لعل الأسبوع الممتد بين الاثنين في 13 والسبت في 18 أيلول 1982 يكاد ينفرد في أنه الأسبوع الأكثر كثافة ودرامية في الحروب اللبنانية. احتشدت فيه أربعة أحداث، أقل ما يُقال فيها أنها تاريخية: اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل؛ احتلال القوات الإسرائيلية لأول عاصمة عربية؛ انطلاقة «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» ضد الاحتلال؛ ومجزرة صبرا ـ شاتيلا.
ولا حاجة لتفكّر كبير ليكتشف المرء الحلقات المتصلة التي تربط هذه الأحداث بعضها ببعض. ولا مبالغة في القول أيضاً إنه بقدر ما أدت أحداث ذلك الأسبوع إلى تحوّلات جذرية في مسار الحروب اللبنانية وتوازنات القوى الداخلية والإقليمية والدولية المرتبطة بها، بذاك القدر تشكّل الأحداث الأكثر استعصاءً على الذاكرة وبالتالي الأكثر استدعاءً للقمع والتغييب في الخطاب السياسي والسلطوي السائد.
يوم اغتيال بشير الجميّل كتبتُ النبذة التالية في يومياتي (المنشورة بعنوان «عن أمل لا شفاء منه»): «كان بشير الجميّل يجسّد كل ما لا أتمناه لهذا البلد، لكن الاغتيال آذن بأفدح الكوارث (...) اليوم عيد الصليب. لبنان على الصليب مجدداً».
أستعيد هذه الكلمات الآن للتأكيد على أن كل اغتيال سياسي جريمة نكراء لا يبرّرها شيء وتستحق الإدانة الصريحة غير المشروطة.
يبقى أن «الرئيس المنتخب» كان زعيم ميليشيا وصل إلى الرئاسة الأولى للبلاد في انقلاب اختمر عبر سنوات، تواطأ عليه الرئيس الياس سركيس، وأسهم في الإعداد له جوني عبده، ذراعه الأمني الضارب. وجاء بشير الجميّل إلى السلطة محمولاً على الدبابات الإسرائيلية المحتلة والدعم الأميركي غير المحدود. أما الوجه «الدستوري» لانقلابه فتمّ عن طريق تجميع نصاب وأكثرية برلمانية بالإرهاب والرشوة ومنع النواب من مغادرة بيروت الشرقية واستجلاب النواب المرضى من باريس على المحامل وصولاً إلى محاولة اغتيال أحد النواب لتخفيض النصاب القانوني. ولم يكن غريباً أن يرى الرئيس المنتخب إلى نفسه، في خطاب القسم، على أنه خارج ممّا أسماه «المقاومة» أكثر منه معبّراً عن الإرادة الشعبية، ويزعم أنه تتوحّد في شخصه «الأمة» والدولة.
منذ ذلك الحين، لم يقتصر الماشون «على دعسات» بشير الجميّل على ورثته المباشرين بين الأهل والسلالات الكتائبية. حذا حذوه، في ابتناء «الكانتونات» ومحاولات الانقلاب لفرض حكم اللون الواحد والاستقواء بالأطراف الخارجية على الخصوم المحليين، عدد من الزعماء والأحزاب من أطياف مختلفة.
يمكن أن يُقال الكثير عن احتلال الجيش الإسرائيلي لأول عاصمة عربية (وقد كان العذر فيها اغتيال الجميّل). ولعل ما لم يُقل بوضوح أكبر وبحدة أشد هو أن احتلال بيروت كان بمثابة تصعيد حاسم للتدجين الإسرائيلي للأوضاع العربية لتقبّل جرعات متزايدة من فرض «الأمر الواقع» عليها. فكأن كل شيء صار بعد بيروت 1982 أكثر طواعية، وقد تجلى ذلك في حرب تموز 2006 وحرب غزة الأخيرة.
لم يجرِ التذكير بما فيه الكفاية بأن الجيش الإسرائيلي قد غزا لبنان واحتل عاصمته في ظل قرار من السلطة السياسية مَنَع الجيش اللبناني من ممارسة دوره الأكثر بديهية في صد العدوان والدفاع بالقتال عن الوطن من الناقورة إلى النهر الشمالي الكبير وجسر القمر. وان هذا الحَجْر على مؤسسة الدفاع الوطني هو الذي دفع فئات من المجتمع والشعب، متنوعة الانتماءات المناطقية والمذهبية والعقائدية والسياسية، إلى أن تتولى مهمة المقاومة بنفسها. وهذا الذي يفسّر الآن لماذا يوجد سلاح خارج عن مؤسسة الدفاع الوطني.
مهما يكن، فقد استقبلت بيروت أيلول 1982 الاحتلال بالقتال وأخرجته بالقتال بعد أقل من أسبوعين. شهد روبرت فيسك على ذلك بقوله («التايمز» اللندنية، 27 أيلول 1982): «لعل الإسرائيليين غادروا القطاع المسلم (كذا) من المدينة في الوقت المناسب... كانت عمليات الاغتيال ضد أفراد القوات الإسرائيلية في بيروت الغربية تتوالى بمعدل واحدة كل خمس ساعات. وكان الجنود الإسرائيليون قد بدأوا يتورطون في حرب عصابات ضدهم».
وبيروت هذه لم يكن لها من هوية آنذاك غير دماء أبنائها.
لم يجرِ التذكير بما فيه الكفاية بأن مجزرة صبرا ـ شاتيلا، وإن احتكرت مجازر الحروب اللبنانية بسبب ما أثارته في الرأي العام العالمي، لم تكن المجزرة الوحيدة في الحروب اللبنانية. كانت قبلها مجازر في الدامور والعيشية والكرنتينا وتل الزعتر وسواها من مجازر لم تنل حقها من الإدانة أو نصيبها من الإعلام والإنتاج الأدبي والفني.
ولم يجرِ التذكير بما فيه الكفاية بأن تحميل الذنب عن المجزرة للطرف الإسرائيلي وحده أو إلقاء وزرها على إيلي حبيقة بمفرده يجب ألا يعفي من المسؤولية القيادات اللبنانية التي اتخذت قرار القتل ولا العشرات، بل المئات من مسلحيها الذين دخلوا المخيمين من حملة الرشاشات والخناجر والفؤوس.
وقد يسأل سائل: وما وظيفة التذكير بكل هذا؟
أولاً، وظيفة التذكير هي أن تملي علينا التساؤل عمّا تعلّمناه؟ ثانياً، نذكّر ونتذكّر من أجل أن ننسى. أن ننسى ولكن بعد تصفية الحساب والمحاسبة السياسية والمعنوية والأخلاقية. إذ ليس ينسى المرء إلا ما يعرفه ويتذكّره. وهو ليس ينسى ما قد غيّبه عن ذاكرته أو استبدله بذاكرة مخترعة بديلة. ثالثاً، نتذكّر حتى لا يتكرّر الخطأ.
أخيراً، لم يجرِ التذكير بما فيه الكفاية بأن مجزرة صبرا ـ شاتيلا كانت التطبيق العملي لشعار «رفض التوطين» عن طريق التهجير القسري للمدنيين الفلسطينيين بواسطة المجازر والإرهاب. هذا ما شهدت عليه صحيفة «سكيرا هوديتشيت»، الناطقة باسم وزارة الحرب الإسرائيلية، عندما عرّفت الغرض من المجزرة على أنه «استثارة هجرة شاملة للسكان الفلسطينيين أولاً من بيروت، ومن ثم من سائر أنحاء لبنان» من أجل «خلق توازن سكاني جديد في لبنان».
أما أن يحذرنا التيار الوطني الحر ـ ومعه حليفه النائب السابق إيلي سكاف ـ من «عودة التوطين» عشية ذكرى مجزرة صبرا ـ شاتيلا فأمر يثير أشد الاستغراب، خصوصاً أن أحد مسؤولي التيار يريد إقناعنا بمعادلة دائرية من منوّعات «حرب الآخرين» تقول: اندلعت الحرب الأهلية بسبب «التوطين»؟ فإذا تكرّرت الحرب الأهلية يقع... «التوطين»! والشاطر يفهم. والساذج يسأل: «التوطين» الذي يُقال لنا إنه ضار باللبنانيين عموماً ـ ولم يفدنا أحد بعد كيف ـ هل كان وراء حربَي «التحرير» و«الإلغاء»، أكبر حربَيْن «أهليتين» مدمّرتين أوصلتا المسيحيين منهكين خاسرين إلى اتفاق الطائف وبئس المصير؟
يصعب تبيّن الصلة بين «عودة التوطين» والأزمة الوزارية، أو عقد الرابط بين تلك «العودة» والعودة إلى تكليف النائب سعد الحريري بتشكيل الوزارة المنتظرة. اللهم إلا إذا نظرنا إلى «التوطين» على أنه «شيفرة» مثلها مثل سائر الشيفرات ـ فلسطين والعروبة، المحكمة الدولية، «عودة» سوريا، إلخ... إلخ. ـ يتداولها زعماء عاجزون ليس فقط عن استخلاص الدروس من الماضي الفاجع، بل حتى عن تشكيل وزارة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق