أين هم الآن ساكنو منطقة الصنائع وروّاد حديقتها؟
المستقبل - الاحد 5 تموز 2009 - العدد 3354 -
حسن داوود
أبو يوسف، العجوز المقبل على ثمانيناته، اختصر حياته بحادثتين اثنتين: مقتله لعروسه، أيّام كان شابا، بعدما وجدها في غرفة النوم، بل في سريره الزوجي، مع عشيقها، عاريين. أما الحادثة الثانية فتلك التي كلّفته قضاء سبع سنوات في سجن إسرائيلي، من دون أن نعرف، نحن سامعوه، ما هي هذه الحادثة وكيف حدثت، ومتى؟
أما مهاراته التي اكتسبها في حياته فلا تتعدّى الإثنتين أيضا: إدخال الخيوط الملوّنة بعضها ببعض وتشكيلها ليصنع منها سلالا تكاد تحتويها، لصغرها، قبضة اليد، وها هو يعتاش من صنعها وبيعها في حديقة الصنائع، بعد أن منعته الشرطة من التردّد على كورنيش البحر ليبيعها هناك أيضا. صنعُ السلال مهارة أتقنها أثناء فترة سجنه في إسرائيل، كما قال، وليس في السجن اللبناني الذي قضى فيه مدّة نافت قليلا عن السنوات السبع. أمّا المهارة الثانية فإجادته التكلّم بالعبريّة إلى حدّ أنّه، إن تطوّع الآن للقيام بعمليّة انتحاريّة في إسرائيل، كما قال، سيصل إلى هناك، حاملا حقيبة المتفجّرات، من دون أن يشتبهوا به: أكلّمهم بلغتهم، بالعبري، قال فيما هو ينظر، مبتسما ومتفاخرا، للصوت الذي يسائله بجانب الكاميرا.
وهو شكا من عدم إقبال مرتادي الحديقة على بضاعته: "نهار الأحد الماضي كانت الجنينة ملآنة، حتى إنّ الناس جلسوا على داير مدار حافة البركة.. وما بعت سلّة واحدة". ذاك لأنهم يستكثرون الألفي ليرة. إحداهنّ قالت له إنّها تشتري ثلاث سلل بالألفين.." حلّي يا عمّي" قال لها فيما هو يعود للتحديق بالخيطان البلاستيكيّة الملوّنة التي بين يديه.
أبو يوسف إستحقّ لوحده فيلماً كاملاً من الأفلام المستقلّ أحدها عن الآخر لكن التي تنقل جميعها الحياة الجارية في حديقة الصنائع ومحيطها. ليس فقط لأنّ لديه ما يرويه (وهو حادث حياته الأوّل الذي يختلط فيه الأسى والندم بالزهو وبادّعاء القبضنة)، بل أيضا لما في كلامه ونظراته من عبث وملاعبة. بين مرتادي حديقة الصنائع في يوم ما التقته الكاميرا، كان هو الوحيد بين من مرّوا من أمامها الذي حظي برواية تستحقّ أن تسمع، رغم عدم التصديق الذي يلازم إصغاء سامعها. وعلى الرغم من أنّه أكبر سنّا من جميع الآخرين هناك، إذ هو مقبل على الثمانين فيما هم في خمسيناتهم أو ستّيناتهم، إلاّ أنه ما زال باقيا في ما كان عليه مزاجه في أيّام شبابه. كأنّه لم يكبر إلا بالعمر وحده. أما مشاهدو الفيلم ممّن كانوا روّاد الحديقة في طفولتهم ويفاعتهم من بعد، ومنهم كاتب هذه السطور، فقد أعادهم أبو يوسف إلى كلام ذلك الزمن. هكذا كان الناس يتكلّمون آنذاك، قبل أن يمرّ الكلام في مجاري الأزمات والحروب وتبدّل الزمن.
أبو يوسف أبقى نفسه على حالها لم يغيّر فيها شيئا، شأنه في ذلك شأن الحديقة التي، باستثناء تلك الألعاب البلاستيكيّة التي وضعوها في طرفها الغربي ليتزحلق عليها الأولاد، لا يبدو أن شيئا تغيّر عن أيام الخمسينات. ربّما باتت العناية بسقاية الزهور أقلّ ممّا كانت، لكنّ الأحواض المستديرة ما زالت مستديرة. البركة أيضا ما زالت تعيّن وسط الحديقة، وإن كانت اليوم فارغة من الماء الذي كان يملأها حتّى حافّتها ويتزيّن مرتفعا من النافورة من السادسة صباحا حتى حلول المساء. أمّا زوّارها فباتوا قليلين، باستثناء يوم الأحد ذاك، الذي وصف أبو يوسف زحمته، وهم كلّهم، كما رأينا في شريطه، كبار لازموا الحديقة، ربما، منذ ماضي أيّامهم. وقد بدوا لنا روّادا يوميين إذ جعلوا يكلّمون بعضهم بعضا عارفين في أيّ الآذان يقع كلامهم وكيف سيُستقبل وقعه. بائعة القهوة الجوّالة تعرفهم، وهي تقدّم القهوة بالمجان لأبي يوسف لأنّها تعطف على الفقراء، الذين هي منهم. في ركن من أركان الحديقة نصبت بائعة القهوة موقدتها لغلي القهوة، كما اقتطعت منها مساحة صغيرة لتحفظ بها باقي العدّة التي لن تحملها معها في طوافها بين الأحواض وأمكنة جلوس الزائرين.
لقد تغيّر وجه الحديقة على رغم تجديد بوّابتها منذ عشر سنوات أو أكثر ربّما، فأقيم مبنى حجريّ صغير بجانبها لزوم إدارتها وتنظيم حراستها. لكن أولئك القائمين عليها من الحرّاس لن يتعرّضوا لمشاكسة الأولاد ولا هم سيقومون باختبار سلطتهم عليهم. لقد تغيّر الزمن الذي كان يُرى حارس الحديقة فيه قريبا من سلك العسكريّة وإن لم تكن له وهرتهم كلّها. كان نصف عسكري نصف حارس، وهذا ما كان يوقعه في سخطه، يوقعه هو، فيروح يحنق وينرفز لأن ّالأولاد يكايدونه ؤيستفزّونه.
في أوقات من السنة، بل في شهور منها، كانت الحديقة تشذّ عن دوامها فتعاود سهرا ليليّا يبدأ المدعوّون إليه بالقدوم في حوالى التاسعة. تلك سهرات كانت تقيمها الدولة، وزارة الخارجيّة مثلا، أو تقيمها إحدى السفارات. من الطوابق العليا للبنايات التي تحيط بها، كان يمكن للساكنين أن يشاهدوا الزينة الكثيرة التي تطلّبها اتساع المكان. في بعض السهرات كانت الموسيقى التي تُعزف حيّة تنتشر حتى إلى ما بعد بناية الأونيون من ناحية وحتى إلى بداية حيّ الملاّ من الناحية الأخرى. وفي أكثر طوابق البنايات لم يكن الساكنون يقفون طويلا على الشرفات، إذ سبق لهم أن دُعوا إلى حفلات مماثلة، إن لم يكن في حديقة الصنائع ففي مكان آخر سواها. في البنايتين اللتين كانتا تطلان عليها من الجهة الجنوبيّة كان فرنسيّون وروس وأرمن ومسيحيون ومسلمون يتوزّعون البيوت، وكذا كان الحال في البنايات التي تحدّ الحديقة من ناحيتي الشرق والغرب.. أمّا من جهة الشمال فلم يتغيّر شيء كثير منذ أن بُنيت الإذاعة اللبنانيّة بالقرب من كلّية الحقوق. آنذاك، في تلك السنوات القديمة، كان الجيران، في حال اتّصالهم بعضهم ببعض، وهو اتّصال قليل ومتقطّع، يبدون كأنّهم يؤسّسون لعيش لم يكن معتادا من قبل، لكأنّهم كانوا يغامرون بتجريب شيء لا يعرفه أولئك الساكنون في بيوت حيّ الملاّ المزدحم الكثير الدكاكين.
ذلك الذي كانوا يؤسّسونه، أو يحاولونه، لم يتأسّس إلاّ قليلا. في الأشرطة التي صوّرتها باسكال فغالي بدت الحديقة ومحيطها مذكّرتين بما سبق لنا أن عرفناه من انقلاب الأمكنة على أحوالها. باستثناء الشريط عن أبي يوسف الذي يجري في داخل الحديقة، وإلى حدّ ما على الأرصفة الملاصقة لها، وهو أوّل الأشرطة لجهة التتابع في المشاهد، بدت منطقة الصنائع وقد تغيّرت تغيّرا تامّا عمّا كانته. من السهل أن نسرع إلى القول، كما بات يقال على سبيل التعميم، إنّ حيّ الملاّ قد غزا منطقة الصنائع المحاذية له، لكن ذلك ليس صحيحا على التمام لأنّ منطقة الملاّ، حتى في تلك الأيّام، كانت تنظر بمزيج من الإعجاب والإستغراب إلى عيش جيرانهم القريبين.
كما أنّنا نكون نتسرّع أيضا إن قلنا إنّ عائلة واحدة من بين العائلات المقيمة في البنايات، عائلة تنتسب إلى واحدة من طوائف هؤلاء الساكنين، قد تكاثرت في الحيّ الذي هجره جميع الآخرين، ذاك لأنّ هؤلاء الساكنين كانوا قد تغيّروا جميعهم عن الحال الذي ينقله فيلم باسكال فغالي عن سكان الحيّ اليوم ( وإن امتدّ هذا اليوم، بحسب تواريخ تصوير الأشرطة، من 2002 حتى الآن، 2009).
يُذكر أنّ أشرطة الفيلم التي تناولت منطقة ما حول الحديقة صوّرت، على طريقة الفقرات المعنونة بعبارة No comment، نساء متجمّعات في قاعة مسجد يحيين ليلة القدر، وفي شريط ثان شاهدنا دورة الطبّال على البيوت لتجميع إكراميّته في أول أيّام عيد الفطر، ثمّ الشريط الرابع الذي يصوّر، بالتفصيل، نحر الخراف وتقطيع لحومها قطعا توزّع على فقراء الحيّ...
[ وقّعت باسكال فغالي مساء الإثنين 29 حزيران، بمكتبة البرج، كتابها الصادر باللغة الفرنسيّة، " حي الصنائع في بيروت_ رحلة إكتشاف بصريّة مصوّرة". مرفق بالكتاب عمل سينمائي، وكلاهما من إصدارات المعهد الفرنسي للشرق الأوسط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق