السبت، ٢٩ آب ٢٠٠٩

السياسيون والأغنياء: نادي زواج مقفل

logo
المصدر: جريدة الأخبار (http://www.al-akhbar.com)

السياسيون والأغنياء: نادي زواج مقفل

تويني ومكتبي خلال زواجهما في قبرصتويني ومكتبي خلال زواجهما في قبرص
تعزيز نفوذ العشيرة أو درء شر عشيرة أخرى أو إتمام مصالحة بين عشيرتين، «أسباب» كانت تدفع هذه العشيرة أو تلك إلى عقد زواج مع عشيرة أخرى. وهكذا، الزواج أشبه بصفقة تستفيد منها عشيرتان لتزداد قوتهما. في لبنان، عشائر السياسة تلعب اللعبة ذاتها في نادٍ يبدو مقفلاً على من فيه، باستثناء بعض الاختراقات

غسان سعود
بعيداً عن الإعلام وعن أعين الفايسبوك غالباً، ثمة نادٍ مقفل، فيه الرياضة وفيه النقاش وفيه ربطات العنق والفساتين والفولارات والطعام والسيارات والمرافقون وأرقام الهواتف الخلوية، وفيه العرسان.
الرئيس إيلي الفرزلي يقول إن زمن «الزيجات السياسية ولّى»، ويستعرض سريعاً في رأسه أشجار العائلة لنواب البقاع الغربي وراشيا وزحلة، قبل أن ينتقل إلى مناطق أخرى. «يبلع ريقه» قليلاً ثم يقول: «نعم، ما زال هناك بعض الزيجات، لكن ليس الهدف سياسياً دائماً، فقد يكون زواج هؤلاء في كثير من الحالات ثمرة حب، لا تنسَ أن هناك مجتمعاً سياسياً يحتضن هؤلاء». وإذ يعدد الفرزلي بعض الأسماء، يعود ليصوّب: «نعم، هناك من يختار عروساً لابنه بناءً على معطيات إقليمية.
لكن، دون الدخول في التفاصيل الخاصة لظروف كل زواج تبدو لائحة الارتباطات في النادي شبه المقفل لافتة:
ــ النائب سمير الجسر متزوّج بسلام عبد اللطيف كبارة، شقيقة النائب محمد كبارة.
ــ النائب ميشال فرعون متزوج بمنى طنوس، ابنة أحد كبار المقاولين في لبنان. ونايلة فرعون شقيقة النائب ميشال فرعون متزوجة بجان دوفريج، شقيق النائب نبيل دوفريج.
ــ النائب بطرس حرب متزوج بمارلين ثابت، الزوجة السابقة لمدير مكتب قائد الجيش السابق العميد ميشال لحود. ووالد الأخير كان متزوجاً بشقيقة إميل روحانا صقر، نائب جبيل السابق.
ــ النائب هادي حبيش متزوج بسنتيا قرقفي، ابنة بشارة قرقفي مدير الدوائر العقارية في لبنان.
ــ النائب قاسم عبد العزيز متزوج بنظيمة الصمد، ابن خالها النائب السابق جهاد الصمد.
ــ شقيق فيفيان حداد، زوجة النائب روبير غانم (ابن قائد الجيش السابق إسكندر غانم وشقيق العميد أسعد غانم المدير العام للجمارك) متزوج بابنة «الماركي» موسى دوفريج. وابن فيفيان غانم من زواجها الأول، جو سدي، يرأس إحدى أكبر شركات المحاسبة في العالم، متزوج الزوجة السابقة لماريو سرادار صاحب مصرف سرادار سابقاً، علماً بأن علاقة جو ووالدته مرت بكثير من التوترات.
ــ الرئيس المكلف تأليف الحكومة النائب سعد الحريري متزوج بلارا العظم، السورية الجنسية، ابنة بشير العظم أحد أهم المقاولين في السعودية.
ــ رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط متزوج بنورا الشراباتي، ابنة وزير الدفاع السوري الأسبق أحمد الشراباتي. ويُقال إن نورا كانت زوجة أحد أقرباء أبو تيمور، لكنها طلقته لتتزوج زعيم المختارة.
ــ نائب الكورة نقولا غصن متزوج بنجاة خليل جريج، شقيقة نقيب المحامين في الشمال رمزي جريج. أما نائب الكورة السابق فايز غصن فمتزوج ببونا الحكيم، ابنة النائب السابق باخوس الحكيم.
ــ أمل صحناوي، شقيقة الوزير السابق موريس صحناوي، متزوجة بنجيب السعد شقيق النائب فؤاد السعد. وندى صحناوي، ابنة شقيق النائب السابق أنطون صحناوي، متزوجة برياض الأسعد. بدوره، النائب السابق كميل زيادة متزوج بليلى متري صحناوي، ابنة عم الوزير السابق موريس صحناوي.
ــ ابن الرئيس حسين الحسيني كان متزوجاً بابنة النائب أحمد كرامي، لكنهما تطلقا لاحقاً. وابنة النائب كرامي متزوجة بابن النائب السابق سمير فرنجية.
ــ أحد أبناء النائب السابق كاظم الخليل متزوج بابنة عبد الله بيسار، أحد أهم وجهاء طرابلس.
ــ ابنة مروان حمادة، رانيا، متزوجة بناجي الجميّل، شقيق الإعلامي كريم الجميّل.
ــ نزار دلول، ابن النائب والوزير السابق محسن دلول، تزوّج جومانا آل الشيخ، ابنة نازك الحريري. وابنة محسن دلول تزوجت ابن نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام.
ــ زينة العلي، ابنة النائب السابق سليمان العلي، كانت متزوجة بالنائب السابق رفيق شاهين.
ــ النائب السابق جان عبيد متزوج بلبنى بستاني، ابنة قائد الجيش الأسبق إميل بستاني.
ــ النائب السابق فارس سعيد متزوج بزينة قره كلي ابنة فهمي قره كلي، أحد أهم المقاولين في لبنان. وشقيق زوجة سعيد كان متزوجاً زوجة الشهيد جبران تويني.
ــ النائب السابق جواد بولس متزوج برندة غبريل، ابنة محافظ الشمال السابق اسكندر غبريل.
ــ الوزير نسيب لحود متزوج بعبلة فستق، شقيقة زوجة الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز.
ــ النائب السابق مصباح الأحدب متزوج بمنى رشيد المنلا، أحد أهم رجال السياسة والمال في طرابلس.
ــ النائب السابق جورج فرام كان متزوجاً حياة الخازن، ابنة كليم الخازن أغنى أغنياء كسروان. ابن جورج فرام، فيصل، متزوج بابنة وزير الداخلية الأسبق الياس الخازن. ابنة جورج فرام، رانية، متزوجة بالنائب وليد الخوري. وأخيراً ابن جورج فرام، نعمة، متزوج بزينة نخلة ابنة أنطوان نخلة وهو من أهم تجار الملابس في العالم العربي. وجدير بالذكر أن شقيقة زوجة نعمة فرام، منى نخلة، متزوجة بالنائب السابق فريد هيكل الخازن. أما النائب فريد الياس الخازن فمتزوج بسولا صليبي، ابنة الإعلامي إيلي صليبي. ولدى آل الخازن المزيد: رشيد الخازن كان متزوجاً بسعاد يوسف الحويك ابنة شقيق البطريرك الياس الحويك. رئيس حزب الكتائب الأسبق جورج سعادة، والد النائب سامر سعادة، كان متزوجاً بليلي الخازن، ابنة كسروان الخازن رئيس حزب الكتلة الوطنية سابقاً، وشقيقة أمين الخازن سفير لبنان سابقاً لدى الأمم المتحدة.
ــ سمير لحود، شقيق الوزير نسيب لحود متزوج بليزا الخازن، ابنة نقيب المقاولين فؤاد الخازن. وفؤاد الخازن كان متزوجاً بميرنا بستاني النائبة السابقة عن دائرة الشوف. وشقيق فؤاد الخازن، نبيل الخازن، متزوج شقيقة جويس زوجة الرئيس أمين الجميّل.
ــ عائلة الجميّل لها مجدها على هذا الصعيد. فمؤسس حزب الكتائب بيار الجميّل تزوج جنفياف الجميّل، شقيقة النائب والوزير السابق موريس الجميّل. والرئيس الأسبق بشير بيار الجميّل تزوج بصولانج توتنجي، ابنة لويس توتنجي أحد مؤسسي الكتائب. والرئيس الأسبق أمين بيار الجميّل تزوج بجويس تيان، ابنة قنصل المكسيك السابق في لبنان، جوزف تيان، أحد أغنى أغنياء الموارنة. علماً بأن والدة صولانج الجميّل، ابنة عم والدة ستريدا جعجع. وبدورها نيكول أمين الجميّل تزوجت بميشال مكتّف، فصار مكتّف رئيس مجلس الأقاليم في حزب الكتائب وعضواً في الأمانة العامة لـ14 آذار. يذكر هنا أن قائد القوات اللبنانية السابق فؤاد أبو ناضر هو ابن شقيقة أمين الجميّل.
ــ الوزير الياس سكاف متزوج بميريام طوق، ابنة النائب السابق جبران طوق. وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع متزوج ستريدا طوق، ابنة الياس طوق شقيق النائب السابق جبران طوق. وبشرّاوياً أيضاً، كان الرئيس رينيه معوض متزوجاً بالنائبة نايلة عيسى الخوري، ابنة شقيق النائب السابق قبلان عيسى الخوري.
ــ الوزير السابق فارس بويز متزوج بزلفا الهراوي، ابنة الرئيس الأسبق الياس الهراوي. وكلود بويز، شقيقة فارس، متزوجة بإميل كنعان، المرشح السابق عن المقعد الماروني في المتن، ووالدة النائب فؤاد السعد خالة النائب السابق فارس بويز.
ــ النائب والوزير السابق غسان تويني تزوج أولاً بناديا حمادة، ابنة السفير محمد علي حمادة وشقيقة النائب والوزير مروان حمادة. وبعد وفاتها، تزوج تويني شادية الخازن، شقيقة رئيس المجلس الماروني العام وديع الخازن.
ــ الوزير السابق ناجي البستاني متزوج بهند فؤاد افرام البستاني.
ــ ابن رئيس الرابطة المارونية ميشال إده متزوج بابنة النائب السابق بيار حلو، علماً بأن إده وحلو كانا في المدرسة ذاتها. وابن إده يعيش في باريس ولا يتعاطى السياسة.
ــ عائلة النائب ميشال المر، تستحق المتابعة بدورها: ابنه الوزير الياس المر تزوج بكارين لحود، ابنة الرئيس إميل لحود عشية انتخاب لحود رئيساً، وانفصلا قبيل مغادرة لحود قصر بعبدا. ابنته ميرنا، رئيسة اتحاد بلديات المتن، تزوجت جبران غسان تويني أولاً، وبعد طلاقهما تزوجت جوزف أبو شرف، ابن النائب السابق لويس أبو شرف. وإحدى بنات لويس أبو شرف متزوجة بأحد أبناء النائب السابق رائف سمارة، علماً بأن جوزف أبو شرف نقل قيده إلى بتغرين كي لا تنقل المر قيدها إلى كسروان ولا يعود في استطاعتها خوض الانتخابات البلدية في بتغرين. وابنة المر الثانية، لينا، متزوجة برئيس بلدية الشياح السابق والمرشح عن المقعد الماروني في الانتخابات الأخيرة إدمون غاريوس.
ــ عائلة الراسي العكارية لها تجربتها أيضاً: الوزير السابق عبد الله الراسي كان متزوجاً بسونيا فرنجية، ابنة الرئيس سليمان فرنجية. وابنه طلال كان متزوجاً برلى فاخوري، ابنة الوزير السابق شوقي فاخوري. فيما ابنه النائب السابق كريم الراسي متزوج بلوسي سالم، ابنة شقيق الوزير السابق إيلي سالم رئيس جامعة البلمند حالياً.
ــ كميل دوري شمعون متزوج ابنة وديع عقل، المدير العام للضمان سابقاً.
ــ شقيق صائب سلام، مالك سلام، متزوج بشقيقة الرئيس عمر كرامي.
ــ المرشح في الأشرفية مسعود الأشقر متزوج بغريتا أبو ناضر شقيقة كلود أبو ناضر، زوجة المستشار السابق لقائد القوات اللبنانية، توفيق الهندي.
ــ رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي أسعد حردان متزوج بمارلين خنيصر، ابنة شقيقة نعيم صوايا، الرئيس السابق لبلدية ضهور الشوير.
ــ مرشح حزب الكتائب في كسروان ـــــ الفتوح سجعان القزي متزوج بابنة شقيق مستشار الرئيس المكلف سعد الحريري، داود الصايغ. وهي بمثابة ابنة للصايغ الذي ليس لديه أبناء.
أما الزيجات التاريخية اللبنانية فكثيرة أيضاً: الرئيس شارل حلو كان متزوجاً بنينا طراد، ابنة شقيق الرئيس بترو طراد. الرئيس صبري حمادة تزوج بزينب الأسعد، ابنة الرئيس أحمد الأسعد، ماجد صبري حمادة تزوج بليلى رياض الصلح. كمال جنبلاط تزوج الأميرة مي، ابنة الأمير شكيب أرسلان. بيار حلو، والد النائب هنري حلو، تزوج بمادلين ميشال شيحا. واللافت أيضاً أن معظم وجهاء الطائفة السنية كانوا يختارون سابقاً زوجاتهم من الشام.
في النتيجة، تحاول ابنة أحد النواب السابقين تبرير هذه الظاهرة بالتأكيد أنها بحكم موقع والدها على تماس وتواصل مع مجموعة معينة من الناس، و«تماماً، كما يتزوج معظم الأطباء بطبيبات، والموسيقيون يبحثون عن الموسيقيات، يبحث السياسي عن امرأة تفهم تفاصيل مهنته لتتمكن من مواكبته اجتماعياً وسياسياً».
الصبية نفسها تعترف بأن زيجات كثيرة من هذا النوع فشلت ولجأ الطرفان في النتيجة إلى الطلاق، لكن ذلك لا يعني أبداً أن هؤلاء يتزوجون من دون حب أو من دون التطلع إلى إمكان قضاء العمر معاً. وتعترف ابنة النائب السابق بوجود نادٍ شبه مقفل للسياسيين ومعهم أهل المال، مشيرة إلى أن ذلك لا يلغي وجود اختراقات كثيرة، علماً بأن أكثر من ثلثي النواب في المجلس الجديد ليسوا من عائلات سياسية، وتالياً، يدخل هؤلاء إلى النادي مع زوجات من عائلات مغمورة، لم يسمع أحد من قدامى النادي بآبائهنّ وأمهاتهنّ.



نواب على «نصيبهم»

التحقت النائبة نايلة تويني (مكتبي) بزميلتيها في المجلس النيابي، ستريدا جعجع وبهية الحريري، إلى «القفص الذهبي»، فلم يعد في ساحة النجمة أي عزباء، مقابل 10 نواب عازبين. واللافت أن أربعة من نواب الكتائب اللبنانية الخمسة ينتظرون «النصيب»: سامي الجميّل، نديم الجميّل، إيلي ماروني وسامر سعادة، في ظل معلومات عن انتظار سامي وسامر التوقيت المناسب لإعلان «الخبر السعيد». والمعلومات نفسها تشير إلى أن نديم وإيلي ليسا في وارد دخول القفص قريباً. أما في تكتل التغيير والإصلاح، فثمة عازبان فقط، هما آلان عون وغسان مخيبر. ويقول أصدقاء عون إن الطلب على النائب المهندس ازداد أخيراً وسط الصبايا، في وقت يردد فيه أصدقاء مخيبر أنه تزوج «القضية» التي تشغله منذ سنوات.
في كتلة القوات اللبنانية ثمة نائب عازب واحد، هو جورج عدوان. ويرى أحد القواتيين أن عدوان يقلق الصبايا بمفاجآته، ولا شيء يؤكد للعروس المفترضة أن سعادته لن يغير رأيه على المذبح، فيتركها ويغادر ليرعى طبخة سياسية ما.
تكتل لبنان أولاً غنيّ بالعزاب، ففيه شانت جنجنيان ونقولا فتوش وزياد القادري.
أخيراً، إذا كان زواج نايلة تويني ومالك مكتبي قد أثار زوبعة على خلفية طائفية، فإن التدقيق في عائلات السياسيين يظهر أن «الزواج العابر للطوائف» ظاهرة ليست جديدة في عائلات السياسيين.


عدد الاربعاء ٢٦ آب ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/153602

موسـيـقـيّــــــــات

logo
المصدر: جريدة الأخبار (http://www.al-akhbar.com)

موسـيـقـيّــــــــات

أنسي الحاج
الموسيقى لا تَبْني بل تُلاشي. تجعلك قشعريرة، تُبنّج هذا الذي ما كان واعياً إلاّ ليخاف، ليتوجّع.
استسلمْ.
يجب أن لا يتوقّف النزف.
■ ■ ■
أَضمن المؤلّفين الموسيقيّين هو الأصمّ، لا اقتداء بمثل بيتهوفن بل لأن الصَّمَم يقلّل من استمتاع المؤلّف بألحانه، مما يزيد من استمتاع المستمع.
■ ■ ■
كذلك، المؤلّف (أو المغنّي) المسيطر على انفعالاته، فيبدو جامداً كالصخر وهو يُزعزعك، بارداً كالثلج وهو يضرم فيكَ النار.
الخَلْق (والأداء) يُشبه، من خارج، البرودَ الجنسي.
■ ■ ■
«صوتُها أعمى»، قال لي صديقي عن إحدى المبتدئات.
عَرَاني فَزَع من هذا الوصف.
وشَعَرْتُهُ يُحذّر من تهديد!
■ ■ ■
في كلّ مؤلّف لاعبٌ تارةً يلهو عن شيطانه وطوراً يلهو معه وأحياناً يصارعه. العرب من أوائل الذين أدركوا ذلك فعيّنوا لكل شاعر شيطاناً. لكنّها أضحت كالمداعبة، فيما هي قضيّة خطيرة تقع عند المفترقات. مقدارُ اللعب في المؤلّف هو الفرق بينه وبين سواه. المقدار، والوجهة. وهل يلعب، أم يَجْتنب؟ وهل يعي أنه يلعب، وكم، أم لا؟ وأين تتوقّف حدود إرادته؟ وهل يتراجع إذا خاف ما يَرى، أم يمضي؟ وإذا مضى، فما العمل بعد سقوط شهابه وعودة الظلام؟
■ ■ ■
المؤلّف ليس أُحجية للجمهور وحده بل لنفسه أيضاً. الجمهور قد يَعرف ما يجهل في المؤلّف، بينما المؤلّف قد لا يَعرف ما الذي يجهله في نفسه.
■ ■ ■
تَجْمع الموسيقى التجريد إلى العناصر الأربعة، خصوصاً الماء والهواء. وفوقها، الحواس الخمس عشرة. (العشر الإضافية هي بعض ما تُولّده نشوةُ الموسيقى من مضاعفاتٍ لا تعود هي نفسها مسؤولة عنها).
■ ■ ■
المُنْعش أيضاً في الموسيقى أنّكَ حين تكتشفها تطمئنّ إلى أنّكَ لم تكن وحدك بلا جدوى.
■ ■ ■
نلاحظ عند بعض الموسيقيّين، مؤلّفين وعازفين، تبايناً بين «موسيقاهم» وشخصيّاتهم، هو في الغالب ترجيحٌ لكفّةِ الموسيقى لا لكفّةِ شخصيّاتهم. ملحّنٌ فَظّ أو مُدَّعٍ أو خَشِن يضع أرقَّ الألحانِ سالكاً في شِعابٍ ورهافات لا تومئ إليها شخصيّته. وما عُرفَ ويُعرف عن تفاصيل طباع العديد من المؤلّفين الموسيقيين ـــــ ممّا عُلم من كتب وبالتعايش القريب ـــــ يتعارض وقمم السطوع والشفافية والخشوع والاتحاد والصوفيّة والانسحاق والملائكيّة والشيطانيّة والدهاء والسحر التي تنطوي عليها مؤلفاتهم.
هل كانوا يعرفون هذا التباين؟ هل هم واحدٌ مع مواهبهم وعبقريّاتهم، أم هي تُقيم فيهم على حدة، كالمستأجر؟
أم أنَّ لغةَ الموسيقى من الجَمال بحيث لا يستطيع الموسيقي الموهوب، مهما كان نوعُ بَشَريّته، أن يطمسها؟
■ ■ ■
ليس بين الفنون ما يُشْبه الدِين مثل الموسيقى. حتّى ولا الشعر بمعناه الأدبي. لم يتقدّم الشعر كبديلٍ من الدِين. لا هوميروس ولا داود ولا سليمان. المتنبّي لَقَبُه يرسمُ حدودَ طموحه. الرومنتيكيّة بأسرها دارت حول المسيحيّة تستلهم، سلباً أو إيجاباً. يستطيع الأدب أن يتكوّن خارج إطار الإيمان الديني لكنّه لم يستطع أن يُنتج تراثاً «دينيّاً» موازياً للدين أو بِطانةً له أو بديلاً.
الفلسفة استطاعت. قبل المسيحيّة مع الإغريق وبعدها، (كارل ماركس). لكنّها كانت «أدياناً» بلا ارتعاشاتِ الغيبِ وتجلّياتِ الغامضِ وإشراقات الروح التي تُوجدها الموسيقى.
أقيمت بدائل من الأديان أنتي دينيّة، والموسيقى بديل أكثر من دينيّ. لكنّها دينٌ بلا عقاب، ولا حدود، ولا عدوّ، و«تعَصُّبُها» يَزيدُ الحريّة.
■ ■ ■
أحد أسباب إعجاب الأدباء غير المتنكّد بالموسيقيّين هو استحالة التنافس في وسيلة التعبير. الأديب، هنا مرتاحٌ من الغيرة ومن احتقار الشبيه.
■ ■ ■
الخَلْق أجمل من الخلاّق، وفي الموسيقى هو أجمل بما لا يُقاس. في الشعر ليس دوماً كذلك. بعض الأدباء أجمل من كُتُبهم.
حضور الموسيقى الأخّاذة أجملُ دوماً من غيابها.
مع السينما ظهر كمالُ الموسيقى وتفوّقها حتّى لمَن لا يريدها. لنتصوّر فيلماً بلا موسيقى يسمّونها «تصويريّة» وهي في الواقع روح الفيلم لا غلافه. لنتصوّر القدّاس بلا ألحان والكنيسة بلا أرغن أو بيانو أو جوقة. لنتصوّر خَيالنا السارح سارحاً بلا خلفيّته الموسيقية السليقيّة، تلك الأنغام المنبعثة من نخاع النخاع، كبخار الأرض قبل التكوين، السابقة للنطق، الموجودة قبل النطفة في الأحشاء.
ربّما لا يجوز للموسيقيّ أن يكون توأماً لموسيقاه حتّى لا يجمّده تأثُّره بها. والمسافة بين بَشَريّته وأُلوهَتها هي المسافة بين الوسيط والهدف.
■ ■ ■
تملأ الموسيقى فراغَ المعنى في أفلام السينما. تُجمّل، تلقي بوشاحها على الضعيف والفحل فلا تنتبه لهما، بل تُعْجَب بهما. هذا القَدْر من «النجاح» هو خداعٌ لا يستغني عنه مخدوعُه.
■ ■ ■
طبيعةُ لغةِ الموسيقى فيها ما يُعين الموسيقار على ترجمة نَفْسه بأروعِ ممّا يفعله سائرُ المعبّرين. إنه يحتاج إلى القليل على صعيد الشعور والفكْر ليقول الكثير. بخلاف الشاعر والروائي والفيلسوف.
لغةُ الموسيقى لها من خصوصيّتها ما يمكّنها من «قول» أيّ شيء سطحيّ أو تقليديّ وإيصاله إلينا سحراً خالصاً نتعشَّقُه ونردّده ويلتصق بنا رغم رَفْضنا لـ«معناه»!
■ ■ ■
حذارِ سحرَ غنائهم أيّها القويّ!
من بصيرة نفّاذة تُسلّط على الهدف بلا ارتجاف... سيجعلكَ سحرهم خرقة مبلولة!
حذارِ الأجمل من آلامك، أيّها القويّ!
■ ■ ■
الكلام ضدّ الديكتاتوريّة يبدو بلا معنى حين نراقب قائدَ أوركسترا وكيف يتعامل مع فريقه. أو مؤّلف الموسيقى وكيف يتعامل مع معاونيه. أو المخرج وكيف يتعامل مع الممثلين والتقنيين. أو الكاتب وكيف يتعامل مع الفراغ الذي يحيط به نفسه.
الداعون إلى إلغاء الديكتاتوريّة سيتوصّلون إلى إلغائها حيث هي سائرة بشكل طبيعي إلى الزوال، ولكن سيظلّ مشهدُ كونداكتور يتحكّم في أوركستراه كتحكّم الله في ملائكته، مثالاً للديكتاتوريّة. كذلك المخرج مع ممثّليه. والكاتب فوق ورقته. والنحّات والمصوّر والملحّن وأستاذ الرقص... لأنّ السلطة الأصليّة هي الخَلْق، وكلّما تساوت المجتمعات في الديموقراطيّة وتهاوت رموز الطغيان السياسي والعسكري والأيديولوجي والديني والاقتصادي والتكنولوجي، عادت إلى التحرّك الحاجةُ الإنسانيّة إلى سطوةِ الخَلْق تًعوّض الإنسان عبر الدهشة والغوص والاستشراف ومخزون اللغة من عنفٍ ورقّةٍ وفتنةٍ ومصالحةٍ وتجديدٍ واكتشاف، تعوّضه عمّا سلبته إيّاه سلطات ماديّة انتحلت عبر التاريخ صفة القيادة عوضَ أن تَتسمّى باسمها الحقيقي وهو الاغتصاب، وفي ألطف أشكاله: التزوير.
القيادة لم تكن يوماً إلاّ للفكر والفن والشعر، ولأنَّ معظمَ أربابها منخطفون إلى أصواتهم الداخليّة لم يبالوا بفخفخات الأرض، في حين تكالب عليها المَظْهَريّون وموهوبو تحويل الذهب إلى تراب. ومع ذلك، رغم سلالات الملوك والأباطرة والجنرالات والغزاة ومئات ملايين الضحايا، ورغم تحالف سلطة السياسة مع سلطة الدين وسلطة المال، لم تستطع هذه السلطات أن تحرّك في الناس غير النوازع السلبيّة، ولم يدخل منها إلى نفوسهم غير الإرهاب والفساد.
إذا اضمحلّت الديكتاتوريّات السياسية ستبقى الديكتاتوريّات الفنّية والأدبيّة. لأنَّ هذه يحتّمها جوهران: طبيعةُ الخَلْق، على درجاته كافّة، وطبيعةُ تنظيمه وإيصاله إلى هدفه. لا بل ثمّة جوهر ثالث أيضاً لا بدّ من تسميته، وهو حاجة الجمهور إلى قيادة ديكتاتوريّة للخلق. فقيادةُ الخَلْق مجبرة، تحت طائلة انهيار كل شيء، على رعاية عملها رعاية شموليّة كلّية بالغة الجدّية، لا هوادةَ فيها.
ستظلّ ديكتاتوريّة الخلاّق مقبولة في عالمٍ بلا ديكتاتوريّات، مقبولة ومطلوبة، لأنّها تشهد بأنّ الزَيَف تراجَع لحساب الأصالة، وبأنّ الجمال، الذي كسفه إلى حين صَخَبُ التسلّط وجنونُ عظمةِ عشّاق التوسّع ومصّاصي الدماء، لم يتوقّف عن نَجْدة العالم، وقد عرفَ دائماً أن السرّ المقدّس هو في رؤوس مَن يملكون روحَ الكلمةِ وروح النغم وروح الرؤيا وروح الأمل، هؤلاء الملوك عن حقّ، وقد تَوَّجهم لا جيش ولا عصبيّات، بل وفاء الزمان.


عدد السبت ١ آب ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/149708

موسـيـقـيّــــــــات [2]

logo
المصدر: جريدة الأخبار (http://www.al-akhbar.com)

موسـيـقـيّــــــــات [2]

أنسي الحاج
تُخاطبُ أمّ كلثوم المستمع على طريقة الزعيم، وتخاطبه فيروز بصوتِ صبيّةٍ خائفة، ومع هذا تحمل الطمأنينة. الأولى تهزّ الجسد وتمخر به عباب استمتاعه، والثانية تمسّ الجسد كالشعاع فيركع على روحه. صوت الأولى ينقضّ بسطوة الجبّار، وصوت الثانية يُرْعِش إرعاشَ قمرٍ يَسْطع فوق بحيرة. الأولى فرعون والثانية حُلُم.
■ ■ ■
بعد أن تتوقّف أغنية فيروز يعمل صدى الصوت في دوائر الصمت عمل الذكرى التي تبدأ اكتشافاتها.
■ ■ ■
جمهورها، من فرط الحنين، مهاجرٌ يريد دوماً العودة إلى وطن.
■ ■ ■
نجحت فيروز في إيصال شعر سعيد عقل أكثر ممّا فعل الشارح والناقد وسعيد عقل. نجح صوتها «بدون انحياز».
■ ■ ■
إذا انغرّ البسيطُ ظهرت بساطته. إذا انغرّ المركّب ظهرت بساطةُ المفتونين به.
■ ■ ■
يمكن تَخيُّل الله، أمام غناءٍ ساحر، وهو يتمنّى لو لم تكن الكائنات جميعها محكومةً بالموت.
■ ■ ■
يحلو للأسرار أن تجلس في النور. وهي تحتاج إلى الهواء أكثر ممّا تحتاج إليه الأشجار. وتحتاج إلى الظهور لتقول له إنه سيعجز عن تعريتها.
■ ■ ■
تحافظ الموسيقى على صمت سرّها رغم ضجيج الآلات. ويحافظ الصوت الأخّاذ على صمت سرّه مهما حُمّل من ألفاظ. هنالك أسرار لا يستطيع أصحابها أنفسهم أن يفضحوها إذا رغبوا. إنها هنا حدود طاقتنا على «الهدم».
■ ■ ■
نموذجٌ لسوء الفهم: لا يُحكى عن صوت فيروز إلّا مصحوباً بوصف «ملائكي». روَت فيروز أنها كثيراً ما رأت أولاداً، يزورونها مع أهلهم أو تزور هي أهلهم أو في أيّة مناسبة أخرى، يجهشون بالبكاء ويلوذون بأحضان أمهاتهم ما إن تُطلّ عليهم فيروز! تروي ذلك مقتنعة بأن سبب بكائهم هو خوفهم منها (ومن هالتها) لا انفعالهم وخجلهم أو غيرهما من أنواع الإعجاب.
مَن يعرف فيروز يعرف شخصيّتها الكاسرة لا الآسرة فحسب. ضعفها حقيقي وقوّتها أيضاً. واللواتي من المغنّيات يَحْسبن أنهنّ يتشبّهن بها عندما «يُنحّفن» أصواتهنّ، دليلٌ آخر على سوء الفهم. في صوت فيروز العادي خشونة تُوهِم أحياناً المستمع إليها عبر الهاتف أنه يتحدّث إلى رجل. ولها عن ذلك قصصٌ لا تُصدّق. النعومة في غنائها هي رهافة روحها، طبعاً، ولكنّها أيضاً إرادة الفنّانة.
■ ■ ■
في يومٍ من عام 2000 قالت فيروز لمحدّثها: «أمس كنتُ أسمع أغنياتٍ لي عن فلسطين. كُتبَ مرّة عن التحريض في صوتي. سأقول لك ما اكتشفته أمس: تحريضي حَنون. كيف تفسّر هذا التناقض: تحريض وحنون؟».
لو فكّت فيروز ألغاز ذلك منذ البداية هل كانت ستظلّ فيروز؟ لو اكتشفت فيروز فيروز منذ البداية لاستيقظت حسناء الغابة النائمة وحَلَّ قَدَرٌ محلّ قَدَر. ولكنْ هل تُسْتبدل الأقدار؟
■ ■ ■
العافيةُ وحدها، أمرٌ محفوفٌ بالإرهاق. الضعف وحده، سقيمٌ مُفْقِر.
كلاهما معاً شمس يؤدّيها القمر.
■ ■ ■
مغنٍ يلتمعُ صوته التماعاتٍ أخّاذة لا بفضل اتّحاده مع الكلمات التي يُنشد، إنما، على العكس، بفعل المسافة التي بينهما.
غُرْبةٌ تُمكّن المقتدر من أن يضاعف ظلّه، فيحضر بسطوة «موضوعيّة» أطغى من الانفعال.
هذا ما يحصل في ما غنّته فيروز. وهو ما يحصل في الأوبرا، حيث قد تبلغ «المسافة» حدود التعارض.
■ ■ ■
عصفورٌ سجين يُحلّق في سجنه وهو أهنأ من الطليق، لأن جناحيه طفولة باقية، ورهافته تستبق التجارب وتَشفُّ على نِصالها.
ذلك هو شخصٌ أحْبَبْتُ. وكلمة أَحببت. وصوتٌ أَحببت.
■ ■ ■
الأغنية القصيرة تراود الذاكرة كإطلالة خاطفة لوجهٍ معشوق.
■ ■ ■
يختزن الفولكلور من حقائق الشعوب وأحلامها ما لا تستطيع العلوم الاجتماعية والإنسانية الحدس به.
■ ■ ■
حين تشتدّ النبرة الميلودرامية في كلام الأغنية، يجلّسها صوت فيروز بصوتٍ يتعالى على الانفعال الخارجي. وحين يكثر «الإنشاء» في الأغنية، يأتي عمق الصوت ويضفي عليه ببلاغته المتقشّفة معاني لم تكن لتبدو بهذه المعاني.
■ ■ ■
أَبقى اللحظات الموسيقيّة هي تلك المفعمة بأكثر الأشياء هروباً، وأمتعُها أنجحها في استثارة ضباب الأعماق.
■ ■ ■
الفولكلور الغنائي كما أعاد صياغته الأخوان رحباني وطبَعَتْهُ بصوتها فيروز إلى الأبد أقلقَ في البداية الأوساط الأكاديمية بسبب تجديده وإضافاته.
وسرعان ما اتضح التوازن الخطير الذي أقامه المثلّث بين الذاكرة والجديد، وكيف أنقذوا صيغتهم من تحنّط الأولى وإقتلاع الثانية، محققين المعادلة المثلى في التأليف الغنائي، وهي الصوت الطالع والصدى العائد. وهو ما فشل آخرون في تحقيقه.
حضرنا معاً حفلة لاتجاه فني مختلف، يحاول الوفاء للأصول مع محاكاة الأساليب الأوبرالية عزفاً وغناء. (كان ذلك في الثلث الأول من ستينات القرن العشرين) فوجدنا فولكلوراً لبنانياً (أبو الزلف، عتابا وميجانا، مواويل...) يقدّم في سياق التفرنج الأوركسترالي فتكون النتيجة كائناً هجيناً تحوّلت معه روح البراري والأعالي إلى جوقات تلامذة متصنّعين يؤدّون نشازاً يتوهّم صانعوه أنهم «يرتقون» به إلى مستوى الفن «الراقي».
■ ■ ■
... حيث تضيع المعالم بين تأثّر الشعراء بأغاني الأخوين رحباني وتأثّر الأخوين رحباني بالشعراء. الفرق أن تأثُّرَ الأوّلَين واضحٌ حيث هو، وتأثّر الرحبانيين هو إمّا من نوعِ المحاكاة الأفضل من الأصل (غنائياً) وإمّا من نوع التأثّر غير المباشر. وهذا التأثّر المداوَر أو المحوَّل موجودٌ لديهما في الموسيقى على نحو أكبر.
■ ■ ■
العرب ظهروا في الغناء أكثر ممّا ظهروا في الموسيقى الصافية ربما لأن الإسلام طوى ما قَبْله من أساطير وخرافات ولم تنتقل ميثولوجيا «الجاهلية» إلى العصور اللاحقة انتقال الميثولوجيا الإغريقية ـــــ الرومانيّة والجرمانيّة والسلافيّة وغيرها إلى أوروبا بعد المسيحية. تبدو العلاقة ثابتة بين الموسيقى الصافية والجذور الميثولوجية ومصادر الإلهام الدينية. الظاهرة الصوتيّة ليست مصاحبة فقط لغنائيّة اللغة العربيّة ولفظيّتها الرنّانة بل كذلك لحلول الأغنية في الذائقة العربيّة محل الموسيقى الصافية. لذلك يَطْرب العربي للغناء بما يفوق حدود أيّة سلطة أخرى عليه، وللأغنية العقل باطنيّة اللحن خصوصاً، الفولكلوريّة الطابع بوجه أخصّ، وحتّى لو كانت فولكلوريّة غير مباشرة كما في الكثير من ألحان الرحبانيين وفيلمون وهبة وفريد الأطرش. وفي مصر، ورغم جهود عبد الوهاب وبراعته، لم تستطع تجديداته وتلقيحاته الغربيّة أن تغلب ولا أن تحجب سحر الألحان الشعبية.
■ ■ ■
أضاف أجداد مغمورون إلى التراث الشعبي كلٌّ على قَدْره. الفولكلور مجموعات من المؤلّفين المجهولين، ثم يأتي فنّان موهوب ويضيف إلى الموروث ولكنْ هذه المرّة إضافة «معلومة» غير مرشّحة للغَمْر. على الأقلّ في زمن مرئيّ قريب. عندئذٍ يُنْسَب الفولكلور الجماعي إلى شخص، مع أن إسهام الشخص محدود جداً، وعلى الأرجح شكليّ، كتغيير لفظة أو زيادة نوطة. لكنّ هذا التغيير يصبح جوهريّاً وساطعاً في الموروث إذا كان الفنّان المضيف خلّاقاً ومن طينة ينابيع الموروث لا فروعه، فتغدو الإضافة امتداداً طبيعيّاً ويصبح الدخيل هو والأصيل واحداً.
■ ■ ■
التحديث في الموسيقى محفوف بأخطار التيهِ إذا نأى عن جذور اللاوعي. هذه الأخطار هي نفسها في التصوير والنحت، ولكن على درجة أقلّ، لأنّهما أقلّ غوصاً من النغم والصوت في رحم الرأس، فرديّاً وجماعياً. أما الأدب فهو الأكثر قبولاً للتلاعب والعَبَث بسبب مشاعيّة الكلام، فيغدو في حاجة ماسّة إلى التغيير والنَفْض حتّى يظلّ قادراً على ملاقاة الأحلام واستنباطها، وحتّى تتجدّد اللغة وتحتفظ (أو تسترجع) قدرتها على التأثير.
■ ■ ■
الحَدَث هو تحوّل الجديد إلى أسطورة. لا يعود امتداداً فقط لحديث اللاوعي بل يضيف إليه. لا يَهْمي منه بل ينهمر عليه. وحتّى عندئذٍ لا يكون هجيناً ولو بدا كذلك، بل تكون له بغمر الأعماق السحيق، وشائجُ من النوع الذي لا يُستطاع اقتلاعه.
■ ■ ■
ابتكار أسطورة هو أبلغ من البناء على أسطورة. يظهر ذلك في الأدب خاصّة، عندما ابتعدت الرومنتيكيّة عن الرموز الإغريقية ـــــ الرومانيّة واستلهمت حاضرها ورؤاها الحديثة ولو على خلفيّة قصصٍ أو شخصيات من الماضي.
أمّا في الموسيقى فقد ظهر الاستقاء من الأساطير أقوى ما يكون في مؤلفات فاغنر، ولعلّه أبرز مَن نجح في تحقيق وحدة الكلمة والنغم، بل وحدة الجوّ والكلام والموسيقى، مستعيناً على ذلك بتكرار اللازمة، أو النغم الهاجس، وقد برع فيه قبله بيتهوفن في شكلٍ أكثر عفويّة وأسرع التصاقاً بالذاكرة.
لكنّنا هنا أيضاً ما زلنا في الأسطورة المستعادة أو المستعارة لا المبتكرة. الحكايات «الجديدة» نجدها في أمثال «كارمن» أو «لا ترافياتا» وقبلهما في «دون جوان» موزار.
■ ■ ■
... ما يعيدنا، بنظامه، إلى استراحة التحلّل، لا ما يحتاج منّا إلى الدعم لينتظم... الاختلاط بالموجة العملاقة، التي تستعيد المكان بابتلاعه، لا ادّخار الذات بعيداً.
الإغراء جيّد لأنه يأخذ إلى الانحلال ذاك. الادّخار يَحْفظ لأيّ غرض؟ الإنفاق تسييل لدم الشرايين. الإنفاق الشديد رقصة صوفيّة. ما يُنْفقني يجنّحني ـــــ دفعاتٍ دفعات قبل التحليق الأخير... ولا تحليق أخير، بل كلّ مرّة هو التحليق الأخير.


عدد السبت ٢٢ آب ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/152959

«الإنســـان هـــو مـــا يُخفـــي»

logo
المصدر: جريدة الأخبار (http://www.al-akhbar.com)

«الإنســـان هـــو مـــا يُخفـــي»

أنسي الحاج

■ «تجربة توفيق صايغ الشعريّة»

يقول أندريه مالرو: «في الموضوع الأساسي، الإنسان هو ما يُخفي». اقتفى الأديب العراقي سامي مهدي آثار توفيق صايغ (عن دار رياض الريّس) كلمة كلمة وحرفاً حرفاً في تحقيقٍ أشدّ صرامةً من فحص المختبرات وأكثر تحرّياً وتشريحاً من التحقيق البوليسي. أصاب في تشخيص افتعالات الشاعر وأخطائه التعبيريّة، وأصاب في لوم أصدقاء صايغ (ولا سيما جبرا إبراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي) لعدم تنبيههم إيّاه إلى بشاعة تلك الافتعالات، وربّما أصاب في ترجيح تأثّر صايغ بالشعراء الأنكلوسكسونيين الذين سمّاهم مهدي وقارن بين بعض أبياتهم وبعض أبيات صايغ في جهد يستحق التقدير. لكن القارئ ينتهي من مطالعة الكتاب على ظمأ: ما دام صايغ كان يستطيع، باعتراف مهدي، أن يستغني عن افتعالاته بدليل أنه في بعض قصائده (كـ«موعظة على الجبل») يبلغ مدىً ممتازاً من الشفافية والبساطة، فلماذا تُراه أوقع نفسه في جبّ التصنّع والوعورة؟ لماذا يُنفّر قارئه عمداً؟ لماذا يشوّه تعبيره وهو قادر على تكريره؟ باختصار: ما الذي يختبئ خلف هذا التنكّر؟ أليس هو، والحالة هذه، أشبه شيء بالانتحار؟ وهل يكفي تبريراً أو تفسيراً القول بأنّه مجرّد ممارسة مازوشيّة؟ وافتراضاً هي هكذا، لماذا؟ إن اختزالاً موحياً كقول سعيد عقل في مقدمته لـ«ثلاثون قصيدة» إن توفيق صايغ «لم يسلسل حياته. لقد اقتحمها اقتحاماً. ومن هنا انه آثرها عنيفة لا جميلة». ـــــ مثل هذا الوصف السبّاق ألا يستوقف ويدعو إلى التمحيص؟ أليس العنف، وهو لا شك محرّك من محرّكات الحذلقة والإيلام عند صايغ، أليس العنف والتعنيف والاستهزاء والعبث والصدم وتكسير التناغم وتهشيم السلاسة وتجنُّب الحلاوة وتحاشي الطلاوة وتعمُّد وحشيّ الكلام أحياناً ومتاهات التركيب، أليست كلّ هذه وغيرها أقنعة على وجه مأساة؟ الأرجح أن ما يبدو ضعفاً وفشلاً، هنا، هو اختيار حرّ، والأرجح كذلك أن وراء هذا الاختيار أكثر من مجرد نزوة مزاجيّة أو رغبة مجانيّة في الإزعاج. نحن لا نملك الجواب في هذا الشأن ولا نملك حتّى فكرة عامة نقترحها، ولا نريد إلاّ أن نسجّل ما تمليه علينا معرفتنا بالشاعر ومعايشتنا لبعض تجربته.
يجلو كتاب سامي مهدي العديد من مكامن اللغز في شخصية توفيق صايغ وأدبه، لكنه يقف عند ظاهرة الافتعال ويوغل في تفاصيل تعداد أمثلتها وكأنها هي جواب نفسها، ولم يذهب بعيداً وراء الستار.
وهذه خسارة. فكاتب بقدرة سامي مهدي وثقافته وجَلَده كان يمكن، لو أعطى الجانب النفسي الأعمق اهتماماً أكبر، أن يتوصّل إلى نتائج بليغة. إن شخصيّةً بفرادةِ توفيق صايغ وتعقيداته تستحق النظر أبعد وتستحق أن نصبر على أشواكها وأخطائها لنتلمّس عبرها ما يتجاوزها إلى مرحلتها التاريخية وإلى محيطها قريبه وبعيده وإلى دوافع هذه اللغة المعذَّبة والمعذِّبة التي شهد بها صاحبها شهادة أشبه بصلب الذات.
إن ما يبدو ذاتيّاً صرفاً قد يكون كذلك لدى كثيرين، لكنّه لدى البعض دلالة على زمنٍ وعلى أزمة جماعيّة. حتى الجرح المحض ذاتي لا يظلّ ذاتيّاً محضاً في نتاج كاتب ممزَّق كتوفيق صايغ. ليس صحيحاً ولا مفيداً الاقتصار في النقد على حدود الأثر الأدبي دون الأخذ بحقائق شخصيّة الكاتب وتجاربه. النقد نوعٌ من الاكتشاف الشامل والاكتشاف الشامل يحتاج إلى جوسٍ شامل من أجل معرفة شاملة تمضي أبعد من الاجتهاد «الموضوعي» البارد والمحاسبة التقنية. والاجتهاد الموضوعي الحقّ يأخذ بحسبانه جميع المعطيات ويلحُّ بنحو خاص على اختراق الظواهر المباشرة. ولا ريب أن شاعراً ودارساً كسامي مهدي يدرك أن النقد، عندما ينجز مهمة كهذه، يرقى إلى مستوى الإبداع وقد يفوق الأثر الذي يتناوله.

■ «مقدمة للشعر العربي»

أُطالعُ في الطبعة الجديدة من كتاب «مقدمة للشعر العربي» (دار الساقي) فتستوقفني مرة أخرى قدرة أدونيس على جلاء خصائص الشعراء. على التقاط جوهرهم والإفاضة في اكتناهه معاً. إنه بين المحدثين أول مَن أجاد التعريف بالأقدمين، ممسكاً بجسر التوازن بين فهمهم في ظروفهم التاريخيّة وتقويمهم عبر رؤية حديثة. «أدرك أبو نواس، شأن أسلافه، أن الزمن تيّار يجرف ويمحو. لكنه قرن هذا الإدراك بمعرفة ثانية هي أن الزمن كذلك يمنح الأشياء حضورها وقوّتها، ويرينا عمق حياتنا الماضية وأفق حياتنا الآتية وكثافة حياتنا الحاضرة. الزمن يأخذنا، لكنّه يأتي بنا ويستبقينا في العالم ويتركنا، لأجلٍ قريب أو بعيد، وجهاً لوجه مع الطريق وأبعادها. دور الشاعر إذاً هو أن يشارك بطاقته كلها في تكامل الإنسان خلال الزمن ـــــ بين شهوة الحياة وغبار العالم. فللشاعر ميزة مزدوجة: عالق بالتاريخ ملتصق به حتى الانصهار، منفصل عنه، بعيد حتّى الغربة. إنه لا يؤخذ بالحياة إلاّ فيما هو يبحث عن حياة ثانية وراءها».
وعن الغموض عند أبي تمّام: «إنه صادر عن صفاء ذهنه وشفافيته وعن بُعده التأمّلي، لا عن تشوّشه الروحي أو ضعف تعبيره (...) يصحّ وصفه بما قاله كوكتو عن مالارميه: «غامضٌ كالماس». كل شاعر كبير هو، بالضرورة، غامض غموضاً ماسيّاً».
وعن المتنبّي: «المتنبّي وحدة غاضبة لا يرضيها شيء. لكن وحدته ليست هرباً من العالم، ليست وحدة اللجوء إلى الراحة والهدوء وليست مملكة مغلقة. إنها وحدة المجابهة ـــــ مجابهة العالم، واللعب به وتجاوزه. وحدة الألم الكبير: فمَن لا يملك غير آفاق لا يصل إليها، تمتلئ أعماقه بالمهاوي».
وقريباً منّا، عن جبران: «إن الوضع الذي عاناه جبران وعاشه يشبه وضع إنسان ينزل بطيئاً واثقاً في محيط العالم، لا تزعزعه موجة ولا يردّه عائق، لا يتردّد، ولا يحتار، ولا يلتفت. يستمر في هبوطه سائلاً، مأخوذاً بأغوار المحيط وأبعاده. وهو دائماً وَضْع مَن يسكن في أوائل الصباح، في ما قبل الظهيرة، وفي ما قبل الشيخوخة».
لأدونيس، إلى عديد مواهبه، موهبة الكشف، وهو في طليعة مَن يُستشهد بهم لتأكيد القول الشائع بأن الشعراء هم أفضل النقّاد، بل وأفضل الدارسين والمعلمين. من مصادر قوّة أدونيس أنه في غوصه على التفاصيل لا تضعف طاقته على الإحاطة الإجمالية. ينصهر في بوتقته التحليل والاستخلاص انصهاراً متناغماً، وأكثر ما يصيب عندما يلتقط بالحدس والانطباع ويعبّر بالحدس والانطباع، مثل قوله عن لغة إلياس أبو شبكة: «بين كلماته وبين الأشياء حوله نوع من المطابقة. كأن كلماته أشياء مادية، وكأن لها طعم الأشياء المادية». حرت طويلاً وأنا أفتّش عن صورة لما أشعر به لدى قراءة أبو شبكة، خصوصاً نثره، (وأنا ممّن يعتقدون بتفرّد نثره واحتلاله مكاناً خاصاً ومغبوناً إن لم أقل مجهولاً تماماً). بهذه العبارة، «طعم الأشياء الماديّة»، وضعني قلم أدونيس في صميم ضالّتي. هذا التسديد هو أحد تحدّيات الكتابة، بل أحد تحدّيات التعبير عامةً. والشاعرية من جوهريّاتها القبض على هذا السراب.
يكشف الإقبال على مؤلفات أدونيس التنظيريّة حاجة الأجيال الجديدة إلى الاهتداء في حقل لا يزال مجهولاً هو حقل الشعر، ولا أقول الشعر الحديث وحده، بل الشعر عموماً. كما يشكّل حافزاً لسائر الباحثين والنقّاد على إيلاء هذه الناحية ما تستحقّها من اهتمام.
تقع على دور النشر في هذا المجال مسؤولية خاصة لا نظنّ أنها تضطلع بها، اللّهمّ إلاّ في باب المنشورات المدرسيّة، وهو نشاط محض تجاري بالنسبة إليها، وقَلَّ أن يكون في المستوى العلمي المطلوب. يهيم بعض الدور غراماً بنشر المجموعات الشعرية نشراً عشوائياً يسيء إساءة بالغة إلى الشعر وإلى النشر، وفي المقابل تمتنع دور أخرى عن نشر الشعر إلاّ ما كان منه «مضموناً» لجهة الرواج. السلوكان كلاهما خاطئ. المطلوب سياسة نشريّة تعتمد التوازن بين حاجة السوق والمسؤولية المعنوية في معزل عن الحساب التجاري. وأحياناً يلتقي العاملان. لقد تراكمت المجموعات الشعرية أكداساً فوق أكداس بلا ناقد ولا مرشد، ومقالات الصحف معظمها سطحي أو إعلاني، وقبل الأكداس الجديدة ثمّة عقود من الإنتاج الشعري العربي لم تحظَ بمَن يقيّمها وربما بمَن يقرأها مجرّد قراءة أولى. والأجيال السابقة كانت تقرأ لكنها لم تكن تعلّق أو تدرس كتابة ما تقرأ إلاّ نادراً جداً. وكانت لها مقاييسها بينما المقاييس اليوم مختلفة وعلى الأغلب أكثر أهميّة وشمولاً وتعميقاً. على امتداد العالم العربي من المغرب إلى المشرق يمكن القول إن الجغرافيا الأدبيّة غابة عذراء لا تتردّد فوقها إلاّ شعارات محدودة مكرّرة ومعادة، تكسوها البقع المظلمة والمستنقعات. وهذا يعني أن العقل الأدبي العربي فقير حدّ الموت. الدراسة عقل. البحث عقل. النقد عقل. عقل في معناه الأكبر، عقل الفضول والاكتشاف والتعريف والإقرار والتقويم، عقل المواكبة والمعالجة والتنوير والتصويب والمحاسبة. عقل التشدّد الصارم حيث يقتضي المقام وعقل الحماسة والانحناء حيث أيضاً يقتضي. إن سلطة النقد، وقد حضرت في بعض اللحظات المشرقة الخلاّبة، غائبة اليوم تماماً. وما يعوّض عنها هو، مرة أخرى، انعطاف شعراء كأدونيس وبول شاوول وعبّاس بيضون وشوقي بزيع وعبده وازن وعبد العزيز المقالح ومحمد بنّيس وغيرهم، بين وقت وآخر، للتنويه بهذا الأثر أو ذاك، أو لتخصيص دراسة بشاعر أو حقبة في مناسبة استثنائية. وهو تعويض غالباً ما ينوب عن أي نقد مهما علا شأنه، لكنّه لا ينوب عنه في المبدأ، لا في الحاجة السيّارة المتداولة ولا في المفهوم الحضاري المطلق. ومن المفارقات المؤلمة كون العصور الأدبيّة العربية القديمة، وعلى الأخص العصر العبّاسي، قد عرفت ازدهاراً في النقد والتراجم والتأريخ الأدبي لم تعرف مثله عصورنا الحديثة.


عدد السبت ٢٩ آب ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/154047

الأسد وجنبلاط: محضر اللقاء المُنتَظر

logo
المصدر: جريدة الأخبار (http://www.al-akhbar.com)

الأسد وجنبلاط: محضر اللقاء المُنتَظر

جنبلاط مرحّباً بوفد حزب اللّه في كليمنصو الأسبوع الفائت (بلال جاويش)جنبلاط مرحّباً بوفد حزب اللّه في كليمنصو الأسبوع الفائت (بلال جاويش)هذا نصّ تسرّب عن لقاء لم ينعقد بعد بين الرئيس السوري بشار الأسد والنائب وليد جنبلاط. ولم يرد في المحضر. هذا ما جرى في اللقاء المذكور من ابتسامات وتحيّات وقهقهات وقفشات. كذلك فإن النص لم يذكر ما تخلّل اللقاء من تقديم للمرطّبات المنعشة والمتّة والبرازق اللذيذة

أسعد أبو خليل *
الأسد: أهلاً بهالطلة أهلا. أهلا بالعين الكحلا. شو. كيف كانت الرحلة من المختارة؟
جنبلاط: لم تكن مزعجة قَطّ. كنت أستمع في السيارة إلى أغاني علي الديك. موهبة، بالفعل. لا نظيرَ له. يجب تعريف العالم إليه. يجب أن نقول: أعطونا علي الديك وخذوا ما يدهش العالم.

الأسد: هل أضعت الطريق إلى دمشق؟
جنبلاط: معقول؟ أنا؟ أنا علّمت الطريق على امتداد عقود. أنا حافظ للطريق عن ظهر قلب عندما كان إلياس عطا الله يرافقني في زياراتي شبه الأسبوعيّة. ولأثبت لتيمور معرفتي بالطريق إلى دمشق، قدتُ السيّارة وأنا مغمض العينيْن. إيه والله. قد أكون ارتطمت بسيّارة أو سيّارتيْن أو ثلاث سيّارات على الأكثر. سمعت تكسير زجاج وطحن حديد وعويل نساء، لكن «كلّه بيهون». ولم أعانِ من غشاوة على الإطلاق. الطائف. كلّه من أجل الطائف. الطائف والعروبة. أنا أنشد دائماً: «بلاد العرب أوطاني. من جدّة إلى واشنطوني».

الأسد: تبدو حزيناً، لماذا؟
جنبلاط: ولو. أنا في حداد. لم أفق بعد من صدمة فقدان حسني البورزان. حسني البورزان هو فقيد الأمة وملك الظُّرف. تصوّر أن هناك في لبنان من دعا كوميدياً صهيونياً اسمه جاد المالح لواحدة من ليالي مهرجانات الصيف. صهيوني كوميدي. شو هالآخرة. لماذا ندعو كوميدياً صهيونياً إلى لبنان، وأبو صيّاح حيٌّ يُرزق.

الأسد: كيف لقيت سوريا بعد الغياب؟
جنبلاط: شو بدك بهالحكي. أنا دائماً أقول إنني أفضّل أن أكون زبّالاً في طرطوس على أن أكون زعيماً في لبنان.

الأسد: ولَوْ. هالقد؟
جنبلاط: وأكثر. أنا مستعدّ ان اكون كبابجي في حلب على أن اكون رئيساً في أميركا.

الأسد: مش عم بتزيدها؟
جنبلاط: أبداً. أنا أفضّل أن أكون عامل بناء في القامشلي على أن أكون قائد المنطقة الوسطى في القوات المسلحة الأميركيّة.

الأسد: لا، أنت تخّنتها.
جنبلاط: من، أنا؟ على العكس. أنا أتحفّظ في الحديث. أنا أفضّل أن أكون طرّاشاً في دير الزور على أن أُتوَّج ملكاً على العالم.
الأسد: لا يا وليد بك. كثير هيك.
جنبلاط: لا كثير، ولا شيء. أنا أفضّل أن أكون بائع كعك في حمص، على أن أكون رئيساً لجمهوريّة لبنان.

الأسد: يكفي. يكفي. وصلت الفكرة.
جنبلاط: لا أبداً. أنا أفضّل أن أكون نجّاراً في الزبداني، على أن أكون خادم الحرميْن.

الأسد: وكيف نظرتك للمحافظين الجدد؟
جنبلاط: هم أصل البلاء وشأفة الشرور والإرهاب. ألم تقرأ كتاب غازي العريضي عن الإرهاب الأميركي (ولا أدري إذا كان مروان حمادة، صديق العزيز «جيف»، قد قرأ هذا الكتاب)؟ هؤلاء هم الفريق الصهيوني الذي يسعى إلى تدمير العالم العربي وتفتيته. هؤلاء الذين كنت أحذِّر منهم دائماً، قبل أن أعود وأتحالف معهم لأربع سنوات طوال. هؤلاء دمّروا العراق (وإن كنت أثناء فترة الغشاوة قد اتهمت نظامك في سوريا بتدمير العراق، وإن كنت قبل ذلك في حقبة غشاوة مختلفة في 2003 و2004 قد اتهمت أميركا بتدمير العراق).

الأسد: لكنك لا تزال تلتقي بهم ـــــ هؤلاء المحافظين الجدد ـــــ وعلى تواصل معهم، وبعضهم يأتي إلى المختارة، مثل دانييل شابيرو الذي جاءك من إدارة أوباما زائراً أخيراً، وجلتَ به في أرجاء قصر المختارة إمعاناً في التكريم واستقبلته مثل استقبال الأقرباء، مع أنه موظف غير كبير في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض. وشابيرو هذا من عتاة الصهاينة المتعصّبين، وهو كان في فريق موظفي الكونغرس الذين عملوا بالنيابة عن اللوبي الصهيوني لمنع محطة «المنار» في أميركا وتصنيفها «منظمةً إرهابيّة» وفق القانون الأميركي.

«تيار الحريري أراد أن يقول لي إن العودة إلى اليسار لا تعني شيئاً لأن لا وجود لليسار»

جنبلاط: هذا صحيح، لكن اجتماعي معه كان للحديث عن العروبة وفلسطين واليسار العالمي. قد أحظى بكسب المحافظين الجدد في أميركا وجرّهم إلى صف اليسار العالمي. هذه عمليّة معقّدة وتتطلّب الكثير من التأنّي. والحقيقة أنا وجدت أن إليوت أبرامز يهتم بفلسطين ويكنّ إعجاباً شديداً بفرد من شعب فلسطين (من عائلة الدحلان، على ما أظن، وآخر من آل الرجّوب). أي إن إليوت أبرامز يكره شعب فلسطين إلا فلسطينياً واحداً أو اثنيْن، وهذا مهمّ للقضيّة الفلسطينيّة. هذا مكسب يجب عدم التفريط به أبداً. أما هنري كيسنجر، فقد وجدته عروبيّاً إلى درجة أنه ألحّ عليّ ألا ننسى لواء الإسكندرون، وهو لا يشير إليه إلا والدموع تطفر من عينيه ويقول عنه: إنه اللواء السليب، يا أخا العروبة. وألحّ عليّ في لقائي معه لإرجاعه إلى الوطن الأم. هذا هو هنري كيسنجر الحقيقي. أما ستيفين هدلي، فالعكروت (أو الملعون حسب ما يسمح الرقيب) يساري متطرِّف، وهو من أشدّ المعجبين بجورج حبش. وبالمناسبة، أراك تلتقي بهؤلاء المحافظين الجدد أيضاً. وأنا أكيد أن اجتماعاتك بهم هي مثل اجتماعاتي بهم: للحديث عن الوحدة العربيّة وعن فلسطين وعن شعارات البعث الجذّابة.

الأسد: هذا صحيح. وبالمناسبة، إدارة أوباما متعاطفة مع البعث (في شقّه السوري، لا العراقي). ألا تجد المفارقة أنك تبتعد عن واشنطن فيما نقترب منها نحن؟
جنبلاط: لكنك تقترب من واشنطن من أجل الاقتراب من فلسطين. فقط من أجل فلسطين. لا أكثر ولا أقل.

الأسد: لكن أنت قلت إنك كنت تكذب في السنوات الثلاثين التي كنت متحالفاً فيها معنا.
جنبلاط: أنا كنت أكذب عندما قلت هذا الكلام.

الأسد: أي إنك كنت تكذب عندما كذبت؟
جنبلاط: لا، أنا كذبت في ادعاء الكذب، أي كذبت صدقي.

الأسد: يعني أنت لست كاذباً؟
جنبلاط: لا، أنا كاذب، لكن بالمقلوب. أو كاذب لكن لمصلحة العروبة وفلسطين واليسار والشام. سائليني يا شام.

الأسد: وما قصة الغشاوة اللعينة التي شكوت منها؟ هل انقشعت الرؤية؟
جنبلاط: لا. أنا لم أعانِ من الغشاوة أثناء عقود تحالفي مع النظام في سوريا. أنا كنت أعاني من الغشاوة عندما تحالفت مع إدارة بوش.

الأسد: لكنك كنت تقول العكس؟
جنبلاط: قلت العكس لأنني كنت أعاني من الغشاوة اللعينة. وأنت طبيب عيون: أنجدني، يا طبيب العيون.

الأسد: شو تعريفك للعروبة؟
جنبلاط: العروبة هي عروبة. وهي الملك عبد الله والأمير مقرن والسفير الخوجة... والبعث السوري.

الأسد: شو رأيك بالأمير مقرن؟
جنبلاط: أنا أحب الأمير مقرن حباً جمّاً.

الأسد: وفلسطين؟
جنبلاط: فلسطين هي محمد دحلان وأبو مازن وعلاء الدين ترّو. ثم، فلسطين هي فلسطين.

الأسد: وما تعريفك للمقاومة؟
جنبلاط: المقاومة هي في مهرجان الجنادريّة، وهي في رفع العلم الفرنسي في قلب المختارة إحضاراً لروح التحالف بين الاستعمار الفرنسي وهذا البيت العريق في حقبة الانتداب. كل ما عدا ذلك هباء.

الأسد: لكنك قدت حملة على المقاومة في لبنان؟
جنبلاط: كنت أمزح. المزح والهزل جزء من ثقافتنا في الجبل. وكتب الجاحظ محفوظة عندنا. وتذكر أنني قلت إنني أمزح عندما دعوت دنيس روس من واشنطن وفي مقرّ الذراع الفكري للوبي الصهيوني إلى إرسال سيارات مفخّخة إلى دمشق.

الأسد: ما أجمل روح النكتة عندك. يا للهضامة. يعني على قول المصريّين: انت «كنت بتهَزَّر».
جنبلاط: «بَهَزَّر. أيوه».

الأسد: وماذا عن اليسار؟
جنبلاط: اليسار هو في التحالف المالي المرتبط بآل الحريري، وبيان تيار المستقبل في الردّ عليّ ذكّرني بأنّ رفيق الحريري كان نصيراً للعمّال والفلاّحين بالإضافة الى البروليتاريا الرثّة. لكن محمد الضيقة الكاتب في موقع «ناو حريري» استشهد بـ«مصدر» سمّاه «يساري» ليقول إنه لا وجود لليسار أبداً، رداً على كلامي. أي إن اليساري هذا نفى وجود اليسار، والله أعلم. وهذه المقابلة هي مثل مقابلة صوفي ينفي وجود الصوفيّة، لكن لموقع «ناو حريري» ألاعيب لا يفقهها إلا الراسخون في العلم. لكن تيار الحريري أراد أن يقول لي إن العودة إلى اليسار لا تعني شيئاً لأن لا وجود لليسار. لكن اليسار هو في عدنان القصّار وفي نعمة طعمة. ولنعمة طعمة تنظيرات في اليسار تتناغم مع تنظيرات سمير أمين في النمو العالمي غير المتوازن.

الأسد: البعث فوق اليسار وفوق اليمين. لكن كيف تكون يسارياً ومتحالفاً مع النظام السعودي، وهو من عتاة اليمين؟
جنبلاط: لا. هذا غير صحيح. أنا متحالف مع يسار آل سعود، مثل الملك عبد الله. أما بندر وسلمان فهما من يمين آل سعود. لا، أنا حريص على صدقيّتي في هذه الأمور. مع اليسار على طول الخط. وحتى في تحالفي مع الإدارة الأميركيّة: أنا كنت متحالفاً مع يسار عتاة اليمين، إيه والله. يعني وولفويتز وأبرامز وتشيني: هؤلاء هم يسار اليمين المتطرّف.

الأسد: ولماذا اعتذرت من وولفويتز ومن «كوندي» رايس، التي وصفتها في حديثك مع البطريرك بـ«المُحبَّة» للبنان؟
جنبلاط: لا مشكلة هنا. وأنا اعتذرت في ما بعد من حسن نصر الله ومنك. اعتذارات متقابِلة ومتعارِضة، وبالجملة. وأنا أنوي عمّا قريب أن اعتذر عن اعتذاري من وولفويتز ومن رايس. وسأعتذر منكم أيضاً.

الأسد: يعني تكويعتك هذه المرّة جديّة؟
جنبلاط: أنا تكويعاتي دائماً جديّة.

الأسد: لكن إليوت أبرامز لم يأخذ في حديث مع مجلة «سليت» الأميركيّة تكويعَتك الأخيرة على محمل الجدّ، وقال ما معناه أن انتقادك للمحافظين الجدد ليس جديّاً لأنك لا تزال ترسل له صناديق من خمر كفريّا بالرغم من أنك تنتقد المحافظين الجدد بشدّة، وترى أن تحالفك السابق معهم كان «وصمة» سوداء وتحمّلهم مسؤوليّة تفتيت العراق وأفغانستان وتدميرهما؟ أبرامز شكّك في أن تكونَ أنتَ مقتنعاً بما تقوله هذه الأيام.
جنبلاط: هو قال ذلك؟ هو قال إنني لا أزال أرسل له صناديق من نبيذ كفريّا؟

الأسد: بالحرف.
جنبلاط: هذا صحيح. أنا لا أزال أرسل هدايا لفريق المحافظين الجدد، لكنني أفعل ذلك من أجل اليسار والعروبة وفلسطين.

الأسد: كيف؟
جنبلاط: العروبة واليسار وفلسطين.

الأسد: وصناديق نبيذ كفريّا لإليوت أبرامز؟
جنبلاط: صحيح.

الأسد: لكن لم أفهم؟
جنبلاط: كان القدّيس اغسطنيوس عندما يُسأل عن الحكمة الربّانيّة في موت الأطفال يقول: لا تسألوني. هناك ما يعصى على الشرح أو على الفهم. ولا ننسى كيف حلّ الفقهاء مسألة خلق القرآن. طالب الفقهاء المؤمنين بقبول الحل التوفيقي «بلا كيف». وهذا ينطبق على مسألة استمرار إرسالي للهدايا للمحافظين الجدد في الوقت الذي أباشر فيه في انتقادهم.

الأسد: بلا كيف؟
جنبلاط: بلا كيف.

الأسد: بعدك تحذّر من الخطر الفارسي؟
جنبلاط: أنا؟ لا أنا أستنكر الكلام المذهبي والعنصري عن الفرس. لكن أنت تدري أن هذا الشعب اللبناني كريه في عنصريّته.
بالمناسبة، كيف الدكتور رستم غزالة؟ والله إله وحشة. هل لا يزال يحب الكباب والخشخاش؟ موائد الدكتور رستم كانت دائماً عامرة. الحق يُقال في مناسبات كهذه.

الأسد: أبو عبده لا يغادر المنزل: قابع فيه ليلاً ونهاراً. ولولا «الدليفري»، لمات جوعاً. بيروت وعنجر إلها وحشة كبيرة عنده. هناك من يقول إنه يذهب إلى الحدود مع لبنان ويبكي يوميّاً (كما كان الهاشميّون ينظرون نحو الحجاز ويبكون بعد طردهم من قبل آل سعود). هو يجمع الجيران ويتحدث لساعات عن أيام مجده في لبنان، وكيف أن الكل كانوا بدهم رضاه. وهو حزين على عدم وصول فارس سعيد إلى الندوة النيابيّة. هو يقول: أنا كنت أضمن له النيابة في أيامي، أما اليوم، وبعد رحيلي، فسعيد يكتفي بتلاوة الفرمانات بالنيابة عن الأمانة العامة لـ14 آذار. ويقول غزالة إنه سيضمن عودة فارس سعيد إلى النيابة، فيما لو عاد إلى لبنان. عزيز على قلبه جداً.
جنبلاط: أيذكرني أبو عبده؟

الأسد: يذكرك دائماً بالخير ويقول إنك مُفضِل عليه.
جنبلاط: أنا أفكر في دعوته إلى المختارة من أجل العروبة وفلسطين واليسار.

الأسد: ماذا عن تأييدك لربيع دمشق وميشيل كيلو؟
جنبلاط: لا، هناك سوء فهم. أنا ضد الربيع ومع حظر الربيع من أساسه وكل إشارة إلى الربيع. على العكس: أنا أطالب السلطات السوريّة بمنع أغنية فريد الأطرش «أدي الربيع». أما عن ميشيل كيلو: فأقترح الدولاب. عليكم بالدولاب. والاستخبارات السوريّة تتفنّن هنا. وابتكرت أسلوب الضرب في دولاب. فلماذا لا يوضع كل من يطالب بالربيع في داخل دولاب ويُضرب ضرباً مبرّحاً إلى أن يُقرّ بما يُقرّ به. وهناك قول شهير، هو أن الاستخبارات البعثيّة تستطيع أن تجبر الإنسان على الاعتراف بأنه دجاجة تصيح. والفلقة كما نذكر من حسن أداء «أبو كلبشة» فعّالة للغاية. مش قليلة الفلقة أبداً.

الأسد: من تتهم في اغتيال الحريري؟ أنت اتهمت النظام في سوريا من قبل وطالبتَ باغتيالي.
جنبلاط: لا، أنت لا تدرك الثقافة السياسيّة والشعبيّة عندنا. المزاح، كما أسلفنا. ثم صحيح أنا اتهمت النظام في سوريا، لكنني اليوم لم أعُد أتّهم النظام. ولا تنسَ أنني اتّهمت سوريا باغتيالات أخرى فيما كنت أتهم من قبل أمين الجميّل واليميني فريد حمادة (راجع مقابلتي مع جريدة النهار في 8 آذار ، 1989) وكنت أشيد بتعاون الاستخبارات السوريّة. وأنا أغيّر اتهامي: سمِّها الديالكتيك في الاتهام. أي الاتهام وعكس الاتهام، وهكذا دواليك. وبالمناسبة، أحبّ أن أذكّرك بأول مقابلة صحافيّة أعطيتها بعد اغتيال والدي في 1977 وجاء فيها بالحرف: «هل هناك موقف آخر لم تكن فيه على تفاهم مع والدك؟ قال: نعم... الصدام مع سوريا. لم يكن من رأيي ولا من حساباتي. بل كنت أرى أن للدور السوري أهميّة ولا يمكن تجاهلها في موازين الحسابات. ومن هذا المنطلق كانت زيارتي لسوريا، وحواري مع الأشقاء السوريّين. وكما ترى لم تكن هذه الزيارة مفتعلة، بل جاءت بنت ساعتها» (الحوادث، 7 تشرين الأول، 1977).

الأسد: يطربني كلامك يا وليد. ومشهد جلوسك هنا يذكّرني بمشهد والدك وهو جالس مع والدي.
جنبلاط: التاريخ يعيد نفسه؟

الأسد: في مكان ما. في مكان ما... بعدك على اتصال بعبد الحليم خدّام؟
جنبلاط: الاسم مألوف، لكن لا أذكره تماماً. هل هو مطرب أم عازف عود؟

الأسد: أنا أتحدث عن صديقك أبو جمال. ألا تذكره؟ كنتم تسعون معه إلى إسقاط النظام، وكان خدام يعلن كل شهر في نشرة المستقبل عن توقّع إسقاط النظام في غضون أسبوع أو أسبوعيْن على أكثر تقدير.
جنبلاط: خدّام. خدّام. خدّام. لا أذكر أبداً. لكن العمر إله حق. أنا احتفلت لتوّي بعيد ميلادي الستين. لحظة. تذكّرت. هل كان خدّام هذا إحدى الشخصيّات في برنامج «صح النوم»؟ أنا أذكر أبو رياح لكن قد أكون نسيت أبو جمال هذا. عذراً.

الأسد: أنت ضد مبادرة سلام توماس فريدمان، بينما نحن نؤيّدها ونطالب بها.
جنبلاط: يعني الممانعة لا تتناقض مع مبادرة السلام؟

الأسد: الممانعة هي لمنع المقاومة من سوريا، وتأييدها في الخارج بعيداً عنا، ولمنع عرقلة مبادرة السلام العربيّة.
جنبلاط: هذا دليل على عدم الاختلاف بيننا.

ملاحظة: اعترض قارئ في رسالة منشورة في «الأخبار» هذا الأسبوع على إشارتي إلى مشاركة الجنرال عون في مجزرة (لا معركة) تل الزعتر. واعترض القارئ المذكور على غياب القرائن في هذا الشأن. لكن عون في مقابلات وتصريحات شتّى أشار إلى أدواره في مساندة قوات بشير الجميّل في مفاصل مختلفة من الحرب، كذلك إن الفارّ من العدالة «أبو أرز» ذكر في مقابلة منشورة على موقع «الكلمة أون لاين» أن عون كان قائداً لغرفة عمليّات القوى الانعزاليّة من دير مار شعيا في أثناء الحرب على تل الزعتر. فاقتضى التوضيح. وبالمناسبة، يمكن أي قارئ أن يراسلني عبر البريد الإلكتروني لطلب المراجع والمصادر لما يرد في مقالاتي من معلومات أو أحداث.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com


عدد الاثنين ١٧ آب ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/152101

مهزلة فتح: العمود الفقري للاحتلال الإسرائيلي

logo
المصدر: جريدة الأخبار (http://www.al-akhbar.com)

مهزلة فتح: العمود الفقري للاحتلال الإسرائيلي

الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتوجّه إلى اللجنة المركزية في حركة فتح (أرشيف ــ أ ب)الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتوجّه إلى اللجنة المركزية في حركة فتح (أرشيف ــ أ ب)هل هناك مكان للمهازل في خضم النكبات؟ هل تجوز السخرية في زمن الخيبة المفروضة رغم تحقيق اختراقات نوعيّة وكمّية في المقاومة العربيّة ضدّ إسرائيل؟ هذا الحديث هو من وحي مؤتمر حركة فتح في بيت لحم بحراسة جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومن سمح بإدخالهم من ميليشيا «ديتون». وقد اختارت زمرة عباس ــ دحلان أن تجعل من الاحتفال، الذي صاحبه الكثير من التهريج الذي أضرّ بأصحابِه من دون أن يدروا، مناسبة لتتويج من تَوّجَهُ الاحتلال أصلاً بالاتفاق مع أميركا والأنظمة العربيّة الموالية

أسعد أبو خليل*
هل كان إعلان الدعم المالي السعودي لحكومة سلام فيّاض (الخليفة المُنتقى لمحمود عباس رغم حصوله على حوالى 1% من أصوات شعب فلسطين في آخر انتخابات اشتراعيّة) بريئاً من الهوى، مثلما كان هناك في لبنان قبيل الانتخابات إعلان سعودي مفاجئ لحلّ مشكلة مكبّ النفايات في صيدا لدعم ترشيح السنيورة، وإن كان وزير الداخليّة اللبناني لم يلاحظ ذلك، مثلما لم يلاحظ مخالفة البطريرك العروبي ـــــ ليوم واحد فقط ـــــ لقانون الانتخابات نفسه؟
محمود عباس هو اليوم مُنصّب بأيدي الاحتلال والأنظمة العربيّة، لأن ولايته انتهت في شهر كانون الثاني الماضي، مع أن بان كي مون وتيري رود لارسن ـــــ والأخير هو المفوّض الخاص بالمصلحة الصهيونيّة في مجلس الأمن ـــــ أصرّا على أن الأمم المتحدة لا تقبل أن يجدّد أي رئيس ولايته أو أن يبقى يوماً واحداً بعد انتهاء ولايته، إلا إذا كان ملكاً متسلّطاً أو ديكتاتوراً يعترف بإسقاطه لطائرة مدنيّة أو سلطاناً مطلق الصلاحيّة، أو رئيساً منتهي الولاية لسلطة منتدبة قبل الاحتلال. لكنّ الاستعمار يغفر دون العصيان والرفض والنشاز ما يشاء.
الحديث عن مهزلة مهرجان فتح يفتح جروحاً عميقة عن تاريخ حركة فتح ومنه. وتاريخ حركة فتح ينضبُ في المذكّرات التي صدرت حديثاً لإلياس شوفاني. وإلياس شوفاني (واحد من المؤسِّسين الروّاد للدراسة الأكاديميّة الجادة للصهيونيّة وإسرائيل، فيما كان شوقي عبد الناصر وعجاج نويهض يكتفيان بنشر «بروتوكالات حكماء صهيون» المُزوّرة لفهم إسرائيل) يمثّل نمطاً من العضويّة اندثر في حركة فتح. كان عام 1982 والطريقة التي أمرّ بها عرفات سرّاً قرار الانسحاب من بيروت هما آخر قشّة عند فريق المبدئيّين في الحركة، التي بدأت كـ«العمود الفقري للثورة الفلسطينيّة» وتحوّلت العمود الفقري للاحتلال الإسرائيلي. بعضهم تقاعد من النضال وإلى الأبد، والبعض الآخر توفي في ظروف غامضة (مثل ماجد أبو شرار أو حنا ميخائيل الذي ذهب في زورق في عرض البحر ولم يعدْ)، والبعض الآخر انضم إلى حركة فتح ـــــ الانتفاضة. قصة إلياس شوفاني هي قصة الخيبة والكآبة في حركة فتح: قصة ذلك التنظيم شبه السرّي في داخل الحركة. الحركة التي وعدت بثورة حتى النصر، لكنها لم تقم بثورة أو حتى بكاريكاتور ثورة، وحوّلت الهزيمة ـــــ على طريقة الأنظمة العربيّة ـــــ إلى نصر مبين. عاش شوفاني في كنف الاحتلال الإسرائيلي البغيض الذي حوّل صاحب الأرض إلى ضيف يحتاج إلى أذونات للتجوال والرحيل والتنقّل في أرجاء وطنه (أو وطنها). ملكيّة الأرض تحوّلت في عمليّة سرقة عامّة وشاملة إلى «ملكيّة غير قابلة للتصرّف» للشعب اليهودي برمّته: أي إن اليهودي في بروكلين يملك في أرض لم يزرْها أكثر من صاحب الأرض ومالك مفاتيح البيوت القابع في مخيّمات اللاجئين. درس شوفاني في الجامعة العبريّة. وفي روايته الكثير عن الاستشراق الإسرائيلي وسماته. هاجر إلى الولايات المتحدة ونشط في حركة فتح

قصّة الياس شوفاني هي قصّة الخيبة والكآبة في حركة فتح

في المهجر. وبعدما نال تثبيتاً وترقية في جامعة ماريلاند في قسم التاريخ، ترك كل شيء وراءه وهاجر للانضمام إلى حركة ظن أنها واعدة. هذا نموذج من الالتزام المبدئي الذي لا وجود له اليوم في صفوف حركة باتت تتّسم بالانتفاع والارتزاق والاكتساب. لم يطل الأمر بشوفاني لاكتشاف الحقيقة. الخيبات تراكمت وازدادت، ومحاولات التغيير من الداخل عجزت باكراً.
وعاد شوفاني إلى بيروت ليكتشف حقيقة حركة فتح. لاحظ قبل أن يعود إلى بيروت أن الحركة قامت بحملة قِطْريّة شوفينيّة توخّت فصل العمل الفلسطيني ـــــ حتى في المهاجر ـــــ عن العمل النقابي والقطاعي العربي، مع أن عدداً ليس بسيطاً من المراجع الفتحاويّة لم تكن فلسطينيّة الجنسيّة. هذا ما عناه ياسر عرفات برفع شعار «استقلاليّة القرار الفلسطينيّ»: فهو لم يحقّق الاستقلاليّة، وفوق ذلك قطع صلات الوصل مع حملات التطوّع العربيّة الجيّاشة ـــــ في ذلك الحين. عزلت فتح الثورة الفلسطينيّة عن جماهير التطوّع العربي. وكانت الحركة بعيدة عن الاستقلاليّة، لا فقط بسب ارتباط عرفات المبكّر بدول الخليج، بل بسبب الانفلاش والتسيّب التنظيمي الذي وسم الحركة منذ نشوئها. ويضحك المرء عندما يراجع كتيّبات حركة فتح الأولى وهي تتحدّث عن السريّة: «حركتنا حركة سريّة، وهي سريّة لأن هنالك ظروفاً تملي عليها ذلك». (حركة فتح، القواعد العشر الأساسيّة في التنظيم، ص. 23).
سرعان ما اكتشف المتطوّع شوفاني شخصيّة محمود عباس، وذلك عندما كان الأخير يشغل مسؤوليّة «التعبئة والتنظيم» في الحركة، وهو الذي أصرّ على فصل التطوّع الفلسطيني عن العمل العربي المشترك. كذلك فإن شوفاني، الخبير الرصين والجاد في الشأن الصهيوني، قد سخر من محاولة عباس الظهور (بعدما حصل على شهادة دكتوراه من جامعة باتريس لومومبا وتضمّنت أطروحته تشكيكاً في المحرقة لكنّ إسرائيل وليبراليّي أمراء آل سعود في الإعلام العربي يغفرون اللاساميّة إذا صدرت عن الصهاينة العرب مثل السادات وأبو مازن) مظهر الخبير بموضوع إسرائيل. وكان يروّج في صفوف الحركة لخبريّة خطته لإضعاف إسرائيل من خلال حثّ اليهود المغاربة على العودة إلى المغرب. هذه كانت خطة عباس السريّة لتقويض إسرائيل وتحرير فلسطين. وعندما انضمّ شوفاني إلى المجلس الوطني الفلسطيني، أعطاه عباس درساً عن سائر أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، قائلاً له عنهم: «هؤلاء بقر». (إلياس شوفاني، مرثية الصفاء، ص 194). لكنّ مأساة شوفاني تفاقمت عندما اكتشف بعد انضمامه المتسرّع إلى حركة فتح ـــــ الانتفاضة أنها تكرار لتجربة فتح بكل مساوئها وقباحتها وفسادها. تقاعد شوفاني من النضال، مثلما تقاعد هؤلاء المبدئيون الذين انضموا إلى ما ظنّوه ثورة فاكتشفوا حالة من الفساد تتناقض مع أوّليات الثورة والتحرّر الوطني.
لكنّ بوادر الفساد والضعف والضرر في حركة فتح برزت باكراً جداً، وكان يمكن التنبّه إليها. وصمها ياسر عرفات بوصمته الضارّة منذ البدايات. لم تعوّل الحركة على الصدق، واعتمد عرفات في بروزه وصعوده احتكار المصادر الماليّة. عرف كيف يجيّر النشاط الثوري ويحوّله إلى حركة بيروقراطيّة تشبه الجيوش العربيّة في حرب 1948 أكثر مما تشبه حركات ثوريّة مقاتلة. السيطرة على كل مفاصل الحركة كانت الأولويّة. وكان عرفات منذ البداية موارباً ومرائياً ومهيناً للشعب العربي والفلسطيني من خلال: 1ـــــ التحدث بلغتيْن: واحدة بالعربيّة موجهة إلى الشعب العربي، وواحدة بالأجنبيّة موجهة إلى أميركا وإسرائيل. 2ـــــ الإصرار على المبالغة والكذب في البيانات العسكريّة وفي الحديث التنظيمي. تعود إلى عام 1968، مثلاً، فتجد أن حركة فتح زعمت في شهر واحد (تشرين الثاني 1968) أنها قتلت أو جرحت 650 جندياً إسرائيلياً، ودمّرت 59 آلية وسيارة عسكريّة، و22 دبّابة، و26 منشأة حيويّة، ومخفراً ومركزاً ومهجعاً للجنود، و20 مدفعاً من مختلف الأنواع، و5 مواقع للمراقبة، وأبادت 13 كميناً للعدو، محمد دحلان (أرشيف ــ أ ف ب)محمد دحلان (أرشيف ــ أ ف ب)ونسفت قطاراً ودمّرت سكة حديديّة في أربعة مواقع، ونسفت مستودعاً للذخيرة وغنمت رشاشيْن من طراز ناتو وكميات من الذخيرة والقنابل اليدويّة، بينما بلغت خسائر فتح في كل هذه المعارك البطوليّة 7 شهداء (راجع كتاب فتح السنوي لعام 1968، ص 160 ـــــ 161). وبعمليّة حسابيّة بسيطة لا تحتاج إلا إلى معرفة جدول الضرب، يكون الجيش الإسرائيلي قد زال تماماً من الوجود بحلول عام 1980 نتيجة هذا التدمير الهائل على يد الحركة ذات الخيال الخصب. لكن هذه هي حركة فتح وهذا هو أسلوب عرفات في القيادة وفي الادّعاء وفي البهلوانيّة السياسيّة والعسكريّة (كما هو معروف، عرفات كان يصرّ على اعتبار نفسه جنرالاً).
وهناك ما يلفت في التشابه بين شخصيّة عرفات ومساره وشخصيّة أنور السادات ومساره. ليس صدفة أنّ مسار السادات نحو السلام المنفرد مع إسرائيل عبر استجداء رعاية واشنطن تطابَقَ نهجاً وهدفاً مع مسار عرفات نحو السلام المنفرد مع إسرائيل عبر استجداء رعاية واشنطن. تستطيع أن تستقي الصفات المشتركة بين الاثنيْن: القدرة على التحايل على منافسين سياسيّين أكثر ذكاءً وحنكة منهما، ثم الاستيلاء على السلطة المتفرّدة. الاعتماد على دعم سعودي ـــــ خليجي في (ولـِ) مواجهة خصوم سياسيّين. الاعتماد على الحركات المسرحيّة والاستعراضيّة للفت نظر الجمهور وللتأثير (غير الغبي أحياناً) على الرأي العام. معرفة زمن جبريل رجّوب (أرشيف ــ أ ب)جبريل رجّوب (أرشيف ــ أ ب)اقتناص الفرص ووسائل هذا الاقتناص. العنجهيّة مع رفاق الدرب والخنوع مع الغرب والصهاينة. اصطناع التأثّر والتبرّج السياسي أمام الكاميرا. اعتماد الولاء المطلق معياراً للوظيفة وللترقية. الإيمان العميق بأن كل أوراق الحل هي في يد أميركا، وأن ما على العرب إلا الزحف نحو العاصمة الأميركيّة. التسليم بالشروط الإسرائيليّة رغبة في إسعاد الراعي الأميركي. استغلال الاستعراض العسكري بديلاً من العمل العسكري ـــــ المقاوم الجاد لتحرير فلسطين وباقي الأراضي العربيّة المحتلّة. ويلاحظ شوفاني، كما نلاحظ معه، أن عرفات كان في المقصورة الخاصة عندما ألقى السادات تلك الخطبة التي أعلم فيها الأمة بنيّته زيارة القدس المُحتلّة. وليس صدفة أن علاقة حركة فتح بالنظام المصري تطوّرت بعد وفاة عبد الناصر وصعود السادات.
أحاط عقد مؤتمر حركة فتح جملة من الظروف والشروط والتدخّلات التي لم تبدأ ولم تنته بذلك الإعلان المُفاجئ لفاروق القدّومي. والقدّومي واحد من سياسيّي الحركة «العتاق» الذين أتقنوا سياسة «اللعم»، أي الموافقة على الشيء وعكسه. القدومي كان يُعدّ في حقبة عرفات الثالث في التعداد الهرمي بعد عرفات وأبو جهاد، وإن كان دوماً ميّالاً إلى الجناح المناهض للتسوية. لكنّ عرفات عرف كيف يُسكتُه في المحطات الفاصلة: كان يقتّر معه عندما يغضب منه، ويجزل العطاء عندما يكون راضياً. هكذا تعامل عرفات مع الآباء المؤسّسين للحركة: أنشأ لكل «أبو» دكّاناً خاصّاً به، وكان بعضها فعّالاً (مثل الجهاز الاستخباري لأبو أياد. ويستطيع نائب بيروت الجديد، نهاد المشنوق، أن يحدّثنا عنه بشيء من التفصيل) وبعضها الآخر ديكوراً يضفي على الحركة طابعاً مزدوجاً من المسرحيّة والفساد (مثل دكاكين أبو حسن سلامة وأبو الزعيم والحاج إسماعيل ـــــ المسؤول الثاني بعد عرفات عن الانسحاب المُذلّ من دون خطة قتال عام 1982 في مواجهة الغزو الإسرائيلي). لكن أبو اللطف سكت طيلة سنوات عن مفاسد أبو مازن وعن خطة قتل عرفات، وأحرجه خصومه في فتح عندما استشهدوا بما قاله هو في الإشادة بمحمود عبّاس. وصدقية أبو اللطف تعرّضت للاهتزاز في الرد على أوسلو، مع أنه كان واحداً من القادة التاريخيّين لحركة فتح الذين لم يتلوّثوا في جو بيروت قبل 1982. كان واضحاً أن أبا اللطف كان معارضاً لأوسلو، لكنه لم يستطع أو لم يرد أن يجاهر بموقف معارض لعرفات لأنه كان بحاجة إلى تمويل «الدائرة السياسيّة» التي توسّعت وتضخّمت من دون حساب. كان أبو اللطف ينتقد أوسلو يوماً ويصمت يوماً آخر، ثم يصدر موقفاً ملتبساً في يوم ثالث. لكنّ القدومي صمت فيما كانت حركة فتح تتحوّل بالتدريج، وقبل وفاة عرفات، إلى عصابات ميليشيا موالية للاحتلال على غرار جيش لحد في جنوب لبنان. وكان أجدى بأبي اللطف أن يصدر موقفه هذا بناءً على تطوّرات سياسيّة لا على مواقف شخصيّة أو تمويليّة.
ولم يكن نص القدّومي المُسرّب إلى الإعلام (عن اجتماع التخطيط لاغتيال عرفات) ذا صدقيّة تُذكر. من المستحيل أن يكون هناك تدوين رسمي لاجتماع استخباري يُتداول فيه خطة التخلّص من عرفات. ولو كان عرفات حصل على نص الاجتماع ـــــ كما يريدنا القدومي أن نصدّق ـــــ لما كان قد مات على الأرجح. يتّخذ العدو الإسرائيلي قرارات من هذا النوع من دون توريط حلفائه ممن يريدهم أن يخلفوا عرفات. وليس هذا من باب الشك في نظريّة اغتيال عرفات، وهي مرجّحة. ونذكر أن سهى عرفات كانت قد صرّحت بعد وفاة عرفات مباشرةً بكلام غاضب عن ملابسات موته وعن مؤامرة حاكها «المحيطون به»، في إشارة إلى زمرة محمد دحلان (وهو أسوأ فلسطيني، مثل ما كان بشير الجميّل أسوأ لبناني على الإطلاق). لكنّ سهى عرفات سكتت فجأة عن الكلام المباح بعد اجتماع وجيز ومفاوضات ذات طابع غير سياسي مع... فريق المحيطين بعرفات. حتى ناصر القدوة: هو الآخر تمتم بكلام غير مفهوم قبل أن يلتزم الصمت. وصمتت حركة فتح هي الأخرى قبل أن تعبّر، للمرّة الأولى أثناء المؤتمر بصفة رسميّة، عن شكّها في طريقة موت عرفات، لا بل إن حركة فتح أصدرت بياناً اتهمت فيه إسرائيل ـــــ التي تخوض معها الحركة مفاوضات علنيّة ورسميّة، والتي تتسم العلاقة بينها وبين فتح بودّ يفوق الودّ المفقود بين حركتيْ فتح وحماس ـــــ باغتيال عرفات. ولا من يسأل الحركة عن صمتها لسنوات عن هذا الاغتيال وعن الدلائل أو القرائن التي دفعتها لاتهام إسرائيل. أسئلة من دون أجوبة.
أما عمليّة التصويت وما أحاط بها من إخراج فكانت تصلح أن تُعرَض على واحدة من خشبات مسارح شارع الهرم. أولاً، ارتأى الرئيس المنتهي الصلاحيّة، أبو مازن، أن يحلّ لجنة الانتخابات الفتحاويّة وأن يعيّن لجنة دحلانيّة بديلة. ثانياً، صرّح أبو العلاء (ذو السجل غير الناصع من أيامه في «صامد» إلى اتهامات بتقديم الأسمنت لبناء المستوطنات ـــــ الثكنات) أن أبا مازن ارتأى أن يزيد عدد صناديق الاقتراع بعدما كان الاتفاق أن تكون واحدة. ثالثاً، استغرقت عمليّة عدّ الأصوات لأعضاء اللجنة المركزيّة وأعضاء المجلس الثوري أكثر من عدّ الأصوات في الانتخابات

إذا اعتمدنا إحصاءات فتح نجد أن الجيش الإسرائيلي زال تماماً من الوجود

الرئاسيّة والاشتراعيّة الأميركيّة. رابعاً، تجري عادة عمليّة عدّ الأصوات بصورة شفافة وتخضع لمراقبة متنافسين وجهات محايدة، أما في انتخابات فتح فقد اختفت الصناديق مجرّد أن انتهى المقترعون من الإدلاء بأصواتهم. ولا نعلم من أخذ الصناديق وفي أي غرفة وُضعت وما حدث لها. لكن تسرّب أن محمود عباس (وهو فريق، لأن له أتباعاً ومرشحين، وهو جزء من الفريق الدحلاني الذي أحكم سيطرته على الحركة) زار مركز عدّ الأصوات وحيّا المكلّفين (نشكّ في أن بينهم نساءً، لأن الحركة منذ نشأتها فاقعة في حكم «الأبوات» الذكوري) بعدّ الأصوات. خامساً، أسهمت إسرائيل في ترجيح كفة الدحلانيّين عبر منع معارضي التسوية والفساد (مثل منير المقدح) من الدخول إلى الأراضي المحتلّة. سادساً، حصل أمر مضحك عندما سقط مرشح لعضوية اللجنة المركزية ونشرت الصحف أسماء الفائزين والساقطين، لكنه عاد (أبو الطيّب) وفاز بقدرة قادر بعد عدّ للأصوات جاء فيه خاسراً. هنا يكتسي العدّ الفتحاوي بعداً يستحق الإدراج في التراث الإرويلي. وأبو الطيّب جزء لا يتجزّأ من الفريق الدحلاني، وقد وجد أبو مازن صعوبة على ما يبدو في إقناع أبو الطيّب بقبول الخسارة.
وظاهرة أبو الطيّب هذا تستحق الدراسة. فهو، لمن لا يذكر، أبو الطيّب نفسه الذي ترأس فرقة الـ17 أثناء المجد الفتحاوي في مسرح لبنان، وكانت الفرقة معروفة بكلّ ما لا علاقة له بمقاومة إسرائيل أو بالكفاح المسلّح. كانت الفرقة بمثابة الحرس الرئاسي لعرفات، وإن أدّت «مهمات خاصة» لم تكن مرتبطة بأمن عرفات الشخصي. وأبو الطيّب هذا ـــــ مثله مثل عرفات ـــــ يظن أن الصوت الجهوري يمكن أن يعوّض عن غياب المواهب والكفاءة. وفيما أثبت أبو الطيّب ولاءه الأعمى لعرفات ـــــ وهل يطلب عرفات إلا ولاءً أعمى؟ ـــــ لم ينمّ عمله عن أي تميّز أو خبرة في الثورة التي لم تتوقّف حركة فتح عن لمّ الأموال باسمها. وعرفات أصرّ عند بناء سلطة أوسلو كذراع تنفيذية لسلطة الاحتلال الإسرائيلي، على استيراد أسوأ نماذج حركة فتح من الوحول اللبنانيّة. ولذلك: فإن الحاج إسماعيل أصبح نافذاً في سلطة أوسلو، كما أصبح أبو الطيّب هذا متنفّذاً في الجهاز الرئاسي ـــــ وليس في هذا الجهاز من الرئاسة إلا الاسم، لكنّ هوس عرفات بالبروتوكول الرئاسي حتى لو كان فارغاً أمر معروف كما يرد في الكتب الصادرة عنه. وأبو الطيّب يتولّى رئاسة «لجان التحقيق» الفتحاويّة التي لا «تطلع بنتيجة»: مثل التحقيق في سقوط غزة في أيدي حماس، والتحقيق في فضيحة تهريب روحي فتوح (دحلاني نافذ وإن لم يفز بعضويّة اللجنة المركزيّة) لآلاف من أجهزة الخلوي في صندوق سيّارته.
وانتهت المهزلة واستطال وقت عدّ الأصوات لعضويّة المجلس الثوري. المجلس الثوري؟ ماذا بقي من وعد الثورة في حركة فتح؟ محمد دحلان وجبريل الرجّوب يمثّلان الثورة؟ لكن نحو 61 من أعضاء المجلس الثوري محسوبون اليوم على فريق دحلان. وحركة فتح ومنظمة التحرير لا تجتمعان منذ أوسلو إلا بأمر أميركي من أجل ترويض الحركة لجعلها أكثر طواعيّة في يد المُحتلّ الإسرائيلي. وحركة فتح، التي كانت تتعرّض للملاحقة والتنكيل من إسرائيل ومن أميركا، باتت اليوم تتلقّى التسليح والتمويل من أنظمة عربيّة برضى إسرائيلي ـــــ أميركي، أو بأوامر أميركيّة. والمال في يد محمود عباس هو سلاحه الوحيد يستخدمه من أجل إعادة تركيب الحركة وفق أهواء «ديتون». والمطلوب اليوم هو الاستسلام الكامل، كما صرّح بذلك حازم صاغيّة في جريدة الأمير خالد بن سلطان. لكن مَن مِن شعب فلسطين يسير وفق أهواء خالد بن سلطان أو كتّابه؟ غير أن الأمانة العامة لـ14 آذار هنّأت حركة فتح على «إنجازها الديموقراطي». بقي أن يرسل أنطوان لحد تهنئته هو الآخر.
* أستاذ العلوم السياسية
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com [1])


عدد السبت ٢٢ آب ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/153006

الحكّام العرب: الجيــل الثاني

logo
المصدر: جريدة الأخبار (http://www.al-akhbar.com)

الحكّام العرب: الجيــل الثاني

الرئيس الأميركي يتكلّم والرئيس المصري يستمع (أرشيف ــ رويترز)الرئيس الأميركي يتكلّم والرئيس المصري يستمع (أرشيف ــ رويترز)يحتفل سكان العالم بإقصاء حكامهم وطغاتهم، وخصوصاً في العقود الماضية. مشهد إعدام تشاوشسكو (صديق أنور السادات الحميم والشيوعي المفضّل لدى الغرب) وزوجته لا يزال ماثلاً للعيان وراسخاً في الذاكرة. لكن حكام العرب يحتفلون بالتربّع على العروش الملكيّة والجمهوريّة المتلبّسة بالشعارات المختلفة

أسعد أبو خليل*
يزداد ثقل الحكام العرب على صدور شعوبهم، ويتربّع على عروش الطغيان ليس فقط الطغاة، بل الأولاد وأولاد العم والخال. وفي عصر البزنس، تصبح العائلة شركة مساهمة حصريّة لا مكان فيها إلا لروابط الدم والعشيرة إذا والت. وقد ينقلب الابن على الأب والأخ على الأخ والأب على الابن من أجل السلطة. إنها قصة الحكم في العالم العربي المنكوب.
وعند الحديث عن الجيل الثاني من الحكام العرب، يخال المرء أن هناك حنيناً إلى الجيل الأول، وليس هذا هو المبتغى إطلاقاً. لكن هناك فوارق تذكر بين الجيل الأول والجيل الثاني من الحكام العرب. طبعاً، لم يأتِ الجيل الأول من فراغ أو من تكريس إرادة شعبيّة عارمة لا تُقاوم. الاستعمار الغربي والحرب العربيّة الباردة هما اللذان كانا مسؤولين عن صعود الجيل الأول. والجيل الأول كان منقسماً في الخمسينيات عندما اندلعت الحرب بين معسكر جمال عبد الناصر ومعسكر حلف بغداد (المُعلن والمُستَتِر). لكن الجيل الأول كان محكوماً بحياة اجتماعيّة ـــــ اقتصاديّة مختلفة عن حياة الأبناء. عاش بعض أبناء الجيل الأول في الفقر: لم يكن ثراء آل سعود فاحشاً في الثلاثينيات والأربعينيات عندما كان الملك عبد العزيز المؤسّس يعرض بيع فلسطين مقابل جنيهات استرلينيّة، وكانت ثروة أبو ظبي محفوظة في مخدع الشيخ شخبوط بن سلطان، على ما يُروى. وكان الأمراء منهم والشيوخ يعيشون حياة البداوة في بعض جوانبها ومنهم من اقتات على التمور، وكانت العامة تختلط إلى حدّ لم يعد مألوفاً مع حكّامها. أما الجيل الأول من الحكام الجمهوريّين، فكان معظمهم من خلفيّات طبقيّة متوسّطة إلى فقيرة: لم تكن عائلة عبد الناصر معدومة ولكنها لم تكن ميسورة، كما أن زعماء البعث جاؤوا، كما قال حنا بطاطو، من خلفيّات متوسّطة ريفيّة. وقادة العسكر الذين أتوا إلى السلطة بدبّاباتهم لا ببرامجهم كانوا من خلفيّات فقيرة نسبيّاً (مثل القذافي). وهذا الفقر النسبي جعلهم أكثر معرفة بحياة الطبقات الشعبيّة، وقد يكون أثّر على سياسات الإصلاح الزراعي والتأميمات في الأنظمة الاشتراكيّة ـــــ على علاّتها.

شعار «حب الحياة» ستار شفّاف لممارسة الحب مع الصهيونيّة

وهناك العامل العاطفي عند الجيل الأول. كان هؤلاء من المرتبطين والمرتهنين للغرب (مثل الملوك والسلاطين والشيوخ) لكنهم عاصروا النكبة ورأوا بأم العين مشاهد التهجير الفلسطيني وسمعوا عن الهزيمة العربيّة الشنيعة (وإن كانوا مسؤولين عنها) والتي كستهم بالعار والخزي أمام شعوبهم وأمام المرآة. الشيخ زايد، مثلاً: كان صنيعة للاستعمار ونفّذ الأوامر وأطاع، لكنه كان عاطفيّاً يتأثّر لمشاهد أو روايات معاناة شعب فلسطين. الشيخ زايد طلب أن يلتقي يوماً في أوائل السبعينيات بليلى خالد، وأعطى تبرّعاً يوماً للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين (وقد انشقّ فريق عن الجبهة وأصدر كرّاس «الفضيحة» بسبب قبول الجبهة التي كانت تدعو لقلب الأنظمة الرجعيّة اللقاء مع زايد هذا). وليس هذا الحديث عن الرابط العاطفي من أجل الذهاب بعيداً في تحليل العوامل النفسيّة في صنع القرار السياسي عند هؤلاء الحكام. فالعاطفة شيء والقرار السياسي شيء آخر: كان زايد يعطي تبرّعاً للجبهة الشعبيّة بيد ويساهم بمليارات في حملات مناهضة الشيوعيّة حول العالم لدعم موقف أميركا في الحرب الباردة. وكان الموقف العاطفي الخالي من الموقف السياسي المبدئي مثل رونالد ريغان الذي كان يتأثّر لحكاية واحدة عن فقير معدم، ولا يتردّد في التوقيع على قرارات سياسة عامّة تؤدّي إلى إفقار الملايين من السكّان دون أن يرفّ له جفن. لكن الحديث عن العامل العاطفي هو للمقارنة مع الجيل الثاني فقط.
ويبرز الفارق بين الجيلين الأول والثاني في المقارنة بين رفيق الحريري (على علاّته وهي لا تُحصى) والحريري الصغير. الأول نشأ على القوميّة العربيّة وعلى شعارات الاشتراكيّة، والآخر نشأ على الـ«بلاي ستيشن» (والـ«إكس بوكس» في ما بعد). الأول كان منحازاً لعبد الناصر في الحرب العربيّة الباردة والآخر ينحاز إلى الأمير عزّوز في أي خلاف. طبعاً، فإن الأول والثاني في المُحصِّلة هما جزء من المشروع الأميركي نفسه ويلعبان الدور المرسوم بحذافيره، لكن الفارق هو في الأسلوب وفي نمط التعبير وفي القدرة على فهم عاطفة الناس، من أجل تغييرها خدمةً لخادم الحرميْن. قد يكون الجيل الثاني أفضل لنا لأنه أقلّ قدرة على خداع الناس بشعاراته من الجيل الأول. كان الملك فيصل يعدُ العرب بالصلاة في القدس وكان البعض يعتقد أنه يريد تحرير القدس، فيما كان يقصدُ الصلاة خانعاً في الجامع الأقصى على طريقة أنور السادات. والحريري الأب كان يماشي بوش في حروبه وغزواته فيما كان يبيع الناس شعارات عروبيّة وبعثيّة (هل يظن فريق «الأمير مقرن أولاً» أنه محا من الذاكرة ومن السجلاّت خطب الحريري في مديح النظام السوري وغازي كنعان ورستم غزالة وفي رفض فتح سفارات بين البلديْن؟). على من تزوِّر المزامير، يا هاني؟
العامل الآخر أن رادعاً قويّاً تحكّم في قدرة الحكّام الأوائل أو رغبتهم في المضي بالمشروع الغربي المُناصر لإسرائيل. فقد كان هؤلاء يعيشون في عصر كان فيه الرأي العام (يجب الإقلاع عن عبارة «الشارع العربي» الدارجة في الاستعمال الغربي وذلك إمعاناً في نسبة غرائز متوحّشة إلى العرب، وكأن الرأي العام الغربي لا يعبّر عن نفسه في الشوارع ويكتفي بالتصريح في الصالونات، كما أن مصطلح الجماهير فيه من الإطلاق القامِع ما جعل منه مُحبَّذاً في الأدبيّات البعثيّة والأنظمة الشيوعيّة) صارماً في الإيمان بثوابت في التعاطي مع القضيّة الفلسطينيّة. أنا أذكر حين كنت في السابعة كيف خرجت الناس في بيروت بأثواب النوم عشيّة استقالة عبد الناصر عام 1967 مُطالبةً بتحرير فلسطين، فيما يؤيّد بعض هؤلاء الناس اليوم وأبناؤهم نزع أي سلاح يهدِّد إسرائيل حفاظاً على حبّ الحياة وحب إسرائيل (وشعار حبّ الحياة هو ستار شفاف لممارسة الحب مع الصهيونيّة). كان الحكام الأوائل أقلّ قدرة على الحركة من أبنائهم، لأنهم كانوا يخشون غضبة الناس والانقلابات، وهذان العاملان لا يضغطان اليوم على مسلك الحكومات. الناس باتت مشغولة بـ300 محطة فضائيّة تنضح مسلسلات، ومشغولة أيضاً بالفتنة السنيّة ـــــ الشيعيّة وبملاحقة التحقيقات في مقتل الفنانة سوزان تميم.
وكان الغرب المهموم بشروط الحرب الباردة ومتطلباتها لا يطالب الأنظمة المرتبطة به بالكثير، وذلك حفاظاً على صحّتها وسلامتها وأمنها. وكان الجيل الأول قبل السبعينيات ذا قدرات ماليّة متواضعة نسبيّاً. المؤامرات كانت مكلفة ولم تكن في حجم المؤامرات في ما بعد حيث تستسهل السعوديّة، مثلاً، إنفاق المليارات في لبنان للتأثير على نتائج الانتخابات النيابيّة ولتأجيج الفتنة خدمةً لإسرائيل ومصالحها. كانت المؤامرات في حجم الملايين لا أكثر.
جمال مبارك نموذج من الجيل الثاني. والجيل الثاني يتصنّع الخفر في الحديث عن الخلافة. يريد الإعلام الرسمي في مصر (الذي بات يضم بعض الإعلام الخاص مثل «المصري اليوم» التي بدأت مستقلّة وتحوّلت إلى جهاز دعائي لـ«سي جمال») أن يقنعنا بأن صعود جمال مبارك لا علاقة له بصلته العائليّة بل يعود لمواهبه الفذّة. وجمال مبارك أتى من عالم البزنس ويبدأ التحوّل نحو الخلافة في تولّي شؤون حكوميّة قبل فراغ سدّة الرئاسة.
النائب سعد الحريري (أرشيف)النائب سعد الحريري (أرشيف)تحدّث الملك عبد الله الأردني (حامل العدد الهائل من النياشين والميداليّات العسكريّة على صدره وقد يكون كسبها بعرق بزّته العسكريّة في صولاته وجولاته في معارك ضد العدو الإسرائيلي) عن جيل أولاد الحكام العرب في مقابلة مع الـ«نيويورك تايمز» (لا يتحدّث هذا الملك اليوم عن تلك الصداقة الحميمة التي جمعته بعديّ صدّام حسين). قال إنهم يفهمون بعضهم بعضاً لأنهم يتحدّثون اللغة نفسها ويرتادون الفنادق والمطاعم نفسها في الغرب. كم كان كلامه صائباً ويصلح لتحليل طبقي عن حكام العرب. وحياة الأثرياء (عرباً وغرباً) مشتركة لأن كل الأثرياء يرتادون الأماكن المفضّلة للأثرياء، ويتزلّجون في غستاد أو في أسبن، الخ. لكن الأبناء يختلفون عن الآباء.
تربّى أبناء الحكام في عزلة طبقيّة صارمة. هؤلاء لا يعرفون عن طبقة الفقراء شيئاً لأنهم لا يحتكّون بهم. وخدمُ هؤلاء وجارياتهم من طبقة لا صلة لها بالفقراء. كما أن العامل العاطفي منعدم عندهم.
شبّ هؤلاء في زمن كان فيه النزاع بين المعسكر الناصري والمعكسر الرجعي على أشدّه. لهذا تجد عندهم نزعة للسخرية الفاقعة من كل شعارات تلك المرحلة: من تحرير فلسطين إلى قتال إسرائيل إلى مواجهة الإمبرياليّة إلى الوحدة العربيّة. هؤلاء من نتاج التربية جمال مبارك (أرشيف)جمال مبارك (أرشيف)البيتيّة الخاضعة للمستشارين المستوردين والمعاهد والجامعات الغربيّة. سألتُ واحدة من اللواتي درّسن ابن حاكم عربي في بريطانيا. وجَدَتْه بارداً في كل القضايا الساخنة. درس هؤلاء على أيدي صهاينة وإسرائيليّين في الغرب ونما لديهم حسّ تقليد الرجل الأبيض والسير على خطاه. كان يحيط بالآباء مثلاً في أنظمة الخليج مستشارون من بلاد الشام، فيما يحيط بالأبناء مستشارون من الغرب ومن معاهد ومصارف مرتبطة بالمصالح الإسرائيليّة. كان الآباء قد تلقّوا دروساً دينيّة ولغويّة على أيدي شيوخ ومدرّسين يعنون بقضايا الشعب العربي.
وتقليد الرجل الأبيض (الأميركي خصوصاً) يشغل بال الجيل الثاني. هؤلاء لا يتقنون اللغة العربيّة، على عكس بعض الآباء: كان الملك الحسن الثاني والملك حسين وأنور السادات يتقنون العربيّة، وكان الشيخ زايد يكتب الشعر. أما أبناء الحكام فهم يتكلّمون العربيّة بصعوبة ويزهون بلكنتهم في التحدّث بالإنكليزيّة (تلقّى الملك عبد الله الأردني دروساً في العربيّة الفصحى بعد تولّيه العرش، كما تلقّى سعد الحريري دروساً في الفصحى وفي اللهجة البيروتيّة بعد وراثته زعامة «أهل السنّة» في لبنان). طبعاً، هناك من الآباء (مثل الملك عبد الله السعودي أو الملك سعود) مَن كان أمّيّاً. الأمير بندر كان لشدّة محاكاته الرجل الأبيض في أميركا يواظب على حضور المباريات الرياضيّة الأميركيّة ويتصنّع الحماسة لهذا الفريق أو ذاك، بناءً على أهواء الرئيس المقيم في البيت الأبيض. ويتمتّع الأبناء بثروات هائلة تسمح لهم بالإعداد لتولّيهم الحكم عبر التنسيق المُبكّر مع الإمبراطوريّة الأميركية من أجل تبييض الصفحة وإظهار الولاء المبكّر. تسمع عن مؤسّسة القذافي مثلاً: وهي تنعم بالمليارات وتقوم بأعمال سريّة وعلنيّة، وما من قدرة على محاسبة التصرّف بأموال الشعب الليبي الذي لا تظهر عليه مظاهر النعمة النفطيّة. وفضيحة الرشى التي التصقت ببندر بن سلطان لُفلِفت على عجل بأمر من الحكومة، لكنها أدّت إلى نشر أرقام شبه خياليّة عن مبالغ بمئات الملايين من الدولارات. لهذا، فإن لكل أمير من آل سعود اليوم حكومة خاصّة به وجهازاً استخباراتياً خاصاً به وسياسة خارجيّة خاصّة به. ويتنافسون فقط في المدى الذي يريدون به إسعاد «الراعي الأميركي». الأمير بندر حظي برعاية أميركيّة (استمرّت حتى تفجيرات 11 أيلول) لأنه أشرف (بأمر من فهد) على وضع الثروات السعوديّة في خدمة الأعمال القذرة للحكومة الأميركيّة في عهد ريغان. ولكل أمير وابن رئيس مؤسّسة أو جيش (كما في حالة أحمد علي عبد الله صالح في اليمن أو الملك الأردني قبل الجلوس على العرش أو الملك السعودي قبل الجلوس على العرش أو باسل الأسد قبل وفاته) وضع مشابه.
وحريّة الحركة أمام أبناء الحكام في الحكم وفي خارجه أكبر من هامش الحركة عند الآباء. لا يكترث الأبناء للرأي العام لأنهم لا يحملونه على محمل الجدّ: ولّى الزمن الذي كان فيه الناس في العالم العربي يخرجون إلى الشارع طوعاً وعفوياً من أجل فلسطين وضد التسوية السلمية مع إسرائيل. يخرج أحياناً الناس ربما لاستقبال ريتشارد نيكسون في شوارع القاهرة في عهد السادات أو لاستقبال شيراك في الجزائر أو لاستنكار الرسوم الكرتونيّة في الدنمارك. أما في لبنان، فتخرج الناس لاصطناع التفجّع على رفيق الحريري طمعاً بحصّة طائفيّة أكبر، أو للهتاف بحياة زعيم الطائفة الأوحد. إن هذا التجاهل (المُحق بسبب عقود من الاستكانة والخنوع والانطواء القطري المحلّي بالإضافة إلى العزلة السياسيّة التي لا مجال لتحليلها في عجالة هنا) يعطي القادة الجدد مجالاً أوسع للتحرّك، وخصوصاً في التودّد لإسرائيل.
كانت الناس تثور لمجرّد سماع أخبار عن لقاءات سريّة بين عرب وصهاينة، وكان مشروع روجرز يحرّك تظاهرات ضخمة حتى بعد قبول عبد الناصر به. أمّا اليوم، فحالة من البرود السياسي، أو قُل إنه اليأس المطلق والإحباط المزروع، تتيح الإسراع في التطبيع مع إسرائيل. يسارع الملك السعودي للقاء شمعون بيريز تحت باب «حوار الأديان»، فيما تدعو حكومة قطر وزيرة خارجيّة العدو الإسرائيلي لتلقي عظاتها عن الديموقراطيّة، وبات رؤساء العرب وملوكهم يعتبرون عدم إلقاء التحيّة على إسرائيليّين في الغرب تصرفاً غير لائق. يتحرّك أبناء الحكّام بحريّة مطلقة. لا يأخذون في الحسبان رد فعل الناس. يقومون بتحرّكاتهم على أساس النوم المستمرّ للعامّة مهما شطّت الأنظمة في تحالفها مع المصالح الإسرائيليّة.
وهناك أمر آخر: كانت الحكومات العربيّة في الماضي تتنافس في معسكريْن: الرجعي، وذلك الذي يدّعي التقدميّة. وكانت الصراعات محتدمة داخل كلّ من المعسكريْن: الصراع السعودي ــ العماني أو السعودي ــ الإماراتي، بالإضافة إلى الحروب بين البعث وعبد الناصر. أما اليوم، فقد انضوت كل الأنظمة العربيّة وبدرجات متفاوتة، بما فيها تلك الأنظمة التي تدّعي الممانعة بهدف تحسين شروط الانصياع، في المعسكر الموالي للغرب. هذا العالم جعل من التنافس تنافساً في درجة الولاء للإرادة الأميركيّة. هذا يفسّر، مثلاً، نشاط أولاد زايد في الإمارات للقيام بدور حيوي في دعم الحكومة الدحلانيّة وفي القيام بدور استخباراتي مهم لمصلحة الإمبراطوريّة الأميركيّة. وليس التطبيع مع إسرائيل ـــــ في المغرب وفي الخليج ـــــ إلا لأجل التقرّب من واشنطن. فالأنظمة العربيّة المُنصاعة للمشيئة الأميركيّة اليوم تتسارع لدعم ميليشيا عصابات محمد دحلان لأنها تعلم أن الأمر عزيز على قلب الإدارة الأميركيّة وإسرائيل. فالتنافس هذا يزيد من حجم التعاون والتواطؤ مع المشروع الإسرائيلي في المنطقة، وخصوصاً أن تهيئة الابن النجيب ـــــ في نظر والديه ـــــ تتطلّب موافقة أميركيّة. الحاكم العربي اليوم يصطحب ابنه إلى أميركا ليعرّف الناظر الأميركي على خليفته.

تهيئة الأبناء للخلافة سبب مباشر للتقارب بين الأنظمة العربية وإسرائيل

يمكن النظر إلى عمليّة تهيئة الأبناء للخلافة كسبب مباشر للتقارب بين الأنظمة العربيّة وإسرائيل. فحسني مبارك كان يعلن انتقادات لفظيّة ضد عدوان إسرائيل، لكن شيئاً ما حصل في السلوك المصري وفي حجم التعاون مع العدوان الإسرائيلي ضد شعب فلسطين في الأعوام الأخيرة. قل إنها من ضرورات التحضير للخلافة. والنظام القطري سارع إلى التقرّب من إسرائيل لإرضاء واشنطن. والنظام البحريني يحاول أن يحظى بمكانة جديدة في قائمة وكلاء المشروع الأميركي ـــــ الإسرائيلي عبر التميّز في صفاقة الدعوة إلى المصالحة مع إسرائيل مقابل لا شيء. ويسعى أحياناً الأولاد غير الحكام للشروع في خدمة المشروع الأميركي من أجل تحسين وضعهم في معركة الخلافة داخل العائلة (وهذا ينطبق على الأمير بندر والأمير سلمان الذي يكاد أن يفقد صبره في انتظار المُلك، ولعلّ ذلك يفسّر رقصه الحميم مع بوش في آخر زيارة للأخير إلى السعوديّة).
ومن اللافت أن عدداً من الجيل الثاني من الحكّام يأتي من خلفيّة عسكريّة أو استخباراتيّة. فحاكم دبي ورئيس الإمارات والملكان السعودي والأردني يأتون من خلفيّات عسكريّة أو دفاعيّة. وبشار الأسد، وهو طبيب عيون، احتاج للمرور في تدريب الجيش السوري من أجل التهيئة للخلافة، ومعتصم القذافي (مسؤول الاستخبارات الليبيّة) هو المرجّح لخلافة والده وفق مجلة «إكونومست». وكليّة ساند هرست العسكريّة البريطانيّة خرّجت عدداً من الحكام العرب (مثل سلطان عمان والملك حسين) ومن أبنائهم، لكن ما لا يعرفه العرب هو أن حكام العرب وأبناءهم لا يخضعون لدراسة تقليديّة وفق البرنامج المعمول به في الكليّة. فالحكومة البريطانيّة تعدّ لهم برنامجاً خاصّاً تُختصر فيه المدّة الزمنيّة للدراسة وتتقلّص المتطلّبات الدراسيّة. المهم هو إبراز شهادات ـــــ حقيقيّة أو مزوّرة أو نصف حقيقيّة (أولاد الحكّام يُقبلون في الجامعات النخبويّة الخاصّة في الغرب طمعاً بتبرّعات لا بناء على علامات، وليس تبرّع سعد الحريري بمبلغ 20 مليون دولار لجامعة جورجتاون إلا مثالاً، فيما تئنّ الجامعة اللبنانيّة تحت وطأة موازنة السنيورة).
بين الجيلين الأول والثاني، ضاعت فلسطين وتنتشر الصهيونيّة بين ربوعنا ويزداد اعتناقها بين العرب. الجيل الأول مسؤول عن زرع إسرائيل بيننا، أما الجيل الثاني فيعمل على توطيد الزرع ونشر النفوذ الصهيوني. والجيل الثاني لم ينجح في كسب التأييد الشعبي لشعاراته وبرامجه المصنّعة في الخارج على مقاس المصالح الأميركيّة والإسرائيليّة، لكنه نجح في النفاذ عبر بث الخيبة والإحباط والانهزاميّة. الجيل الأول كان يتآمر في الخفاء، أما الجيل الثاني فيتقاطر إلى لقاء المحبوبة رايس أو من ينتدبه بوش أو أوباما من أجل إثبات حسن السلوك وشدّة الطاعة. قد يتسنّى للعالم العربي انتظار ما يخبئ له الجيل الثالث، وقد يتفتّح العالم العربي ويزدهر لو كان مصير الجيل الثالث مثل مصير غودو ـــــ وإن كانت محطة القطار مقفرة.



ملاحظة: حصل خطأ في مقالة العدد الماضي [1]، فقد وقع خلط بين الطيب عبد الرحيم (المُكنى بـ«أبو العبد») ومحمود الناطور (المُكنى بـ«أبو الطيّب»)، والأخير هو الذي قاد قوّات 17. وقد ترشّح الاثنان لعضويّة اللجنة المركزيّة في حركة فتح ورسب الاثنان، لكن أبو مازن وزمرته تدخّلا لفرض فوز الأوّل، فاقتضى التوضيح. يتحمّل الكاتب مسؤوليّة الخطأ بالطبع ويعتذر من القراء ومن «الأخبار»، ويردّد مع أبو نواس: «قل لمن يدّعي في العلم فلسفةً، حفِظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ».
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com [2])
عدد السبت ٢٩ آب ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/154071
Links:
[1] http://www.al-akhbar.com/ar/node/153006
[2] http://www.angryarab.blogspot.com