. الأكياس تطير. القناني – مكسرة وغير مكسرة – لا تطير. سيارة تنتظر. مرافقون يقفون وراء السيارة ويتكلمون. وجوه تعبانة من السهر الطويل. يشعلون السجائر كأنهم يحرقون غابة. الدرب ينحدر وعند جسر فؤاد شهاب جنود وعامل تنظيفات. من أين جاء؟ من أي جزيرة في المحيط الهندي؟ كيف يرى هذه المدينة؟ يلبس الأخضر ويدفع عربة خضراء. يلقي التحية على الجندي ويسند العربة الى حافة الرصيف. المكنسة تعلق بين بلاطات الطريق. كيف تعلق المكنسة؟ هذا غريب.

على طريق الشام أوراق يابسة. رموا زفتاً على الرصيف. الطريق مقطوعة هنا والسيارات تطلع على الرصيف وتنزل، تطلع وتنزل، تطلع وتنزل، سنة كاملة والسيارات تتسلق هذا الرصيف. تكسرت بلاطات الرصيف. انفتحت هنا حفرة. فخ تقع فيه السيارة اليابانية وتقع السيارة الكورية وتقع السيارة الألمانية. كل السيارات تقع في هذا الفخ. وبعضها ينكسر. فتيان يركضون ويحملون السيارة. الزحمة فظيعة. تمتد الى «فلافل صهيون»، تمتد الى مفرق اليسوعية الفوقاني، تمتد الى بشارة الخوري العالي البعيد.

رموا زفتاً على الرصيف. لا أحد على الطريق. الهواء يلعب بين أعمدة الجسر. مصباحان برتقاليان ينظران عن جنبي القبة البيضاوية لسينما سيتي بالاس. السماء رمادية والفضاء رمادي والقبة رمادية. عينان كهربائيتان تحدقان الى مشهد العالم. ماذا ترى المصابيح في الليل والنهار؟ حمامة بيضاء كالثلج تتقافز وحيدة كملكة على بلاط اللعازارية البركاني الأحمر. عين الحمامة. دائرة صفراء – حمراء. وفي المركز دائرة سوداء. بؤبؤ يتسع ويضيق. الرطوبة فظيعة. الحر فظيع. الباحة مهجورة. أين هو الخريف؟ أجراس مار جرجس تجنّ. شارع المعرض مهجور. شاحنة صفراء. هذه للماء. شاحنات الغاز بيضاء. الصفراء للماء والوقود. حمائم تجفل وتطير. رجل قفز عن الشاحنة يجرّ خرطوماً ثقيلاً والطيور ارتفعت الى السماء. حمامة الأزمنة الحديثة تعيش. لا يطاردها نسر ولا يكسر صقر رقبتها. حظ الحمامة. تحت أسوار طروادة رأى العرَّاف نسراً يطير، يدور حول الأبراج ثم يختفي. ماذا قال العرَّاف عندئذ؟

الإلياذة 24 كتاباً. قصة مدينة إليون. إسم قديم لطروادة. نهايتها جنازة هكتور. لا نرى في الإلياذة موت آخيل. نعرف أنه عما قليل سيموت. ولا نراه يموت. لماذا منع هوميروس الموت عن آخيل؟ باتروكلوس يموت لابساً درعه. لكن آخيل لا يموت. لماذا؟

طروادة كذلك لا نراها تقع في يد الآخيين. نعرف أنها عما قليل ستقع. ولا نراها تقع. لماذا منع هوميروس المدينة من السقوط؟

شارع بلس يمتد ويمتد. سيارة ترتطم بحافة الرصيف. السائق مخمور؟ السيارة تتابع طريقها وتختفي. نحن خارج السيارة. لسنا فيها. لا نعرف الصاحي من المخمور. المياه تسيل أمام محلات البوظة والعصير. أين الافران القديمة؟ السروات تميل وراء درابزين الجامعة. وراء السور الحجر القديم. متى بُني هذا السور؟

كل الطرقات تغطيها الأوساخ. الصيف طال والمطر لا يتساقط. دورة الفصول. في أي حفرة وقعت الاعوام بين دعستين على الطريق؟

لا أحد يحزن. تمضي السنون. غداً وغداً وغداً... لا يحزن أحد. أين وردة ريلكه ننظر اليها ونشبع نظراً؟ لا ندري أين تأخذنا الطريق.

المدينة تنام. اليوم عطلة. لا مدارس ولا مصارف. لا مكاتب ولا دكاكين. المدينة تنام والرطوبة تتكاثف مثل الغيوم. الطرقات وسخة لكن الناس في البيوت. النوم حلو. مصابيح الليل ما زالت مضاءة. بيضاء وبرتقالية. حمراء وصفراء. في هذا الشارع الساكن الطويل مصباح أزرق. تحت المصباح يتقافز عصفور صغير. هذا العصفور حقيقي أم خيالي؟ ألوانه غريبة. بطنه أحمر الريش. يكون هنا، وفي لحظة يختفي.

المدينة تنام. نسبة التلوث عالية في هذه المدينة؟ نسبة التوتر عالية في هذه المدينة؟ مجنون من يصدق الجرايد والاذاعة والتلفزيون. المدينة هادئة، وديعة، تنام كالأميرات في الأساطير. لا حبّة فول تحت الفراش. ولا رجل يدنو من وراء الادغال ويلج المدينة النائمة. يوقظ الحياة الهاجعة. يرسل فيها صخباً وعنفاً. لا خوف. أشجار تتمايل في هواء الصباح الخفيف. تصغي وتسمع تغريد العصافير.

تحت أسوار طروادة تلتحم جيوش. الرجل يهوي والظلمة تغزو عينيه. أسنانه تعضّ التراب والروح تطلع من فمه. طروادة بعيدة. هوميروس بعيد. المدينة نائمة والحمائم تطير عن الدرابزين.

غابة بين مدينتين ...هل تقع الحرب من جديد؟ هل نحرق الغابة؟

ربيع جابر الحياة - 17/07/07//

غابة تفصل بين مدينتين. لولا الغابة تقع حروب ويموت بشر. المدينة الأولى تشبه الأخرى. مع هذا تتبادلان العداء. لماذا هذا العداء؟ السؤال قديم ولا نعرف جواباً. الأجوبة كثيرة لكنها لا تقنع أحداً. واذا اقنعتنا اليوم لا تقنعنا غداً. نحن نتغير والعالم يتغير. المدينتان أيضاً. قبل زمن بعيد كانت المدينة الشرقية أصغر مساحة. المدينة الغربية العالية الأبراج كانت (هي أيضاً) أصغر مساحة قبل زمن بعيد. المدن هكذا. تتمدد بمرور الوقت. يجيء اليها نازحون من أمكنة بعيدة، من وراء الجبال والصحارى والبحار، فتتضخم وتتورم ولا يعود الساكن فيها يعرف أين بيته. بيننا ناس يخشون اذا خرجوا من المدينة ألا يعرفوا طريق العودة الى أحبابهم. الأهل والأبناء يتبادلون الاتصالات الهاتفية كل صباح وكل مساء: يؤمنون أن الأسلاك بين البيوت المتباعدة تمنع تفكك العائلات.

هل هذا حقيقي؟ المعاناة الحقيقية هي معاناة القبائل الموزعة بين المدينتين. قبل قرون – في زمن سلمٍ وازدهار – تصاهرت المدينتان: اختلط الدم الشرقي بالغربي. السلالات الناتجة من تلك الزيجات المنقرضة تتعرض الآن لأمراض غير مألوفة. الكآبة (الملانخوليا أو السويداء) مرض شائع وقديم. الأسلاف نصحوا بالنزهة دواء. نصحوا بشرب الماء وأكل الشوكولا أيضاً. لكن في الفترة الأخيرة شاع مرض أخطر من الكآبة: ناس يموت الضوء في عيونهم فجأة فيتركون المدينة ويذهبون الى حيث لا نعلم. أين يختفون؟ أين ذهبوا؟ لا يدري أحد. يُقال انهم ذهبوا الى المدينة الأخرى. لكن هذا لا يصدق. هذا ببساطة مستحيل. أين اختفوا إذاً؟

سُجلت حالات من النشاط المفرط: رجال يتحولون فجأة الى كتل طاقة لا تهدأ ولا تسكن. هؤلاء يبرق الضوء في عيونهم كأن قوة الحياة تضاعفت في أعضائهم مئة مرة. وبين هؤلاء من اختفى أيضاً. أين يذهبون؟ تنتشر قصص – لكن من يصدق الاشاعات في هذه الأزمنة المضطربة؟ - ويُسمع في الأسواق والمكاتب والمطاعم كلام عن دخول البعض الى الغابة أو سفره الى مدن بعيدة يعرفها دارسو الأطالس والجغرافيا. لكن هذا أيضاً لا يصدق. هذا ببساطة مستحيل. كيف يترك انسان ولد هنا وعاش هنا وبنى هنا بيتاً، وهنا تزوج ورُزق الأولاد، كيف يترك الواحد مدينته هكذا، وبلا سبب معقول؟ تبدو المسألة غامضة ومحيرة ومثيرة للغيظ. تجد ناساً يقفون عند إشارات السير وهم يقضمون أظافرهم محاولين فهم الأسباب وراء الانقسامات التي تضرب الرأي العام. عناوين الصحف تتضارب على نحو فظيع. اذا قالت الصحيفة «أ» انها أمطرت سيولاً أمس كتبت الصحيفة «ب» ان الجفاف الذي يضرب البلاد منذ أيام وشهور بات يهدد الدواجن والماشية بالموت عطشاً. تنفق الطيور محروقة بأشعة الشمس في الصحيفة «ب» وتغرق الطيور نفسها على الصفحة الأولى من الصحيفة «أ». أهل الدعابة يقولون النتيجة واحدة. هؤلاء كثر. ليسوا قلة. يلبسون الفانلات البيض ويسهرون على السطوح ويسمعون الأغاني الصاخبة. اذا هبّ هواء الليل من جهة الغابة لا يخشون عواء الذئاب: على الأرجح لا يسمعون العواء بسبب الموسيقى والهدير المنبعث من التلفزيون. هذه ظاهرة مستجدة: الصوت المرفوع للتلفزيون. يتبارى الجيران على رفع الصوت. هذا يتحدى ذاك. ولكل بيت قناة مفضلة وصوت مفضل. الجماعات تنقسم. ومرات تنقسم العائلة الواحدة. امرأة دفعت أختها عن الشرفة. الأخت بدينة الجسم. الشحم – لحسن حظها – خفّف أذى السقطة. لم تدخل المستشفى لكن الحادثة على بساطتها تدل على الانحدار في مستوى التواصل والتخاطب بين المواطنين.

في هذه الأثناء يقال ان المدينة الأخرى في حال أسوأ. يقال ان السلاح انتشر هناك وان القصف بدأ. يقال ان المدينة الأخرى انقسمت الى مدينتين. هذا غير مؤكد. الغابة عريضة وقديمة وعميقة وتفصل بين عالمين. كل مدينة عالم. دارسو التاريخ والميثولوجيا يعتقدون ان العالم يحوي مدينة واحدة فقط. أما المدينة الأخرى فليست إلا حلماً. لعلها مدينة من الماضي المندثر. لعلها مدينة مستقبلية. «المدينة الأخرى احتمال من احتمالات مدينتنا»، يقولون. لكن هذا لا يصدق. هذا مستحيل. الكل يعلم ان العالم مملوء مدناً. يكفي أن تفتح كتاباً لتتأكد. الكومبيوترات الموزعة على المقاهي دليل آخر: انها تربطنا بمدن تتباعد على أطراف الخريطة. واذا كان هذا لا يكفي ما على القارئ إلا أن يتسلق برجاً – أو بناية عادية كالبناية حيث تحيا – وينظر من فوق الى ما وراء الغابة: هل يرى تلك الأضواء المتلامعة وراء أدغال البطم والسنديان والصنوبر والصفصاف، هل يرى تلك النوافذ المتراصفة؟ لا بد من أنه يراها. انها المدينة الأخرى! يُقال اننا في البداية كنّا مدينة واحدة. ثم جرت حروب. وظهر خط تماس بين المدينتين. ومع مرور الأعوام، ثم العقود، ثم القرون، تحول خط التماس الى هذه الغابة. لكن هذا لا يصدق. الغابة ضخمة لا نهائية. كل شجرة فيها تكفي لبناء قرية. المدينة قطعة صغيرة من البيوت نابتة على حافة الغابة. الظلمة بين الأشجار لا تُحد. الغابة محشوة ظلاماً. لا أحد يجرؤ أن يدخل بين الأشجار.

علماء النفس البشرية (مؤلفاتهم محفوظة في مكتباتنا، مكتبات غارقة تحت الأرض، مقفلة: الحراس يمنعون اخراج الكتب منها لئلا تُسرق الكتب أو تختفي. للأسف هذا يعني ان الكتب تفسد بالرطوبة وتقرضها الحشرات والفئران) علماء النفس البشرية يعتبرون الغابة استعارة، صورة لأعماق الإنسان. هذا غير معقول. أحد هؤلاء دخل الغابة ليجمع أدلة. اختفى. بعد سنين عثرت الشرطة على هيكله العظمي. ظهر من فحص الطبيب الشرعي أنه مات بعضات الذئاب.

الغابة تحكمها قوانين الغابة. الأمطار تروي الأشجار والأشجار ترتفع الى أعلى، تطلب نور الشمس. الأرانب تركض تحت الأشجار وتقضم الفروع الطرية. الثعالب تطارد الأرانب وتأكلها. الثعالب يقتلها الصقيع. حشرات الغابة تحول الثعالب الى مادة عضوية. الأشجار تنمو. ترفع الماء بجذورها. ترفع الشجرة الواحدة طناً من الماء كي تملأ بالحياة أغصانها وأوراقها. الغابة تنتشر. اذا قطعت هذه الغابة كلّها نبتت من جديد – بعد قرون – نسخة طبق الأصل عن الغابة المقطوعة. الصنوبرات ستنمو في النقطة ذاتها حيث نمت من قبل. السنديانات كذلك. والبطم أيضاً. الغابة عجيبة. وحول الشجرة تظهر الأشواك وتوت العليق. هذا بسبب العصافير. تحط العصافير على الأغصان. تقع منها قاذورات تحوي بزوراً. العصافير أكلت توت العليق في أمكنة بعيدة وأتت بالبزور في جوفها الى هنا. المطر يقع على الغابة والسرخسيات تظهر على سطح البرك والطحلب (الخز) يغطي جذوع الأشجار. اذا سقطت شجرة في العاصفة تغطت بالأخضر ثم نمت من الأخضر فروع جديدة. بذور تقع على الجذع المتعفن وتفرخ. تظهر الأشجار متراصفة صفوفاً في الغابات. عندما نبتت نبتت على جذع مستقيم واحد مطروح على أرض الغابة. تفتت الجذع. حال تراباً وفطراً. الجو هنا رطب، خانق. هذه غابة مطرية. الورق أخضر، لزج، يقطر ماء. بخار الماء يخنق الواحد اذا عبر بين الأشجار. الرطوبة مخيفة. كأنك تحت البحر. لا أحد يدخل الغابة. نبقى في المدينة. مدينة هنا. ومدينة هناك.

أحدنا يحتار أحياناً في أي مدينة هو: الشرقية أم الغربية؟ هل نصدق الخريطة والجريدة والتلفزيون؟ لكن هذه كلها قد تخدعنا. ماذا نصدق اذاً؟ المعرفة همّ في مدينتنا. الجميع يتعطش الى المعرفة. حتى في هذا الصيف الحار، والمراوح تدور، والعرق يبلّ القمصان، حتى في هذا الحرّ لا نكف عن السعي الى المعرفة. لا نقفل التلفزيون حتى ونحن نيام. ننام وهو يخش ونقوم وهو يخش. لا يفوتنا خبر. من مسجد يُحاصر الى مخيم يُقصف الى مدينة تحترق. أعاصير المحيط الهادئ تهمّنا. الجفاف في أفريقيا يهمّنا. عطشنا الى المعرفة فظيع. يقال انه السبب الأساس للانقسام بين القادة السبعة. القادة السبعة يطلبون كتاباً واحداً. الكتاب مخفي في قلب الغابة. اذا وجده أحدهم أمسك بالبلاد وحكم العالم (في بلادنا نحسب أن مدينتنا هي العالم). في هذه الحال يُعدم القادة الستة أو يسكنون مع القنافذ أوكاراً في بطن الأرض.

مدينتنا تضطرب. بدأت الأشجار تظهر بين البنايات. هذا يعني أن أهل البنايات هجروها. فقط عندما يبتعد الإنسان تتسرب الغابة بأشجارها وأشواكها وأعشابها الى قلب الشوارع، الى قلب المدينة. ماذا يحدث؟ متى ذهب سكان البناية وراء السوبرماركت؟ صاحب السوبرماركت انتبه أولاً. البضاعة تتكدس على رفوفه ولا أحد يأخذها. مدة الصلاحية على علب اللبنة والجبنة والمرتديلا انتهت. أكياس المكسرات الصينية حالت فتاتاً ولم يأخذها أحد. رفع الصوت والخبر انتشر في الحي. الناس يرحلون. لكن الى أين؟ وهل يعودون؟ يقال انها اجازات صيفية. يذهبون الى جبال أو منتجعات على شط البحر الأسود. يقال انهم قصدوا جزراً في المحيط الأطلسي تكثر فيها أشجار الأناناس والسناجب الطائرة.

في مدينتنا نعرف السناجب. الأولاد يعرفونها من كتب القراءة في المدارس. قبل زمن بعيد كانت السناجب تقطع مدينتنا من جهة الى أخرى طائرة بين أغصان التوت. في ذلك الزمن كانت الغابة تغطي المدينة. ثم قطعنا الأشجار وبنينا البيوت وزرعنا الأرض. هذا مكتوب على ألواح محفوظة. يُدرس في الجامعات. الأسلاف ذكروا ان مدينتنا بنيت قبل المدينة الأخرى. قيل ان المطرودين من مدينتنا – لأسباب أخلاقية – بنوا المدينة الأخرى. ولعلهم هناك يقولون عن أصل مدينتنا الشيء نفسه.

هل تقع الحرب من جديد؟ هل نحرق الغابة؟ هل نحرق المدينتين؟ القادة لم يحسموا أمرهم بعد. والأتباع أيضاً. يقال ان القادة مقيدون بأتباعهم. يقال ان الأتباع هم القادة. يقال ان لا القادة ولا الأتباع يملكون قراراً. يقال ان العالم محكوم بقوانين الغابة. بين حين وآخر تقرر الغابة أن تتمدد: الأشجار تنشر جذورها تحت التراب ثم تقرر أن تتكاثر. الغابة تطلب حقها: من قبل كانت تغطي هذه المساحات كلّها. الغابة تطلب حق العودة: وعلى الإنسان أن يبتعد.

أين نذهب؟

الوقت الأسود يعود؟ التاريخ العاطفي للمدينة النائمة

ربيع جابر الحياة - 30/01/07//

الخميس 25 كانون الثاني (يناير) 2007. الحادية عشرة ليلاً. شوارع بيروت فارغة. تقطع تحت مصابيح الكهرباء البرتقالية. حواجز جيش. سيارات عسكرية. ممنوع التجول هذه الليلة. الجيش أصدر بياناً. وسائل الإعلام تذيع البيان الرسمي كل ربع ساعة. التجول ممنوع في محافظة بيروت من الـ 8.30 مساء الى السادسة صباحاً. تسلك طرقات فرعية. لا أحد في الطرقات. الريح تصفر في عبدالوهاب الإنكليزي.

كلاب تنبح في بورة وراء بناية. نباحها لا يشبه عواء الذئاب. هذه ليست غابة. البنايات ليست شجراً ملتفاً. زوايا الطرقات تعرفها. هذا الزقاق ليس دغلاً. لن تهجم ثعابين عليك من وراء المتجر. الرصيف رطب. ماء ينبع من تحت البلاط. الإسفلت انتفخ. تعرف هذه الدروب. منذ سنوات تقطع الدروب ذاتها. تحفظ واجهات المتاجر. تحصي الأشجار. البرتقالات في مونو. السروات في بلس. الكينا في السيوفي. من يسقي هذا الشجر؟ الغيوم تسقي الشجر. لا مطر هذه الليلة. لا بشر في طرقات المدينة. الناس اختفوا في البيوت. كان النهار طويلاً. يوم الثلثاء تباعدت الحرائق في شوارع المدينة. يوم الأربعاء غطى السواد الشرفات والسيارات والمكاتب. الورقة البيضاء على المكتب تغطت بالأسود. هذا ليس مطراً. التلوث ارتفعت نسبته. اشربوا حليباً. الحليب ينفع. يحمي من الربو. اشربوا حليباً. الدخان يرتفع على تقاطع مونو – طريق الشام. الدخان يرتفع صباح الأربعاء وشغيلة ورشة مجاورة ينظفون الطريق بخراطيم ماء. ثم تغيب الشمس. ويبدأ الخميس. يشتبكون. هل يهمك أيها القارئ القاعد وراء البحر السبب؟ يشتبكون. نقطة على السطر. ليلاً مُنع التجول.

جاوزت الساعة منتصف الليل. من النافذة ترى المدينة هاجعة. هذا الصمت لا يُصدق. لا سيارات تقطع الشارع. لا تلفزيونات عالية الصوت. لا حفلات. لا تظاهرات. لا أعراس. لا موسيقى. لا ضجة. هذا الصمت لا يصدق. مع أنك في مدينة. هذه ليست غابة. المفروض أن بيروت مدينة على حافة البحر كثافتها السكانية عالية. أين الناس؟ التجول ممنوع. الناس في البيوت. الصمت كامل. أقفلوا الأبواب وأقفلوا النوافذ. النبيه يستغل الفرصة وينام في هذه الليلة. المدينة نائمة ولا أحد يلطم أحداً. لكنها مدينة مقسومة نصفين. والنصف الثالث؟ النصف الثالث موجود. الساكتون بلا وزن؟ لعلهم بلا وزن. لعلهم العمود السري. من يمنع كبريتاً وناراً عن البيوت؟ «خمسون باراً» (تكوين 18). هل ينامون هذه الليلة؟ صديقك قال هذا الصباح: «أصل البلاء الجغرافيا». هل قال هذا؟ صعب أن تولد في هذه البلاد وتحيا حياة هادئة. المشكلة ليست في البشر. المشكلة في الموقع. هل هذا دقيق؟ ابن خلدون لن يفصل بين العنصرين. هل يفصل؟ ابن خلدون ليس هنا. حظه طيب. لا، ليس طيباً. تعذب ابن خلدون. عاش حياة صعبة. في هذه الليلة، ناظراً الى المدينة الهاجعة، ترى ابن خلدون جالساً على حافة البحر. لا يراه أحد. البحر أسود ضارب الى خضرة. الناس في البيوت. الجنود في المعاطف الواقية. هواء الليل بارد. مع أن الطقس هذه الليلة مقبول. وقبل لحظة هبّ النسيم دافئاً. لكن طقس بيروت غير متوقع. المدينة ارتفعت على رأسٍ يتوغل في البحر. معلقة بين عالمين. اذا هبّ هواء البحر يقرصها برد الشمال. المصاب بداء المفاصل يتعذب. الروماتيزم فظيع. النقرس أيضاً.

معك نقرس؟ لا تأكل عصافير مشوية. الدهن لا ينفع. معك روماتيزم؟ عليك بالصوف. الصوف حماية. اذا كان الصوف مصدراً للحساسية فهذه مشكلة أخرى. الأمراض تحاصرنا. لا ضرورة للأمراض الآن. المدينة نائمة. لن نمرض ونحن نيام. المدينة تهذي وهي نائمة. ماذا ترى المدينة الهاجعة كفقمة على شط البحر؟ ترى كابوساً؟ ترى الماضي أم الحاضر أم المستقبل؟ ابن خلدون يقعد على شط برج حمود، غير بعيد من الجبل المغطى بالأخضر. ماذا يفكر؟ المدينة مقسومة العواطف. الناس توزعوا على خندقين، على ثلاثة خنادق، على عددٍ غير محددٍ من الخنادق، المهم أنهم تخندقوا. متاريس الرمل تنفع. السيارات المحروقة تنفع. الجسور تنفع. الأحياء تنفع. البنايات العالية تنفع. تنفع من؟ وتنفع لماذا؟ هذا غير محدد. الغموض يلف البلد. عيون برج المرّ تحدق مظلمة، عمياء، الى المدينة. أين نمضي؟ التعبئة، التعبئة. الجميع ضد الجميع. الناس تخندقوا. هل يعود الوقت الأسود؟ نقطع المدينة قُطعاً صباح غدٍ؟ نرسم خطوط التماس ونسكن أطلال الهوليداي إن؟ ننتظر يومين بعد؟ ننتظر أسبوعاً؟ لكن لِمَ الانتظار؟ الانتظار يعذب. التوتر. الترقب. المعدة يجرحها الهمّ. تُصاب بالقرحة. القرحة مشكلة. عليك أن تتجنب الحوامض بعدها. الفول المدمس يؤذيك. البابا غنوج يؤذيك. التبولة تؤذي. البندورة تؤذي. متبل الحمص بالطحينة يؤذي. الفتة بالحمص واللبن تؤذي. هذه مشكلة. لماذا أقفل «بلادور» أبوابه؟ ابن خلدون لم يأكل فولاً مدمساً في بيروت يوماً. عاش قبل قرون وأحبّ الطعام المغربي. من يعرف طعام ابن خلدون المفضل؟ هل أحب البيض المقلي؟ أحب الصيادية والسمكة الحرّة؟

بيروت نائمة. الطرقات فارغة. الهواء بارد لحظة، مقبول في لحظة أخرى. عند النوم يبدو السلم شاملاً. هذه مدينة لم تعرف الحرب يوماً. اسمعوا هذا الصمت الحلو. هل المدينة مهجورة؟ الجيش منع التجول منذ الـ 8.30. أين الناس؟ لعلهم ركبوا البحر وهاجروا. أين يذهبون؟ قبرص صغيرة. لن تتسع قبرص. في بافوس تنام امرأة بيضاء يعرفها هوميروس. بافوس صغيرة. أين يذهبون؟ قمر خيالي يبرم في السماء، يطلّ كالشمس من وراء جبل صنين، قمر أصفر مدوّر كرغيف الخبز. ميخائيل نعيمة ليس معنا هذه الليلة. ناسك الشخروب غير مولع بالمدن وزحمة المدن ومشاكل المدن. لم يحبّ نيويورك. لم يحبّ موسكو. الشخروب أحلى. يقعد بين صخور وأشجار، يأكل زيتوناً ولبنة، يأكل زيتاً وزعتراً، يشرب شاياً محلى بعسل النحل، ويشكر ربّه على النعمة. ليس جبران. جبران ليس معنا هذه الليلة. الوقت مضى. الوقت يمضي طوال الوقت. الوقت وقت. العظم يرقّ. العظم يشفّ. يصير زجاجاً. يصير غباراً.

رجل دخل البحر قبل أيام كي يصيد سمكاً. ركب شختورة من شط الأوزاعي ودخل الى عرض البحر. هنا، في عرض البحر، البرد قارس. ترجف لابساً المعطف فوق كنزة الصوف، ترجف كأنك في براد موتى. الوقت غروب، نحن في الأيام الأخيرة من 2006، والبحر يتحول صفحة زجاج رقراقة برتقالية. تصيد سمكاً بأربع صنارات دفعة واحدة. السمك كثير هنا، ليس كالسمك عند الشط. لكن هذا البرد يقتل! وهذا الصمت الكامل! تلمع نقط الضوء على صفحة البحر، المساء يهبط على مهل. من هنا ترى المدينة كأنها تحترق. نور الغروب ينعكس في زجاج العمارات، يتوهج أصفر وأحمر. كأن بيروت تحترق. لكن بلا دخان. وأنت عائد الى الشط ترى مصابيح الكهرباء تضاء وترى أنوار المطار. تسمع أصوات المدينة تدنو: السيارات تعبر الطريق البحري. امرأة تصيح على امرأة. صوت البشر حلو. لا يعرف الواحد كم يحبّ البشر حتى يضع بحراً بينه وبينهم.

ابن خلدون جلس وحيداً بينما يكتب. لكنه لم يتنسك. رأى فظائع. لكنه لم يتنسك. خسر كثيراً. لكنه لم يتنسك. رأى سفينة تنكسر في عرض البحر. سفينة فيها زوجته، سفينة فيها أولاده. لم يتنسك. من يعرف ابن خلدون؟ ماذا أعطى ابن خلدون للطاغية الآتي من وراء الجبال؟ هل أعطاه حلاوة؟ من أعطى الآخر؟ أي صنف من الحلاوة الطحينية أعطاه؟ كيف كان طعمها؟ أعطاه حلاوة أم راحة الحلقوم؟

هذه السطور فيها مدينة نائمة على شط البحر. فيها منع تجول وأطعمة وأمراض. ماذا يكون التاريخ العاطفي للمدينة النائمة؟ ماذا يجمع سكان هذه المدينة؟ وماذا يُفرقهم؟ يحبّون البطاطا المقلية ويحبون الكبّة ويحبّون الفتوش ويحبّون الدجاج المحشي زراً. أي مشروبات يفضلون؟ أي حلويات؟ البقلاوة أم المعمول أم الكاتوه الإسفنجي؟ كلنا نأكل مناقيش صباحاً. مناقيش بزعتر، بكشك، بزعتر وجبنة (كوكتيل). نحبّ اللحم بعجين. نحبّ الجبنة والسبانخ (الحشوة سلق عموماً، لكن نقول «سبانخ»). هذا طعام الصباح. واذا كان ضرسك حلواً تأكل كنافة بجبن، أو كعكاً وسحلباً. ماذا يجمعنا؟ طعامنا وأمراضنا. نحبّ الماء. جسم الإنسان – وهذا مكتوب على قناني «صحة» و «ريم» و «مارو» و «ندى» و «صنين» و «نستلة» – نصفه ماء. «المياه مصدر الحياة. تشكل أكثر من 60 في المئة من جسم الإنسان». الماء يجمعنا. وهذا الدم الذي يدور في الشرايين، يدور دورته المقفلة، حتى نقطع في اللحم جرحاً فيتدفق الدم على الزفت.

هل نرى المنامات ذاتها؟ الكوابيس ذاتها؟ هل بعضنا يحبّ الوقت الأسود والآخر يفضل الضحك والبهجة والكوسى وورق العنب؟ المفروض أننا كلّنا نحبّ الكوسى وورق العنب. وحتى لو كنت تكره الكوسى فأنت لن تحسب آكل الكوسى عدوك.

الحياة طيبة في المدينة النائمة. تاريخها العاطفي غير مضطرب. الخير عام. براءة الأطفال تخيم على وجوهنا. لا أحد يكره أحداً. الحقد غير موجود. لا ينفع الحقد أحداً. ماذا قال ناسك الشخروب؟ الحقد يأكل صاحبه. أين ناسك الشخروب؟ الوقت يمضي. لا أحد يسمع أحداً. هذه ليست بلاد أفلاطون. العالم تطور. المثاليات وقعت. الجغرافيا أصل البلاء. الوقت الأسود يعود إذاً؟ المدينة علقت في عين الإعصار؟ علقت في ظلمة الدائرة؟ هذا ليس أكيداً. لعل العاصفة تقطع فوق الرؤوس. البحر يبدو مظلماً هذه الليلة. المدينة هاجعة. لكننا لا نسمع رعداً. المدينة تنام. ماذا ترى وهي نائمة؟

أبيض الثلج يكلّل صنين. ثلج ناصع البياض يملأ القلب أملاً. حتى في الليل ترى – من البعيد البعيد – هذا الثلج الناصع الأبيض.