05/10/2009
تراكم الهزائم العسكرية أَفْقدَ السياسة العربية شرعيتها الانسانية، وليس الحقوقية فقط. وهكذا تحملت الدولة القطرية ما فوق طاقتها بعد أن تجردت من الغطاء القومي الذي كان يمنحها بعض الثقة من مجتمعها، باعتبارها مرحلية، سائرة على طريق الاستقلال القومي، ولا فكاك من ضرورتها، بشرط قيامها بأعباء هذا الاستحقاق المطلوب والمنتظر منها. ولكن عجز الكيان القطري عن تحقيق هذا الشرط البنيوي جعله مهدداً بالانفراط، والتقهقر إلى أهلويات ما قبل الدولة. لقد كان للنهضة أن تنعم بانضمام أكثر من عشرين كيان دولاني إلى ركب فعالياتها التاريخية، فيما لو لم تتحول الخارطة القطرية إلى مساحة صحراوية من السدود الخرسانية قبالة بعضها. فقد قُضي على كل قطر أن يقوم بمهمات النهضة الكلية لوحده، وبأقل إمكانيات الجزء المفرد من الكل الأعظم. فكانت المحصّلة مذهلة في نتائجها البائسة، بحيث لم يعد ثمة حديث عن 'النهضة' بقدر ما هو حديث الكارثة المطلقة التي تعمُّ الجميع. حتى أغنياء الوطن العربي أصبحوا من أيتام الأزمة العالمية. ليس ثمة كلام عن نهضة الفقراء. فهؤلاء إن لم يحصلوا على الحدود الدنيا لمعيشة الإنسان العادي، لن تعني لهم شيئاً نداءات المعاني المجردة. فالقهر المعيشي هو أبشع إذلال للروح الإنسانية المفتقرة في جسدها الجائع والمريض والمحروم، إلى أبسط حقوقه المادية حتى يتذكر حقّه المسلوب في الكرامة قبل التطلع إلى حقه في الحضارة.
هزائم السياسة أثمان باهظة تدفعها النهضة على أثر انكسارات السيادة الوطنية والشعبية بفعل الحروب الفاشلة مع العدو الإقليمي والداخلي، ثم الأجنبي الاستعماري المباشر؛فبعد تلك المعارك الخائبة بين الجيوش التي تنقلب إلى حروب أهلية وأشباهها المفكِّكة للكيانات القطرية تبدو 'الدولة' أخيراً هي العدو المشترك للأهلويات الغريزية المتخاصمة. فالنهضة العاجزة عن تنمية الاستقلال الوطني إلى التكامل المجتمعي القومي، تقف مهزومة مجدداً إزاء حركة تقهقر المجتمع القطري، إلى عصر مماليك الأقلويات من كل نوع إثني أو جهوي أو مذهبي. فليس هناك مجتمعٌ تجانسي كلياً في أية دولة عصرية. وقد اخترعت المدنية فلسفة المواطَنة التي تستبدل الكيان الغريزي الموروث للجماعات بالكيان الثقافي الحقوقي. لكن بين النموذجين هذين يجري تاريخ هائل من التصفيات الحدية التي يفخر الغرب وحده بإنجازها تحت طائلة عصر التنوير، الذي يصير رائداً لكل عبْر تلاه وذلك عبْر سيرورة الحداثة المستديمة. ومع ذلك فإن هذا الغرب نفسه يضطر للاعتراف بأنه لم ينجز عصر التصفيات الحدية تماماّ بعد، لم يواجه ربما تحديه الأكبر الذي أصبح يهدد مستقبل تجربته المدنية كلياً، بدءاً من اهتزاز نظامه الحياتي، كلياً.
هذه العاصفة الاقتصادية لن يتوقف تماديها عند انفجار الأزمة الاجتماعية الأخطر، بل إنها سائرة نحو إعادة طْرحٍ للصميم من كينونة المدنية الغربية عينها، كما تتداولها وسائل التربية العمومية السائدة حول تنميط نموذج معين عن الشخصية المفهومية التي تعزوها ثقافة الغرب لذاتها، كضمان لتفرده وهيمنته على التاريخ الإنساني المعاصر. فالغرب كعادته لا يفتخر بدلالات تقدمه الإيجابي وحده، بل يحتفل كذلك بكوارثه الكبرى المتواترة معها. ذلك هو الفارق النوعي الذي لا يزال يميز الغرب في فهم الكارثة وطريقة استقبالها، ومن ثَمَّ التعامل معها؛ ويفرّقه في ذلك عن سواه.. عن الأسلوب العربي الحافل ليس بالكوارث وحدها، ولكن بأسوأ فهم لها وتدبّر معاً؛ فالفكر الغربي اعتاد أن ينذر مجتمعاته، من منعطف حضاري إلى آخر، بأشباح الأفول.لكنه في الحالة الراهنة من معاناة حقائق الأفول وليس أشباحها، لا يلجأ إلى آليات التمويه، بانتقاله من إيديولوجيا مستهلكة، إلى أخرى جديدة مبهرة؛ إنه يواجه مسألة (الآخرية) من خلال الاعتراف بواقعيتها المباشرة، كما راحت تتبدى بصعود قارة آسيا إلى ذروة الاقتصاد العالمي. ما يدفع الغرب إلى انتظار الترجمة السياسية المحتومة لقوة إنتاجية ومالية هائلة، أصبحت خارج دورة هذا الاقتصاد العالمي التقليدي، وبالتالي لا سيطرة غربية أحادية على متغيراته، منذ الآن.
لا ننسى أن الغرب هو غَرْبان، أوروبي وأمريكي. قد تجمعهما مصالح تاريخية وحيوية متأصلة، ولكنهما متمايزان عن بعضهما، خاصة في نطاق المفاهيم الكلية والمثل العليا، ما يجعل لكل منهما ثمة استراتيجيا حضارية مستقلة، يحرص الغرب الأوروبي على إثبات فوارقها الفكرية والإنسانية عن توأمتها الأمريكية، تحديداً في منعرجات الأزمات المصيرية، التي تواجههما معاً. ورغم ذلك يبقى لكل منهما تقاليده الخاصة في التحليل والمعالجة. ليس هنا مجال التطرق إلى تفاصيلها. لكننا نستحضر هذه الخلفية التي لا بد منها لتأخذ مكانها من عمق اللوحة الراهنة لأهم أزمة تكوينية ذاتية ربما، تداهم الغرب المعاصر منذ الحرب العالمية الثانية. يبدأ الافتراق (الثقافي) بين ضفتي الأطلسي من هذه الأطروحة البسيطة التالية: الأوروبي لا يرى أن العمل (الربح) هو غاية الحياة، بينما يقضي الأمريكي حياته جرياً وراء عمله. من هنا ينطلق التباين في النظرة إلى الاقتصاد. فالأزمة تطرح بحدة مسألة القيادة بين المجتمع والاقتصاد. والأوروبي العادي يجد في عواقب الأزمة دليلاً مادياً على صحة رأيه في ضرورة انقياد الاقتصاد للمجتمع، وليس العكس. ذلك أن حفنة صغيرة من مدراء البنوك الأمريكية الكبرى وحواشيهم من المضاربين، استطاعت أن تسيّر اقتصاد العالم كله لمصلحة جيوبها. فهي التي أحدثت كل أسباب الأزمة، وهي التي لا تزال تفيد من مضاعفاتها. وقد يعود إليها كذلك الأمر بتوقيفها في الموعد الذي تختاره مصالحها عينها. يقول الفكر الأوروبي في اللحظة الحرجة الحالية من الصراع حول الحلول الجذرية بين ضفتي الأطلسي، أن الرأسمالية كنظام اقتصادي محض هي الآيلة إلى نهايتها. فالأزمة ليست مرحلية. لا يمكن تبرئة الرأسمالية من مرحلتها السابقة الموصوفة بالوحشية. لن تستطيع هذه المرة أن تتجاوزها إلا إذا تجاوزت ذاتها. ما يسمى بالاقتصاد الافتراضي القائم في صلبه على فن الخديعة للذات وللآخر في وقت واحد، لم يكن مجرد انحراف طارئ للاقتصاد الأصلي عن هويته الانتاجية، كان أعلى ذروة للرأسمالية بكل مكوناتها ومراحلها. وسقوطه أخيراً ليس سوى سقوط الرأسمالية عينها. تلك هي الواقعة المرَّة التي يُراد للعالم أن يتهرب من الاعتراف بها، وأن يتوهم انطلاقة جديدة بعدها مما صار يُصطلح عليه بصفة الانكماش، وليس حتى بصفة الركود. وكلها تعابير أيديولوجية عفت عليها عقابيل الأزمة، المستدامة بإنتاج كوارثها المالية والاجتماعية المتناسلة من بعضها؛ وهي المستديمة كذلك بإرادة المنتفعين بكوارثها، كقوى استثمار جديد.
ثمة فكر ٌغربيٌّ، صار يزعم أنه ليس يمينياً ولا يسارياً، يدعو إلى وضع الرأسمالية تحت طائلة الأخلاق. فهو لا يرى الاقتصاد إلا رأسمالياً، لكنه قد يقبل توأمته مع الاجتماع. هذه الدعوى، بصرف النظر عن البراهين معها أو ضدها، تتقدم اليوم تداول الحلول المقترحة ما بين ضفتي الأطلسي. لعلها تنشئ جسراً مفهومياً جديداً للنزعة الإصلاحية التي يثشبت بها الغرب مجتمعاً، كاختيار ثالث ما بين خياريْ الليبرالية المتطرفة، والثورية الاشتراكية. لكن أحداً من دعاة هذه الاصلاحية، لا يعثر على القوى السياسية المؤهلة للنهوض بأعبائها. فقد تخطت الأزمة أطروحات أحزاب اليمين واليسار الأوروبية. بل ربما راحت مجتمعاتها تجنح نحو أحزاب اليمين، وتتخلى عن أحزاب الخط الأوروبي الموصوف بالديمقراطي الاشتراكي كما حدث لانتخابات ألمانيا الأخيرة التي أسقطت صيغة تحالف الحكم بين كل من الحزبين الديمقراطي المسيحي، والديمقراطي الاشتراكي، بخسارة هذا الثاني لأصوات شعبيته السابقة. ويفسِّر البعض هذا الجنوح الشعبي نحو اليمين التقليدي، بالرغم من أزمة نظامه الرأسمالي، بالخوف من استعادة أوروبا لمرحلة الأيديولوجيات الشعبوية المتصاعدة ما بين الحربين العالميتين، على أثر الانهيار الأعظم (1929) لرأسمالية القرن التاسع عشر وامتدادها حتى عشرينيات القرن العشرين، كأنما اليمين الأوروبي المعاصر هو المنوط به وحده إصلاحُ رأسماليته، باستردادها تحت جناح أخلاقيته التقليدية المزعومة. من السهل القول أن دول الغرب الأوروبي لم تنجرف نحو سياسة السوق و الادعاء باستقلالية حركيته التلقائية. فلم يخرج اقتصاد السوق من تحت كنف الدولة الأوروبية أبداً، حتى في عز السيطرة شبه الكاملة لعولمة النيوليبرالية. هذا الوضع التاريخي المتأصل أعطى ثمة حماية تلقائية للمجتمع من مؤثرات الأزمة العالمية التي ضربت اقتصاد أمريكا، ولا تزال فاعلة مدمرة في بنية مجتمعها. قلنا في بداية هذا الحديث أن من تقاليد العقلانية الأوروبية أنها مثلما تحتفل بانتصارات مدنيتها، كذلك لا تُقعدها مآزق هذه المدنية عن اجتراح حلولها، بدءاً من تغيير نظامها المعرفي نفسه، الذي يتيح لها ابتكار منهجيات جديدة، مختلفة في فهم ومعالجة اختلاف المأزق الراهن المداهم. ذلك هو الفارق النوعي بين نموذجيْ الاجتماع التحرري والاستبدادي، الذي تنضح ظواهره أكثر خاصة في أوقات الأزمات، وتحت وطأة اتخاذ القرارات المصيرية. فأوروبا مدعوة من قبل أهم مفكريها إلى إعادة النظر جملة وتفصيلاً في نظام رأسماليتها. ولا سبيل لها في ذلك إلا تعزيز اتحادها الذي كادت تطيح به عواصف النيوليبرالية المتدافعة نحوها من ما وراء الأطلسي. هناك نزوع قوي إلى اعطاء هذا الاتحاد شكله السياسي المؤجّل دائماً خلال الظروف السابقة. فالقارة محتاجة أكثر من أي وقت مضى إلى شكل الدولة الاتحادية الكبرى، ودورها الرئيسي المطلوب في خضم التنافسات العالمية التي أخلَّت بالتوازنات الدولية السابقة، مع بروز صيغة التعددية في المراكز الإنتاجية العظمى التي سلبت الغرب مركزيته الأحادية، وحرمته من كل مزايا تفرّده الصناعي في الكم والكيف معاً.
في حين أن كوارث القارة العربية والاسلامية لا تزيدها إلا تفككاً، وانفراطاً لروابطها الجامعة. فالقطريات العربية لن تصمد طويلاً مع المزيد من انكشاف بناها الهشّة التي تعصف بها الأزمة العالمية، دونما أية مناعة أو حماية توفرها لها أجهزة الدولة القطرية المتهافتة والمتخلفة عن كل شيء، أصلاً، له صلة ما بدفاعات الدولة الحديثة عن كيانها وشعبها.
القطريات صائرة حتماً إلى فقاقيع فئوية. فليس ثمة كيان عربي أو إسلامي واحد إلا وهو مهدد بتخلّع مكوناته عن بعضها. فبعد انسداد مختلف التجارب الاصلاحية للمحافظة على الدولة المركزية، وإمدادها ببعض المشروعيات الشعبية المؤيدة لسيادتها، ينجلي الفشل الإصلاحي عن انحسار المركزية المشروعية للدولة إلى مجرد مركزية الفئة المسيطرة على السلطة. ما يدفع بقية الجسم الاجتماعي إلى الاستنجاد بمركزياته الفرعية، بالقبيلة والعشيرة، بالطائفة والمذهب، بالعِرق والجغرافية.
مجتمع المواطنة الحرة تدفعه الأزمات إلى اجتراح أنظمة الوحدة الأعظم لإنسانيته. مجتمع الفقاعة الاستبدادية المتمركزة، يتحول إلى مستنقع من الفقاقيع الفئوية المنتفخة، بانتظار لحظات انفجار فراغاتها المسمومة ضد بعضها.
' مفكر عربي مقيم في باريس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق