ماذا أفعل هنا على الأرض؟ سأل رائد الفضاء نفسه
المستقبل - الاحد 26 تموز 2009 - العدد 3374 - نوافذ - صفحة 9
حسن داوود
انظر إلى هذه، قال لي نيل بلتون مشيرا بإصبعه إلى تلك الحجرة المخروطيّة الشكل والتي تحتل تلك الصدارة من المتحف العلمي البريطاني. كان قد سبق لي أن شاهدتها من قبل، لكنني كنت أحسب أنّه لا يمكن لها أن تكون بهذا الصغر. قلت لنيل إنني لن أطيق الجلوس فيها من هنا إلى بيروت. ضحك، ثم قال إنّه لن يطيق الركوب فيها حتى حيّ سوهو، الذي لم يكن يبعد عنا إلاّ كيلومترات قليلة. كانت الحكومة الأميركيّة قد أهدتها إلى بريطانيا، على نحو ما يهدي الأخ الأكبر بعضا من إنجازه لأخيه الأصغر، خصوصا وأن هذا الصغير لا تسعفه قدراته على الخوض في نزاع ذلك الإنجاز الفضائي المحموم آنذاك بين الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفياتي. لكن كيف يهدونكم شيئا كهذا، قلت لنيل بلتون، وهذا على الرغم من أنّني لم أجدها متقنة الصناعة. كانت صفائحها ذات الأطراف غير المنعّمة موصولة بالبراغي، وقد بدت بمجملها كما لو أنّها لم تخضع لما يسمّى الـ« فينيشينغ«. وهذا ما جعلها كثيرة الشبه، بل مطابقة، لعربات الصعود إلى الفضاء التي كنا نشاهدها في سينما الخمسينات، بالأبيض والأسود، المقتبسة عن روايات إدغار ألان بو وجول فيرن..
هذه الحجرة، التي انفصلت عما كان يحملها في الفضاء، اتسعت لثلاثة روّاد،على الأقل، أقاموا فيها فترة تراوحت بين أسبوع وعشرة أيّام (بحسب ما ذكر عن المدد التي قضتها كل من مركبات أبولو في الفضاء)، ولم يخرجوا منها إلا ليخطوا على سطح القمر. تلك الخطوة الأولى التي قام بها نيل أرمسترونغ، أوّلا، حقّقت السبق الحاسم على برامج الإتّحاد السوفياتي الفضائيّة ما أدّى، ليس إلى توقّف هذا الأخير عن إستكمال ما كان قد بدأ به، متفوّقاً، بل أدّى أيضاً إلى طيّ صفحة الفضاء بعد رحلات خمس أو ست أميركيّة. أي أنّ »غزو القمر« كان نهاية وليس بداية حيث، بعد ثلاث سنوات على رحلة أبولو 11، أي في العام 1972، » لم يعد أحد إلى الإرتفاع فوق جاذبيّة الأرض«، كما كتب جيوفاني ف. بغنامي الرئيس السابق لوكالة الفضاء الإيطالية (صحيفة هيرالد تريبيون 18- 19 تموز الجاري).
ذاك لأنّ النزاع في هذا المجال قد حطّ رحاله، لكن أيضا كان ينبغي التوقّف خلال هذه العقود لكي لاتكون تلك اللحظة عمليّة في سياق. ذاك لأنّ ما تحقّق فيها ليس إنجازا علميّا تمثّل في دراسة تربة القمر وحرارته وقوانينه البيئيّة، بل، وربما كان هذا هو الأهم، تحقيق نقلة في الظَفَرَ البشري قوامها بلوغ ما يتعدّى نطاق الأرض. ربّما كان اختراع الكهرباء أكثر إفادة للبشريّة من خطوة الصعود إلى القمر، لكن الفارق بين الإثنين هو في العمق التاريخي للحلم المتصل باستكناه القمر واستعصاء إمكان الوصول إليه على التصديق. في لحظة ما كانت تبثّ وقائع ذلك »النزول«، مباشرة، كان هناك من كتب أنّ ذلك لا يعدو كونه اختلاقاً وكذباً (كما أن ّ ثمة الآن، بعد أربعين سنة على الحدث، من يكذّب واقعته بالقول إنّ الرواد نزلوا صحراء نيفادا وليس سطح القمر كما زعموا)، ثم إنّ ذلك الحدث بدا كما لو أنّه حصل مفاجئاً، تاماً كاملاً من أوّله، فيما احتاج ضوء الكهرباء إلى نحو قرنين ليصل إلى ضيعتنا النميرية، قاطعاً تلك الرحلة المنهكة من إضاءته الأولى في تلك الغرفة التي تحقّق فيها اختراعه.
لحظة النزول إلى القمر كان ينبغي لها أن تبقي الزمن خالياً من بعدها لأربعين سنة أو خمسين (احتساباً لقول الأميركيين الآن إلى أنهّم سيعودون لزيارة القمر في العام 2020)، وذلك بما يشبه ترك مساحة ممتدّة من الأرض أمام أثر معماري تاريخي. ولنضف إلى ذلك الحاجة إلى الاستراحة التي ينبغي أن يكون وقتها أكثر طولاً كلما كان الإنجاز الذي سبقها مهمّاً. وأيضاً، من ناحية أخرى، يحتاج ذلك الذي تحقّق إلى ما يزيد عن أربعين سنة إلى هضمه، أقصد إلى دراسته، بل إلى تأمّله حيث لا عدّ للكتب التي صدرت متناولة كلّ ما يتعلّق بتلك الرحلة. ذلك تعدّى بالطبع الكتابات العلميّة والفلكيّة والسياسيّة إلى الأدب والتاريخ والخرافة وصورة القمر، أو صوره التي تحوّل القمر إلى أن يكونها بعد اكتشافه، ثم دراسة ذلك الصنف الجديد من الأشخاص النجوم الذين هم روّاد الفضاء، هؤلاء الذين رأت مجلّة تايم الأميركيّة أن تكتفي بإجراء تحقيق تفصيليّ عنهم في المناسبة الأربعينيّة هذه.
وقد أوكلت لرجال الفضاء هؤلاء مهمّة الوصف والتأمّل إضافة إلى مهمّات العلم والاكتشاف. كان كلام نيل أرمسترونغ في وصف الأرض مرئيّة من القمر، ذلك الذي نقلته الصحف ووسائل الإعلام جميعها آنذاك، أشبه بنوع جديد من الشعر طالع من نوع جديد من الرؤيا، وداحض، لمجرد صدوره عن شخص رأى، جميع ما كان قد جرى تصوّره عن القمر منذ ما قبل القرن الثاني بعد الميلاد حين كتب لوسيان ساموزاتا أوّل رحلة متخيّلة إليه، واصفاً إياها بأنّها »رحلة حقيقية« وسيلتها مركبة قذفتها إلى هناك نافورة هائلة جبّارة القوّة. أما الكائنات الموصوفة في ما كتبه فرجال يمتطون ظهور نسور برؤوس ثلاثة وبراغيث عملاقة. (في صفحتها الثقافية للأسبوع الفائت نشرت الهيرالد تريبيون تحقيقاً أرّخت فيه للرحلات المتخيّلة إلى القمر، منذ بدايتها مع ساموزاتا وصولا إلى وقت غير بعيد عن تقافز نيل أرمستونغ على تربته. كان هؤلاء الخياليون قد »سبقوا قفزته العملاقة في الأدب والرواية والسينما. وهم صعدوا إلى القمر مستقلّين سفنا طائرة وعربات مجنّحة ومقذوفات أطلقتها مدافع ضخمة. وقد التقوا هناك بعمالقة ورجال حشرات ونازيين ونساء عاريات الصدور« هذا بالإضافة إلى ما لاحصر له من المخلوقات التي تصنعها المخيّلات).
طالما أن لا هواء هناك في القمر، سيبقى أثر الحذاء الفضائي الذي كان يرتديه باظ ألدرين مطبوعا في مكانه، تماما مثلما ظهر في الصورة التي التقطت قبل أربعين عاما. تلك »الدعسة« الخالدة، قولاً وفعلاً، ربما تذكّر ألدرين نفسه بأن لا شيء في حياته يدانيها أهمّية. هو الآن، بعد انقضاء تلك السنوات الأربعين، لا يستطيع مغادرة رحلته تلك. الساعات الإحدى والعشرين والدقائق الست والثلاثين التي قضاها هناك، شكّلت كلّ ما تبعها من سنيّ حياته. تكفي تلك الجردة القليلة التي فصلت فيها مجلة تايم حياة الرواد بين لحظات مجدهم وبين ما هم عليه الآن حتى نعرف أن الضوء الذي ما زال مسلّطا عليهم لا يكفي لإبقائهم متوازنين. ومع أنّهم، الآن، يعملون في مهن إستشاريّة وهندسية وتعليميّة، كما في رئاسة هيئات وجمعيّات، إلاّ أنهم لا ينفكّون عن التفكير في أنهم أنجزوا كلّ شيء قبل تلك العقود الأربعة ولم يعد هناك شيء مهمّ يقومون به. أحدهم ذكر كيف أنّه، بعد هبوطه بنحو شهر، راح يسائل نفسه: لكن ماذا أفعل هنا؟ حيث كان بين آخرين دُعوا إلى حفل عشاء.