على الأقل
الأعجوبة اللبنانية!
البهدلة آتية من مكان آخر، وصارت عصية على التحديد، لأن هناك طائفة وحيدة من اللبنانيين واللبنانيات تتعرض لها، هي طائفة من لا طائفة له. في الماضي، قبل ان يتم استكمال البنى الطائفية، بحيث صارت تهيمن على جميع مرافق الحياة، من التعليم الى الطبابة الى السكن الى آخره... كان في امكان هذه الطائفة دعوة اللبنانيين واللبنانيات الى الالتحاق بها، حفاظا على مصالحهم. كانت المدرسة العامة تشكل املا للفقراء بالتعليم، وكانت الجامعة اللبنانية تسعى الى ان تكون جامعة حقيقية لأبناء الطبقات الوسطى والفقيرة، وكان الضمان الصحي وسيلة للتغلب على فحش المستشفيات، وتحول الشفاء الى ميزة لا يحصل عليها الا الأغنياء.
اما اليوم فلا. صار التعليم في عهدة الطوائف والمذاهب، وصار التطبيب المجاني بالواسطة، ونجحت الطوائف في تحويل اللبنانيين الى متسولين سعداء بالتسول. ومن لا يعجبه الوضع يستطيع ان يهاجر، او يدقّ رأسه بالحائط. ندفع فاتورتي كهرباء وفاتورتي مياه، والغلاء يكوينا، والأجور ثابتة لا تتزحزح، ومن يريد حلا، عليه بالهجرة الى منابع النفط او العمل في احد فروع مؤسسة الدعارة!
الأجمل من ذلك كلّه، ان عليك ان تزبّط حالك، لأن هناك ما يشبه الاجماع في الوسط السياسي الطائفي، على ان هذا النظام الوحشي هو الأنسب. الشعب راض، فالشعب لم ينتخب برنامجا سياسيا او اجتماعيا، بل انتخب ممثليه الطائفيين. واذا دققت في الفرق بين البرنامج الاقتصادي الاجتماعي لحزب ليبيرالي اسمه "المستقبل"، وبرنامج حزب المقاومة فإنك لن تجد فرقا. واذا سألت "حزب الله" كيف يدعونا الى المقاومة وقد تحولنا الى ما يشبه الشحاذين، قدّم اليك جواب جميع الحركات الأصولية التي انتظم برنامجها الاقتصادي حول مشروع الليبيرالية الجديدة!
لا يحق لك ان تسأل لماذا هذه العجقة حول تأليف الحكومة، لأن الجواب الجاهز هو الشراكة. وحين تسأل لماذا الخلاف على الشراكة، طالما ان القوى التي سوف تضمها حكومة الوحدة الوطنية، تمتلك البرنامج الاقتصادي الاجتماعي نفسه، تفهم ان الشراكة تعني نفوذ الطوائف، وان الكلمة الملائمة يجب ان تكون الشركة لا الشراكة. وان هذا النفوذ لا يتأمن الا حين تتأكد حصص حماتها الاقليميين في السلطة اللبنانية.
تسأل: ولكن كيف يحاربون الفساد؟ فيجيبونك: بالوحدة الوطنية.
ولكن من يتحد مع من؟
فيكون الجواب ان اتحاد الفاسدين يصنع الخلاص من الفساد!
اين نحن؟ تسأل.
من انتم؟ يجيبونك.
نحن من لا طائفة لنا، تقول.
انتم لا مكان لكم، فلبنان بلد التسامح، وانتم لا تحتاجون الى تسامح.
تقول ولا جواب، ثم تتذكر ان ازالة خانة الطائفة من الهوية ليست سوى فعل رمزي. اذ انها لا تساوي شيئا، لأن كل شيء مطيّف، فأنت لا تستطيع ان تنتخب الا في مركز اقتراع طائفي، ولا تستطيع ان تتزوج الا دينيا، ولا ترث الا بحسب قانون الاحوال الشخصية المفصّل على قياس الطوائف...
المشكلة انك لا تملك مدرسة ولا جامعة ولا شيء. حتى المقابر مصنوعة على المثال الطائفي، بحيث تجد نفسك هامشيا، او عليك ان تخالف القانون مواربة او في شكل صريح.
كي تتزوج تذهب الى قبرص، وكي تحترم نفسك ترسل ابناءك الى مدارس علمانية اجنبية، اما اذا كنت طفرانا، فليس لك من خيار سوى ان تستزلم او تجد من يتوسط لك كي لا تتبهدل.
كوميديا سوداء، تثير الضحك والغضب في آن واحد. لا حقوق للمرأة، وحين يجرؤ قاض مستنير على السماح للبنانية متزوجة من اجنبي بأن تعطي أبناءها الجنسية اللبنانية، تقوم الدنيا ولا تقعد، وتتولى النيابة العامة استئناف الحكم الذي اصدرته محكمة جديدة المتن بتاريخ 16 حزيران 2009. وحين تتكلم منطقا بسيطا، عن حقك في التمتع بالشاطئ والسباحة من دون ان تتعرض للغرق، تكتشف ان لا شاطئ، وان المخالفات البحرية التهمت كل شيء، وان السباحة تكلّف في حدّها الأدنى عشرين الف ليرة، كرسم دخول الى مسبح صخري ملوّث كي تسبح في بركة!
الموضوع الوحيد الذي يحتل الأخبار هو لعبة الطوائف، والقضايا الكبرى. لا يحق لنا ان ندرس او نسبح او يكون لنا نقابة حقيقية تحمي مصالحنا الا بعد تحرير مزارع شبعا! وحتى اذا تحررت، من يدري، ربما يكون علينا ان نبقى في سيرك الطوائف، لأنهم سيكتشفون مثلا ان العلاقات المميزة مع الشقيقة سوريا ضرورية من اجل استئصال الفساد تمهيدا للاصلاح، والى آخره...
المسألة ان اللبناني او اللبنانية الذي ليس جزءا من لعبة الطوائف، اي ليس مستزلما لزعيم او ما شابه، لا مكان له. لأن لا سياسة في لبنان ولا مجتمع الا من هذا الثقب الذي يتسع لكل هذه القطعان.
لكن المثير، هو الصفة الكوميدية التي تتخذها المآسي في هذا الوطن الأعجوبة. بدل ان يغضب اللبنانيون ويثورون، تراهم مستسلمين ضاحكين. حتى الموت اليومي صار اشبه بنكتة.
البلاهة التي ترتسم على وجوه الجميع هي المعادل الموضوعي لليأس. لكنه يأس المتفرجين. قمة الابداع اللبناني تكمن في تحويل الضحية متفرجا والمأساة ملهاة.
وهذا ما يمكن ان يندرج في اطار ما يطلقون عليه اسم: الاعجوبة اللبنانية.
الياس خوري
الأحد 26 تموز 2009 - السنة 76 - العدد 23766