الأحد، ٣٠ آذار ٢٠٠٨

طيور

ربيع جابر الحياة - 04/12/07//

طيور صغيرة الحجم هاجمت الجريدة. البناية تقع وسط بيروت. غير بعيد منها كاتدرائية مار جرجس للموارنة (جاوز عمرها مئة سنة). كانوا يهدمون بناية من بقايا الحرب الأهلية الطويلة، بناية تلاصق الكاتدرائية ذات الأجراس. كانوا يهدمون بناية خَرِبة تطلّ على مجمع اللعازارية فاقتحمت أسنان الحديد أوكار الطيور الهاجعة. الناس قالوا ليست طيوراً. هذه أكبر حجماً من النحل، أكبر من ملكات النحل، لكنها أصغر من الطيور.

عصافير الدوري تملأ بيروت. ليست كبيرة كالحمائم لكنها جميلة. يبتلّ ريشها فتتقافز على الرصيف، تحت أشجار تقطر في هذا الخريف. اذا رأت مظلة تهرب من المظلة. تقفز وتطير الى الجهة الأخرى. ربما تظل في هذا الجانب. لا تطير عالياً لأن ريشها مبلول. العصافير. لكن هذه الطيور التي تخرج من البناية المتساقطة ليست عصافير. ماذا تكون؟ دخلت من نوافذ الجريدة المشرعة على الآثار الرومانية. لم تدخل نوافذ غاسبر أند غامبيني لأنهم قبل وقت أقفلوه. قبل زمن كان الواحد يرى أناساً يقعدون هنا ويشربون قهوة تطفو على وجهها رغوة بيضاء وعلى الرغوة تطفو حروف شوكولا أجنبية. كيف ترسم بالشوكولا الهشة على الرغوة الهشة حروفاً؟ هذا فن. وتحريك القبضة الحديد فن. ضربت الكرة الحائط. خرجت الطيور الغريبة من أوكارها وملأت الفضاء. متى نزلت هذه الطيور في هذه الخرائب؟ وكم جيلاً أنجبت في هذه الظلمات؟ متى تخربت هذه البناية؟ كان خميساً عادياً وعادل لم يكن هنا. كان إجازة. اذا استدار في الكرسي يرى العمال يتسلقون البناية تحت الرذاذ الخفيف ويتعلقون في الفضاء. اذا سقط الواحد من هذا العلو الشاهق - اذا سقط على آثار الرومان – ماذا يحدث لعظامه؟ العظم رقيق. خافوا عندما هاجت الطيور. هذه الطيور تعقص، ليست طيوراً. هذه حشرات طائرة؟ لعلها كذلك.

«برج» يطل على اسطنبول ... تجهيز الفنان التركي سيم ساغبيل (أ ب)
«برج» يطل على اسطنبول ... تجهيز الفنان التركي سيم ساغبيل (أ ب)

الناس خافوا وهربوا بين المطاعم والمكاتب. كانوا يخبطون الهواء حول رؤوسهم كأن مسّاً أصابهم. ترى الخوف في عيونهم. ترى ذعراً غامضاً لا نهائياً غير مفهوم. المفروض أنهم رأوا مثل هذه الكائنات الطائرة من قبل. المفروض أنهم خبروا في حياة طويلة سبل النجاة من هذه الطيور. عندك المبيدات. وعندك إقفال الشبابيك (لكن ماذا تفعل بالحرارة؟ صحيح أنه الخريف، لكن الطقس حار. واذا اشتغل المكيف يضربنا هواء بارد ونمرض. لا نريد أن نمرض. اذاً؟).

المفروض أن الإنسان أقوى من الطيور. لكن هذه الطيور غريبة. كم سنة أقامت في هذه الخربة المفصولة عن خربة أخرى ببنايات مملوءة مكاتب؟ الأطلال لم تعد كثيرة هنا. تساقط القسم الأكبر منها. وراء اللعازارية عندك السينما القديمة: سيتي بالاس بالقبّة البيضاوية لم تقع بعد. البناية التي وقعت قبل أيام (بناية الطيور الغريبة) متى اقتحمها للمرة الأولى الخراب؟ اللعازارية – مجمع الأبنية التجاري المجاور - احترق للمرة الأولى في أيلول (سبتمبر) 1975. 1975 أم 1976؟ باتت «حرب السنتين» بعيدة. اذا أراد الواحد يغلط في التواريخ. من يقرأ جرايد 1975 في خريف 2007؟

ها نحن ندخل الكوانين. درجة الحرارة مفروض أن تهبط. الأمطار لا بد من أن تزيد. تجري نزولاً في الشوارع وترفع منسوب البحر. هذا يحدث منذ زمن سحيق. دورة الفصول. من يتأمل نجوم السماء هذه الليلة؟ واذا رأيت نجماً يشع ثم يموت، اذا رأيت بداية النجمة ونهايتها ماذا تظن؟ من يفكر في النجوم هذه الليلة؟ ذعر ضرب قلب المدينة عندما هاجت هذه الطيور. غداً نراها ميتة، سوداء وصفراء، على الرصيف أمام «ديو» و «لا بوستا». العمال يأتون بالثياب الخضر مع المكانس. أحياناً يتحرك الواحد منهم حركة غريبة. يدور على نفسه ويرفع ذراعه ويخبط الهواء حول أذنيه. الطائر الصغير الميت تململ فجأة وقفز من أمام المكنسة وارتفع. غاب تحت قناطر الشارع العالية. ما هذه الطيور الغريبة؟ من أين تأتي والى أين تذهب وكيف نعلم متى تعود؟

وليام بليك تطير فوق رأسه خفافيش. ماذا بقي من الشاعر القديم؟ نمر أصفر يقطع الغابة. حيوان مخيف يخرج من غبشة المساء ويدنو من البيت. فروته ذهب مخططة. البيت قائم على كتف الوادي. والنمر أتى من تحت. نمر في هذه العصور؟ كيف هذا؟ يدنو على مهل، يخطو خفيفاً مع أنه ضخم الجثة. يقترب ويقترب ويقترب. في عينيه شرّ. أين تهرب؟ تفرّ الى باب البيت المشرع. قبل أن ترد البابّ يلحق بك. تهرب منه الى غرف داخلية. يطاردك. كابوس؟ تستيقظ؟ لا؟

كانون الأول (ديسمبر) 2007 يتبعه كانون الثاني (يناير) 2008. تفتح باباً وتدخل غرفة أخرى. بلاد تفتح الأبواب وتقفل الأبواب. تنجو؟ كانون الأول يتبعه كانون الثاني. مفروض.

ليست هناك تعليقات: