المستقبل - الاحد 28 حزيران 2009 - العدد 3347 - نوافذ - صفحة 9
حسن داوود
في التعليق على الصورة الملتقطة في العشرين من حزيران الجاري ذكرت وكالة رويترز أنّها، ووكالات الإعلام الأجنبية الأخرى، تخضع لقرار مُلْزِم بعدم الخروج من المكاتب لإجراء التقارير وتسجيل الأفلام والتقاط الصور. الصورة الظاهرة مع هذه السطور مهرّبة إذن، ربما عبر التويتر الذي شاع ذكره في الأيّام الأخيرة منفذا لتسريب ما يجري في شوارع طهران وأزقّتها وسطوح أبنيتها. وقد واكبت نشاط التويتر، المفاجئ في جدتّه وسرعته، بل واكتشافه، مقالات في صحف العالم وصفت الدور الذي يؤدّيه. لمن هم في العمر الذي مكّنهم من معايشة أيّام ثورة آيات الله في إيران، ذكّرهم التويتر بالكاسيت، تلك التي قيل عنها آنذاك إنّها وسيلة التعبئة والإتصال بين الخميني، المنتقل آنذاك لإقامته الموقّتة في باريس، وجماهيره في مدن إيران وأريافها.
ورجل الصورة لم يكن بين أولئك الذين شهدوا تلك الثورة، أو أنّه ، كما قد تدلّ صورته، كان أصغر من أن يفهم ماذا يعني ذلك الاستنفار والضجيج الهائلان اللذان كانا متفجّرين من حوله. ولا ريب أنه، في صورته هذه، يحيّر الناظر إليه في محاولته تقدير عمره. ولا يرجع ذلك فقط إلى اختفاء أكثر وجهه تحت الضمادة، والكمامة التي ارتداها لغرض التخفّي على الأغلب، بل إلى تلك النظرة المحدّقة بالعين الواحدة، الساهمة والواعدة بالانتقام في الوقت ذاته. ربّما كان أكبر قليلا من عمر الشباب النموذجي، أو ربما هو في العمر الوسط بين هؤلاء، الشباب، وأولئك الذين سبقوا الشباب إلى إنجاز ثورتهم في العام 1979. أمّا السبب الداعي إلى تقدير عمره فمردّه إلى اتّجاه لدى المحلّلين في الصحافة يقوم على اعتبار انتفاضة حزيران هذه صراعا بين جيلين، وإن لم يفتهم ربمّا أن أجيالا أخرى فصلت بينهما ما دام أنّ ثلاثين عاما توالت بين هؤلاء وأولئك. الأصحّ أن نقول إنّ رجلنا هذا ينتسب إلى واحد من تلك الأجيال التي بدأ اعتراضها، لا بدّ، منذ الأيّام الأولى للثورة. ذاك لأنّه لم يمرّ يوم في إيران كان الناس فيه متجمّعين تحت قيادة حاكميهم. الإنتخابات التي حقّق فيها محمّد خاتمي فوزه الأوّل، ثمّ فوزه الثاني، كان من أعطوا نسبة السبعين في المئة أكثر من جيل واحد. وإنّ واحدنا ليخطئ إذ يظنّ أنّ الحياة التي يقترحها رجال الدين، أو يفرضونها، ستشدّ الإيرانيين كلّهم بجاذبيّتها. كلّ من زاروا إيران رأوا بأمّ العين تعبيرات الإحتجاج المختلفة، سواء في تفلّت النساء التدريجي من الحجاب، أو في إجراء الحياة في الخفاء بعيدا من الأعين المتلصّصة لمن أعطوا تفويض حماية الأخلاق، أو في الرقابة السياسية والأمنيّة على الجامعات، طلابا وأساتذة، أو في ترك الحياة الثقافيّة للإيرانيين تجري في المنافي ويمنع وصولها إلى من ما زالوا في بلدهم لم يغادروه.
وهي حياة موازية تلك التي تجري في الخفاء ابتداء من تهريب الكتب والأفلام وصولا إلى ما يفيض عن ذلك الخفاء خارجا إلى الحدائق العامّة التي، في الليل خصوصا، تنتشر فيها روائح الممنوعات بقوّة ما تُشمّ في الغرف المقفلة. وهي تفيض عن الخفاء أحيانا في عدم التزام سائق التاكسي جانب الحذر حين يسأل راكبي سيّارته على ماذا يريدون أن يحصلوا، ذاكرا بضاعته الممنوعة كلّها بأسمائها.
الأصح أن نقول إنها أجيال وليست جيلا واحدا، أجيال تتجدّد في مجابهة ما يبقى، بالقسر أو بقوة الإعتصام بالعقيدة، على حاله . يصعب على من كانوا أصحاب ثورة ذات يوم أن يقبلوا أن الأشياء لا تبقى على حالها، أو أن مبدأ الحياة هو التغيّر. بعض من كانوا ثوريّي إيران، وانتزعوا السلطة من الشاه، لم يصدّقوا ميل أبنائهم إلى الحياة الجارية في بلد الشيطان الأكبر، كما في بلاد الشياطين الصغار أو الأقلّ شأنا، كمثل بريطانيا وفرنسا وسواهما. قالوا لنا، نحن محاوريهم هناك في طهران، إنهم لا يعرفون كيف تصل أشرطة الفيديو، آنذاك، إلى أيدي أبنائهم وكيف يتسنّى لهم متابعة الموَض الجارية هناك. في ما يعتقده أحمدي نجاد ومن معه ممن يسمّون المحافظين، أو المتشدّدين، أن ما ينشدّ إليه الجيل الجديد لا يعدو أن يكون تعلقّا بالتفاهة. وهو، إذ يخطر له أن يسمّي الطرفين المتنازعين اليوم في طهران، وهذا ما أشارت إليه مقالات صحافية كثيرة، يروح يقارن بين جيل خاض حروبا وأرسى عقيدة وواجه دولا مستكبرة، وجيل لا همّ عنده إلا أن يعيش كما يحبّ ويهوى.
ذلك النظام الرافض للتغيّر لن يستطيع البقاء ما دام ّ كلّ ما يسعى إليه هو إبقاء إيران تحت سلطته. لم يعد مالكا القدرة على احتواء الإيرانيّين بتصعيد الإستعداد للحروب والمواجهات والزهو باقتراب الوصول إلى القنبلة الذريّة. «هذه، القنبلة، لا نريدها... لا نريد أن نواجه أحدا أو أن نتحدّى أحدا» قالت سميرة مخملباف، المخرجة السينمائية الشابّة، معبّرة، لا عن ما يراه أبناء جيلها فقط، بل عما يريده مثقفو إيران ومبدعوها على اختلاف أجيالهم.
طبعا يصعب على المأخوذ بالمشاهد المهرّبة، القصيرة والمجتزأة، والتي «لا يمكن الوثوق بصدقيّة بعضها»، كما ذكرت، متحسّبة، وكالات الإعلام التي توزّعها، يصعب على مشاهدها إذن أن يتنبأ بما ستؤول إليه تلك الإنتفاضة. ربّما ستتمكنّ القوّة من إسكاتها، ربما سيتمكّن مُسكتوها من طيّ صفحتها الآن والقول إن من قاموا بها مجموعة عملاء وجواسيس بدليل أن كثيرين ممن جرى اعتقالهم مشكوك بولائهم لوطنهم لأنّهم يحملون جوازات سفر أميركيّة وبريطانيّة. لكنّهم لن يجدوا إلآّ تشديد القوّة وإبقاءها متحسّبة متيقّظة، القوّة التي ستعتق هي أيضا.
ذاك لأنّ تلك الأصالة الحازمة لم تعد قادرة على أن تصنع رمزا أو أن تجدّد رموزها. مقتل ست عناصر من الباسيج، بحسب ما أورد الإعلام الإيراني، إن صحّ، فسيُنسى من لحظة ما يُستخدم في النزاع الإعلامي، أما ندا سلطاني فأيقونة باقية. ما لن يتمكن المسلحون العسكريّون، أو المسلحون المدنيون المسلحّون بالعصيّ والسواطير، بحسب ما نقل على «التويتر»، من تبديله، هو أن يكون ما جرى، وسيستمرّ جاريا ربما، هو بداية لزمن جديد. هذا ما تؤكّده تلك النظرة، المحدّقة ثابتة في ما هو أبعد من مرماها القريب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق