هل كتب الشدياق
أول رواية عربية؟
| |
تطرح عاشور في دراستها قضية الحداثة الكولونيالية القائمة على نظرة استشراقية للذات، تعتبر التسليم بانحطاط الأنا وتخلّفها شرطاً ضرورياً من شروط النهوض والتحرر، وترى في محاكاة الغالب والسير على خطاه والتطلع بعينيه واعتماد حداثته، علاجاً روحياً وعقلياً لا غنى عنه. وتسأل: "لماذا أُسقط انجاز الشدياق وقد أنتج النص الأدبي الأغنى والأقوى في الأدب العربي في القرن التاسع عشر؟"، وتقصد رواية "الساق على الساق"، هذا الكتاب النقدي الساخر الذي يجمع بين السيرة الذاتية والرواية والولع باللغة وتوظيف عناصر الموروث الأدبي العربي، بقدر ما يضيف إليه جديدا على مستوى المضمون والشكل، وهو الذي تدين له اللغة العربية الحديثة بمصطلحات عديدة، وضعها الشدياق واستخدمها، فشاعت بين الناس، منها الاشتراكية والجامعة ومجلس الشورى والانتخاب والجريدة والباخرة والمستشفى والصيدلية والمصنع والمعمل والمتحف والمعرض والملهى والحافلة وطابع البريد والملاكمة والممثل والسكة الحديد وغيرها. هل نقنع بالرد الذي قدمه الينا كل من فواز طرابلسي وعزيز العظمة من أن سبب تهميش الشدياق يرجع أساسا الى مواقفه الجذرية من القضايا السياسية والاجتماعية، ومنها مواقفه من المرأة والجنس ومهاجمة الكنيسة؟ وتضيف إلى سؤالها أسئلة أخرى: لماذا لم يعتبر الشدياق الرائد الأول للنهضة؟
ما فعلته رضوى عاشور، انها اعادت المناقشة الى أولها في مسألة "ساذجة"، وهي عن مؤلف اول رواية عربية. قبل اسابيع صدر كتاب "وَي... اذن لست بإفرنجي" لخليل خوري كتبه عام 1859 وأحدث سجالا بعدما حققه الشاعر شربل داغر، واعترض عليه الباحث المصري محمد عبد التواب قائلا بأنه سجّل في رسالة الماجستير "بواكير الرواية العربية" عام 1999 أن رواية "وَي... إذن لست بإفرنجي" عام 1860 وهي السبّاقة في خروج هذا النوع الأدبي إلى النور، ولم يذكره شربل داغر في تحقيقه. وقيل ان الرواية التي تلت رواية خوري هي "غابة الحق" لفرنسيس المراش عام 1865 ثم رواية "الهيام في جنان الشام" لسليم البستاني عام 1870 وأخيرا "زينب" لمحمد حسين هيكل عام 1914، وثمة دراسة صدرت حديثا للباحث حلمي النمنم تقول ان اللبنانية زينب فواز وضعت اول رواية حديثة وسبقت رائد الرواية العربية محمد حسين هيكل في روايته "زينب". وهناك من يقول ان "بديعة وفؤاد" للروائية اللبنانية لبيبة هاشم هي اول رواية عربية، من دون ان ننسى روايات من مثل "علم الدين" لعلي باشا مبارك، و"الأجنحة المتكسّرة" لجبران خليل جبران. لا نعلم اي معيار اعتمد لتصنيف الروايات، وما قواعد ان تكون رواية رواية وخصوصا في العالم العربي.
ثمة من يقول ان رضوى عاشور في كتابها "الحداثة الممكنة" قالت الكلمة الفصل، ولا نعرف معنى هذا الفصل واصله، وهل يجوز الحسم في الثقافة ام ان الباب يبقى مفتوحا على التأويلات؟! المهم القول ان عاشور اعتبرت ان "الساق على الساق فيما هو الفارياق" التي وضعها الشدياق عام 1855 هي الرواية العربية الأولى في تاريخ الأدب العربي الحديث. على أن التاريخ الذي أوردته رضوى عاشور يظلم الشدياق في عشرين عاما سبق هو بها، إذ يقول التاريخ المدون على غلاف الرواية إنها صدرت عام 1835 وليس عام 1855 كما ذكرت المؤلفة. تعرض عاشور آراء النقاد في الشدياق، فإذا كان القاص والناقد مارون عبود يعتبره "ابا الكتاب الادبي في النهضة الحديثة، وباني دولة ادبية شرقية غربية، واول من كتب المقالة الصحافية"، فالأب لويس شيخو صاحب أول إشارة إليه في كتابه "تاريخ الآداب العربية"، إذ صنّف روايته "لم يراع فيها جانب الأدب". أما جرجي زيدان فيرى أنّه "مجرد مرتزق وإن عظمت موهبته". وهذا هو المعنى الذي يشير إليه أيضاً أنيس المقدسي "لأجل المصلحة يترك المارونية ويعتنق المذهب الإنجيلي، ثم لأجل المصلحة يترك المذهب الإنجيلي ويعتنق الإسلام"، في بحثه عن دخول الانجيلية في الشرق. أما روايته "الساق"، فيراها المقدسي "سيرة ذاتية تشوبها كثرة الاستطرادات". وبعضهم قال انه كان اشتراكياً وعلمانيا، وثمة من اعتبره انتهازيا.
المفارقة ان بعض الطوائف اللبنانية اختلفت عندما توفى، في ما بينها، حول من يريد ان يتبناه. واخيرا تم الاتفاق على ان يرفع الصليب والهلال فوق ضريحه في منطقة الحازمية.
يعتبر بعضهم ان اعتناق الشدياق الدين الاسلامي كان الحدث البارز في حياته، مع ان كتاباته ومؤلفاته تدل على ان تفكيره كان في مكان آخر، فهو اكثر تقدما من بعض نهضويّي اليوم، واكثر اطلاعا على ثقافات العالم من ابناء جيله. وربما ينبغي قراءة اسلامه من جانب انه انعكاس لواقع ما وليس ككليشيه إيماني. نعلم ان الشدياق اهتم بنسخ الكتب لنفسه أو لغيره، وصارت له بهذا شهرة واسعة فاستدعاه الأمير حيدر الشهابي أحد الأمراء الشهابيين ومؤلف التاريخ المشهور، وكلفه نسخ تاريخه وتقلبت به الأعمال، إلى أن حدثت لأخيه أسعد حادثة كانت الشرارة الأولى في تغيير مجرى حياته. فقد تحول أسعد من مذهبه الماروني إلى المذهب الإنجيلي، وأثار هذا التحول سخط البطريرك الماروني على أخيه، فنفاه إلى دير قنوبين سجيناً معذباً حتى قضى نحبه وهو في ريعان شبابه. وكان لهذا الحادث أثره في نفس فارس، فكره الحياة في لبنان الذي بلغ من التعصب الطائفي هذا المبلغ، وشد الرحال إلى مصر عام 1825، بدعوة من المرسلين الأميركيين الذين دعوه ليعلمهم العربية، وكأنهم بذلك أرادوا أن يطيبوا خاطره نظير ما لقيه شقيقه أسعد بسبب اعتناقه مذهبهم. أتاحت الإقامة بمصر لفارس الشدياق أن يتلقى اللغة والأدب والنحو والبلاغة والصرف والشعر. في عام 1834 دعاه الأميركيون إلى مالطا لغرضين، أولهما التعليم في مدارسهم هناك، وثانيهما تصحيح ما يصدر من مطبعتهم من كتب عربية. وهناك أخذت ميوله وعواطفه تتجه نحو المذهب الإنجيلي، وكان هذا التحول في نظره انتقاماً لما حدث لأخيه على يد الموارنة. تلقى الشدياق دعوتين، الأولى لزيارة الأستانة بدعوة من السلطان عبد المجيد في الاستانة، والثانية من أحمد باي تونس الذي دعاه الى زيارته والإقامة في تونس لقاء القصيدة التي مدحه بها الشدياق. هناك اعتنق الإسلام وتسمى باسم أحمد فارس الشدياق، بل أضيف إلى اسمه لقب "الشيخ"، وتكنّى بأبي العباس.
الشدياق يشبه لبنان. فهو نموذج للبلاد التي قطعت شوطاً طويلاً، في التحديث مستبقةً الشرق الأوسط بأسره. فهو الأديب واللغوي والمترجم والمحقق، له عشرات الكتب نشر بعضها وان بقي البعض الآخر مخطوطا لم يعثر له بعد على أثر.
هـ. ش.
النهار عدد الاربعاء ١٧ حزيران ٢٠٠٩
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق