كوانتن تارانتينو منتقماً من تاريخ ينزلق على قشرة موز
بــانـــــغ بــانـــــغ بــانــــــغ... وســقــطــــت الــنـــــازيــة!
|
سفلة مجهولون قبالة كاميرا تارانتينو. |
طبعاً تارانتينو، وقبله روبيرتو بينيني (في "الحياة حلوة") مشروطان بألا ينسيا ان الفصول الدموية للمرحلة النازية هي، في خاتمة الأمر، أكثر فظاعة مما نراه، اذ يذكّراننا مع كل انعطافة جديدة بأنه ما دام يستحيل تجسيد بعض الأشياء، فالأفضل أن نتخيل شيئاً قريباً لها. هذه مسألة أخلاقية لا تتحمل المناقشة. في فانتازيا كهذه، لا شي أكثر طبيعية من أن نخدّر عاطفتنا ونمشي في اللعبة حتى الأخير، نضحك منها وعليها، اذ هناك خلف الكاميرا من يمسك بكل مفاصلها واحتمالاتها. ليني رييفنشتال، المخرجة المناصرة لقضية الرايخ الثالث، هل هي أكثر تأثيراً في الزمن من هنري جورج كلوزو، السينمائي المقاوم للنازية الذي قبض المال من الالمان لصنع فيلمه "الغراب" ثم دان فيه احتلال بلاده؟ ها ان ردّ تارانتينو على هذا الهمّ المعلن والحاضر في ذهن الشريط، يصلنا عبر فيلم ينقلب على العنف بالسخرية والازدراء، بخفة دم قريبة الى اسلوب... دعونا نقول الى اسلوب لا أحد. لا شيء يعز على تارانتينو اكثر من تلميع صورة السينما، أكانت عميلة أم حليفة أم عدوة. تارانتينو كعادته مخلص لتقنياته في الهزء. هو دائماً في حاجة الى شخصيات يخيّل اليها أن اللجوء الى العنف أفضل الحلول. لكن هذا اللجوء لا يزيدها إلاّ بلاهة وغباء في عيون الآخرين. وما "سفلة مجهولون" الا تأكيد لتأكيد، خطاب جديد على خطاب قديم، تأثير فوق تأثير، وأحياناً تأثيرات متضاربة.
في البداية هناك رجل وأفراد عائلة يقيمون على تلة في قرية ابان الاحتلال النازي لفرنسا. لا يذكّرنا مشهد الافتتاحية هذا بأفلام الوسترن سباغيتي، اذ لا اشارة مباشرة منها واليها، لكن اذا اصررنا ان نراه من ذلك المنظار، فيمتزج حينذاك الاستيهام السينيفيلي بالواقع، ونبدأ برؤية أشباح وظلال من أفلام أخرى في كل وحدة تصويرية. انها مسألة ارادة ورغبة. الامتحان الاسلوبي يبدأ منذ اللقطة الاولى. لا يحتاج تارانتينو الى أكثر من بضع ثوان ليُمِرّ لنا السر الذي يتأسس عليه الفيلم برمته: نحن في كوكب سينمائي متكامل لا نحتاج فيه الى الواقع. هذا الواقع هو ليُستلهَم لا ليكون ديكتاتوراً على مخيلة فنان. أفلام تارانتينو كانت دائماً نموذجاً في قراءة الدال والمدلول في لغة السينما، لشدة زحمة المراجع والاستنادات والغمزات التي تتيه فيها السيرورة الدرامية. لكن في لقطة الافتتاحية، وهي بالتأكيد الأغرب في مساره، ثمة محاكاة حتى للمحاكاة. انها محاكاة فوق محاكاة ممتلئة بغمزات سينيفيلية مزروعة في كل مكان وفي اللامكان، والبصيرة لا تملك الوقت الكافي لالتقاطها واستيعابها، نتيجة الاشياء الكثيرة التي تحدث هنا وهناك.
في اولى هذه اللقطات اذاً، هناك غريب يأتي ليعكر صفاء عيش إحدى العائلات (في هذا الباب ربما نعثر على الاستعانة بأبجدية الوسترن). انه الكولونيل النازي هانس لاندا (كريستوف والتز، جائزة التمثيل عن جدارة في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ) المعروف لكونه صياداً ذائع الصيت لليهود. هوذا نموذج للكولونيل الشرير والسادي الذي، بعد 20 دقيقة من حوار متكلف وغريب بينه وبين رب عائلة فرنسي يخفي يهوداً في قبو منزله، يكتشف أخيراً اين يختبئ هؤلاء، فيأمر رجاله بقتلهم، فنراهم يرمونهم بالرصاص من خلف أرضية المنزل الخشبية. لا يرفّ له جفن، طبعاً لأنه نازي وخسيس! لكن ما يحصل في تلك اللحظة، وهذا ما يتيح للفيلم أن يكون، هو افلات فتاة من المجزرة الجماعية، لنراها اصبحت، بعد اختزال زمني، صاحبة سينما في احد الاحياء الباريسية.
لن ندخل في تفاصيل الحكاية لئلا نفسد عامل المفاجأة لدى المشاهد المحتمل، لكن القارئ الحذق يستطيع أن يكتشف أن لدى هذه الفتاة الفرنسية اليهودية التي تدعى شوشانا (ميلاني لوران)، صاحبة الصالة التي تعرض فيها مضطرة أفلاماً تغازل النازية (رييفينشتال نموذجاً، ولكن ليست وحدها)، رغبة جامحة في الانتقام من قتلة عائلتها. مذذاك ستتوافر امامها كل الظروف العبثية لتحقيق هذا الانتقام، ولا سيما عندما تدخل على الخطّ زمرة السفلة المجهولين (أميركيون يهود) الذين يأتون الى فرنسا ليقتلعوا فروات رؤوس النازيين، مستخدمين أساليب قتل أعنف بكثير من اساليب أعدائهم (الغمزة السياسية الجميلة لتارانتينو الى الحاضر)، الشيء الذي يتيح تصعيد حدّة العنف الى حدّ تحولها كارتونية في أماكن عدة، ولا سيما في الثلث الأخير من الفيلم.
هؤلاء اللقطاء (هكذا يدعوهم عنوان الفيلم الذي ينطوي على خطأ املائي مقصود، Basterds بدلاً من Bastards) الذين يتأكلهم احساس الضغينة والحقد، يترأسهم الضابط المخبول والغريب الأطوار الدو راين (براد بيت في دور هجين ولكنة ظريفة جداً). هؤلاء يقررون الانضمام الى ممثلة المانية اسمها بريدجيت فون هامرسمارك (ديان كروغير) وخصوصاً عندما يعلمون أن ثمة فيلماً بروباغانديا مستوحى من "بطولات" جندي نازي شجاع قتل وحده المئات، يغازل بدوره شوشانا، وأن هذا الفيلم سيُعرض في حفل تمهيدي في حضور أدولف هتلر (نعم هو!) وجوزف غوبلز وحشد من النازيين، مما يشكل مناسبة لا تفوّت لتصفيتهم. لكن ليس وحدهم السفلة من سيستغل هذه المناسبة التي ستشكل قمة الفيلم، لكونها ستجري داخل ظروف استثنائية تعجب خاطر تارانتينو وتعكس رؤيته لسلاح السينما الهدامة. وطبعاً تشبيه السينما بسلاح هو فكرة فضفاضة قائمة على المبالغة، اذ ان الفنّ لا يستطيع شيئاً أمام النار والرصاص. لكنها فكرة رومنطيقية يطلق من خلالها تارانتينو عنان مخيلته. وحسناً يفعل.
اذاً كل شيء معدّ سينمائياً: عملية تصفية هتلر تحمل اسم "كينو"، أي "سينما". مكان المجزرة هو صالة مظلمة. العميلة المزدوجة التي لها يد في انزال العقاب بالديكتاتور، هي ممثلة. الاداة التي ستستخدم في قتلهم هي بكرات أفلام سريعة الاشتعال. هذا كله يشعل عند تارانتينو، أولاً، رغبة لا تضاهى بالتسلية والتهكم، ويتيح له ثانياً، أن يرتّب لنفسه مكانة خاصة وسط هذه المعمعة التاريخية ومناقشة دوره فيها. غني عن القول أن الإقفال على نخبة من نازيين مبتهجين بمشاهدة فيلم يمجد انتصاراتهم في داخل صالة، وحرقهم، عملية كيدية ستتيح لتارانتينو أن يحلّق بنصه عالياً. العنف هو مفتاح العبقرية عند هذا المخرج، وهو كذلك عند بكينباه.
هذا الفصل من الفيلم الذي يعبره تارانتينو كجندي يعبر حقل ألغام لكن من دون أن يضع رجله على أيٍّ منها، ممسوك بقبضة حديد، إخراجاً وتوتراً مؤسلباً. صوت الرصاص المرافق للفيلم التمجيدي المعروض على الشاشة، لا يسكت: بانغ بانغ بانغ، بانغ بانغ بانغ، بانغ بانغ بانغ! الكونتراست اللعين يحضر من حيث لا نتوقعه، أي على يد الجندي النازي الذي تحولت أفعاله فيلماً. فعندما يترك الفيلم ويصعد الى غرفة الـ"بروجيكسيون" ليعلن ولعه بشوشانا، هي اليهودية، نرى من الجانب الآخر للزجاجة الفاصلة، تجسيده السينمائي مواصلاً قتل اليهود، فيما تتابع اصداء البانغ بانغ بانغ على الشاشة.
تارانتينو، مخرج نسائي الى الآن، يضع المرأة المصرة دائماً على ان تكون الاشياء على قاعدة العين بالعين والسن بالسن، أمام التضحية الكبرى والخيار الأصعب: الموت في سبيل الذاكرة. لكن شوشانا هي يهودية بالمصادفة. وما تقوله عن انتقامها الذي سيسكن ضمير العالم وضمير السينما، ليس سوى مزحة ولا يمكن تحميله معاني كبيرة. السبب بسيط: تارانتينو تعرّف الى الانتقام قبل أن يعرف شوشانا! لكن دعونا لا نغفل عن حقيقة أخرى. تارانتينو، وبأقل قدر من المعاداة للسامية، يقول إن السينما المتهمة دائماً بانحيازها الى اليهود (لأن نخبة صنّاعها هم يهود)، هي وحدها السينما التي تغيّر المعادلة. هل من معارض؟
على مستوى الشكل المعتمد، يبقى تارانتينو مخلصاً لثلاثة محاور على الاقل في هذا الفيلم حيث الكل يحكي لغته ولغة الآخر، وهي: حاجته الدائمة الى تحويل العالم شاشة مستطيلة اذ لا شيء خارجها له القيمة نفسها مما لو كان داخلها؛ الفيتيشية المرضية التي تتجسد بقدم الممثلة الالمانية التي اصيبت بالرصاص خلال المشهد الحواري المديد في المخمرة والذي ينتهي بجولة بانغ بانغ بانغ أخرى؛ اللجوء الدائم الى الحوار الموتور كبلورة درامية. مع ذلك كله، لنكن واقعيين. الخطاب لا أخلاقي ولا تربوي ولا ادانة للنازية او اعادة اعتبار الى ضحايا المحرقة، وان مَن يقف خلف الانتاج هو هارفي واينستين، اليهودي الأصل. المسألة هنا محض سينمائية. القضية الوحيدة في الفيلم هي السينما. صورة هتلر الكاريكاتورية تأتي من "الديكتاتور العظيم" (1940) لشابلن أكثر مما تستند الى أرشيف التلفزيون. وهذا ليس بجديد عند صاحب "جاكي براون". مَن يعتقد ان تارانتينو يأبه كثيراً لليهود ومصابهم، وللنازيين وشرّهم المطلق والبدائي، فليشاهد الفيلم مرة واثنتين وثلاثاً، الى أن يكتشف في الخاتمة ان الرجل ذو عقلية سينيفيلية ضيقة ومتعصبة، لكن خلاقة ومخربة، وان لا همّ عنده يعلو فوق همّ الفن السابع الذي انقذه من براثن الحياة الخانقة وشرورها، مثلما ابعده من الالتزامات الانسانية والاخلاقية التي لا دخل له فيها، طالما لا تراقَب من خلال بؤرة، بؤرة الكاميرا.
تارانتينو فقد الأمل بالانسانية الرعناء، لكنه لا يزال قادراً على جعل شرورها فعلاً كاريكاتورياً مبدعاً الى ابد الأبدين. هذه سينما "ماذا لو"، قائمة على الحوار الذي يعيد موضعة بعض المفاهيم، وقائمة أيضاً على الثرثرة الخلاقة واللقيات، اذ لا عجب أن نسمع في نهاية الفيلم وعلى لسان براد بيت عبارة "اعتقد ان هذه هي تحفتي الفنية"، بعد أن يكون قد حفر صليباً معكوفاً، من دم ولحم، على جبين الكولونيل النازي، قبل استرداده الى أميركا. هنا ثمة تماهٍ بين المخرج وبطله الدموي الضاحك. يختلفان في كل شي بدءاً من فاشية الاسلوب حتى الرعونة في تطبيقه، لكن يتفقان على تحويل الجريمة مادة، وليس أي مادة، بل مادة يُحتفى بها. معروف عن الدمّ انه يفسد معنى الأحلام. بينما في سينما تارانتينو (كما أيضاً لدى سكورسيزي) ما إن ينزف أحدهم حتى يتحرر الفيلم!
Inglorious Basterds ـــ يُعرض في "غراند سينما ـــ أ ب ث، كونكورد، لاس ساليناس".
هوفيك حبشيان
( hauvick.habechian@annahar.com.lb)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق