من وقائع التاريخ غير الصحيح للحرب العالميّة الثانية
المستقبل - الاحد 27 أيلول 2009 - العدد 3435 - نوافذ - صفحة 9
حسن داود
مُشاهد الفقرات الإعلانيّة عن فيلم inglorious bastards يُفاجأ حين يرى إسم كوينتن تارانتينو مبتعدا عن عالمه الراهن، الذي شاهدناه في «بالب فيكشن» و«أقتل بيل». في هذين الفيلمين بدا تارانتينو ملتصقا بعالمه ذاك إلى حدّ أنّنا رحنا نظنّ أنّ موهبته هي هناك، في تلك العلاقات المبالغة في عنفها وغرابتها. وهو كأنّه أراد لنا أن نقتنع أنّ هذا الميل الجارف إلى العنف، الذي منه مشهد قلع عين إحدى نساء فيلم أقتل بيل وانزلاقها على الأرض، ثمّ دوسها بقدم امرأة أخرى، لنراها تنفزر وتنبو عن غلافها الدهني، هو آخر ما توصّل إليه زمننا الراهن من اختراع العنف.
تارانتينو الراهن حمل مخيّلته الصاخبة والمتطرّفة إلى الحرب العالميّة الثانية، وهذا ما جعلنا نتساءل، قبل دخولنا إلى الصالة لمشاهدة الفيلم، إن كان سيفلح في تطبيق عنفه وغرابته على عالم الحرب الثانية، ذاك الذي هيكلتْه ونمّطته أفلام لا عدّ لها. وقد خفّف من وقع ذهاب تارانتينو إلى ذلك الزمن سبقُ مخرج آخر إلى تصوير نسخة أولى من الفيلم في عام 1978، الأمر الذي يجعل اندفاع تارانتينو أقلّ من اقتحام كامل لتلك التجربة.
ولم يصعب علينا التعرّف على مخرجنا في فيلمه الجديد هذا، وذلك منذ أن أرانا فرقة الجنود «الأوغاد» الذين سيحاربون النازيّة بقسوة تبزّ قسوتها. أوّل المشاهد كان سلخ جلدة الرأس لعدد من الجنود الألمان، وقد أتيحت لنا رؤية ذلك بالصور المقرّبة. في المشهد ذاته رأينا من لُقّب بالدبّ اليهودي، وهو أحد ثمانية من محترفي العنف يشكّلون فرقة الأوغاد، يحطّم رأس جندي ألماني بعصا كرة المضرب الغليظة ليهشّمه مثلما تهشّم جوزة. ذلك القرب في تمثيل العنف يضع صانعه في آخر فصول الجدّة والحداثة متخطّيا كلّ عاديّة وروتينيّة. دائما يسعى تارانتينو إلى اختبار مشاهديه ووضعهم أمام امتحان إبعاد النظر عن الشاشة هربا من قسوة يشاهدونها.
وغالبا ما تكون هذه القسوة فائضة عما يستدعيه الإنتقام أو العقاب. إنّه عنف فائض مقصود بذاته، لذلك نجد أنفسنا قاطعين إيّاه عن سياقه، وإذ يعاود حضوره في ذاكرتنا يكون متخلّصا من أسبابه ومّما سبقه أو أعقبه. ثم أنّه لا يخلو من الكاريكاتورّية التي يبدو فيها مخرجه مبتسماً أو ضاحكا، أو حتى منفجرا بالضحك، فيما هو يصوّر مشاهد القسوة الأثيرة لديه.
بل إنّ المزاح لا يتوقّف عن المخايلة حتّى في أكثر المشاهد خطرا وجدّية. أقصد المزاح الضمني، أو السخرية التي يبدو فيها الصانع المحترف يسخر ممّا يصنعه. مشهد حفلة العرض السينمائي النازي، وهو المشهد الذي تتشابك فيه عقد الفيلم جميعها، يقف عند حافّة الإضحاك. أولئك الذين جاؤوا إلى العرض ليفجّروا الصالة بمن فيها، بدوا كما لو أنّهم يؤدّون فصلاً كاريكاتورياً في فيلم لا يتوقّف لحظة عن دفع مشاهديه إلى أقصى لحظات التوتّر. هناك دائما جانب كاريكاتوري يتخلل الأحداث، على رغم فظاعتها، كما أنّه يدخل في رسم الشخصيّات على اختلافها. بطل الفيلم براد بيت، الذي يؤدّي دور زعيم عصابة الأوغاد، يظهر لنا في أحيان كأنّه يسخر من دور البطولة الذي يجسّده، على غرار ما يبدو المخرج تارانتينو ساخرا من صنائعه. في المشهد الطويل قبل عرض الفيلم النازي في تلك الصالة الفرنسيّة نرى براد بيت وقد ذهب إلى حدّ السخرية الأبعد وذلك في المناكفة بينه وبين رئيس الأمن النازي حول لفظ الكلمات باللغة الإيطاليّة (بما يذكّر بأستاذ اللغة المضحك في فيلم أماركورد لفيديريكو فيلليني). هذا وقد جرى هذا التناكف في وقت الخطر الأقصى حيث، في آخر المشهد نفسه، سيُعرف مصير الجميع، من سيموت منهم ومن لن يموت، من ينتصر منهم ومن سيهزم إلخ.. معظم شخصيّات الفيلم جمعت الكاريكاتورية، أو ظلّ الكاريكاتوريّة، إلى أدوارها. نسخة أدولف هتلر في هذا الفيلم هي أكثر نسخه، في الأفلام جميعها، كاريكاتورية. منذ ظهوره الأول، في بداية الفيلم، بدا أكثر توتّرا بكثير من كلّ ظهور سابق له، سواء في الأشرطة الوثائقيّة أو السينمائيّة. جمهور الصالة هنا ضحك من فوره، على رغم علمه، بل ومشاهدّته، لعصبيّة هتلر التي تبلغ حدّ المرض. غوبلز أيضا بدا مختلفا عن صورته في فيلم «الملجأ» الذي صوّر ما اعتقده الأيام الأخيرة من سقوط ألمانيا وانتحار هتلر وحاشيته. وبينما بدا غوبلز مواليا حتى الموت التراجيدي لقائده، ما دفع به إلى قتل زوجته وأولاده وليس فقط إلى قتل نفسه، نجده هنا، في فيلم تارانتينو، عصابيّا مضحكا وكوميديّ الإمتثال لقائده هتلر الجالس بقربه في صالة السينما. «أنا أحببت هذا الفيلم.. إنّه أفضل ما صنعت» قال له هتلر السكران من الضحك والإعجاب معا. وقد رأينا كيف تأثّر غوبلز بذلك المديح: جعل يبكي في مقعده بكاء طفل.
ولا أعرف كيف تأتّى لنقاد الفيلم أن يحكموا على وقائعه غافلين عن ميله إلى الدعابة. في مقال نشرته إحدى الصحف الأميركيّة إعترضت الكاتبة على ما اعتبرته إغفال المخرج تارانتينو مواجهة المشكلات الأخلاقية المعقدّة التي تثيرها القضايا المتناولة في الفيلم. في مقال آخر جرى اتّهام الفيلم ومخرجه بإيكال كلّ أمر للعنف، كأن مقابلة العنف بالعنف قادرة على تفسير نزاعات العالم.
كوينتين تارانتينو كان في مجال آخر لا يُناسب فيه هذا النوع من النقد. بل أنّه، في ما أحسب، لم يصنع فيلمه إلاّ ليراوغ هذا النوع من الأحكام ويحوّله، بدورها، إلى موضوع لسخريته. عند خروجنا من الصالة، مشدودين متوتّرين من تشابك الأحداث وتوتّرها إلى درجة حبس الأنفاس، راح الخارجون معنا يتساءلون إن كان هتلر وقيادته قد قضوا جميعهم هكذا، في حفلة السينما التي جمعهم بها تارانتينو، ليتخلّص منهم، وليوقف الحرب العالميّة الثانية، كما اقترح رئيس الأمن النازي الذي عرض أن يقايض إثنين من عصابة الأوغاد وهزيمة بلده ومقتل قادتها بقبول الولايات المتّحدة أن تعطيه جواز سفرها وتقبل بإقامته على أرضها.
لم يكن ما فعله تارانتينو إلا تحريضاً على العبث بالتاريخ وإتاحة اللعب به لمن يرغب. وهو، معتمدا على روايات متضاربة تألّفت عن موت هتلر، رأيناه يقول: أنظروا هذه رواية أخرى.. روايتي أنا، ولتكن لكلّ منكم روايته أيضا، إن رغب. وسيكون ذلك مشوّقا، ومسليّا أيضا، وأفضل تركيبا من الوقائع التي سبق أن رُويت لكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق