
غابة الحقّ
الثلاثاء, 06 فبراير, 2007
فرنسيس مرّاش صاحب "غابة الحق" كان على قصر عمره [1835 ـ 1874]، زعيماً أدبياً ترك دويّاً إذ اجترأ على نشد الحرية يوم كانت الأفواه مكمومة، والمرّاش ابن بيت علم فأخوه عبدالله عُرف بالفضل والأدب وقد زار مكاتب أوروبا فلندن وباريس ونسخ منها آثاراً عربية أعجبته ورأى فيها فائدة لأبناء جنسه الناطقين بالضاد، وأخته مريانا شاعرة كاتبة.
ولد فرنسيس مرّاش بمدينة حلب واعتلّ بصره في الرابعة من عمره. قال الشعر وهو ابن تسع كما رووا عنه وعن أديب إسحاق وغيرهما. ولما حذق العربية شاء ان يكون طبيباً فتتلمذ لطبيب إنكليزي بحلب، ثم طمح في أن يكون طبيباً قانونياً فرحل الى فرنسا طالبا لهذا العلم، لكنه عاد من باريس مكفوفاً ولم يستفد منها طباً. أراد هو الطبّ وأراد القضاء الأدب، فكتب "مشهد الأحوال" و"غابة الحق"، وكان تالياً أول منوّر عربي يصوغ نظريتي "العقد الاجتماعي" و"الحق الطبيعي" على نحو مترابط، اذ إنّ هذه الصياغة تكاد تكون مفقودة في الميراث التنويري العربي الحديث، وتبدو أهمية ذلك في أن المرّاش أعاد صياغة أهم نظرية في الثورة الفرنسية، تولّى الجناح اليعقوبي شرحها وحوّلها الى فلسفة سياسية وقد بدأ المرّاش من هذه الفلسفة ووسع أفقها، بل أعاد انتاجها بما يناسب واقعه المخصوص، تماماً كما أعاد انتاج فلسفة وإبداع الاستنارة الفرنسية التي تأثّر بأعلامها، كما تأثر بشعارات الثورة الفرنسية التي دعت الى الحرية والتآخي والمساواة.
أصدر المرّاش "غابة الحق" في 1865 وطبعها بمدينة حلب في المطبعة المارونية، لم يحدّثنا المرّاش عن الأسباب التي دفعته الى كتابة روايته الرائدة "غابة الحق"، لكن الرواية نفسها تقول لنا، على نحو ضمني ـ إن تأليفها مرتبطٌ بأمرين: أولهما وعي المدينة المحدثة الذي انطوى عليه المرّاش، خصوصاً الوعي بمدينة حلب التي تعدّدت أديانها وأجناسها، ووصلت في علاقات التحديث الى الدرجة التي تأسّست بها أنواع من الحواريات الفكرية والاجتماعية التي كانت مثابة النسغ التي استمدّت منه "غابة الحق" موضوعها الأساسي، وهو موضوع له علاقة بشعارات الثورة الفرنسية عن الحرية والتآخي والمساواة، تلك الشعارات التي ظلت تتردّد في الأفئدة منذ انفجار هذه الثورة التي بدأت بسقوط الباستيل، رمز العبودية سنة 1789. ولا يغيب ذلك كلّه عن وعي المرّاش الذي كان يحلم بعالم جديد يتنازل فيه السلطان العثماني عن رؤى العالم القديمة ليفسح السبيل الى عالم واحد تتحقّق فيه مملكة التمدّن التي عثر عليها المرّاش في "غابة الحق" التي تخيّلها على شاكلة أحلامه، وذلك هو الأمر الثاني الذي دفع المرّاش الى الكتابة، سواء من زاوية التبشير بعالم جديد، أو توجيه النقد غير المباشر الى ما هو سائد وينتمي الى العالم القديم الذي حلم المرّاش بمجاوزته والدخول الى عالم جديد.
هذا عن "غابة الحق" المشعّة.
أما نحن فباستيل مظلم.
محمود شريح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق