السبت، ٢١ آذار ٢٠٠٩

صحــــــافــــــــــة (2)


صحــــــافــــــــــة (2)

أنسي الحاج
تكاد الأجيال الجديدة تنسى أن الصحافة كتابة، والكتابة قلم، والقلم وجدان وصقل لا وظيفة ولا شهادة جامعيّة، والكتابة، كما هو معروف، تصدر من الشعور والأعصاب لتفترش اللغة، وهذه ينابيع وجداول تُفتّحها وتهدر بها التجربة الحيّة ويُعْليها الصدق وتضمّخها المعرفة والخيال. الصحافي أديب يومي، وكم من روائي احترف الصحافة، وكم من أديب وهبها عمره وحَرَمَتْه ما كان يعتزمه من تأليف، ولم يبخل عليها، لا لأنّها مصدر عيش فحسب بل لأنّه استعاض بها، مختاراً أو مُكْرهاً، عن تأليف الكتاب، فاستودعها عصارة روحه. الصحافة العربيّة أكثر من غيرها في العالم صنيع أدباء، كانوا طليعة حركة التنوير في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع العشرين. والصحافة التي لم ينهض بها أدباء لم تترك أثراً، وبينها مَن تَضافرتْ لإصداره رؤوس أموال ضخمة وتجمّعت حوله ووراءه قوى سياسيّة جبّارة. لا نقصد بالأدباء، اللفظيّين الإنشائيين، وما أكثرهم دائماً، بل أصحاب الإلهام والابتكار وملهَمي الأسلوب. ولا تُغْني الأفكارُ ولا الثقافة السياسيّة والفلسفيّة عن إتقان الكتابة، ولا يتأتّى الإتقان بالاجتهاد وحده، بل باتحاد الموهبة والاجتهاد، وتحالف العفويّة والوعي، وجرأة التجديد ومراقصة الخَطَر. طبعاً ما هي إلاّ بعضٌ من صفات كيمياء الكتابة في بعدها اليومي.
اجتاحت الصحف اللبنانية منذ أربعين عاماً موجات كتّاب التقارير، وهم نوع من رجال التحري المموّهين بصفة محلّلين أو مخبرين. أحياناً يملى عليهم ما لا يقدّرون مفاعيله، حين يكون الهامس معلّماً في المادتين: التوجيه والتعبير. لا يعني ذلك أن الصحافة في الماضي لم تعرف أمثالاً لهؤلاء الكَتَبة، ولكن غلبت عليهم في حينه صفة صحافيي السلطة أو السلطان. ولا يدخل في حسابنا صحافيو الباب العالي ولا عملاء الانتداب، فهؤلاء كانوا أشبه بالموظفين المعلنين، شأن الطائفة الكبرى من صحافيي «الرأي» السياسي في جرائد الأنظمة العربية.
كتّاب التقارير، من الناحية السياسيّة، صورة عن الواقع: السلطة الفعليّة في أيدي البوليس السرّي لا عند الحكومات ولا الجيوش، وطبعاً ليست في أيدي المجالس النيابيّة. البوليس السرّي استوجب صحافة من نوعه. قوّة البوليس السرّي هي شَبَحيّته وقوّة صحافي التقرير الاستخباراتي هي أنّه فوق التأثير العاطفي.
يلاحظ القارئ الفرق الشاسع بين «المقالات السرّية» وتلك المهنيّة العاديّة: الأولى تحبس الأنفاس على طريقة أفلام التهديد، والأخرى مملّة مثل الفضيلة، إلاّ إذا تمتّع كاتبها بأسلوب يعوّض له عن رتابة مضمونه، فتصبح مقالته في أحسن أحوالها «معقولة»، أي تلك التي لا يذمّها أحد ولا أحد يقرأها.
نقسو على الصحافة لأنّها مهنة كتابيّة، ويجب أن لا تكون ثمّة رأفة بانحطاط الكلام. وانحطاط الكلام ليس فقط ظاهرة إنشائيّة أو خمولاً فكرياً بل هو أحياناً، كما تدلّنا صحافة نصف القرن الأخير، ظاهرة فساد أخلاقي وفي بعض الحالات انعدام القانون الأخلاقي كلّياً وسيادة تأجير مساحات الخبر والرأي. وتستعمل ذريعة الديموقراطية أو حريّة التعبير لتبرير سوبرماركت البضائع في الجريدة الواحدة.
■ ■ ■
وفي الصحيفة، إلى صاحبها ورئيس تحريرها ومديريها، سكرتير تحرير، غالباً ما يكون من أهمّ أركانها، يجهله القرّاء، ولكن ما يطالعونه هو ما يرضى عنه وأحياناً ما يعيد كتابته أو ينقذه بقلمه من علل مميتة.
كانت أمانة التحرير مسؤوليّة بلا ثواب والجندي المجهول كان جندياً مجهولاً. حسبه الأستذة الفعليّة عبر التصحيح. في الزمن الأخير بتنا نرى مَن يتفاخر بأنه وضع عناوين أو أشرف على صفحة. لا شك في أفضال أمناء التحرير، وإن صاروا يُسمّون رؤساء تحرير صفحات، ولكن ما فيه شك هو ما يزعمون لأنفسهم، كأن يلغي أحدهم أسلوب الكاتب ليُحلّ أسلوبه محلّه، ولا يلبث أسلوبه هذا أن يصبح، بقوّة السلطة، أسلوباً معمّماً. واجب المحرر ينبغي ألاّ يتعدّى إصلاح الخطأ وإزالة الحشو، وإذا ساءت القطعة التي بين يديه وهبطت دون المعقول، أصبح طيّها واجباً. وإذا سألتَ ما هو المعقول ودون المعقول لتعذّر الجواب بوضوح، فلكلّ محرّر مستواه ومقاييسه. والوضع المثالي أن تتوافر في المحرّر المسؤول عن قطاعٍ ما، صفات تجعله مرجعاً قد لا يفوق محرريه موهبة ولكنهم يطمئنون إلى خبرته كما يطمئن الأستاذ إلى أستاذ أعتق والطبيب إلى طبيب أعرق.
في الماضي كان أساتذة الصحافة يتنافسون في تنقية اللغة من الشوائب أو في الاهتداء إلى فصحى مبسّطة دون إسفاف، وكان لكلٍّ أسلوبه، وهذا أضعف الإيمان. ثم رانت ابتداءً من ستّينات القرن العشرين أجواء لمعت فيها بروق الفانتيزيا وتجديدات جذّابة وإن لم تكن دائماً مستساغة. وبما أن لكلّ أمرٍ ضريبة، كانت ضريبة هذا التجدّد المنعش افتعالات متحذلقة عمّمها إرهاب الانتشار وتلامذة لم يتعلّموا من الدرس غير الترداد.
ومن حسنات تلك التجديدات اختراق جدار الخطابيّة والتزمّت المعنوي والرواسم المحنّطة، ومن سيّئاتها الإقدام على نشر أيّ شيء دون الالتفات إلى النوعيّة، بل ممارسة نشر جماعي أعمى باعتماد قاعدة الديموقراطية، وهي القاعدة التي تكاد تقضي لا على الأدب فحسب بل على اللغة من أساسها في العالم أجمع.
■ ■ ■
لا بد من التركيز أكثر فأكثر على لغة الصحافة، وما التلفزيون والإذاعة سوى امتداد لها. اللغة الصحافية تفترس اللغة الأم في كلّ اللغات، وعلى مَن يتسلّم دفّتها في الجرائد يتوقف مصير العقل لا اتجاهات الكتابة والقراءة وحدهما. إن اللغة هي الحضارة، لا بل هي الحياة، وعلى نواصيها معقود مصير سائر الفنون الجميلة، بما فيها الموسيقى التي إن نجت مباشرة من لغة الكلام البشري لا تنجو ذهنيّاً، فهناك في ضباب تكوين الرؤى والمفاهيم لا شيء ينجو من الكلمة، حتّى ربّما فكرُ الجنين.
اللغة اليوم في أحَدِّ أزماتها، يضربها التشويه من مختلف الجهات، صرفاً ونحواً ومفردات ونطقاً. لفظُ فرنسيّة اليوم لفظٌ معاق ممغوط مقطّع الأوصال، وهذا اللفظ البشع ينعكس في التعبير الكتابي، ويكاد كتّاب الفرنسيّة الأصيلون ينحسرون في نخبة معزولة. حتّى بعض كبار الأدباء والمفكّرين تسرّبت إليهم تشويهات الاختزال والتخلّف والببغاويّة. ولا أدري إن كان ما ينطبق على الفرنسيّة ينطبق على الإنكليزية وسواها، وإن كان الأرجح أنه ينطبق.
لقد انفصلت الصحافة عن الكتابة وانحرفت نحو ما يسمى، زوراً وبهتاناً، لغة الإعلام، وما هي بلغة ولا هو بإعلام، بل فرعٌ شفهي بصري من لغة الصحافة المريضة. العديد من صحافيي العقود الأخيرة باتوا أشبه بموظفي الدولة. وحلّت العلاقات السياسيّة والاجتماعيّة والماليّة محل التثقّف والشغل الرصين على الذات. وصار مَن يحمل أختام النشر أقلّ معرفة وفنّاً واندعاكاً من الكاتب الناشئ. انفصلت الصحافة عن الكتابة وانفصل القرار عن المسؤوليّة وانفصلت الشهرة عن الاستحقاق، وبات كل شيء مسموحاً وكل صوت محمولاً بالأثير وكل وجه مفروضاً، في غياب المدارك والأذواق وهيبة النقد. لقد جيء بكل هذه الأوبئة على موجات الحداثة والديموقراطية، ونسي المتناسون أن الحداثة تطويع للزمن لا انحلال تحت نيره، وأن الديموقراطيّة لا شأن لها بعالم الأدب والفنون، حيث المبدأ شكلاً وجوهراً مبدأ نخبوي أرستقراطي.
إن سقوط اللغة هو السقوط. لقد كانت بدايته إنقاذاً تحوّل إلى مأزق. لا أدري إذا كانت الصحافة قابلة لأن تعود هي ذاتها أداة لإصلاح ما ساهمت في إفساده. فما قضيّتها سوى جزء من كل، وهذا الكلّ هو موجة مدنيّة تحرّكها آلة تاريخية جغرافيّة اقتصاديّة سياسية هائلة تعتبر ما نراه هنا خللاً، إنجازاً تقدميّاً. آلة بلا تاريخ تكره ما يُذكّرها بنقص عراقتها وتعمل لإبداله بما يشبه تركيبها الهجين البربري وحيويّتها الاجتياحيّة الضارية، والتي لا تعرف الرحمة.
ولغة عربيّة مصلوبة بين ليلٍ محنَّط أو عجوز وبعد ظهر مخضرم متلألئ بات متوارياً عن الأنظار وحاضر حائر فقير ومستقبل بلا آباء ولا آفاق.
معركة عظمى بلا متقاتلين.



عابـــرات

الخجل بالنفس رفضٌ للمساواة. إذ بمَ يخجل المرء ولا يتشارك فيه مع الآخرين؟ الاضطراب أو الاحمرار خجلاً ليسا ردّي فعل على انفضاح سرّ معيب، فحسب، بل هما خزي لانكشاف شيء فينا يجرّدنا من ادّعاء التميُّز.
المحافظة على الجمال تشبه دوافعها هذا النوع من الأرستقراطية.
■ ■ ■
نريد أن نصدّق أن ما يتميّز به فلان هو خاص به خلقةً لا «صناعة»، نريد ذلك لأنّه يشبع فينا حاجة إلى الاعتقاد بأن ثمّة آخر هو أفضل منّا. أينما بحثتَ خارج السياق القانوني البحت تجد أن المساواة شعارٌ خطابيّ «انتقامي».
■ ■ ■
يُنتقد كاتب بأنه «بيّاع أحلام». المقصود: حالم يكتب، فالبيع ليس وارداً في سوق مفلسة. كنا ندافع عن مثل هذا. اليوم، بعدما استولت آلة الترويج على لفظة حلم، بات التحفّظ ضروريّاً. أمام كليشيه «حلم؟ ولمَ لا؟ مَن لا يحلم لا يُحقّق»، يجب أن نفهم العكس. صارت لفظة حلم على لسان الببغاء مرادفة للكذب، أو في أرقى الحالات للمبالغة الحمقاء. مَن يكتب أحلاماً يَجْهل أنه يكتب أحلاماً.


عدد السبت ٢١ آذار ٢٠٠٩


حبيبتُهم الدولة: ثورة (حرّاس) الأرز تتجدّد (مُجدّداً)


حبيبتُهم الدولة: ثورة (حرّاس) الأرز تتجدّد (مُجدّداً)

النائب السابق فارس سعيد يلقي كلمته في البيال (مروان طحطح)النائب السابق فارس سعيد يلقي كلمته في البيال (مروان طحطح)عقدت قوى 14 آذار يوم السبت الفائت مؤتمراً في «البيال» أعلنت فيه برنامجها الانتخابي تحت عنوان «العبور إلى الدولة»، وأكّدت عزمها على خوض الانتخابات النيابيّة المقبلة بلوائح موحّدة. فإلى أيّ دولة ستعبر قوى 14 آذار؟

أسعد أبو خليل*
توّج فريق ثوّار (حرّاس) الأرز مكاسبه في افتتاح مقرّ المحكمة الدوليّة عندما كتب هاني حمّود («المُقرِّر»، كما سمّاه وليد جنبلاط في لحظة صفاء واعتراض) أن الوطن عاد إليه. هل عاد الوطن إلى هاني حمّود في حقيبة جلدية؟ وهل يعود الوطن وقد تأبّطه الأمير مقرن؟ وعاد الوطن إلى قواعده سالماً عندما ربّت جورج بوش على كتف فؤاد عبد الباسط السنيورة. ويمكن أن يعود الوطن بزخم أكبر إذا تحقّق لفريق 14 آذار ما عجز عن تحقيقه رفيق الحريري: أي عقد سلام بين لبنان وإسرائيل ـــــ وإن روّج هذا الفريق لذلك بعناوين مُلتوية ومُواربة ومُخادعة، مثل «العودة إلى اتفاق الهدنة»، أو تحييد لبنان، أو الاهتداء بالمسلك السوري في تجنّب الصراع مع إسرائيل، أو في الدعوة إلى «الصراع الحضاري» الذي ما انفك السنيورة في خوض غماره ـــــ والنتائج في تحرير شبعا وتلال كفرشوبا والغجر على وشك أن تظهر في أية لحظة كما تبشّر نشرة «المستقبل السلفي» كل يوميْن. والوطن عائد، حقاً حقاً عائد، إذا تسنّى لفريق الحريري أن يسيطر على كل مقدّرات الدولة، وأن يُنصِّب الأمير مُقرن مشرفاً أعلى على الوطن، كما كان أبو جمال وغازي كنعان ورستم غزالة من قبل مشرفين على مسخ الوطن. والاحتفال بإطلاق البرنامج الانتخابي لـ14 آذار، وإن تمّ من دون إعلان أسماء، كان مهرجاناً لبنانيّاً بامتياز: أي أنه كان تقليداً مبتذلاً ونافراً للأصل الأجنبي: من «نورمبرغ» إلى احتفالات الحزب الجمهوري في عزّ شعبيّة بوش بعد 11 أيلول. وفارس سعيد الذي كان يجب أن يرفل بالأبيض، قام بالمهمّة على أكمل وجه، يعاونه في ذلك واحد من الصحافيّين الحياديّين في لبنان. وكل الصحافيّين حيّاديّون في لبنان، وخصوصاً فارس خشان وعقاب صقر (المحاضر في الأمسيات الحريريّة) وشارل أيوب (قبل اللقاء مع الأمير بندر بن سلطان وبعده). وفارس سعيد يمثّل حقبة السيادة أحسن تمثيل، كما كان يمثّل حقبة سيطرة النظام السوري أحسن تمثيل عندما كان يشيد بـ«سوريا الأسد». أما حضور باسم السبع فكان ضروريّاً لأنه يتكفّل قيادة الجماهير الشيعيّة الغفيرة المنضوية في تحالف آل الحريري. والسبع يمثّل الجناح المتطرّف في الحرص على السيادة في فريق الأكثريّة، وإن كان قد مشى عام 2003 في مسيرة «تأييد ومبايعة» لبشار الأسد متأبطاً ذراع رستم غزالة، الذي قد يطلّ يوماً علينا مثله مثل عبد الحليم خدّام داعياً ديموقراطيّاً.
وبصوت جهوري وثقة بالنفس أكيدة، قرأ سعيد برنامج فريق الحريري. والديباجة أتت مرتبكة في الصياغة لأنها توفّق بين أهواء مختلفة ومتنازعة: كيف يمكن أن توفّق، مثلاً، بين حرّاس الأرز (وهو فريق غير معلن في 14 آذار) وداعي الإسلام الشهّال وخالد ضاهر؟ وهناك المتناحرون بين المرشحين الموارنة، ولا سيما نسيب لحّود الذي تذكره الساحة الأميركيّة لدفاعه المستميت عن النظام السوري، حتى أنه كان يُقال إنه أفضل سفير سوري في أميركا. ووعد البرنامج الجديد بدولة «للجميع وفوق الجميع». تحتاج العبارة إلى تمعّن بالغ: أين هي هذه الدولة التي تعد أن تكون فوق الصراعات والمنازعات؟ هل استقى البرنامج مفهوم تلك الدولة من التعبير المثالي عن الدولة المثالية في كتاب «فلسفة الحق« لهيغل عندما عرّفها بأنها «تجسيد للفكرة الأخلاقيّة»؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، ألهذا رأينا نقولا فتوش ومروان حمادة وأمين الجميل بين الحضور لأنهم جسّدوا في ممارساتهم السياسيّة «الفكرة الأخلاقية» الهيغليّة عن بكرة أبيها؟ والهيئة العليا للإغاثة هي تحت سيطرة آل الحريري: هل تجسّد تلك الفكرة المثالية للدولة المنشودة؟ هل هي إيذان بما هو آتٍ؟ وإذا كان ماركس قد رفض زعم الدولة بأنها فوق صراع الطبقات (واعتبرها جهازاً لممارسة الصراع الطبقي)، فإن وثيقة كارل سعيد تعد بأن تكون الدولة حيادية إزاء الصراع الطبقي والطائفي على حدّ سواء. ولهذا كان يجب أن يدعو سعيد المطران الراعي والشيخ الجوزو إلى المنبر لأن كليهما أبعد ما يكون عن الطائفيّة والمذهبيّة. وترفض الديباجة فكرة «لبنان التابع»، مع أن أمين الجميل وصولانج امتهنا التبعيّة لإسرائيل، كما امتهن آل الحريري ووليد جنبلاط ـــــ في حقبة الغشاوة اللعينة فقط ـــــ التبعيّة للنظام السوري، وكما امتهن نسيب لحود التبعيّة للنظاميْن السوري والسعودي إلى أن وقع الشقاق، فانحاز للسعودي من دون أن تلعب المصاهرة مع الملك السعودي (ومن الرجال كثر في العالم العربي ممن تصاهروا مع الملك السعودي عبر السنوات والعقود) دورها هنا. ووصفت الديباجة خيار اللبنانيّين بأنه خيار بين «الازدهار» ـــــ أي نموذج دبي، قبل سقوطها طبعاً ـــــ و«هاوية التخلّف». وفكرة «التخلّف» لم تكن يوماً بعيدة عن السجالات الطائفيّة والمذهبيّة في لبنان، وكان يمكن زعيم الشيعة في 14 آذار أن يحذّر فريقه من مغزى تلك الفكرة لكنه ربما خشي أن يُتهم هو نفسه بالتخلّف.
والتخلّف سمة تبرز أكثر ما تبرز في من يُجاهر بالعداء لإسرائيل، لأن الحضاريّة تحرص على محبّة الآخر المُحتل وتقديم الحلوى والشربات له، كما فعل أحمد فتفت، وإن برّأ نفسه بنفسه في تحقيق أجراه بنفسه، ونوّه بنفسه. وفكرة الكميّة والنوعيّة (أي منطلق وعد بلفور) وفكرة وصف حشود الطرف الآخر بـ«الغنم» تتماثل مع فكرة «التخلف». و14 آذار هي قبل كل شيء «مودرن» وعلى «الموضة»، والتماشي مع الموضة في بلد مثل مسخ الوطن أهم بكثير من تحرير الأرض أو الدفاع عن الشعب في وجه الاجتياحات. ويرفض البيان الذي يذكّر بصياغات طارق عزيز للبيانات البعثية الصدامية في السبعينيات، انخراط لبنان في أي «نزاعات إقليميّة». وهذا قول حق لأن الأمانة تقتضي تسجيل نقطة ـــــ أو حقيبة مالية ـــــ لمصلحة فريق الحريري بأنه نأى بنفسه عن النزاعات الإقليميّة تماماً. وحرص هذا الفريق على الحياد التام عندما استفحل الخلاف بين سوريا والسعودية أو بين قطر ومصر. وعندما جال سعد الحريري مُرافقاً للأمير مقرن فإنه لم يفعل ذلك إلا من أجل الحياد والتنزيه والموضوعيّة الاستخباراتيّة.
ثم يُدرج البيان 14 بنداً، والرقم 14، لمن لا يلاحظ، هو الرقم نفسه في اسم الفريق، وهنا الطرافة والظرف والإبداع. هل الفكرة لـ«ساتشي وساتشي» أم لشركة «كوانتم» التي تتخصّص في دعوة الصهاينة الغربيّين إلى بلد الأرز ليشيدوا بثورته؟ والبند الأول أراد أن يسجل، رفعاً للعتب، «شيئاً» ما عن إسرائيل فتحدّث عن «حماية لبنان» من الاعتداءات الإسرائيليّة، لكنه عاد ونفى الأمر عندما طالب في بند آخر بنزع السلاح من المقاومة في لبنان، باستثناء ميليشيا محمد الحسيني المدعومة سعودياً. أي أن هذا الفريق يريد حماية لبنان عبر الاعتماد الحصري على عربات «الهامفي» المُستعملة التي توفّرها الحكومة الأميركيّة للبنان، فكانوا لها شاكرين. ولم يوضّح البند طبيعة الحماية لكنه تحدّث عن «استرجاع»، والكلمة مُنتقاة بعناية لأن كلمة تحرير لم تعد حضاريّة عندهم، كما أنها قد تتضمن معاني عنفية تتقزّز منها صولانج الجميل ودوري شمعون وسمير جعجع وجورج عدوان، أي هؤلاء الذين واللواتي لم يُخلصوا لحليف كما أخلصوا لإسرائيل. لكن البند يفسّر كيفيّة الاسترجاع عبر المطالبة بتنفيذ القرار 1701، مع أن القرار لا يُلزم إسرائيل أبداً بالانسحاب من شبعا. هنا، يمكن الاستخلاص أن فريق الحريري قرّر متكرِّماً أن يهب إسرائيل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا سعياً وراء حسن الجوار. والبند الثاني يدخل في إطار طمأنة العدو عبر التشديد على ضرورة ألا يكون في حوزة لبنان أكثر من عربات «الهامفي»، بالإضافة إلى الطائرتيْن اللتيْن ألهبتا عقول شعب لبنان في احتفال الاستقلال الرمزي عام 2008.
الرئيس فؤاد السنيورة (أرشيف)الرئيس فؤاد السنيورة (أرشيف)والحرص على السيادة هو الذي دعا أقطاب هذا الفريق إلى دعوة سوريا للتوقّف عن التدخّل في شؤون لبنان. أما استجداء التدخل السوري لسنوات من قبل جنبلاط ورفيق الحريري لمصالحهما السياسية والطائفيّة الضيّقة فقد دخل في التاريخ السحيق ويمكن أن يُدرج في فصل العصر الحجري في كتب تاريخ لبنان. وفريق الحريري كان حريصاً منذ اغتيال رفيق الحريري على عدم التدخل في الشؤون السورية، بالرغم من دعوة جنبلاط الدروز في سوريا إلى اغتيال بشار الأسد ودعوته أميركا لإرسال سيّارات مفخّخة إلى دمشق، وبالرغم من تمويل الحريري لفصائل في المعارضة السورية ـــــ الديموقراطية على شاكلة عبد الحليم خدّام والإخوان المسلمين. ومن الظريف أن الفريق الذي ارتهن في أكثره ومدى عقود للنظام السوري (في عهد الأب والابن) كرّس فقرة مستفيضة للخطر السوري في لبنان، مع أن الإشارة إلى التهديد الإسرائيلي كانت عابرة فقط. لكن هذا هو بيت القصيد: فهذا الفريق يريد ولا يريد أن يصرّح النائب سعد الدين الحريري (أرشيف)النائب سعد الدين الحريري (أرشيف)وبواضح العبارة أنه لا يكنّ العداء لإسرائيل. وليد جنبلاط صرّح للصحافة في يوم إطلاق برنامج ثورة (حرّاس) الأرز الانتخابي بأنه من الصعوبة بمكان توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل بسبب «التوازن» الطائفي، وكأن طائفة واحدة فقط تكنّ العداء لإسرائيل. ولماذا تتحدّث الوثيقة البونابرتيّة عن ضبط الحدود بين سوريا ولبنان من دون الإشارة إلى الحدود بين لبنان وإسرائيل وهي تتعرّص لخرق جوّي وبرّي وبحري على يد العدوّ الإسرائيلي؟ لكن البند يؤكّد «إنهاء الخلاف مع سوريا»، والصدفة وراء التزامن مع المصالحة السعوديّة ـــــ السوريّة، والصدفة كانت وراء القرار السعودي المفاجئ الذي أتى بعد أسابيع فقط من انتهاء عهد بوش.
يريد المرء أن يعرف القلم الذي خط هذا البيان: من، مثلاً، اختار أن يشير إلى «الانسجام بين لبنان والمجتمع الدولي»؟ هل هذه تورية؟ وكيف يتمثّل هذا الانسجام؟ عادة، نتحدّث عن الانسجام بين زوجيْن، لكن أن يصل الأمر بفريق ثورة (حرّاس) الأرز إلى المطالبة بالانسجام يعني أن المنشود جلسة رومنطقيّة مع فريق إسرائيلي كما فعل أنطوان فتّال (الذي كان يجب أن يُفرض عليه كتابة مذكّراته لدوره المُشين في مفاوضات 17 أيار، وهو مؤلّف كتاب استشراقي بغيض ـــــ بالفرنسيّة فقط ليأخذ راحته في الحديث ـــــ عن وضع غير المسلمين في الدول الإسلاميّة) في عهد الواعظ أمين الجميّل. وكيف يقيس «المجتمع الدولي» هذا الانسجام؟ هل بمنح عدد من الصهاينة في أميركا دروع (حرّاس) الأرز؟ أما عبارة «المختبر العالمي» للحوار فهي تهديد لبناني بإعادة تمثيل حفلات المجازر والقتل الطائفي والمذهبي التي هي وحدها مسؤولة عن شهرة لبنان العالميّة.
لكن ثوار (حرّاس) الأرز عروبيّون، إذا كانت العروبة تعني الولاء التام لأوامر أبو متعب والأمير مقرن العروبي الخالص. ودور لبنان العربي مَثّله منير الحافي عندما قدّم كتابه الدعائي عن الدور السعودي في لبنان للملك السعودي في حفل خاص أثناء مهرجان الجنادريّة الذكوري. وهذا النسق من العروبة ينسجم ـــــ لنستعمل تلك العبارة مرّة أخرى ـــــ مع تطلّعات أنطوان لحد وجورج عدوان ودوري شمعون. ويدعم البيان «نضال الشعب الفلسطيني»، على أن يكون خاضعاً للإشراف المباشر لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي أُعيد إحياؤها فقط بعدما خسرت حركة فتح الشرعيّة الانتخابيّة وارتأت أن تستعين بشرعيّة غير مُنتخبة. وهذا البند يقول بصريح العبارة إن فريق آل الحريري يدعم عصابات محمد دحلان وتوجيهات الجنرال دايتن. ويريد البيان نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وكان على فريق جنبلاط أن يضيف أنه يشكر مساهمة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات في معارك الحزب التقدمي الاشتراكي عبر السنوات. وتدعم الوثيقة مبادرة السلام العربيّة بعد إسقاط اسم المؤلف توماس فريدمان عنها. وتضيف الوثيقة كلاماً عن مواجهة «التطرّف»، ومن المؤكد أن فعالية هذا الفريق في مواجهة التطرّف عالية، وخصوصاً إذا ما استُعين بسلفيّي الضنيّة وفكر «هيئة كبار العلماء» المُزنّرة بعقيدة ابن باز. أما الالتزام بمنع التوطين فلا علاقة له بحق العودة، لأن مبادرة توماس فريدمان لا تتضمن إشارة إلى حق العودة وإن تضمن نسقٌ مُعدّل منها إشارة مبهمة من باب رفع العتب. وعندما يتحدّث معسكر 14 آذار أو معسكر 8 آذار عن منع التوطين فهما يعنيان طرد الفلسطينيّين من لبنان لأسباب تتعلق بمصالحهما الطائفيّة الضيّقة، مع العلم أن ميليشيات في طرفي المعسكريْن خاضت حروباً وحشيّة ضد مخيّمات اللاجئين في لبنان. هم بذلك يكملون ما كان بشير الجميل ـــــ هتلر لبنان الصغير ـــــ ينوي فعله.
ولا ينسى البيان أن يُشيد بخروق السيادة القضائيّة والعسكريّة والسياسيّة والاقتصادية التي احتضنها فريق عائلة الحريري في لبنان. لكن الوثيقة تؤكد أن المحكمة الدولية ستنهي الاغتيال. ووفق هذا المنطق، فإن محاكمة المجرم تُنهي الجريمة إلى الأبد. يبدو أن نادر الحريري ومستشاريه يحتاجون إلى دروس في مبادئ المنطق الأوليّة. ويريد هذا الفريق أن يوفر المال «اللازم» لعودة المهجّرين: أي أن عهد «الزنقة» قد ولّى إلى الأبد.
والبيان يعود ليتحدّث عن حبهم للدولة وعن ضرورة بنائها. وفي اللغة المُشفّرة لهذا الفريق لا يعني هذا إلا تسلّط آل الحريري والأمير مقرن بن عبد العزيز على كل مقدّرات الدولة ونشر الفساد والرشوة على نطاق واسع في كل إدارات الدولة وفي كل قطاعات المجتمع: أي إكمال ما كان قد بدأه رفيق الحريري. وهل هناك من يمثّل الدولة المدنيّة أفضل ممّن تولّى لعقد أو أكثر شؤون صندوق المهجّرين؟ وهل هناك من يساهم في بناء مفهوم الدولة المدنيّة المتحرِّرة من التقاليد البالية أكثر من مطران ثورة (حرّاس) الأرز، عنينا بشارة الراعي الذي استقى مفاهيم من القرون الوسطى ليحمي ثورة (حرّاس) الأرز من أعدائها؟ وهل التهديد بالاستعانة بـ«الحرم الكبير» إلا من باب بناء الدولة المدنيّة لبنة، لبنةً؟ ومطاردة السحرة، والمشعوذين، وعبدة الشيطان، وشهود يهوه هي أيضاً دليل قاطع على حرص فريق ثورة (حرّاس) الأرز على الحضاريّة وعلى المدنيّة، فانعم يا لبنانيّون ولبنانيّات. ومثقفو 14 آذار أُعجبوا أيما إعجاب بمفهوم «الحرم الكبير» واعتبروه سنداً لنشر الثقافة الحديثة في البلد. أما موضوع الدين العام الذي يتحمّل مسؤوليّته بصورة أساسيّة رفيق الحريري وفؤاد السنيورة فقد تضمنّت الوثيقة حلاًّ جذريّاً له. هاكم الحلّ: الدعوة إلى «وضع برنامج فعال لإدارة الدين العام». وهذا الحلّ ينهي السجال حول موضوع الدين العام ويجب أن يخرس كل من يتطرّق إلى الموضوع بعد اليوم. ولو فكّرت فيه دول العالم الثالث (نسينا أن راشد فايد يرى أن بعض لبنان دخل في «العالم الأول» وتماهى مع الرجل الأبيض) لكانت المديونية العالميّة والخلاف بين الشمال والجنوب قد انتهيا إلى غير رجعة. ولكن كان لافتاً خلو الوثيقة من أية إشادة بسياحة الدعارة، التي تمثّل صلب برنامج الحريري الاقتصادي.
قد يكون البند المُتعلّق بالمرأة هو أكثر البنود غرابة. لم نكن نعلم أن آل الحريري وحاشيتهم السياسية مهتمون في حدّ أدنى بمواضيع المرأة وتحريرها، كما حرّر السنيورة... الرغيف. ثم ألم يتسنّ للسنيورة الحكم مفرداً مستعيناً بدعم من عنده ومن السفير فيلتمان؟ لماذا لم نجد آثاراً لهذا الاهتمام بالمرأة في مشاريع الحكومة السابقة والحالية؟ ولاحظنَ أن هذا البند لا يكلّف قرشاً ولا يتضمّن التزاماً محدّداً، وهو على الغالب من نوع النسويّة الاستعمارية: أي استغلال مواضيع المرأة لغايات سياسية أو استعماريّة مثلما فعل اللورد كرومر في مصر. (هذا النوع من الاهتمام بالمرأة برز في مقابلة جيزيل خوري مع مطلّقة ساركوزي حيث لم يحد الحديث عن السياق الاستشراقي الغربي المبتذل الذي يعتبر أن تحرير المرأة العربيّة يتحقق عندما ترتدي المرأة العربيّة آخر «صيحات الموضة» الغربيّة). ومن سيتولّى ملف «تمكين» المرأة اللبنانيّة؟ خالد ضاهر؟ المفتي الجوزو؟ أم البطريركيّة المارونيّة التي لا تتورّع عن اجترار كلام استشراقي تقليدي عن وضع المرأة في الإسلام وكأن الكنيسة أنصفتها؟ وهل يكون تمكين المرأة بدعوة صولانج الجميّل (من دون أن تكون حليقة الرأس مثلها مثل تلك النساء الفرنسيات اللواتي تعاملن مع الاحتلال النازي) إلى المنصّة الرئيسية خلال الاحتفال لتكريمها لأن لبنان يفخر بإعدادها الأطعمة اللبنانيّة لأرييل شارون في عام 1982 وما قبل؟ وهل يريد آل الحريري أن ينقلوا نموذج تمكين المرأة الوهابي، وخصوصاً أن فكر ابن باز يرشد مُرشد مُرشد سعد الحريري؟
ولم تنس الوثيقة الموقّرة مسألة البيئة، فكلّفت نقولا فتوش أن يكرّس خبرته الكسّاريّة للحفاظ على البيئة، كما أن أكرم شهيّب يستطيع أن يستعين بجماهير حزبه البيئي لهذه الغاية أيضاً. وتسلسل البنود في البيان، مع تكرار في المضامين والشعارات، بدا كمن رقّع وجمع على عجل للتوفيق بين جناح السلفيّة الإسلاميّة وجناح السلفيّة الكتائبيّة في 14 آذار. والتغريد خارج السرب من سمات المعسكريْن، ووليد جنبلاط يزهو باشتراكيّته هذه الأيام ويُهلِّل لـ«انهيار» الرأسمالية ويدعو إلى التأميم، مع أنه عضو في فريق عمل سعى منذ وصول رفيق الحريري إلى السلطة لتخصيص الماء والهواء والشاطئ والقضاء والحدود. والسعي نحو الانتخابات لا يعكس إلا جانباً من الحياة السياسية الداخليّة، لأن الصراع الإقليمي ظاهر حتى في التحضير للانتخابات. نحن في بلد كان تيري لارسن ـــــ مندوب الصهيونيّة العالميّة في مجلس الأمن والعين الصهيونيّة على الأمين العام ـــــ يبحث فيه في اللوائح والقوانين الانتخابيّة مع زعماء لبنان. نحن في مسخ وطن يُقرّر فيه مسؤول حكومي أميركي (أو سوري في حقبة سابقة) موعد الانتخابات النيابيّة ومقاييسها.
والمُعسكران سيتقابلان وقد يتفقان تحت الطاولة أو فوقها. والعدل الاجتماعي غائب عن اهتمام الفريقيْن ـــــ العداء نحو (أو تجاهل) الفقراء يجمع الخصوم ـــــ ومشروع الصلح مع العدو الإسرائيلي سيفرضه على لبنان التحالف الأميركي ـــــ السعودي ـــــ الإسرائيلي وبرضى سوري، وخصوصاً أن بشار الأسد عبر عن عزمه على جرّ حزب الله وحماس إلى مفاوضاته مع إسرائيل. وهناك مُلصق من عام 1977 للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين يقول: «السادات يخون الوطن: أنت مطالب بالردّ». ويمكن القول اليوم: إن صلحاً مع العدو سيُفرض على لبنان: أنت مطالب بالردّ.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)


عدد السبت ٢١ آذار ٢٠٠٩


الجمعة، ٢٠ آذار ٢٠٠٩

جمل 3

حين يحيون العظام فانهم يلقون على مشارف الأرض ناراً ويمزجون كأس المرارة مع دموع الأمهات. عل وعسى ينتهي الظلام يوماً وتشرق شمس الأمل في وديان بلادي

الخميس، ١٩ آذار ٢٠٠٩

كافكا الرسائل رولفو وساسكند وهذه الأزمنة

كافكا الرسائل رولفو وساسكند وهذه الأزمنة <
>ربيع جابر الحياة - 17/03/09


رولفو مات. لكن ساسكند حيّ. أين يقضي ساسكند أيامه؟ حتى لو كان مقيماً في ميونيخ لا نعرف أين مكانه: في أي عالم خيالي أضاع نفسه؟ لماذا كفّ عن تأليف الروايات ونشرها؟ كيف يستطيع كاتب حقيقي (وساسكند كاتب حقيقي) أن يتوقف عن الكتابة؟ ألا يفقع قلبه؟ ألا يحطّمه الوقت (فراغ الوقت)؟ رولفو – من قبل – فعل ذلك. لم ينشر غير «بيدرو بارامو» ومجموعة قصص («السهب الملتهب») ثم انصرف الى صمته. كان يقول انه يكتب رواية أخرى («سلسلة الجبال») لكنه يفعل ذلك متمهلاً. مرّت العقود وغادر العالم ولم ينشر الرواية. كان يكتب؟ كان ساكتاً عن الكتابة؟ كيف تحمل ذلك الصمت اللانهائي؟

رولفو كاتب حقيقي. إذا قرأت «بيدرو بارامو» مرة واحدة تدرك ذلك. إذا قرأتها مرتين أنت مهدد: قد تدمنها كما فعل غابرييل غارسيا ماركيز (أسماء كثيرة تعبر من كومالا – قرية رولفو – الى ماكوندو. ملكيادس مثلٌ واحد).

سر واحد يجمع الاثنين: المخيلة. صحيح أن الأدب كله هذا سرّه، لكن في حال رولفو أو ساسكند يبدو ذلك باهر الوضوح. الاثنان يملكان مخيلة استثنائية. صمدت «بيدرو بارامو» أمام امتحان الزمن (اكثر من نصف قرن مرّ عليها). ولا ندري هل تصمد «عطر» و «حمامة»، وهاتان من ثمانينات القرن العشرين. الوقت هو الفحص، ومرات قد لا يُعطى الكاتب النتيجة. أحياناً كثيرة يقضي قبل ذلك، ولعل هذا ضروري للحصول على حكم نزيه.

نعثر على سلف للإثنين في كافكا. ليس كافكا الروايات (وكلها غير مكتملة وكلها كانت تضيع لولا تدخل ماكس برود)، بل كافكا الرسائل واليوميات والقصص القصيرة. لعل كافكا الحقيقي (الكاتب الحقيقي) موجود هناك: ليس في الروايات غير المكتملة ولكن في الرسائل واليوميات والقصص. علينا التفكير في الصدفة الغريبة: لماذا لم تكتمل رواياته؟ لماذا لم يكملها الى السطر الأخير والنقطة الأخيرة؟

فقط أكمل «التحول» (أو «المسخ»). وهذه أقرب الى قصة طويلة (ماركيز قال انه عرف قدره وهو يقرأ جملتها الأولى). لم يكمل كافكا «المحاكمة» ولا «القلعة» («القصر»). الروايات غير المكتملة أعطته الشهرة في القرن العشرين المجنون. فجأة، بين ليلة وضحاها، تطابق العالم الواقعي مع كوابيسه. لكن كوابيس كافكا الأشد فتنة واكتمالاً (أدبياً أيضاً) موجودة في يومياته وقصصه القصيرة ورسائله. «سور الصين العظيم» مثل واحد (مكتبة بابل» لبورخيس من هنا خرجت). «مستعمرة العقاب» و «طبيب الأرياف» و «تقرير الى الأكاديمية» قصص غريبة الخيال وواقعية مثل حياتنا. في رسائله من مصحات المسلولين حيث قضى السنوات الأخيرة من حياته لا يشبه كافكا إلا نفسه. انخفض وزنه من 65 كيلوغراماً الى 49 كيلوغراماً. في هذه الظروف، بينما السلّ يلتهم حنجرته، كتب «المغنية جوزفين»: الفأرة التي تغني للحشود. كانيتي الذي يعرف كافكا وكتب عن رسائله يعرف أيضاً السرّ الذي يدفع بعض الكتّاب الى المكان البعيد. أين هو ذلك المكان البعيد؟

لماذا يختار الكاتب (الفرد) بين حين وآخرٍ أن يبتعد عن العالم (الجماعة)؟ أليس هذا انتحاراً وقتلاً للأدب؟ كسينغيان خاف ان يتنسك فيفقد لذة الأدب وصحبة البشر، نار المطبخ ونار الحديث. تولستوي في المقابل خاف (على الأقل في سنواته الأخيرة) أن يصرفه العالم البشري عن سلامه الداخلي. كافكا وجد عالماً في رأسه. باكراً كتب الى صديق الدراسة أنه أمام خيارين: إما يكتب ما في رأسه أو يتصدع.

قيمة كافكا هوسه بالكتابة وخياله الذي يغذي هذا الهوس. في أسوأ الأوقات (الحرب الكبرى مثلاً) كانت طاقته تتدفق ويكتب أجمل ما فيه. سكت رولفو. وساسكند ساكت. وكافكا مات. لعل ساسكند يقع في النسيان بعد سنين. من يعلم هذه الأشياء؟ لعلنا بعد قرن ننسى كافكا أيضاً! هوميروس ما زلنا نقرأه. تولستوي أيضاً. لكن هل نقرأ تولستوي بعد ألف سنة؟ هل يقرأه أحفاد الأحفاد؟ في هذه الأزمنة لا أحد يفهم شيئاً. نركض وراء كتب قد تختفي بعد أسابيع. ولعلنا لا نفعل إلا ما يفعله الجميع: نغرق في التفاهة.

هل نجد في هذه النقطة سرّ اعتزال رولفو، وسكوت ساسكند؟ هل هرب الاثنان من الحشود؟ الأدباء أيضاً حشد، لا؟ يريد الكاتب أن يكون نفسه. وإذا هدّد المحبّون هويته – فرادته – فأين النجاة، أين الخلاص؟ هل عجز رولفو عن العثور على التوازن المنشود؟ كافكا دمّره السل،ّ لكنه قال إنه بنفسه استدعى المرض القاتل: وهو يسهر الليل!

كافكا الرسائل دليلنا الى فرد يصارع كي يكون هو: بينما يفعل ذلك أعطانا عالماً.

جمل 2

أنشودةٌ لإنحناءات الخريف على أمسيات العودة والشوق..... وهو اسم الليل على أوراق الاقحوان

الأربعاء، ١٨ آذار ٢٠٠٩

جمل 1

الليل وقد أرسى خمائله في ثنايا النهار

السبت، ١٤ آذار ٢٠٠٩

حــــــــــــرّاق


حــــــــــــرّاق

أنسي الحاج

■ اشربْ

أتعرفُ النساءُ مقدارَ رغبةِ الرجالِ فيهنّ، ويتمنّعنَ تأجيجاً للشوق، أم يجهلن، حارماتٍ الطبيعة تناغماتٍ لا تُعوّض؟ أيدرينَ مقدارَ الفراغ الحرّاق الذي تشعر به الأحضان غير المُشْبَعَة، السواعدُ غير المُشْبَعَة، المسافات غير المعبورة؟ الطبيعة تبكي من فراغٍ كهذا. المدن تنهار قلوبُها. العالم يتقلّص.
أكرهُ يوم المرأة العالمي. كل امرأةٍ تشعر بنظرات الرجال عليها، لا بد أن تكره هذا اليوم. الشجرة أيضاً تكره يومها الرسمي. والطفل، والعامل، والأرض، والمقاومة. جميع الأيام المستفردة أيام محنّطة. مصمودة كمومياء. أعيادٌ هي في الحقيقة مآتم. المفروض مرفوض. المرأةُ عَصَبُ كلِّ لحظة، لا ذكرى يوم في السنة. ولا لزوم للإيضاح أن المقصود بالمرأة، دائماً ودون التباس، هو المُشتهاة. أمّا كيف تكون هكذا دائماً ودون التباس، فهذا شأنها وواجبها، وعلى الآخرين شرفُ الشهوةِ أو بؤس غيابها. هذا هو حكم المقادير، ولا عبرةَ بالاستثناءات. لا يُحْلَمُ بغير السحر. الفتنةُ واجب الحياة تجاه ضحاياها البشر. اسألِ الأولاد، الذين تخفق عيونهم للعَجَب أكثر ممّا تخفق قلوبهم. اسأل روّاد السينما، الذين يلعنون لحظة انتهاء الفيلم لأنّها تقطع عليهم تلك الرعشات. اسأل المنخطفين، كيف يستيقظون من انخطافاتهم كتَدَحْرُج المتسلّق من أعلى الجبل.
لا أحدَ يعود من لمسة السحر عودة الابن الشاطر، فكلُّ العائدين تنخلع روحهم.
مَن يَصنع لنا فراغاتنا هو نحن. ولكنْ كيف كنّا سننجو لولا فراغاتنا؟
■ ■ ■
أتذكّرُ ما كتبت، ما أكتب، وأقول إن ثمّة ظواهرَ استعراضية، إكزيبيسيونيّة، لدى بعض الكُتّاب، وأنا منهم، يجب التغلّب عليها باسم الذوق إن لم يكن لأجل الترفّع. قد يُعْتَرَض: وماذا يتبقّى للكاتب إذا قمعنا فيه الذات؟ على أنه سؤال سفسطائي. لا الكاتب عنصر لازم ولا الكتابة مخنوقة في هذا الخندق دون سواه. لينظر الكاتب إلى العالم حواليه، من أصغره إلى أكبره، وإلى مشاكل الآخرين، إلى مباهجهم وهمومهم، وإلى ما وراء. ولينم على شؤونه فليس القارئ ممرّضاً ولا القارئةُ أُمّاً. بالكاد مَن يَقرأ يقرأ، فلا نُندّمه.
■ ■ ■
... يُجاب على ذلك، في جملة ما يُجاب، أنه إذا كانت المطالعة هرباً من الذات، فالكتابة إبحارٌ في الذات. على الأقلّ الكتابة الوجدانيّة.
يُجاب على الإجابة: كلُّ الكتاباتِ مشروعة ومُشرعة على مختلف أنواع العيون، شرطَ أن تقيم حواراً أو يجري التيّار بينها وبين القارئ.
إلى آخره ممّا لا يُغني عن البرهان.
■ ■ ■
... دعنا من المراجعات، انظر إلى هؤلاء المحجّبات في الطريق، إلى التباين المثير بين النقاب والغنج، بين التستُّرِ وما يوحيه، انظر إلى الوجه المنوَّرِ تحت الحجاب، إلى ألوان الحُجُب بين أصفر وفيروزي، إلى هذا المغناطيس الذي يقول لك: هذا أنا وهذا أنت، أيُّنا سيكون أقوى؟ انظرْ إلى ما تقوله قسماتٌ تُكذّب الكلمات، إلى المصابيح المغطّاةِ بمصابيح، إلى الفضيلة الأكثر إغراءً من أيِّ صراخ.
دع عنكَ لومي. كلُّ شيءٍ حَرّاقٌ من بعيد.
ومن وَسَط.
ومن قريب.
دع عنكَ أيّامكَ واشرب كأسَ عينيكَ حتّى النوم.

■ الحرف اللاتيني

كُتّاب العربيّة أجرهم عظيم، أولاً لأن أخويّة صغيرة من الأصدقاء يقرأونهم، وثانياً لأنهم يكتبون بلغة يكرهها الغرب، والغرب يمتلك مفاتيح العالميّة والإدخال إلى «الحضارة الحيّة». الحرف اللاتيني هو السرّ. لسنا وحدنا منبوذين، بل جميعُ الذين يكتبون بغير الحرف اللاتيني، واللغات المنبوذة هذه تُعدُّ بالمئات.
لا يزال الغرب، بعدما تحوّلت الكرة الأرضيّة شققاً مفتوحة بعضها على بعض، إذا أراد «إنعاش» ثقافة ما، صينية أو هندية أو عربية، ينقل إلى لغاته ما ينتخبه منها، كما يفعل السائح بكاميرا الذكريات. يبدأ الغرب بالإنارة ثم ينتقل إلى التلقُّحِ فالمصادرة.
يُكرّهكَ بتراثك ثم «يعيد اكتشافه» ثم يسطو عليه. وأنت المتفرّج العاجز، مطوَّحُ به كالبهلول، أو، في ردّة فعلٍ سلبية، متعصّب متزمّت معقَّد مثل قضيب الزعرور.
لا يزال السرّ في الحرف اللاتيني، إلى أن تدركه لعنةُ التآكل.
أمنيةٌ من صميم الحسد.

■ غابةٌ وراء غابة

«اذهبْ ولا تلتفت
ولا تتركْ وراءك عنوانك
اذهب ولا تأسف على الجذور
لأنّ الجذور تهاجر معك.
اذهب على دروب حبّك
حيثما تقودك الريح
ولا تَخَفْ فالنهر صاحبك
والأغصان المتشابكة فوقه
ستحميك من الشمس.
اذهبْ قبل فجر الصيّادين
والحبيبةُ الهاربة معك
أجمل من دموع حرمانها القديم
تَفْتح لك الغابة وراء الغابة
وتهبط معك
شلاّل الضباب والنجوم...».

■ لمحة

لا يحقّ للمنتصر أن ينغلب حتّى لا يشقى المغلوب. الصورة، سيّدتي. لا تكسري صُوَرَكِ في عينَيْ هذا الرجل، هذا الشقيّ بدون صُوَرك.
الفرق بين العلى والأسفل لمحةُ بَصَر. وهذا التوهّم طقسٌ مقدَّس بخارُهُ بخور وسرابه لحمٌ حيّ.
النظرات، سيّدتي. عندما تتوارين عن النظر يحلّ ضوءُ الغياب، فوّار الأقمار.
ثابري على هذا التعرّي المتكتّم، ماءُ العيونِ الجائعةِ يغسل أعتابَ بيتك.
لا نكتب إلاّ عمّا نُحبّ. لا نُحبّ إلاّ ما يُفحم الكتابة. نارُ العيون الجائعة تحرق أصحابها فيصيرون أحلاماً بلا رماد.
وأنتِ أيّتها الغيوم اركضي، لن تركضي أسرع من أجنحة الرغبة. ولا الرقاد، أيّاً يكن، يستطيع إخفاءك أيّتها النظرات.
الفرقُ بين الشقاء والهناء، سيّدتي، لمحةُ بصر.



عابـــرات

روحُ المرءِ قضيّةٌ عظيمة دون شك، وعالمه الداخلي لا يزال غابةً شبهَ عذراء رغم سابري الأغوار... ومع هذا فأن القشرةُ الخارجيّة، الجسد وتفاصيله، تُرجّحُ الكفّة عند الاختيار.
لعلّ الروح مجرّد فانوسٍ يضيءُ من داخل، فإذا كان الخارجُ جميلاً زاد عليه، وإن كان دميماً لم يستر عليه. وما الحديث عن روحٍ جميلة تعوّضُ عن نقص الشكل الجميل إلاّ من باب تعازي المثقّفين.
■ ■ ■
ممارسةُ الكتابة كفعلِ انتحار معلَّق، أسلوبٌ مؤثر في مجتمعٍ يقيم وزناً للحياة، وأسلوبٌ فاشلٌ في مجتمعات التوحُّش. نحن مجتمعٌ متوحّش طيّب القلب سطحيّاً.
■ ■ ■
ما كان الأنبياءُ يدعون إلى التواضع لو لم يتمتّعوا بالسلطة. وما كانت الجموعُ توالي زعماءها لو لم يمعن هؤلاء في التسلُّط. الإنسانُ يَعْبد مَن يَكْسره، ويظنّ العكس.
■ ■ ■
آخر الشوطِ تنهيدة، لو تجاوزها الإنسانُ لثقَبَ أيَّ جدارٍ كان.
■ ■ ■
للماضي في كلِّ حاضرٍ قرص، وللحاضر في كلِّ مستقبلٍ طعمُ رماد.


عدد السبت ١٤ آذار ٢٠٠٩

النفط العربي: لو يَنْـضب


النفط العربي: لو يَنْـضب

عبد الرحمن منيف صاحب «مدن الملح» (أرشيف)عبد الرحمن منيف صاحب «مدن الملح» (أرشيف)لوثة النفط ماذا جلبت للإنسان العربي؟ ماذا يمكن أن نقول عن المليارات المُكدّسة التي ذهبت إما لدعم المصارف والشركات الغربيّة المعادية لمصالحنا، وإما لشراء أسلحة كي تستخدمها أميركا لدعم تلك الأنظمة الخانعة، أو من أجل تطويع من يرفع الصوت في وجه إسرائيل. هل هناك منّا من سيشتاق للنفط العربي ومفاعيله السياسيّة، لو نضب النفط؟

أسعد أبو خليل*
لو نضب النفط العربي لتغيّر الكثير الكثير في عالمنا العربي. لو نضب النفط، لما تقاطرت جموع الرجال زرافاتٍ زرافات إلى مهرجان الجنادريّة الفاقع الذكوريّة مُسبغين المديح والألقاب على ملك يصعب عليه النطق العربي السليم. لو نضب النفط، لما كان الداعية القومي العربي، معن بشّور، ليتجشّم عناء السفر كي يساهم في تعظيم حكمٍ امتهن محاربة القوميّة وتعزيز القطريّة والعشائريّة والقبليّة والشلليّة. لو نضب النفط، لما حضر مهرجان الجنادريّة إلا عبد الله وبنوه ـــــ مُرغمين. لو نضب النفط، لتحوّلت هيئة كبار العلماء في المملكة إلى أضحوكة تلفزيونيّة ومدعاة للتشنيع وهدفاً لأدعياء التنوير الحقيقي ـــــ لا التنويريّين الزائفين القابعين في حاشية هذا الأمير وذاك. لو نضب النفط العربي لتكرّست خطب الجوامع الشيعيّة والسنيّة على حدّ سواء للتنديد بعقيدة التزمّت والتعصّب والانغلاق وعداء المرأة الآتية من السعودية بمال وفير. لو نضب النفط، لما استطاع المتطرّفون الظلاميّون ان ينطقوا باسم الإسلام أبداً وأن يقمعوا الحلم والتسامح والإخاء البشري (الصحيح). لو نضب، لعاد إلى مكّة والمدينة رونقهما وبريقهما التاريخي ولعاد إليهما الجدل والنقاش والمناظرة. لعاد الشعر والنثر بكل أنواعهما إلى مواسم الحج كما كان الأمر قبل إطلالة محمد بن عبد الوهاب. لو نضب النفط، لنطق رجال الدين بالحق ولدانوا عقائد التعصّب المدعومة بمال النفط. لو نضب النفط العربي، لما تحدّثنا إطلاقاً عن الحقبة السعوديّة ـــــ الأولى أو الثانية، ولما اعتمدت سياسات الغرب المُستعمِر على حكم آل سعود. لتغيّر الكثير في العالم العربي، ولتوقّف الإعلام عن مناداة ملك السعوديّة بلقب «خادم الحرمين». خادم الحرميْن؟ ومن قال ذلك وبأي حق؟ وكيف يخدم الحرميْن؟ وماذا عن خدماته للمصالح الأميركيّة والإسرائيليّة؟ ألا تستحق لقباً خاصاً هي أيضاً؟ لو نضب النفط، لأطلقوا على ملك السعوديّة صفة خادم التمور والعطور ـــــ لا أكثر، هذا إذا استمرّت الملكيّة التي لا تعتاش إلا على عائدات النفط. لو نضب النفط العربي، لقادت نساء السعوديّة السيارات والحافلات والعربات سافرات أو مُحجّبات أو مُنقّبات ـــــ إن أردنا. لو نضب النفط، لخرجت نساء السعودية من سجونهن الزوجيّة إلى رحاب المجتمع والحريّة.
لو نضب النفط العربي، لما كان تاريخنا المعاصر كما هو. لو نضب النفط باكراً، لما انغمس الجيش المصري وأُنهك في حرب اليمن المُدمّرة. لو نضب النفط باكراً، لكانت المشيخات والإمارات والسلطنات والممالك المرسومة بقلم المُستعمِر جمهوريّات. لو نضب النفط، لما تلوّثت الثورة الفلسطينيّة بكل تنظيماتها بمال النفط، ولما استطاع ياسر عرفات وأبو السعيد أن يفرضا منطق أنظمة الخليج العربي الرجعي على الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وفق رؤية كل الإدارات الأميركيّة المتعاقبة. لو نضب النفط العربي، لأشعل ثوار العرب في الستينيات المنطقة العربيّة وجعلوها تميد تحت أقدام الفدائيّين ـــــ لا المُنتفعين المُتكسِّبين. لو نضب النفط، لانتصرت ثورة ظفار وأقامت حكماً أقل تسلّطاً من حكم قابوس أو والده الذي حكم على طريقة الحاكم بأمر الله (وبتلك الغرابة في الأطوار، كما كتب عنها فريد هاليداي في كتابه القيِّم «الجزيرة من دون سلاطين»). لو نضب النفط، لانتعش النظام الماركسي في جنوب اليمن وعمّ أنحاء الجزيرة ونشر فكر التقدّم والتحرّر.
لو نضب النفط العربي اليوم أو غداً، فسيتغيّر الكثير في عالمنا العربي ويظهر النفاق على حقيقته. لو نضب النفط، لتوقّف شاكر النابلسي عن مديح شعر خالد الفيصل ولتوقّف جهاد فاضل عن مديح شعر عبد العزيز الخوجة ولتوقّف سمير عطا الله عن مديح الأمير مُقرن بن عبد العزيز ولتوقّف جهاد الخازن عن تقريظ كل أمير عربي يمرّ في لندن أو نيويورك. لو نضب النفط، لما غنّت أم كلثوم لعبد الله الفيصل، ولما غنى آخرون شعر مانع سعيد العتيبة. لو نضب النفط، لما أجاز العالم العربي للوليد بن طلال ـــــ المُستثمر في شركة «نيوز كور» التي تملك شبكة «فوكس نيوز» المُتخصِّصة في كراهية العرب والإسلام ـــــ أن يُقرِّر عنا الذوق الفني والموسيقي. لو نضب النفط، لزال من إعلامنا الابتذال السوقي المُهين للمرأة والتعصّب الديني الوهّابي. لو نضب النفط العربي، لانكشف الإعلام العربي وتوقّف التمويل عن «الفيديو كليب» الرخيص والسخيف. لو نضب النفط ـــــ من يدري؟ لكتب سمير عطا الله مذكرات عن مساوئ أمراء آل سعود وفضائحهم.
لو نضب النفط العربي، لتكشّفت الليبراليّة العربيّة. لو نضب النفط، لطلع الليبراليّون العرب يصرخون مهتاجين داعين إلى إسقاط أنظمة الخليج برمّتها. لو نضب النفط، لقال الليبراليّون (والليبراليّات) إن العائق الأكبر أمام حريّة الفرد استمرار أنظمة القهر النفطيّة، وخصوصاً في السعودية. لو نضب النفط، لقال هؤلاء آراءهم صراحة ولامتلأت الصحف العربيّة بأخبار صفقات أولاد سلطان بن عبد العزيز ورشاواهم التي تملأ الصحف الغربيّة. لو نضب النفط، لقال الكتّاب اللبنانيّون آراءهم صراحة في «محاضرات» خالد بن سلطان في الكليّات العسكريّة ـــــ هذا الذي سخر منه كل من تعامل معه في حرب الخليج الأولى، والذي استأجر خدمات باتريك سيل ليكتب له سيرته، كما كتب سيرة ـــــ غير نقديّة ـــــ لحافظ الأسد. لو نضب النفط، لكتب ليبراليّو العرب مجلّدات عن وسائل تعذيب الأمير نايف بن عبد العزيز، ولكُتب الكثير عن مجون الملك فهد. لو نضب النفط، لاختفى التملّق الذي يهطل من أقلام الصحافة اللبنانيّة. لو نضب النفط، فهل كان إبراهيم العريس يقول إن مبادرة عبد الله بن عبد العزيز في حوار شمعون بيريز أعظم مبادرة في «تاريخ البشريّة»؟ لو نضب النفط، فهل كان هناك من يوافق على «مبادرة الأمير عبد الله» الذي تسلّمها من توماس فريدمان الصهيوني؟ صهيوني يؤلّف مبادرة للعرب، ويتبنّاها ملك عربي ويفرضها على كل أنظمة العرب! لو نضب النفط لهتف الجمع الصحافي العربي بضرورة إسقاط أنظمة من مخلّفات استعمار الغرب وبعلائم من القرون الوسطى. لو نضب النفط العربي، لاكتشف ليبراليّو الوهابيّة أن التسلّط في الحكم هو سمة لكل الأنظمة العربيّة وليس فقط في ليبيا والسودان وسوريا ـــــ أي خصوم آل سعود وحدهم. لو نضب النفط، لوقع حازم صاغية في حيرة من أمره، وهو الذي نظّر أخيراً لنسق وهّابي من الديموقراطيّة قائلاً إن الانتخابات الحرّة ليست ضروريّة إذا أنتجت أعداءً لإسرائيل وآل سعود. لو نضب النفط، للاحظ ليبراليّو الوهابيّة وكَتَبة التملّق أن رجم العشاق وقطع الرؤوس لا يتفقان مع الحريّات الفرديّة وحقوق الإنسان.
لو نضب النفط العربي، لظهرت مواهب سعوديّة في الموسيقى والرقص ـــــ وهو غير رقصة العرضة الذكوريّة ـــــ والسينما والمسرح. لو نضب النفط، لظهر المرح في السعودية ورأس الخيمة وعمان، ولملأت الزينة عجمان والفجيرة.
لو نضب النفط، لتغيّرت سياسات الدول الغربيّة قاطبة ولعُقدت الندوات وجلسات الاستماع في الكونغرس للنظر في وضع حقوق الإنسان الزريّة في المملكة. لو نضب النفط، لخلت بنوك الغرب من ثروات العرب التي تمدّ بعض الاقتصادات بالدعم للاستمرار في مدّ إسرائيل بالسلاح والمال لتقتل أطفالنا ونساءنا وشيوخنا. لو نضب النفط، لما رقص بوش وشيراك مع شيوخ النفط. لو نضب النفط، الملك عبد الله في مهرجان الجنادريّة... (أ ب)الملك عبد الله في مهرجان الجنادريّة... (أ ب)لما دُبّجت قصائد في مديح التمر والقيظ، ولما وُضعت خطط للاستيلاء على كثبان الرمل في الجزيرة. لو نضب النفط العربي، لعقد مجلس الأمن جلسات خاصة للنظر في طبيعة النظام الظالم في السعودية، ولقرّرت المحكمة الجنائيّة الدوليّة جرّ ملوك آل سعود إلى المحكمة بتهم قهر الرجال والنساء والأطفال. لو نضب النفط، لنظرت منظمات حقوق الإنسان في أمر العبيد والجواري في قصور آل سعود وآل شخبوط. لو نضب النفط، لما رأينا تقاطر رجال أعمال ومثقفين وصحافيّين من الشرق والغرب للتبرّك من أمراء النفط.
لو نضب النفط العربي، لتحوّلت الوهابية إلى فرقة صغيرة من الفرق المتزمّتة على هامش الدين ـــــ كل دين. لو نضب النفط لتطوّر الاجتهاد (الذي لم يُغلق بابه إطلاقاً عند السنّة كما أظهر وائل حلاّق في دراساته التاريخية الرصينة) وتيسّر أمر المؤمنين والمؤمنات. لو نضب النفط لما زخرت المجلّات بصور البذخ البذيء لأمراء الخليج، ولزال الطلب على الطلاء بالذهب. لو نضب النفط العربي، لما كان في وسع مؤسّسة القذافي أن تُعلن عن نفسها، ...والوليد بن طلال (أرشيف ــ أ ف ب)...والوليد بن طلال (أرشيف ــ أ ف ب)ولكان «الكتاب الأخضر» مغناطيساً للغبار ـــــ فقط. لو نضب النفط العربي لما أشاد أحد بحكمة ملك السعوديّة ولما نال جلالته جوائز من المتملّقين شرقاً وغرباً. لو نضب النفط العربي لكان نفوذ آل سعود وآل شخبوط يوازي نفوذ حكومة جيبوتي ـــــ أو أقل. لو نضب النفط، لما توقّف أي من المسؤولين الغربيّين في الرياض أثناء رحلاتهم المكّوكيّة. لو نضب النفط، لرفضت المؤسّسات والمنتديات الدوليّة قبول عضويّة السعودية لخروقها الفظيعة لحقوق الإنسان. لظهرت صور أمراء آل سعود في قوائم المطلوبين ـــــ لو نضب النفط.
ولو نضب النفط العربي لتنشقت نساء العرب نسيم الحريّة ولتخلّصنَ من فتاوى القهر والظلم والجوْر. لمشت نساء العرب من دون خوف أو وجل ولما تجرّأت شرطة الأمر بالمعروف على مضايقتهن في الشوارع والساحات. لو نضب النفط لما اعتُبر العشق والغزل حراماً، ولما رُجم العشّاق أبداً. لو نضب النفط، لمشت المرأة يداً بيد مع الرجل، لا خلفه مطأطئة رأسها. لو نضب النفط، لسُمح للمرأة بالسفر حرّة دون إذن من رجل، مهما كانت صلته بالمرأة المعنيّة. لزالت بذور الفتنة التي تموِّلها أموال النفط. لو نضب النفط، لما تقاطر رجال لبنان ونساؤه إلى دول النفط للمنافسة في التملّق المُهين. لو نضب النفط، لما صدرت كل تلك الكتب في مديح الشعر النبطي ولما هرع المسؤولون في الدول العربيّة إلى المطار كلما وفد أمير من السعوديّة ـــــ مهما صغرت سنّه. لو نضب النفط، لما أدار الأمير سلطان بن فهد نادياً رياضيّاً واحداً ولما تبوّأ «عزوز» ـــــ المُرشد الروحي لسعد الحريري ـــــ منصباً حكوميّاً واحداً هذا الذي عانى هوساً بالممثّلة «ياسمين بليث» الأميركيّة على ما تروي هي ساخرة منه. لو نضب النفط لما استفاض رجال أعمال غربيّون وشرقيّون في الثناء على حكمة أولاد راشد وأولاد زايد. لو نضب النفط، لما سعى أحد وراء جوائز مُسمّاة على أسماء شيوخ النفط الذين لا علاقة لهم بالمعرفة والعلم.
ولو نضب النفط العربي، لتشكل النظام العربي على أسس جديدة ولما كانت الانتخابات على قلّتها في عالمنا مُتأثّرة إلى هذا الحدّ بمال النفط. لو نضب النفط العربي، لما وجد محمد دحلان فرص الـ«بيزنس» في دولة الإمارات وفي مونتغري. لو نضب النفط، لكانت الجامعة العربيّة غير أسيرة لأهواء شيوخ الزيت الأسود وملوكه. لو نضب النفط لما كانت الولايات المتحدّة قادرة على هذا الإنفاق الهائل ضد الشيوعية والتنوير هناك في السبعينيات والثمانينيات، ولما كان الأمير تركي قد أنشأ جيشاً عالميّاً من المتعصّبين المتطرّفين. لو نضب النفط، لكان الأزهر مُعبّراً عن التنوّع واليسر في الدين، لا عن التزمت والشعوذة والارتهان السياسي، ولما كان شيخ الأزهر قد كرّم شمعون بيريز. لو نضب النفط، لما أشادت ستريدا جعجع بـ«حكمة» أمير الكويت و«عمقه»، وهو الذي تعامل مع غزو العراق للكويت بالدموع والصراخ. لو نضب النفط العربي، لكان كتاب «مدن الملح» مُقرّراً في كل المناهج في الدول العربيّة ولتعلّم طلاب العرب عن عبد الرحمن منيف. لو نضب النفط العربي، لتحوّلت قضيّة اختطاف ناصر السعيد وقتله إلى قضيّة عالميّة مثل قضيّة اختطاف المهدي بن بركة. لو نضب النفط، لانتفت تلك الألقاب مثل سلطان وملك وشيخ وأمير وولي عهد وخادم الحرمين من قاموس المخاطبة.
لو نضب النفط العربي، لما تحوّلت منظمة «أوبك» إلى أداة لخدمة المصالح الاقتصاديّة والسياسيّة للغرب المُستعمِر. لما فختوا آذاننا بحديث «سلاح النفط» الذي لم يكن يوماً إلا أداة بيد الولايات المتحدّة تستعملها في خدمة إسرائيل. «سلاح النفط»؟ تلك الكذبة عن أيام من إعلان مطنطن عام 1973 فيما كانت أنظمة النفط تبيع في الأسواق الفوريّة ما تحتاج إليه أميركا وحلفاؤها. لو نضب النفط، لتشكّلت لجنة عربيّة من المثقفين والكتاب والصحافيّين لمقارعة خطر التعصّب والتزمّت الوهّابي.
لو نضب النفط العربي لنمت أفكار العلمانيّة وتطوّرت وانتشرت. لو نضب النفط، لتحقّقت ثورات وحركات يساريّة ونقابيّة. لو نضب النفط، لتحرّر العمّال الآسيويّون في دول الخليج. لو نضب النفط، لاختفت الساعات الذهبيّة والماسيّة عن معاصم الكثير من الصحافيّين اللبنانيّين. لو نضب النفط، لزادت معرفة الطلاب العرب في العلوم والإنسانيّات والفنون. لو نضب النفط، لدرسنا كتابات ابن تيميّة وابن قيم الجوزيّة على حقيقتها من دون «تكرير» وهّابي. لو نضب النفط العربي، لتحوّلت الصحافة العربيّة إلى وسائل إعلام أكثر حريّة وخالية من أخبار الأمراء والملوك وعبقريّاتهم. لو نضب النفط، لاختفى الإعلام «العربي» من لندن وعاد إلى بلاده جارّاً أذيال الخيبة. لو نضب النفط العربي لتحرّرت الفضائيّات العربيّة من سيطرة آل سعود التي تفرض إما سوقيّة إباحيّة مُسلِّعة للمرأة أو تعصّباً دينيّاً.
لو نضب النفط العربي، لتذكّر الإعلام العربي والثقافة العربيّة الفقراء في منطقتنا، ولكانت أخبارهم ومعاناتهم تملأ الأسماع والمكان. لكنّا نتنافس في تقديم برامج الرعاية الاجتماعية ومحاربة الفقر، ولما كان الانضمام إلى منظمة التجارة العالميّة هدفاً يفوق في أولويّته تحرير فلسطين. لو نضب النفط العربي لأعدنا تكوين الثقافة والسياسة في العالم العربي، وزالت «ثقافة النفط» التي روّجت لعبادة الرجل الأوروبي الأبيض ولتسليع النساء وللتجارة بالبنات والغلمان وللتراتبيّة الطبقيّة ولاحتقار الفقراء والمساكين ولتعظيم تعدّد الزوجات ولفرض المنع والحظر والقيود على الناس وإباحتها للأسر الحاكمة ولخدمة الاستعمار الغربي ولمنع النقاش والمناظرة ولتضييق الحدود في التفسير والتعليم. لو نضب النفط العربي، لانتعش النشاط الفني في كل أرجاء العالم العربي ولزال الكثير من الممنوعات. لو نضب النفط العربي، لانقرضت مفاهيم الوراثة في المناصب والحكم بناءً على روابط الدم. لو نضب النفط، لزالت الحدود والجدران بين الكثير من المشيخات والإمارات النفطيّة.
لو نضب النفط العربي فماذا سيحلّ بالكثير من النوادي والمواخير والملاهي في الغرب التي لم يكن لها أن تستمرّ في العمل لسنوات ولعقود لولا المال النفطي العربي. وهل كان نادي «البلاي بوي» في لندن إلا ملعباً لشيوخ النفط العربي وأمرائه، إلى درجة أنه عيّن عربيّاً (لبنانيّاً طبعاً) للإشراف على (والتخصّص في) شأن الملذّات الملكيّة العربيّة ـــــ وكان هذا الرجل موضع احترام وتقدير في الصحافة العربية في السبعينيات. لو نضب النفط العربي، لأفلس الكثير من شبكات الرقيق الأبيض في الجنوب الفرنسي التي يشرف على بعضها بمهارة لبنانيّون يفخر بهم وطنهم الأخضر.
لكن لو نضب النفط العربي، فإلى أين سيحجّ ساسة لبنان؟ وماذا سيفعل ورثة الحريري؟ هل سيتحرّرون في القرار أم يلتزمون أوامر سلطان وسلمان وتوابعهما؟ إلى من سيتملّق ابن الفقيه إبراهيم شمس الدين، ومن سيموّل حملات قائد الشيعة الجنوبيّين من الحازميّة، أحمد الأسعد؟ لو نضب النفط العربي فهل كان مفتي صور المطرود علي الأمين، سيذهب ليخطب في الثقافة في مهرجان الجنادريّة؟ لو نضب النفط العربي لما استمرّت مجلة «الحوادث» بعد عام سبعين على الأرجح. ولو نضب النفط، فهل سيجد طارق الحميد من ينشر له منمنماته الفكريّة؟ ولو نضب النفط، فإلى من سيوجّه فؤاد عبد الباسط السنيورة ابتهالاته مثل تلك التي نشرها له العدد الخاص من «تاريخ العرب والعالم» عن الملك السعودي؟ ولو نضب النفط، فهل يجد منير الحافي من ينشر له تملّقه للسفير السعودي، أو ينشر له مجلّده الفخم عن الدور السعودي في لبنان؟ ولو نضب النفط، فمن «سيعيّن» ياسر عبد ربّه ومن سيفتح له المنابر لخدمة المخطّط الأميركي ـــــ السعودي ـــــ الإسرائيلي؟ ولو نضب النفط، فمن سيعطي الأوامر لكتّاب الصحافة العربيّة حول العالم، وخصوصاً اللبنانيّين؟ ولو نضب النفط، فماذا سيحلّ بفؤاد مطر ـــــ هذا الذي بدأ بوقاً ناصريّاً ثم تحوّل إلى بوق صدّامي تكرّس في تلك السيرة لصدّام التي كتبها، ثم عاد وتحوّل إلى بوق سعودي وهابي نشيط؟ مسكين فؤاد مطر، لو نضب النفط.
ولو نضب النفط العربي، فهل كان فنانو العالم العربي وفناناته سيسعون بهذا الجدّ للترفيه عن أمراء النفط وشيوخه في حفلات خاصّة لا يدعى إليها الإعلام؟
يحق لنا أن نحلم وأن نتصوّر عالماً عربيّاً آخر. هل مَن سيندم على تحول مجلس الشورى السعودي المُعيّن من الملك إلى مجلس مُنتخب يعبّر عن تطلعات الرجال والنساء في السعودية التي قد يتغيّر اسمها العائلي؟ هل مَن سيشتاق إلى طلة أعضاء هيئة «كبار العلماء» وفتاواهم المُخيفة والمعادية للعلم والمنطق؟ هل من سيفتقد إشراف الشيخ «مو» على مهرجانات الشعر؟ على العكس، سنجد أن العربي (والعربيّة) سيجدان سعادة ما بعدها سعادة في ما يخرج من باطن الأرض من ماء ومن خضر وفواكه. الماء، الماء قد يعمّ بدل النفط، وما الضرر من تعظيم مصدر «كل شيء حي»؟ النفط العربي: لو ينضب، لخرجنا من المنازل والأكواخ مرحّبين مُهلِّلين مُصفّقين (ومصفّقات). لو ينضب. آه، لو أنه ينضب! العلقم أفضل لنا منه.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)


عدد السبت ١٤ آذار ٢٠٠٩