الأحد، ٢٦ تموز ٢٠٠٩

إلــى أيــن تذهــب الجرائــم؟


إلــى أيــن تذهــب الجرائــم؟


عباس بيضون

كنت خائفاً من 29 عاماً مضت. وحين كنت اصعد الهضبة التي صعدتها آخر مرة منذ 28 عاماً لم يكن عندي سوى الشعور بأنني لست في أي زمن. كنت متنازعاً بين زمنين محصوراً ومتوتراً. بات بعيداً ذلك الوقت الذي استدعيت فيه من مصطافي في بلدة أمي على نبأ يقول ان عبد اللطيف اغتيل. كنا متلازمين ويستحضر احدنا الآخر ونذكر مقترنين، لكني لم أكن أخاً وقريباً وكان علي ان اتلقى ذلك الجزء الحر وغير المرسوم في المأساة. لم يكن الأمر مع ذلك شاقا فقد وقع جل المأساة على اشخاص وعلى مواضع لم تكن كلها في البلدة ولا من العائلة. فضلاً عن التباس ضخم كان يحيط بالمسألة في هذين المكانين. كان عبد اللطيف في المجلس السياسي للحركة الوطنية المتحالفة يومئذ مع المنظمات الفلسطينية، ولم يكن هذا مزاج البلدة الذي احتقن مع الوقت ضد السلاح الفلسطيني. حضر الجنازة كثيرون من المدينة مع الاقرباء القريبين وحين كان النعش محمولاً على الهضبة المؤدية الى بيت عبد اللطيف الذي لم ينته عماره والذي تقرر دفنه فيه، سقط الرصاص على المشيعين فسقط النعش أرضاً وقتل اثنان أحدهما فتى والثاني طفل على ذراعي أبيه. استؤنفت الجنازة ودفن عبد اللطيف في داره ولم أعد الى المكان إلا مرة. عدت وحيداً في ذكراه الثانية. تراخت 29 عاماً على الجريمة، وها هناك من يستذكرها، وها هي دعوة الى احتفال بذكرى عبد اللطيف في داره وفي بلدته.
ترددت ثم وجدتني غير قادر على الجزم فحملت نفسي بدون قرار الى المدينة ثم الى البلدة. وصلت الى الهضبة وأنا لا اصدق انني وصلت، وجلست في الاحتفال وأنا لا استوعب اني جلست. رأيت أمامي صورة عبد اللطيف بنظارتيه ووجهه الرائق الأنيس والى جانبيها علمان: العربي واللبناني. وجاء في الدعوة انها في ذكرى «المناضل الوطني الكبير». أما الخطب فكانت تسترجع عبد اللطيف ثم تنتقل به الى يوم يفترق عنه بـ29 عاماً. لقد كان كل شيء في هذه المنطقة الغائمة بين زمانين. ولم تكن منطقة ضيقة ولا محصورة فهي قرابة ثلاثة عقود وقد لعبت بها ظروف واحداث عنيفة ودراماتيكية وتغيرات في كل مجال، ولا بد من ان الانتقال بين الضفتين كان أشبه بالقفز او كان بحد ذاته ضياعاً بحتاً. بل كان في الأغلب خادعاً وظاهرياً فالطيران بين الحدين يتم فوق أودية ومنحدرات وهضاب ومن الصعب بل من المستحيل ان تجمعهما في واحد او ان تجد لحمة من أي نوع بين الأول والآخر، او ان تنقل الشخص نفسه على مدى ثلاثين عاماً، وان تمدد حياته السياسية طوال هذا الوقت او ان تقفز على التباس اغتياله وتوكل للزمن تخريجاً لا جواباً على كل ما زال سؤالاً او فقد مع الوقت حقه في ان يبقى كسؤال.
كنا في نوع من زمن افتراضي نتحرك بقوة الاسماء والصور، لم نكن في زمننا ولا مكاننا وعلى الأغلب لم نكن شيئاّ مذكوراً.
لم تكن الهضبة كما عرفتها او بالأحرى كما نسيتها. لقد قامت دار عبد اللطيف وعلت فوق قبره لكن الهضبة امتلأت بالعمار واكتست خضرة واشجاراً. تمهدت أرضها وكان من الصعب ان اعثر فيها على الرمل الذي رقدت فيه شاخصاً الى الدار التي حوت جثمان عبد اللطيف قبل دفنه. كنت آنذاك وحيدا مع نفسي لكني كنت في حيرة أخرى، هي كيف اكون في دوري ومكاني من هذه المأساة. كيف اكون الجناح الآخر لهذا الغياب، وكيف أقف بنبل مرفوع الرأس تحت أجنحة الملحمة. كانت نفسي آنذاك فرغت فجأة إذ لم يكن هناك مخيلة ولا استعداد ولا ذاكرة لدور كهذا. تركني الخبر هامد النفس والحس وكنت على الرمل الذي رقدت عليه أجاهد لأسترجع حسي وتواصلي. الآن وجدتني تقريباً في هذه الليلة، التي كانت هي نفسها تقريباً خارج الزمن. ليلة ليس لها ما قبلها وما بعدها. أمضيتها يومذاك بعيداً عن نفسي وعن شخصي وعن محيطي ضائعاً مختلطاً في كل ذلك وها أنا اليوم وأنا على كرسي في الاحتفال أمام الدار في الحيرة نفسها. لست في يومي ولا في نفسي ولا في أي مكان ولا أي يوم، لذا ورحت اسأل نفسي اذا لم يكن هذا شأني طوال هذه الأيام. إذا لم يكن هذا الكسوف الزماني هو شعوري الدائم بالزمن. إذا لم تكن هذه الصور غير المؤرخة هي ما أراه واعيشه كل يوم. بل رحت اسأل نفسي متى خرجت حقاً من الزمن، متى لم أعد أحس انني مشدود الى ظرف والى تاريخ والى عام والى مرحلة. ألست في مجمل ايامي احوم فوق الاوقات وبين الاوقات. بل تساءلت إذا لم تكن هذه حالنا كلنا. إذا لم نكن جميعاً في هذا الكسوف وفي تلك الحيرة. إذا لم نكن جميعاً في هذا التحويم الزمني. إذا لم يكن الحاضر هو هذا او شبهه.
وصلت متوتراً وجلست متوتراً. لكن هذا لم يطل. إذا كنت عند نفسي محصورا بين حدين فإن المسافة بينهما لم تكن قابضة ولا مشدودة. كانت رحبة ومترامية. بل كانت فوق ذلك مغطاة بالضباب وبالغبار. ولم تكن مسالكها واضحة او مضاءة ثم انها متآكلة في بعضها، ممحوة في بعضها. بل يمكن القول ان ما تبقى منها لم يعد هياكلها ومعالمها الكبيرة. كانت شبه منسية. فما بدا لنا زمناً لم يكن سوى تظاهر النسيان، لم يكن سوى غياب فارغ او فراغ. لماذا لا نقول اننا حين اكتشفنا انها 29 عاماً لم ننتبه الى انها لم تعد شيئاً. اننا لم نجد شيئاً، وان محاولة الوصل بين ضفتين على حد تعبير وديع سعادة لم تكن سوى لعبة خيال ان لم تكن لعبة الفاظ.
كان شعوري بأنني محصور بين زمنين من تهيؤاتي وربما كان، من رغبة مني، بأن املك تاريخاً وان يكون لي زمن ما. في الحقيقة كان الأمر أهون من ذلك، كنت اسبح في الفراغ. لقد زال كل شيء تقريباً بل بهت في داخلي. لم أكن لاعرف الوجوه. وبصعوبة تميزت الأمكنة التي لم تكن على حالها بانتظاري. لم يكن هناك شيء باق لذا زال توتري وغرقت في خفة غامرة. كان هذا مرعباً بحد ذاته، إن اكن نسيت كل ذلك او اشبهت ان انسى فلأنني نسيت نفسي. لقد غاب عبد اللطيف لكنني لم اكن اقل غياباً. ها هي الـ 29 عاماً التي كانت غيابه هي أيضاً غيابي. الجريمة. نعم الجريمة. الجريمة المثلثة. الجريمة بكل معنى الكلمة. زالت بكل الدم الذي سال منها، وها هي بدون حضور. عاد عبد اللطيف (المناضل الوطني الكبير) كنيةً من هذه الأيام ومن احتفالات هذه الأيام. أما جراحه فقد امحت. أما العسف الذي وقع على الجنازة فقد زال. أما الطفل الذي قتل على ذراعي والده فلم يعد موجوداً.
يتكلمون عن صبر الصينيين على المكاره وكيف سكت المهانون المظلومون في الثورة الثقافية وسواها عما اصابهم واكتفوا بالنجاة. هل هو الصبر أم ضياع الزمن. هل هو الصبر أم الانكار. هل هو انتصار الظلم وانتصار الجريمة. لا اعرف إذا كان النسيان هرب التاريخ من المسؤولية ام انه فقدانه. هل يمكن ان نتكلم عن تسامح لاإرادي أم مجرد تسليم.