الأحد، ٦ أيلول ٢٠٠٩

لمناسبة السفر الأوّل بالطائرة: أيّام ما كانت المتعة مساوية للخطر

لمناسبة السفر الأوّل بالطائرة: أيّام ما كانت المتعة مساوية للخطر

المستقبل - الاحد 6 أيلول 2009 - العدد 3415 - نوافذ - صفحة 9

حسن داوود
لم أكن أعلم، في أوّل ركوب لي بالطائرة، أنّه لم يكن قد مضى وقت طويل على إتاحة الطيران لمن هم مثلي. وكالة البي.بي.سي، في تغطيتها، بالصور، التي أرسلها لي صديقي حازم على الانترنيت، لمناسبة الإعداد للذكرى التسعين لأوّل رحلة طيران تجاريّة، ذكرت أنّه فقط في مطلع الستينات بات ممكنا ركوب الطائرة لغير الأثرياء، حيث، منذ ذلك التاريخ، صار الكلام عن السفر بالسفن يُقرأ في الكتب فقط، أو يُروى شفاها مشدّدا على ما تكبّده المهاجرون السابقون من مخاطر وأهوال. كانت شركات الطيران آنذاك قد صنّفت مقاعدها مسميّة ما نقدر عليه باسم الدرجة السياحيّة، أو الإقتصاديّة. سنة 1969 صعدت إلى طائرة "طيران الشرق الأوسط- الخطوط الجوّية اللبنانيّة" من الخلف، أي من الذيل أو من أسفل البطن. على الدرجات كنت متهيّبا خائفا لظنّي أنّ الطائرة، بالنظر إلى تحليقها المرتفع وغير المفهوم عن الأرض، سيشغلها الخطر الأكيد عن أن ترتّب داخلها وتزيّنه. أقرب صورة توقّعتها لما ستكون عليه هي الصورة الثانية (التي تعود إلى العام 1920) في سلسلة الصور الثماني التي قدّمت فيها الوكالة التاريخ الموجز للطيران المدني. وهي بالأسود والأبيض، اللون المناسب آنذاك لمخيّلتي الخائفة. كما ظننت ذلك الداخل كالحا وضيّقا فوق ذلك، وتغلب على محتوياته أدوات النجاة مثل المظلاّت وإطارات الإنقاذ والحبال، بل وربما الخوَذ التي كنت أشاهدها في الأفلام على رؤوس طيّاري الحرب العالميّة الثانية.
وكان مفاجئا أن أرى المضيفة هناك، عند المدخل، ترحبّ بالركاب هادئة ومبتسمة. كانت إنكليزيّة، وبلغتها راحت تحيّي الداخلين واحدا بعد واحد، ترافقها في ذلك موسيقى مطَمْئنة كانت تنبعث خفيفة من أمكنة بثّ غير مرئيّة. وإذ توقّفت الموسيقى بعد ذلك، ظلّت المضيفة الإنكليزيّة على ابتسامها. قالت لي فيما هي تقترب مني إلى درجة الإنحناء بأن أربط الحزام، مشيرة إليه بنظرها وإصبعها معا. وبإنكليزيّتي التي ربما كنت قد أدخلتها لأوّل مرّة حيّز الإستعمال (خارج الدرس والمدرسة أقصد) إنّي أريد علبة مارلبورو. "الآن"، قالت، وكانت الطائرة ما زالت رابضة في مكانها لم تُقلع. وكانت تلك فرصة ثانية لأستعمل إنكليزيّتي في ذلك العمر المبكّر (كنت آنذاك في التاسعة عشرة)، قلت: لأنّ أبي ظلّ معي في المطار وأنا لا أدخّن أمامه.
ذلك الإبتسام الفائض والتكلم من ذلك القرب الموحي بوشك الملامسة لم يشمل ثمن علبة التبغ التي دفعتها للمضيفة نقدا. وقد ظلّت المضيفة على ابتسامها الجميل فيما هي تقبض تلك النقود التي كان أحرى بأصحاب الطائرة أن يغفلوا عنها لقلّتها. لكنّني قلت إنهم ربما كانوا يقصدون شيئا من وراء ذلك، وهو إشعار المسافرين بالطمأنينة حيث أنّ الأمور تجري هنا مثلما تجري في الدكاكين، وهذه علامة أخرى على أنّ سقوط الطائرة بعيد الإحتمال.
وأحسب الآن، بعد انقضاء كلّ هذه السنوات، أن كلّ ما تقوم به شركات الطيران في إعلاناتها مصدره التأكيد على طمأنة المسافرين بأنّ الطائرة لن تقع. من ذلك الإعلان الذي يصوّر المضيفة حاملة صينيّة مملوءة بالأطايب المزيّنة، ومنه أيضا تصوير المسافر نائما ومبتسما في غفوته، ومنه تلك الشبكة العريضة، المتسمة بالفخامة والأناقة كلّها، ابتداء من ألبسة المضيفات والطيّارين وصولا إلى المكاتب التي تقصد الشركات أن تجعلها في أكثر البنايات جِدّة وحداثة. (لم يكن الحال كذلك في سنة 1920، يوم أقلعت أولّ طائرة حاملة ركابا بالأجرة، إذ لم يكن هناك إعلانات ولا مكاتب سفر ولا مضيفات، فقط رجل واقف إلى جانب الطائرة يقبض النقود بالطريقة ذاتها التي لمعاون سائق البوسطة قبل سنوات قليلة من أيّامنا هذه... وهذا ما تُظهره الصورة الأولى في سلسلة الصور الثماني المذكور عنها أعلاه، جاعلة المسافرين الأُوَل أولئك مغامرين بحقّ، إذ لا شيء يطَمْئِن بأنّ الطائرة التي سترتفع إلى السماء هكذا، وسط قلّة التدبير هذه، لن تعود سريعا إلى الأرض لتتحطّم وتحطّم من هم فيها).
كانت تلك أوّل رحلة تحمل ركّابا. طبعا ليس هناك من مضيفة, ولا حتى مضيف (إذ سيكون على المسافرين أن ينتظروا حلول الحقبة الثانية، والتي تمثّلها الصورة الثانية في سلسلة الثماني، ليحصلوا على مضيف ذكر، وقصير القامة أيضا، بحسب ما يذكر التعليق المرفق بها)، ولا حتّى موسيقى خفيفة، ولا قناني ويسكي وسواها على ذلك الرفّ الذي تظهره الصور في مؤخّر الطائرة. فقط الطيّار، ذلك الذي، بسبب صغر الطائرة، سيكون قريبا من الركاب، هناك على المقعد الأمامي، مقدّما رأسه إلى الأمام فيما هو يسوق الطائرة، على نحو ما يكون حال من يسوق سيّارة بسرعة جنونيّة.
وفي رحلتي تلك في 1969، بل وفي رحلات لي تلتها، متقطّعة ومتباعدة، لم يحدث أن كان بين الركاب أطفال إذ لا أذكر أنّي رأيت ولدا يلهو في الممرّ الضيّق بين المقاعد أو ولدا يبكي من أمامي أو من خلفي. رجال فقط، قليلون قلما امتلأت بهم، وبالنساء الأكثر قلّة منهم، الطائرة عن آخرها. ذلك أنّ السفر، حتى سنة 1969 كان ما زال حكرا على من يقدرون عليه، ليس عندنا بل في البلاد التي اخترعت الطائرات، تلك التي سنتأخّر عن عاداتها بالطبع. أقصد أن السفر بالطائرة كان حلما لأولئك الكثيرين الذين، في تلك الأعوام، كانوا يحاولون الإقتراب من تحقيقه قدر المستطاع وذلك بالتنزّه في أيّام الآحاد، ذهابا وإيابا، على طريق المطار.
لم يكن هناك أولاد في الطائرة. في بريطانيا، وفي أميركا أيضا، كان على الأولاد أن ينتظروا أوّل سنوات السبعين حتّى يصعدوا، مع لعبهم، إلى الطائرات(بحسب الصورة المثبتة هنا، وهي الخامسة في سياق الصور الثماني) وذلك بعد أن تضخّمت الشركات إلى حدّ أن بدأت باختراع رحلات السياحة المنظّمة، للعائلات وسواها. وبلا ريب، كان من شأن هذه الخطوة أن تقلّل من "متعة السفر بالطائرة" ومن الإحساس بالتميّز الذي لم تتوقّف شركات الطيران، حتّى الآن من تسويقه وإشاعته.
أي أنّ السفر بات خليطا من الصبر على الإحتمال والرفاهيّة، بعدما كان خليطا من الأخيرة والخطر أو المجازفة. أمّا الآن، ومنذ أن ابتدأت جولة هجراتنا الثانية، التي أعقبت هجرتنا الأولى في أواخر القرن التاسع عشر، فلم يعد أحد يعتدّ أمام أحد بكونه عائدا من سفره أو متهيّئا له. أولئك الذين هم على متن الطائرة باتوا هم ذاتهم لا يختلفون في شيء عن أولئك الذين ينتظرونهم في المطار، مستقبلين أو مودّعين. وهؤلاء الأخيرون، بدورهم، لا يختلفون عن أولئك الذين في زحمة الشارع متسابقين، مشاةً، وسائقي سيّارات، وراكبي درّاجات لم تعرف الدولة ماذا تفعل بهم بعد.
وفي السفرة الأخيرة لي كان اعتيادهم على ركوب الطائرة قد بلغ أشدّه. كانوا جالسين على رؤوس الكراسي لا على قعداتها. وهم، من أماكنهم المتفرّقة صاروا يكلّمون بعضهم بعضا بأصوات عالية، بل ويتراسلون بالطعام، مبادلين ما لا يحبّونه منه بما يحبّونه، من فوق الكراسي. أما ذاك الذي أحضر معه قنّينته، بحجّة أنّ المضيفة لن تلبّي كلّ حاجته للشراب، فسكِر وجعل يشدّ القنّينة شدّا من يد المضيفة المغربيّة. " لحظة هبوطنا سأسلّمه إلى البوليس"، قالت بعد أن انتصر له أصحابه بالهرج والمرج.

ليست هناك تعليقات: