الأحد، ٢٦ نيسان ٢٠٠٩

المدارس لم تعد هي من يقترح مواضيع الإنشاء

< المدارس لم تعد هي من يقترح مواضيع الإنشاء

المستقبل - الاحد 26 نيسان 2009 - العدد 3287 -


> حسن داوود
لمناسبة تسمية بيروت عاصمة عالميّة للكتاب، كما لمناسبات أخرى بينها ما بدأ في العام الماضي احتفالا بجبران خليل جبران لانقضاء 125 عاما على رحيله، أقبل تلامذة لبنان على ما دعتهما إليه وزارتا التربية والثقافة لكتابة نصوص أدبيّة وقصصيّة. القارئ لهذه النصوص المشاركة، المرسلة من كافّة مدارس لبنان، يستوقفه ذلك الاختلاف بين مجموعة منها وأخرى. وهو، إذ يسعى إلى أن يجد تفسيرا للاختلاف لجهة مستوى الكتابة، يميل إلى الاعتقاد أنّ ذلك راجع إلى المدارس ومستويات التعليم فيها. لكن هناك اختلافات أخرى، وهذه تصل في أحيان إلى درجة من الحدّة تبدو معها النصوص كما لو أنّها واردة من بلدان متباعدة وليس من بلد واحد صغير تتّصل مناطقه ويتداخل بعضها ببعض. أقصد هنا الاختلاف في الأولويّات والاهتمامات، كما في العناصر التي يُصنع منها التخيّل، والنظرة إلى المستقبل، تلك التي تتعدّى السؤال الذي يُسأله الأولاد عادة: ماذا تحبّ أن تكون عندما تكبر؟ وهنا، في هذه الأخيرة، يجعلنا كاتبو النصوص الصغار نغضّ الطرف عن الإجابات التي نسمعها عادة في برامج تلفزيونية التي هي أن واحدهم يريد أن يكون إطفائيّا وآخر يريد أن يصير طبيبا أو معلّما أو مخترعا...وغير ذلك.
تلامذة لبنان، عموما، وقبل الحديث عن الاختلاف بينهم، يذهبون في أفكارهم إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. ذاك أنّهم موغلون في ابتعادهم عن الظرفي والمرحلي ليضعوا أنفسهم إزاء المصيري والقدري. فهناك دوما مأساة وموت في كلّ من القصص المقدّمة للاشتراك في المسابقات. أما الأحداث التي تتتابع في السطور فتقوم على مسائل الفقدان والموت والِشهادة والاستعداد للانتقام والتصرّف بالزمن مقسّما على وحدات كبرى، كأن يكتب من هو في سن الثالثة عشرة.." بعد أن مرّت عشرون سنة.." ليقول في وصف من كانت شابة إنّها كبرت و" بان الشيب كثيفا في رأسها".وفي نصوص كثيرة نجد كيف أنّ الموت هيّن الحدوث وحدوثه هذا مسرع وحتميّ، هكذا بما لا يماثل أبدا ذلك الميل المفترض عند الصغار والذي اعتدنا أن نراه مؤثرا السلامة والنهايات السعيدة. في بعض المسابقات اقتبس التلامذة قصصا وروايات شائعة مثل ليلى والذئب وقصّة البجعات السبع (وهي إحدى قصص ألف ليلة وليلة ) محدّثا إيّاها، أي ليجعلها أكثر عنفا وقسوة.
وذلك الميل إلى ما هو تشاؤمي لا نجد له مراجع كتابيّة، أو قرائيّة على الأصح. ذاك بأن التلامذة قلما يستشهدون في نصوصهم بجمل مأخوذة من كتب. وحين نراهم وقد فعلوا ذلك، على قلّته، لا يبتعدون عن الكتب التي طلبت المدرسة منهم قراءتها في أعمار لهم سبقت (أتكلّم هنا خصوصا عن المسابقات المخصّصة لمن تفوق أعمارهم الأربع عشرة سنة، أما عن الكتب التي تقترح المدارس قراءتها فمعروفة لمن سبق لهم أن عملوا في مهنة التدريس)؛ وهناك ضرب آخر من الاستشهادات المأخوذة من الكلام الديني الذي يُكتسب مشافهة، بالنظر إلى تداول هذا الكلام وشيوعه في السنوات الأخيرة.
ليس جديدا أن نقول إنّ التلامذة في لبنان قليلو الإكتراث بالقراءة. حسبهم أنّهم صغار هذه البيئة التي يُخجل تناولُها بالإحصاءات العالميّة، خاصة حين تقارن ببيئات ثقافيّة أخرى، كأن يُقال مثلا إنّ ما ينقله العرب إلى لغتهم من آداب العالم لا يتجاوز خمسة في المئة ممّا تنقله اليونان، بمفردها، إلى لغتها (بحسب تقرير نشرته مجلة "فورين أفيرز" عدد آذارـ نيسان 2009، وقد نقلنا في " نوافذ " بعضا من خلاصاته في العدد ما قبل الأخير).
ما يقابل النصّ الديني في نصوص الصغار هو النصّ الجبراني، أو الإنشاء الجبراني الذي حصّله هؤلاء من كتب مثل الأجنحة المتكسّرة خصوصا. ما زال هذا الإنشاء فاعلا، بل ومهيمنا، على الرغم من السنوات الفاصلة عنه وما حفلت به هذه السنوات من حروب وهجرات وإجلاء الجماعات عن مناطقها، كما على رغم ما أصاب صورة لبنان كما هي في النصّ الجبراني. ذلك القسم من التلامذة، الجبراني، هو ذلك المازج بين فرديّته المنكسرة وهجاء المجتمع الحالي وقوانينه، الباقية على أركانها السابقة ذاتها، أيّام جبران. في بعض الأوراق نجد أنّ "النَفَس" الجبراني يتحوّل إلى مرجع نقدي فيقوم، بإنشائه الجامع بين الثورة والنبوّة، بتناول الواقع الراهن وهجوه، هكذا بما يحوّل كاتبي تلك النصوص إلى مبشرين بعقيدة. أمّا قارئ النصوص فيمكنه أن يحدس من أيّ المناطق، أو من وحي أيّ الجماعات، أتت هذه المسابقات، ذاك بأنّ هناك من ما زال ينازع تكريس جبران أديبا حاملا لمعنى لبنان، وهذا، على أيّ حال لا يحتاج تبيّنه إلى بحث مستفيض، فهو، شأن مسائل كثيرة مماثلة، يُدرَك بالحدس والملاحظة التي غالبا يُستغنى بها عن الدليل.
أقلّ من نصف المسابقات بقليل تناولت المقاومة والقتال والشهادة، وقد نُسجت قصص فرديّة، كتبت بصيغة المتكلم أحيانا، عن أبرياء سقطوا جرّاء القصف الإسرائيلي، فقام أبناؤهم بالانتقام لهم. الشاب الذي تُروى قصّته، أو سيرته، يعيش حياة عاديّة غالبا، كأن يهتم بتحصيل علمه، حتى الوصول إلى الجامعة، لكنّ فكرة القتال، الذي سينتهي بالاستشهاد، تظل قائمة، وإن مؤجّلة ومتروكة إلى أن يحين أوانها. ولا يُصوَّر مصرع الشهيد كحدث فاجع. في قصص كثيرة تقدّمت للاشتراك في المسابقة بدا أنّ ذلك المصير أشبه بنهاية نمطيّة يُلجأ إليها ليحسن الختام.
أماّ الثأر والانتقام فيمكن لسببهما أن يذهب بعيدا في الزمن، وأن لا يكون متّصلا بالتجربة الشخصيّة لبطل القصّة، سواء كان كاتبها نفسه أو شخصيّته المخترعة. في بعض القصص أُرجع السبب إلى حادثات تاريخيّة قديمة بينها تاريخ القرية التي ينتمي إليها الكاتب (على غرار إحدى القصص التي تناولت مجزرة حولا في الجنوب) أو أخرى عامّة لا تتّصل بالتاريخ المحلّي، اللبناني، لمراحل النزاع والحرب مثل مجازر دير ياسين وكفر قاسم وغيرها..
ما يجعل هذا الموضوع الكتابي منتسبا إلى جماعة من جماعات لبنان وليس واحدا من اتجاهات كتابيّة قائمة هو لغة القصص وروحها ووجهتها وتمثيلها للثقافة الدينيّة لجماعتها.
التنوّع في ما يكتبه تلامذة لبنان يبدو أقرب إلى أن يكون انعكاسا لعيش أهلهم وليس اختيارا فرديا بين أنواع كتابيّة. أحد الذين اطّلعوا على المسابقات قال إنّه يستطيع معرفة أسماء كلّ من كتابها من نصّه، الاسم الذي يدلّ، بدوره، إلى ما ينتسب إليه صاحبه.

ليست هناك تعليقات: