عبارة "صالح للاستثمار" أقفلت استوديو آخر مصوّر أرمني في طرابلس المستقبل - الاحد 26 نيسان 2009 - العدد 3287 - محسن أ.يمين مارّاً في شارع يزبك، المتفرّع من ساحة التل في طرابلس، ثم منعطفاً الى اليسار، باتجاه شارع الشيخ إسماعيل الحافظ المؤدي إلى سينما الليدو المنازعة من أجل البقاء، فساحة الكورة، لا بدّ ان تُلاحظ بأن استوديو أفيديسيان الذي كان، طيلة خمسين عاماً، جزءاً لا يتجزأ من المشهد هناك، قد أُقفل، وإن متجراً لبيع أجهزة الخلوي، قد حلّ محله، بين عشية وضحاها. وبإنطفاء أضواء "فوتو جوزيف" يكون الستار قد اُسدل على آخر استوديوات المصوّرين الأرمن القدامى في المدينة، وعلى تاريخ كان لهم اليد الطولى في كتابة سطوره، على غرار ما فعلوه، في أي حال، في سائر الأنحاء اللبنانية التي حلّوا فيها، إثر نزوحهم إليه، وفي الشرق الأدنى، عموماً. وهو تاريخ شهد بدايته، في عاصمة الشمال، مع باغداصار أورفليان، لدى جنوح شمس القرن التاسع عشر الى المغيب. ثم عاد وتواصل مع ابراهام عربيان، ويعقوب ابراهميان، فبولدكيان، قبل ان يرسخ قدماً مع فاهان ديرونيان،وانترانيك انوشيان، ووارطور هارمنديان المعروف، اختصاراً، بهارمند، وخاتشاريان الذي كانت زوجته ليديا اول أنثى احترفت التصوير في طرابلس، قبل ان تعقبها ماري، ارملة المصور يرتشان دنكيكيان. وعندما التحق جوزيف، عام 1948، بمحل آل ستافرو الكائن في بناية وقف الروم في شارع يزبك، أي قريباً من المحل الذي افتتحه هو، فيما بعد، وراح يتعلم على أيدي حنا وفيليب ستافرو أصول التصوير، كان جاك قويومجيان قد سبقه الى مزاولة المهنة، قرب كاراج الأحدب (فوتو جاك)، وسيتراك ألباريان يتأهب للانطلاق بمحله (فوتو فينوس)، قرب سينما الاوبرا، ويرتشان، المار ذكره، قد بدأ يوزّع عمله بين زغرتا ـ إهدن وطرابلس (في شارع محمد كرامي، قرب المالية، قبل أن ينتقل الى شارع الحرية). وقد تزامن افتتاح محل جوزيف افيديسيان، عام 1959، وافتتاح سركيس راستيكيان، هو الآخر، لمحلّه المحاذي في شارع يزبك، عام 1958. بينما لم تكن محلات الإخوة تاليان: غاربيس، مختار الأرمن في الميناء، الذي كان في بناية الإنجا التي تداعى جزء منها مؤخراً،روبير، في شارع عزّ الدين، وكريكور، قرب مقهى الرضة، ثم قبالة كاراج حمزه، في شارع يزبك. يومها، كان التصوير الفوتوغرافي في عنفوانه. السينما، وليدته، كانت تركت له هامشه الخاص كي يستمر على قيد الحياة، ويتحرك بحرية، ويزدهر. والمصورون الأرمن، وإن كانوا يشكلون غالبية مصوري المدينة، فهم لم يكونوا وحدهم في الساح. الاّ ان ابواب الرزق كانت ما تزال تتّسع للجميع. وفي غمرة هذه الحيوية التي كانت تسري في محال التصوير المتركّزة، في الغالب، في شارع التل، ومتفرعاته، لم يكن جوزيف يكتفي بكسب معيشته من محترفه فحسب، بل راح يبحث عن لقمته في السيل المتدّفق للصور الفجائية (الفوتو سوربريز) التي عرفت رواجاً، حينئذ، عبر انتزاع لقطاتها من نهر الحياة اليومية الذي كانت تتلاطم امواجه، على امتداد الشارع الرئيسي لمنطقة التل، وفي محيط المنشيّة. آنذاك، كان امامه قدر ما يُريد من الزبائن المطواعين الذين لم يكونوا يتخلفون عن استلام لقطاتهم من المحل، سواء تنبّهوا لها وهي تؤخذ، أم باغتتهم. فآلات التصوير كانت بعيدة جداً عن بلوغ معدلات انتشارها اللاحق، وبخاصة، الحالي. وكان هناك، في المطاعم والمقاهي والملاهي المجاورة، وفي الأندية الزاخرة بالحركة، ما يغريه كي يجول بعدسته. فيدلف إليهم بأعلى قدر ممكن من الخفة، سارقاً اللحظات، دونما افتعال، أو إملاءات، بداعي التصوّر. سواء كانوا يأكلون ويشربون ويغنون، أم يكتفون بمجرد تبادل الأحاديث والنكات والأنخاب، أو "الأركلة". لم يكن جوزيف، على ما يظهره نتاجه المتناثر، يخاف من معاكسة بؤرة الكاميرا للنور، وهو يقترب من الأشخاص، أو المجموعات. ولا كان يسلب الأولاد ما يتميزون به من عفوية. هذا فيما يتدبّر أمور الأستوديو في غيابه شقيقه افيديس افيديسيان الذي لم يتأخر في الانضمام اليه في عمله أو يشاطره، حمل العبء خلال وجوده فيه. الرئيس الشهيد رشيد كرامي الذي كان يمكن أن يطل عليه، من قصره الكائن في كرم القلّة هرع للمثول امام عدسته، التقاطاً لصورته الانتخابية الأولى. وكلية التربية والتعليم الإسلامية التي لم تكن، هي الأخرى، على مبعدة دأبت على الاستعانة بجهوده من أجل أخذ الصور التذكارية السنوية لصفوفها التعليمية. وباختصار، لم يكن ثمة ما يمكن أن يكسر من حدّة اندفاعة افيديسيان للعمل، سواء خارج الاستوديو أم داخله، حتى معاجلة الموت لشقيقه، عام 1966. فالأرباح التي كانت المهنة تدرها، في ذلك الحين، كانت تدفعه الى الاستمرار، وإلى عدم التخلي عن حماسته، لا في تلبية حاجات المحل، ولا في القيام بالتغطيات اللازمة. ولو تسنّى لك ان تترددّ على جوزيف في المرحلة الأخيرة، ووجدته يقصّ على أحدهم حكاية الذين أعقبوا شقيقه في مساعدته، وفي أخذ التصوير عليه وهم توالياً، فؤاد اصلان ونبيل اصلان (فتحا فيما بعد محلين في سوريا) والياس (من قرية بقاعكفرا)، للاحظت، دون كبير عناء، أن جملة أمور كانت قد شرعت، مذ ذاك، تتحالف عليه، وتقوده إلى إتخاذ قراره غير المفاجئ بالإقفال: تقدّمه في السنّ، معاناته جراء مرض السكري وافتقاره إلى ابن يورثه المهنة، ثم قلّة المترددين على محل عرف كيف يُجاري موجة التصوير الملون، يوم كان صاحبه يمتلك الهمة الكافية لمجاراتها، الا انه فوّت على نفسه فرصة ركوب موجة التصوير الرقمي، والمتغيرات التي فرضها طغيان الكومبيوتر، وحلول الفوتو شوب، محلّ قلم الروتوش. لذلك، لم يكن من الصعب عليك تبيّن أن الاستوديو، الضيّق أساساً، كان قد مضى عليه وقت لم يخضع فيه للتحسين والتحديث. حتى البورتريهات المعلقة على حيطانه، تغاوياً بمسحتها الفنيّة البادية، والتي تدور بنظرك على الواحدة منها تلو الأخرى، فور دخولك، هي من ايامه الاولى، أو يكاد. لم تكن تحتاج الى هذا المحارب القديم الذي استراح الآن ليفصح لك عن حال محترفه لتعرف أنه لن يدوم طويلاً. كان المحلّ، بألوانه الكئيبة، وقلة قاصديه، ينوب عنه في ذلك. وإذا كنت، فوق ذلك، ممّن تناهت إليك أخبار زملائه الأرمن في الكار لكنت ازددت اقتناعاً بأن الأمر لن يطول به اكثر. فاستوديوهات هارمند، والاخوة تليان قد اُحرقت خلال الحرب. ومصائرهم تراوحت، فيما بعد، بين الموت والهجرة. هنري باهادوريان الذي انفرد من بينهم بفتح محل في الأسواق الداخلية قضى جراء انفجار عبوة ناسفة. انوشيان هاجر إلى الولايات المتحدة الاميركية حيث تُوفي وهو يرسم، بعد تركه الاستوديو لسركيس ناشاكيان (مختار الأرمن) الذي لم يحالفه الحظ بالاستمرار. جاك قويومجيان الذي صار يعتمد على دعم أولاده المنتشرين اكثر من اعتماده على موارد محله، آثر القاء سلاحه المرفوع في وجه الزمن، والتنعّم بسكينة الشيخوخة في بيته. سركيس راستيكيان فارق الحياة قبل أعوام. اما سيتراك ألباريان، وابنه بيرج فقد دفع بهما اليأس من الأوضاع التي سادت لبنان في أعقاب إستشهاد الرئيس رفيق الحريري، الى مغادرة لبنان الى غير رجعة بعد بيع بيتهم، في محلة الهيكلية. هذا اذا لم نُضف الى القائمة أولئك الذين لم يطل بهم المقام في طرابلس كسيرغان يعقوبيان، او الذين انطفأت أضواء آرماتهم في الميناء كيعقوب عارابيان وارتو زانيكيان. رغم هذا كله، فقد خدع جوزيف الجميع، قبل نحو شهرين، عندما حلّ محله في العمل عبد العزيز، ولازم هو البيت إثر اشتداد وطأة المرض عليه. فقد وافقه آنذاك رأياً، على ضرورة طرد هذا المظهر الكئيب المخيم على الاستوديو، وإعادة الإشراقة، اقله، إلى واجهته، وبعض مكتبه. وقد سرى الظن، حين راحت فرشاة عبد العزيز تطلع وتنزل، مبتلعة العبوس الذي طال أمداً، أن نفحة من التفاؤل قد هبّت، من مكان ما، وحملت جوزيف على المضي قدماً في تجربته، بعد ترنّح. الاّ أن هذا الشعور لم يلبث أن تبددّ مع رؤية باب الاستوديو الذي خُلعت آرمته موصداً، وقد لصقت عليه ورقة كتب عليها ما يلي: "صالح للاستثمار". فاتضح أن الدهان طرد الوجه الكالح لكنه لم يفلح في طرد شبح الإقفال الذي ظل يحوم دونما توقف. ولو سألت عمّا يفعله جوزيف، الآن، بعد تقاضيه ما ترتب له في ذمّة المالك من حقوق، لما تأخر أحد زملائه الذين آلمهم انسحابه من الحلبة في الجواب: لا شك في أنه يصطاد السمك، إمّا على شواطئ الميناء، أو في منتجع اللاس ساليناس، في أنفه، حيث تمتلك إحدى بناته شاليهاً من شاليهاته. فلطالما كانت هذه هوايته. قناعةً منه ربّما بأن صيد السمك بات أسهل من اصطياد الزبائن، وأضمن لقمة، في محله المنقرض للتوّ. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق