السبت، ٧ تشرين الثاني ٢٠٠٩

الانتخابات والإصلاح: العـلاقة المعكوسة


الانتخابات والإصلاح: العـلاقة المعكوسة

من التحضيرات للحملة الانتخابيّة (بلال جاويش)

من التحضيرات للحملة الانتخابيّة (بلال جاويش)
إذا كان هربرت مركوز قد حكم في دراسة له في أوائل السبعينيات عن التسامح المجرّد والعملي على الديموقراطيّة الغربيّة (في «موجتها الثانية») بأنها ديموقراطية قامِعة، فيمكن النظر إلى الانتخابات في «الموجة الثالثة» بأنها اختيار غير حرّ يهدف إلى شرعنة من كان يمكن تنصيبه. أي أن مهمة تنصيب وكلاء العالم الأول أصبحت أكثر وثوقاً نتيجة اختلاق وسائل للفرض ولجعل التعيين يبدو اختياراً. أي أن الانتخابات تستطيع أن تنفّذ مشيئة الإمبراطوريّة والمصالح الاقتصاديّة الغربيّة أكثر من قدرة الطغيان التقليدي. لهذا، فإن الولايات المتحدة لم تكذب في رغبتها فرض أشكال من هيمنتها على دول في العالم عبر (ومن خلال) صناديق اقتراع جوفاء (أو مملوءة أحياناً)

أسعد أبو خليل*
يمكن النظر إلى دور العمليّة الانتخابيّة في سند الاحتلال والنفوذ الاستعماري المُتجدّد في نشر صور الاقتراع الدوري في العراق تحت الاحتلال، حتى في حمأة الصراعات الطائفيّة والمذهبيّة. كانت الولايات المتحدّة التي تقرّر موعد الانتخابات وأهليّة المرشحين (مثل مجلس الخبراء في إيران) تعمد إلى استعمال حفلات الاقتراع من أجل تسويغ احتلالها وعنفها. وموسم الانتخابات مزدهر هذه الأيام إلى درجة أن العائلة المالكة في مملكة القهر السعودية أنشأت مبنى ضخماً ومجهّزاً أحدث تجهيز مقرّاً لمجلس شورى صُوَري. أي أنها أنشأت مجلساً من دون تمثيل أو اقتراع، كما أن طغاة العالم العربي يخطبون أمام جمهرة منتقاة منهم هم، ثم يصدّقون أنهم يواجهون ممثلي الأمة.
صدر قبل سنتيْن كتاب بالإنكليزيّة لبول كوليير بعنوان «الحروب والبنادق والاقتراع: الديموقراطيّة في مناطق خطرة». الكتاب كعادته لم يحظ باهتمام ربما للانشغال بكتب المشاهير وكتب شيوخ النفط وأمرائه. الكتاب يقيّم التأثيرات السلبيّة للانتخابات في دول العالم النامي. وللعولمة جوانب متعدِّدة: منها السياسيّة ومنها الثقافيّة ومنها العسكريّة (أو الحربيّة) ومنها الديموقراطيّة، أو لنُسمِّها عولمة القهر. كانت «الحريّة» هي عنوان غزوات الإمبراطوريّة الأميركيّة أثناء الحرب الباردة، وكانت الحريّة تعني عدم (أو نقيض) الشيوعيّة فقط، لا غير. وبناءً على هذا المعيار، لم تكن الحكومة الأميركيّة لتعترض على حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أو على حكومة الحكم العسكري في اليونان أو حكم بينوشيه في تشيلي. يكفي أن تعارض الشيوعيّة لتدخل في حيّز الحريّة الذي ضم في بلادنا طغاة من مقاييس وبزّات ودشداشات مختلفة ومتنوّعة. كانت الإمبراطوريّة الأميركيّة تصرّ على الانتخابات الديموقراطيّة فقط في الدول التي كانت منضوية في المعسكر الشيوعي، وعندما سقطت الشيوعيّة لم تعد مسألة الديموقراطيّة مهمّة في تلك الدول. مثال على ذلك الحاكم بأمره في جورجيا، ميخايل ساكاشفيلي، المليء بالعظات السياسية عن سياسات أميركا (وروسيا أيضاً). والانتخابات إذا أدّت إلى انتصار أعداء أميركا أو خصومها تصبح منبوذة، مثلما تعاملت أميركا مع أكثر الانتخابات ديموقراطيّة في جزء من فلسطين (وإن كانت الفصائل الفلسطينيّة مخطئة في قبول مبدأ الانتخابات في ظلّ الاحتلال، وكأن التحرير يتلو الانتخابات لا العكس) أو ما حصل في جمهوريّة مولدوفا أخيراً حيث نزل خصوم الشيوعيّين إلى الشارع وحرقوا ودمروا ونشروا أعمال شغب ضد انتخابات اعترفت المجموعة الأوروبيّة بديموقراطيّتها. والإعلام الغربي يتعامل بإعجاب مع أعمال شغب وعنف إذا كانت ضد حكومات (ديموقراطيّة أو دكتاتورية، لا فرق) تعارض أميركا، وتعارض حتى التظاهرات السلميّة ضد حكومات تناصر الإدارة الأميركيّة، كما حصل مع التظاهرات ضد حكومة السنيورة في لبنان.
وقد لاحظت مجلّة «الإكونوميست» الرصينة (وقد تكون أفضل مجلّة سياسيّة في العالم قاطبة، وقد حصل ماركس ـــــ الذي واظب على قراءتها في لندن ـــــ على اشتراك فيها من «كولن» في ألمانيا عندما انتقل إليها مؤقتاً عام 1848 رغم خطها الرأسمالي الليبرتاري) أن أعمال عنف وقلاقل صاحبت ورافقت وتلت انتخابات في نيجيريا وزامبيا وكينيا في السنتيْن الماضيتيْن. كما أن الانتخابات في لبنان غالباً ما تتصاحب مع أعمال عنف وقلاقل رغم نزوع خالد ضاهر (الذي نسي البعض أنه دعا إلى الجهاد ضد طائفة من اللبنانيّين قبل أقلّ من سنة) وتيّار المستقبل إلى الوئام والمحبّة اللذين يتقنهما مفتي جبل لبنان أكثر من غيره ـــــ رغم تصريح له أخيراً يؤكّد فيه أن كل عملاء إسرائيل أتوا من «بيئة المقاومة»، وإن لم يقصد أن يكون معنى كلامه طائفيّاً ـــــ مذهبيّاً لأنه من دعاة الوحدة بين المذاهب والأديان. ويمكن الحديث عن هوس الانتخابات في عالم ما بعد الحرب الباردة لأن الولايات المتحدة تريد وسيلة لشرعنة تنصيب أدواتها وحلفائها حول العالم. وعولمة القهر تتأتى من قدرة الولايات المتحدة على فرض أجندة الصورة والمسلك (لا المضمون) الانتخابيين على دولة لا تتماشى مع إرادة الولايات المتحدة. وعولمة القهر هو ما رصدته الكاتبة الكندية نعومي كلاين في كتابها «عقيدة الصدمة» حيث درست معالم العلاقات الدوليّة في الحقبة الحالية عندما تفرض الولايات المتحدة رأسماليّة متوحشة على البلدان النامية وبشتى الوسائل والحيل، حتى لو اقتضى الأمر صدمة الحروب والغزوات (والكاتبة كلاين بدأت بدراسة الظاهرة من خلال تغطيتها غزو العراق ولاحظت أن أولويّات بول بريمر كانت محض اقتصادية). و«عقيدة الصدمة» يمكن أن تلجأ إلى الدعوة للانتخابات إذا اقتضت المصلحة وأن تلجأ إلى منع الانتخابات إذا ما اقتضت المصلحة ذلك (كانت الولايات المتحدة تزمع اللجوء إلى الانتخابات في العراق عندما كانت معارضة المنفى العراقيّة تقنع الإدارة الأميركيّة بأنها قادرة على الفوز بسهولة في أية انتخابات حرّة بعد التخلّص من صدّام، وعندما تيقّنت الولايات المتحدة من بطلان الزعم بعد سقوط صدّام لجأت إلى الحيلة وحاولت التسويق لـ«مجالس معيّنة» من أجل فرض أدواتها ومنفِّذي مشيئتها من أمثال أياد علاوي وشيعة الاحتلال (الذين وفّقوا ويوفّقون بين الولاء للفقيه الإيراني والولاء للفقيه الأميركي).
رستم غزالة (أرشيف ــ هيثم الموسوي)رستم غزالة (أرشيف ــ هيثم الموسوي)

الحديث عن تقييم الديموقراطيّة هو في جانب منه حديث عن مقاييس الديموقراطيّة ومعاييرها، وخصوصاً أن منظمات ما يسمّى (زوراً أحياناً بسبب الارتباط المالي بالدولة هذه أو تلك، والذي ينفي حكماً التعريف الهيغلي لها) بـ«المجتمع المدني». فمنظمة «بيت الحريّة» في نيويورك عملت خلال الحرب الباردة على التعامل مع موضوع الحرية الاقتصاديّة الرأسمالية كصنو للحريّة بمعناها المطلق من أجل تدعيم موقع الولايات المتحدة في صراعها مع الاتحاد السوفياتي. ومعايير «بيت الحريّة» تخضع لشتى الاعتبارات الانتقائيّة والاعتباطيّة، مع أن المنظمة أدرجت إسرائيل، للمرّة الأولى، في خانة الدول ذات «الحريّة الجزئيّة» (مقابل دول «حرّة» ودول «غير حرّة»)، رغم إدراجها الكويت فوق مرتبة لبنان في حريّة الصحافة، وهذا دليل إضافي على جهل معايير المنظمة وانحيازها. لكن كتاب كوليير لا يعنى بذلك لأنه مهموم بشؤون طقوس الانتخابات، والهوس بحدوثها في البلدان النامية وكأنها الحلّ السحري: وهذا ينطوي على أغراض غير بريئة لدى دول الغرب التي تعرف كيف تستفيد من فرص الانتخابات ليس للتأثير على نتائجها عبر المال والمساعدات والقروض (ويُقحَم في هذا منظمة النقد العالمية والبنك الدولي اللذان تدخّلا في التسعينيات لإنقاذ ـــــ بإيعاز من إدارة بيل كلينتون ـــــ بوريس يلتسن من سقوط محتوم بسبب ظهوره مخموراً ومترنّحاً في حملته الانتخابيّة، بالإضافة إلى شرعنة الحلفاء والوكلاء والطغاة «المعتدلين»). والفيلسوفة حنة أرندت أدرجت الاقتراع في حد ذاته في خانة «العمل» لا في خانة «السياسة» التي تعتمد على الحوار والنقاش والمناظرة والتضاد الفكري والسياسي الدؤوب. ولو قُيض للسيدة أرندت أن تشهد خطب سعد الحريري في قريطم (الذي يستسيغ لعب الـ«إكس بوكس» كما روى لمجلّة «النيوربلك» الصهيونيّة المتطرّفة والتي ـــــ مثلها مثل عدد من المطبوعات الصهيونيّة الغربيّة ـــــ حظيت بدعوة كريمة من شركات ومؤسّسات مُمولّة من آل الحريري في لبنان لضمان تغطية مُتعاطفة في زمن الانتخابات، مع أن المطبوعات الصهيونيّة مُتعاطفة حكماً مع 14 آذار من دون دعوات سخيّة من شركات تابعة) لأدرجت تلك الخطب في خانة ثالثة مختلفة.
النائب سعد الحريري (جمال الصعيدي ــ رويترز)النائب سعد الحريري (جمال الصعيدي ــ رويترز)


والخلاصة التي توصّل إليها كوليير وغيره أن الانتخابات بحدّ ذاتها، وفي غياب لمعايير حقيقيّة للديموقراطيّة غير الاقتراع المحض، تعوق ولا تدفع قدماً بتقدّم بلد معيّن. ويقول كوليير إن الديموقراطيّة ـــــ إذا كانت محصورة بالانتخابات ـــــ مُضرّة بالعمليّة الإصلاحيّة. وأدبيّات الديموقراطيّة نمت وازدهرت في عصر ما بعد الحرب الباردة، وطلع صموئيل هنتنغتون بنظريّة «الموجة الثالثة» (في تمييز عن الموجة الأولى في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر والموجة الثانية في أوروبا بعد الحرب العالميّة الثانية) للإشارة إلى صعود الديموقراطيّة في العالم الثالث منتصف السبعينيات حسب تقويمه هو. ولم يكترث هنتنغتون مثل كوليير، بمعايير الديموقراطية وبشروط تقدم البلدان المعنيّة بها. ويعتقد كوليير أن الانتخابات هي ذات فعالية إيجابيّة فقط في البلدان التي يتوافر فيها التوازن والضوابط في الحياة السياسية وحيث يسود حكم القانون العادل. ويحلّل كوليير عوامل أخرى معوقة للديموقراطيّة مثل الانشطار الإثني والبطالة والديموغرافيّة الشبابيّة. ويكمن النظر إلى المعادلة تلك في النظر إلى تجربة بعض البلدان العربيّة.
من يختلف، مثلاً، حول كون الانتخابات في العراق (وهي صُوريّة نتيجة وجود جيش احتلال واسع النفوذ يتدخّل في الشاردة والواردة ويعمل على توظيف مشيئته بالوسائل العلنيّة والخفيّة، والديموقراطيّة الصوريّة هي التي حذّر كوليير من ضررها) قد زادت من حدّة الانشطارات الطائفيّة والمذهبيّة والإثنيّة في البلاد، كما أن الانتخابات النيابيّة في لبنان تزيد دائماً من حدّة الانشطارات الطائفيّة والمذهبيّة؟ هذا لا يعني أن غياب الانتخابات هو أفضل من وجودها، لكن اختزال الديموقراطيّة بالانتخابات هو إساءة لفهم العمليّة الديموقراطيّة ولطبيعة الإصلاح السياسي والاجتماعي المنشود في بلد ما. وعوائق الديموقراطيّة ليست نهائيّة وليست مُلزمة أو حتميّة في مصير الشعوب، وهناك نماذج معاصرة لإزالة عوائق الديموقراطيّة مثل ما حصل في تنزانيا أو في رواندا بعد المجازر البشعة عام 1994. ويتحدّث المؤلف عن جوليوس نيريري بإعجاب شديد لأنه جهد لبَوتقة هويّة جامعة. ومثال رواندا في الأعوام الأخيرة هو أيضاً مثال ساطع لأن الرئيس الراوندي رأى أن الانشطار الذي زرعه المستعمر بين «الهوتو» و«التوتسي» لا يتوافق مع عمليّة بناء الديموقراطيّة. لهذا، فإن قانون منع التطهير العرقي يحظّر العرقيّة من أساسها ويحرّم حتى الإشارة إلى الانقسام بين «التوتسي» و«الهوتو». وهناك غرامات باهظة لمن يخالف القانون الذي يسعى إلى صهر الشعب في رواندا في إطار هويّة وطنيّة جامعة من أجل فرض حكم القانون. (لكن بعض المنظمات القانونيّة الغربيّة والراونديّة اعترضت على صرامة القانون، وخصوصاً أن أكثر من ألف مخالفة تعرّضت للملاحقة وفق أحكام هذا القانون).
ماذا لو نقلنا التجربة إلى لبنان أو العراق؟ ماذا سيحلّ بداعي المذهبيّة والطائفيّة نوري المالكي الذي دعا أخيراً من تلفزيون الدعاية الأميركيّة «الحرة» إلى حكم الأغلبيّة الشيعيّة؟ ماذا سيحلّ بفريق آل الحريري في لبنان لو أن قانوناً قد سُنّ لتحريم الإشارة إلى الفرقة السنيّة والشيعيّة في لبنان؟ ماذا سيحلّ بخطاب مصباح الأحدب (الذي يزعم أنه ـــــ مثل غيره من النواب والوزراء الذين أتوا باعترافهم بإرادة الاستخبارات السوريّة في لبنان ـــــ حورب رغم إغداقه المدائح على حافظ الأسد وعلى بشار من بعده) لو أن الإشارة إلى السنّة والشيعة تُعتبر مخالفة للقانون؟ هناك أكثر من رجل دين سيضطرّ إلى إصدار فتاوى وبيانات من السجن «لو وصلت شرائعهم إلينا»، كما قال طانيوس عبده ذات مرّة. لكن من الجدّة الحديث عن جملة من الإصلاحات الجذريّة التي لا تستقيم الديموقراطيّة من دونها حتى لو جرت انتخابات دوريّة. والانتخابات تجري في أكثر من بلد عربي متسلّط مثل سوريا والأردن والمغرب. والنظام الانتخابي ـــــ أو إصلاحه ـــــ هو جزء لا يتجزأ من الإصلاح السياسي الضروري الذي يتطلّبه تحقيق انتخابات ديموقراطيّة ذات فوائد جمّة. أي أن الكلام في بيانات المعسكريْن المتنازعيْن في لبنان عن الإصلاح لا معنى له إذا لم يكن مقروناً ببرامج محدّدة لإصلاح النظام الانتخابي (يكتفي مرشحو الفريقيْن بالثناء على «نظام انتخابي عصري»، وكأن الإشارة محدّدة ومُتعارف عليها بين دارسي النظم الانتخابيّة) ولإنتاج هويّة وطنيّة جامعة (قد تكون ـــــ أو يجب أن تكون ـــــ مستحيلة في مسخ الوطن الذي أُنشئ رديفاً وظهيراً للكيان الغاصب). وإذا كانت الانتخابات في الأردن تعزّز، بإرادة هاشمية ملكيّة، الانقسامات القبليّة، فإن الانتخابات في الكويت هي أيضاً انشطاريّة وانقساميّة وضامنة لاستمرار السيادة الأميريّة. أي أن الانتخابات من دون محتوى ديموقراطي قد تكون أسوأ من غيابها: واندلاع الصراعات الأهليّة إثر الانتخابات الصوريّة أو غير الديموقراطيّة هو الدليل.
قد يُقال إن علّة الانتخابات تكمن في تحقيق الشرعيّة التمثيليّة، لكن هذا القول باطل أيضاً إذا كان النظام الانتخابي غير مُنصف وغير عادل. فالشرعيّة التمثيليّة لنوّاب مجلس النواب عام 1972 كانت أقل من الشرعيّة التمثيليّة لغير المُنتخبين في الكثير من المناطق اللبنانيّة، وفي هذا جانب أو بعد واحد (من أبعاد عدّة) للحرب الأهليّة. والإصرار على تفصيل قوانين انتخابيّة على مقاس مصالح طائفيّة أو حزبيّة أو إقطاعيّة (ما يُسمى «جيري ماندرينغ»، والكلمة استُنبطت عام 1812 في مدينة بوسطن للإشارة إلى تشطير للدوائر الانتخابيّة) يتعارض مع الديموقراطيّة السياسيّة (لكن من الضروري التمييز بين الـ«جيري ماندرينغ» الإيجابي ـــــ أي لزيادة تمثيل المحرومين تاريخيّاً ـــــ والـ«جيري ماندرينغ» السلبي ـــــ أي لحرمان فئات شعبيّة على أسس متنوّعة). وكان كميل شمعون (مثله مثل أنصار السيادة البيضاء في جنوب الولايات المتحدة عبر العقود) يجيد لعبة الـ«جيري ماندرينغ» لإبعاد أخصامه. والقانون الانتخابي الحالي أتى تعبيراً عن إرادة البطريرك الماروني الذي أراد أن يجعل الانتخابات النيابيّة فرصة لتأكيد (والتعبير عن) الانشطار الطائفي والمذهبي وفقاً لمعادلته الشهيرة عام 2005 عندما صاح: فلينتخب المسلمون النواب المسلمين ولينتخب المسيحيّون النواب المسيحيّين. (ويزيد البطريرك عظات ـــــ أين منها عظات أبو ملحم ـــــ عن تداول السلطة في النظم الديموقراطيّة يظهر فيها مفتقراً إلى المعرفة في الموضوع).
هذا الحديث يجب ألا يعني بشكل من الأشكال وصفة لإطالة أمد الأنظمة التسلّطية في العالم العربي (على اختلاف تحالفاتها الإقليميّة)، كما يفعل ليبراليّو الوهابيّة في إعلام أمراء آل سعود وآل الحريري. لكن الإصرار على (أو المطالبة بـ) الانتخابات يجب أن يترافق مع جملة من الإصلاحات التي من دونها لا يستقيم الإصلاح الديموقراطي. وهذه الإصلاحات تشمل في ما تشمل، إقصاء السلالات الحاكمة (الملكيّة والجمهوريّة والسطانيّة) عن الحكم لأنها تتمتّع بقوّة غير مستمدّة من الشرعيّة الشعبيّة، بالإضافة إلى أنها تتمتّع بقوّة السيطرة على أجهزة استخبارات الجيش. والإصلاحات يجب أن تمنع التدخّلات السياسيّة والمالية والعسكريّة التي تؤثّر على مسار العمليّة الاقتراعيّة. ما معنى، مثلاً، أن تعلن مملكة القهر السعوديّة مساعدة لحملة السنيورة الانتخابية في صيدا تحت مسميّات المساعدات الإنسانيّة للبنان؟ طبعاً، لم تلاحظ المنظمة اللبنانيّة الهزلية من أجل ديموقراطيّة الانتخابات هذا الإعلان. وهذا ليس بالأمر السهل ويضفي نوعاً من الشك والريبة على العمليّة الانتخابيّة برمّتها في العالم الثالث، لأن الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من دول الاستعمار البائد والمتجدِّد خبيرة في وسائل التأثير بالمال والرشى على الاقتراع في كل انتخابات الدول الفقيرة. ونحن نعلم من وثائق منشورة من أيام الحرب الباردة أن الولايات المتحدّة كانت تتدخل بقوة في الانتخابات الإيطاليّة، مثلاً، لمنع الحزب الشيوعي الإيطالي من الوصول إلى السلطة، وكان هنري كيسنجر يضغط بشتى الوسائل على الأحزاب الإيطاليّة لإقصاء أحد أقوى الأحزاب آنذاك متذرّعاً بضرورات القوى العظمى وحساباتها.
يمكن النظر إلى انتخابات طرابلس كمثال أو نموذج عن طبيعة الانتخابات (غير المترافقة مع مؤشرات الديموقراطيّة) في بلدان الانشطارات الاجتماعيّة. يتنافس (أو يأتلف) في طرابلس ثلاثة من أصحاب المليارات ذوي العلاقات الماليّة مع آل سعود. أي أن الناخب (والناخبة التي قلّما يتوجّه لها المرشح أو المرشحة بكلمة باستثناء استعمال كلمة «نسوان» للتعيير بين المتنافسين) يختارون فقط بين مليارات متطاحنة (أو مؤتلفة ـــــ لا فرق).
ولا تقتصر التدخّلات على الحكومات الغربيّة بل تتعدّاها لما يُسمّى «منظمات المجتمع المدني» أو «المنظمات غير الحكوميّة». وماذا تعني عبارة «غير حكوميّة»؟ هذا مثل وصف جريدة مملوكة من واحد من أمراء آل سعود بـ«المستقلّة». فالتمويل الأميركي والأوروبي لمنظمات غير حكوميّة في بلدان العالم الثالث أو الفقير (مع أن راشد فايد أفتى أخيراً بأن فريق 14 آذار لا ينتمي إلى العالم الثالث) يؤثّر على نوعيّة التغطية وعلى أولويّات عمل ما يُسمّى غالباً «منظمات غير حكوميّة» (كأن يقول مراسل مجلة الـ«نيو ربببلك» الصهيونيّة المتعصّبة إنه تلقى دعوة لزيارة لبنان من «منظمة غير حكوميّة» تابعة لآل الحريري). المنظمات تلك تستطيع أن تقرّر، مثلاً، أن ما يُسمّى «ختان الإناث» أكثر ضرراً على النساء من القصف الجوي بالطائرات والاحتلال والقمع على يد أعوان أميركا من طراز حسني مبارك وغيره من طغاة الشرق الأوسط. تستطيع أن تقرّر، مثلاً، أن سلطة محمود عباس المنتهية ولايته أكثر شرعيّة من سلطة منتخبة وغير منتهية الصلاحية للمجلس الاشتراعي، وهكذا دواليك.
التغيير (الجذري) ضرورة قصوى في بلداننا ولا يستحق نظام واحد التأييد أو البقاء. لكن اختزال عمليّة التغيير ومطالبه بالانتخابات في عنوانها العريض يؤجّل عمليّة التغيير ويسدل ستاراً من الشرعيّة على النخب الحاكمة (من دون شرعيّة انتخابيّة). يجب أن يقترن مطلب الانتخابات بمطالب أخرى متعدّدة تتضمّن المسألة الاجتماعيّة ـــــ الاقتصاديّة والمسألة الوطنيّة ضد الاحتلالات، بالإضافة إلى الإصرار على نظام انتخابي لا يصيب الشعب بالتشظّي. وإلا، فنحن محكومون بإبدال محمد الصفدي بنجيب ميقاتي، أو العكس (وهناك داعي السلفيّة الأحدب لمن يرغب). لكن نقولا فتوش وعد بمحاربة الفساد. إنها... «الديموقراطيّة».
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)


عدد السبت ٢٣ أيار ٢٠٠٩

خطــــــأ قاهـــــر

خطــــــأ قاهـــــر

أنسي الحاج
الأضاحي
تحكي الأساطير كيف أن أغلى القرابين تَرْخص أمام المرجوّات الكبرى. وفي الأساطير أيضاً أن أسوأ ما قد يحصل، أضاحٍ تُسْفَح لقاء لا شيء. أو يكون ما بعدها أشدّ بؤساً وظلماً ممّا كان قبلها. ولعلّ الكفر بالأوثان قد انبثق من الشعور بهذا الهباء.
كثيرون منّا، إن لم نكن جميعنا، سُفحوا قرابين ذات يوم أو هُم سَفَحوا أنفسهم، والأوفر حظّاً بينهم أولئك الذين كُتبت لهم حياة ثانية بعد المحرقة. وأمّا الذين يُرْمون ويظلّون مرميّين فلا يستطيع شيء ولا أحد أن يخفّف عنهم وطأة القهر. القربان الصغير السنّ قهرُهُ أنّه قُطف باكراً عن غصنه، والقربان الكبير السنّ قهرُهُ أن ماضيه لم يشفع له فضاع كلّ شيءٍ بين الأشداق. تبقى الضحيّة التي لا تُسلّم بهذا ولا بذاك من مبرّرات التضحية بها، تلك التي تتوهّم أن التقادُم يمنحها حقوقاً مقدّسة، وأن نهر العطاء الذي ساهمت به لا يمكن أن يأتي على دورها فيه تقصيرُ شيخوخة أو عجزُ مَرَض، فالإنسان ليس ليمونة تُعْصَر وتُرمى، والمكافأة على بذله حياته لا يحدّها راتب شهري ولا «تعويض» لا يعوّض في الواقع إلاّ ما يعوّضه المسكّن على المريض أو النزهة في باحة السجن على السجين. لشدّ ما تُصْعَق هذه الفئة من الطوباويين حين يأتيها خبرها بقرار، فترى حياتَها أمام عينيها كومةَ أوهام، وكم كان الواحد مخدوعاً بأمان الأيام، مطمئنّاً إلى غدٍ يملك مصيره سواه كما يمتلك مصير سواه هذا، سواه، إلى آخر سلسلةِ الملاّكين ضمن الطاحون الكوني العملاق، الطاحون الدهري الحديث المستحدث على الدوام، الطاحون الذي يلتهم الأعمار وهو يُقْنعها بأنه يُغذّيها، ويقذف إلى العدم بمَن يَستهلك قَذْفَ «القانون» و«المصلحة العامّة»، ويوهم مَن يستبقيهم في خدمته بأنهم مميّزون، ثابتون على الزمان، سادةٌ على المصائر.
لا فائدةَ من القول إن العلّة في النظام. ولا فائدةَ من كلّ الثورات على النظام. إنه الواقع الذي تتغلّب فيه شريعة رأس المال، كان مذ كان، وما زال مستمرّاً مع مزيدٍ من التكيُّف والتطوّر.
وإذا لم يُسفح دمكَ على مذبح تصفية الأعمار سُفح أمام مقتضيات «النجاح»، أشدّ أنواع السباق توحُّشاً.
وأفظع ما في الأمر أنّنا لا ننتبه إلى الأضاحي إلّا بعد فوات الأوان... كأنها الحياة تريدنا أن نتّعظ ضدّ ما تُعلّمنا إيّاه الأخلاقيّات، وتُكرهنا إكراهاً على الذَأْبَنة، وإن لم نستطع، فعلى المرارة، وإن لم نستطع، فعلى الاستسلام.
ولماذا نتظاهر بالدهشة؟ كلّنا ذات يومٍ كنّا ضحايا وكلّنا كنّا جلّادين ودسنا على ضحايا. مع الاعتذار للذئاب، التي لم يعطها اللّه عقلاً تسمو به ويقال إنه لم يضع فيها النفحة التي وضعها من روحه في الإنسان، ومع هذا أبطلتْ مفعولَ المثلِ الذي اخترعهُ البشر «إن لم تكن ذئباً أكلَتْكَ الذئاب». وصوابه «إن لم تكن ذئباً أكلكَ البشر». وصواب الصواب «حتّى لو كنت ذئباً أكلكَ البشر»، بمَن فيهم المبشّرون بالقيم والفضائل. وهذا منذ القِدَم. ومع الصقل والتصفيح جيلاً بعد جيل. والرجاء عدم إرسال أكاليل.

أمّ زكريّا
واقعةٌ حصلتْ رواها لي صاحبها:
زكريّا عاملُ مطبعةٍ يقود سيّارته وإلى جانبه أمّه. يتحادثان في شؤون يوميّة. فجأةً تشعر الأمّ بألمٍ هائل في صدرها، ألم الذبحة.
تُمْسك قلبها ويَصْفرُّ وجهها، فيسألها زكريّا ما بها، فتجيبه: «لا شيءَ، وجعٌ ويمرّ».
ويشتدّ الألم. وكأنها شعرتْ بدنوّ أَجَلها، تقول لابنها بلهجةٍ تريد التطمين: «باللّه يا بنيّ أدرْ وجهكَ عنّي لحظةً فقط حتّى تمرّ الأزمة... لا أريدكَ أن تتضايق».
ومطيعاً إيّاها كعادته أدار وجهه صوبَ الطريق أمامه. ولمّا عاد ونظر إليها بعد دقيقة رآها انزوت في ركنها وقد لفظتْ أنفاسها.
لم تشأ أن يراها تموت.
آخر دَفْقَةٍ من حبّها كانت إراحته من مشهد أشفقت عليه منه، وربما أشفقت أيضاً على نفسها. أخذت حصّتها من الموت بخَفَر مَن اعتاد حصرَ المهامِّ الثقيلةِ بنفسه. أرادت للحياة العاديّة أن تستمر مع ابنها بلا تشويه، كأن مشهد نَزْعها الأخير هو الضريبة غير المحتملة، لا موتها. بعد الموت ستعود الحياة، أمّا مشهد «الانتقال» فصدمةٌ أبديّة.
كان بالزاك يقول إن قلبَ الأمّ هاوية وفي أعماق هذه الهاوية يكمن الغفران. عندما أخبرني زكريّا حكايةَ أمّه رأيتُ فيها أكبر من الغفران.
رأيتُ الفداء.
أنا أمّكَ أحميكَ من مَوتي.
من منظري وأنا أموت حتى لا يسكنكَ خوف موتك.
أنا أمّكَ حملت بك وأحمل عنك حتّى الرمق الأخير.
برَمَقي الأخير.
وما بعده.
لحظة، كلّها لحظة، تغمركَ بعدها الحياةُ وتُنسيك...
■ ■ ■
ليست كل الأمّهات أمّهات. وبعض اللّاأمّهات أمّهات لأشياءٍ أخرى، كالعشق والمغامرة، ولكائناتٍ أخرى، كالشعر والموسيقى. أمّهات من نوعٍ آخر، نوعٍ منعتق غير خاضعٍ للتصنيف الأخلاقي. وسيظلّ ثمّة في الواجهة فئتان من النساء: الأمّ والفراشة. الأمّ مقدّسة، والفراشة مقدّسة. وإلاّ، فلننزع القداسة عن الاثنتين، بل عن الجميع.
وأحياناً تتمازجُ الأمّ والفراشة، فتأخذ الواحدة من صفات الأخرى.
حين أقول الآن «أمّ زكريّا» في هذه الواقعة، أقصد إلى صورة الفداء. وكلّ امرأةٍ تفعل ما فعلته والدةُ زكريّا تلك اللحظة، هي أمّ. كلّ رجلٍ يفعل ما فعلته والدةُ زكريّا تلك اللحظة، هو أمّ. إذا أردتُ أن أتخيَّلَ صورةً مُثلى لأمومةِ الكون لما وجدتُ أروعَ من صورةِ أمّ زكريّا تلك اللحظة.
أخذتْ أمّ زكريّا إجازة منه ثواني لتموت دون أن يَشعر. قالت له: «لا أريدكَ أن تنظر إليّ الآن. انظرْ إليّ بعد قليل».
لم يعد أمامها ما تعطيه إيّاه إلّا هذا الإعفاء، فكُّ ارتباطِ مَرْكَبهِ السائر بمركبها الغارق.
سَكَنَتْني هذه الصورة وسوف تظلّ تسكنني. عاملُ مطبعةٍ فقيرٍ وأمّه الفقيرة. حديثٌ عاديّ في سيّارة درويشة. وموتٌ لم يُمهّد له شيء، موتٌ وديع وداعةً مُطْلَقَة.
خطأ قاهر ومعه اعتذاره.
وزكريّا يسألني ثاني يوم: «قَولك، لماذا طلبتْ منّي أن أديرَ وجهي!؟».



عابـــــرات

توارتْ وراءَ الجمعِ ليلى فخانها
فمٌ كابتسامِ الصُبْحِ يأبى تواريا
أحمد شوقي
■ ■ ■
ما كانت الحياة البشريّة تلك الخيبة للبعض لو لم نشعر دوماً بالقدرة على القيام بأعمالٍ تفوق قوانا.
أندريه بروتون
(الخطى الضائعة ـــــ 1924)
■ ■ ■
في القصيدة، يعقد الوجود ورغبة الوجود هدنة سحابة لحظة، كما يحصل بين الثمرة والشفتين.
أوكتافيو باث
(القوس والقيثارة ـــــ 1965)
■ ■ ■
الشاعر هو مَن يُلْهِم أكثر بكثير ممّا هو مَن يُلْهَم. للقصائد، باستمرار، هوامش واسعة بيضاء، هوامش كبيرة من الصمت حيث الذاكرة المضطرمة تستنفد نفسها لتعيد خلق هذيانٍ لا ماضيَ له.
بول إيلوار
(البداهة الشعرية ـــــ 1936)
■ ■ ■
العين أجمل قاعةٍ للمواعيد.
مالكولم دو شازال
(حس تشكيلي ـــــ 1947)
■ ■ ■
مات رَجُلٌ تحت عجلاتِ طفولتي.
جويس منصور
(مربّع أبيض ـــــ 1965)
■ ■ ■
الأحلام يتفرّج بعضها على بعض وهي تبلغ النشوة.
رونيه شار
(المطرقة البلا صاحب ـــــ 1934)
■ ■ ■
عزيزتي المخيّلة، أكثر ما أحبّه فيكِ هو أنّكِ لا تَغْفرين.
أندريه بروتون
(بيان السورياليّة ـــــ 1924)


عدد السبت ٣ تشرين الأول ٢٠٠٩

باسكال فغالي... من أين أدخل في «الصنائع»؟


باسكال فغالي... من أين أدخل في «الصنائع»؟


أبو يوسف ونهاد وأم حسن... في مهبّ العولمة
الباحثة اللبنانيّة تأخذنا إلى فضاء مديني، ما زال مغلّفاً بشرنقته التقليدية، في قلب العاصمة اللبنانيّة. «حي الصنائع في بيروت» دراسة ميدانيّة، أداتها الأساسيّة الصورة، توثّق لذاكرة مكان وحقبة. وتدق أيضاً جرس الإنذار: إنّ العولمة لن توفّر هذا الحيّ البيروتي العريق. وكل شيء يبدأ من حديقته الشهيرة!

زينب مرعي
من حديقة الصنائع كانت البداية. في الجوّ الخاص لهذه الحديقة وشخصياتها وزوّارها الدائمين والعابرين، وجدت باسكال فغالي موضوعاً شيّقاً للدراسة. من مقاعد الحديقة، بدأت العمل على أطروحتها في الأنتروبولوجيا البصريّة التي أعادت إصدارها أخيراً في كتاب بالفرنسيّة، عنوانه «حيّ الصنائع في بيروت» (منشورات «اﻟﻤﻌﻬد الفرنسي ﻟﻠﺸرق الأدنى»)، وقد أرفقت به أسطوانة رقميّة DVD تحتوي على ستة أفلام قصيرة من أصل 17 شريطاً وثائقياً صوّرتها فغالي، عن منطقة الصنائع. الحديقة كانت مدخل فغالي إلى الحيّ. أرادت أن تتعرّف إلى المنطقة وتدخلها من دون أفكار مسبقة، فانتقلت للعيش هناك أربع سنوات. في الأشهر الستة الأولى، ظلّ الحيّ منطوياً على نفسه، لم يقدّم شيئاً لباسكال، فاتخذت من أحد أصدقائها وأبنائه مرشداً لها. مع الوقت، بدأ أهله يعتادون عليها وعلى وجودها، فتقبّلوها تدريجاً، وفتحوا لها أبواب عالمهم. اكتشفت منازلهم وعاداتهم وطقوس رمضان والأضحى، وصوّرت طقوس «ليلة القدر» في الجامع. من هنا دخلت الباحثة إلى حياة أهل الحيّ الذي اكتشفت شيئاً فشيئاً بنيته التقليديّة، ففغالي تجمع في عملها بين الصورة والكتابة. لكن تبقى الصورة هي الركيزة التي قام عليها النصّ. غير أنّ الاثنين يتكاملان في تصوير قصة منطقة الصنائع وعاداتها وتقاليدها. تتناول الباحثة هذا المكان من خلال الأشخاص، وتتبّعها لحياتهم اليوميّة، وكيفيّة عيشهم.
هكذا نكتشف من خلال الكتاب والأفلام الوثائقيّة، أنّ الصنائع منطقة ما زالت تحافظ على تقليديّتها. عائلات الحيّ الداخلي تحافظ على سلطتها، وتقسّم مصالحها بما يراعي ألا يتعارض بعضها مع البعض الآخر. عائلة طبّارة تهتم بالطقوس الرمضانيّة، مثلاً، بينما عائلة الموصلّي تهتم بطقوس الأضحى... كذلك تشير الباحثة إلى أنّ الكثير من المهن تنتقل بالوراثة في هذه العائلات. وما زال في المنطقة العديد من أصحاب المهن القديمة، كالرتّى والمنجّد وغيرهما من ذوي المهن الحرفيّة.
قد لا تكون تقليديّة هذا الحي النقطة التي تميّزه عن الأحياء البيروتيّة القديمة. ما يميّزه هو حديقته التي أسّسها مع حيّ الصنائع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في أواخر القرن التاسع عشر، وفق الشقّ الأول من الكتاب الذي يتناول الوقائع التاريخيّة لهذه المنطقة. وتضيف الباحثة أنّ العثمانيّين ـــــ ببنائهم مدرسة للفن وتعليم المهن (من هنا اسم المنطقة) والحديقة ـــــ أرادوا أن يُظهروا وجهاً حضارياً لهم. لذا فإن الحديقة كانت تمثّل دوماً رئة المنطقة، ونافذتها على الخارج وسبيلها إلى الانفتاح على العالم والتواصل معه. ترى فغالي أنّ الحديقة التي كانت قبل الحرب اللبنانيّة مكان تسلية للبورجوازيين، وتحوّلت بعدها إلى مساحة شعبيّة للمسلمين خصوصاً، تضفي على المنطقة نوعاً من الرقيّ وتفتحها على باقي أجزاء المدينة، وخصوصاً ضاحيتها الجنوبيّة. فكون الحيّ لا يزال قائماً على البنى التقليديّة، لا يعني أنّه منغلق على نفسه. داخل الحيّ، بطولة الأفلام هي للجماعة في أغلب الأحيان، لكن البطولة المطلقة هي لشخصيات الحديقة. شخصيات سينمائيّة بامتياز، كانت الحافز الأول لفغالي لدخول المنطقة. أبو يوسف، صانع السلال، نهاد، بائعة القهوة وأم حسن. يحتلّ كلّ واحد منهم مكانه في الحديقة التي أصبحت بالنسبة إليه مكاناً ضرورياً للعيش. أم حسن التي تعيش مع ابنها البكر، ترفض زوجته إدخالها إلى المنزل إلّا ليلاً لتنام، فتقضي نهارها كلّه على مقعدها في الحديقة. أبو يوسف يخبر الكاميرا كيف أنّه وجد يوماً زوجته مع عشيقها فقتلهما معاً، ثم قضى نصف عمره في السجون اللبنانيّة، فالمعتقل الإسرائيلي. ونهاد بائعة القهوة التي تدور وتدور كلّ يوم لتبيع قهوتها على الزوّار، تعرف زوايا الحديقة، وهي صلة الوصل بين أم حسن وأبو يوسف.
تلاحق باسكال فغالي شخصياتها حتى النهاية، لتبرز من التغيّر الذي طرأ على حياتهم من جرّاء تبدّل أحوال المنطقة. منذ زيارتها الأولى لحديقة الصنائع والمنطقة عام 2000 ـــــ وبعد سبع سنوات من العمل على المشروع ـــــ أشياء كثيرة تغيّرت هنا. النسيج الاجتماعي بدأ يتمزّق، والحارة تفقد تقليديتها تدريجاً، فيختفي الكثير من المظاهر التي صوّرتها الباحثة قبل فترة زمنيّة قصيرة، كنحر الخراف في الشارع في عيد الأضحى. تهتم فغالي بهذه التغيّرات السريعة، وتضيفها إلى عملها الذي أصبح يضمّ ممارسات وطقوساً من الذاكرة، بحسب ما تقول.
تبدو تغيّرات الحيّ طبيعيّة، لكن الخطير أن تطال نيّة التغيير إزالة الحديقة. وقد اجتمع في حفلة توقيع كتاب باسكال فغالي قبل أيّام في «مكتبة البرج» البيروتيّة، عددٌ من الناشطين الذين شاركوا في الاعتصام الشهر الماضي ضدّ إزالة الحديقة. هل هناك أمل في إنقاذ هذه الرئة؟ نسأل أحدهم؟ «الخطر هو تسييس قضيّة الحديقة، كما يجري مع كلّ شيء في لبنان. وقد لمحنا بعض بوادر هذا الاحتواء عشيّة الانتخابات النيابيّة». الحديقة فضاء عام، وهي من حق كل مواطن لبناني. بين المعتصمين الذين جاؤوا إلى البرج، باربرا، المواطنة الألمانيّة المقيمة في لبنان التي ترتاد الحديقة لممارسة رياضتها اليوميّة. أما محمد ونجوى المقيمان في المنطقة أباً عن جد، فلم يسمعا أبداً بقرار تحويل الحديقة إلى مرأب للسيارات. وتسأل نجوى بنبرة مستغربة: «بلديّة بيروت تريد إزالة الحديقة؟! لا، لا أعتقد ذلك». في هذه الأثناء باسكال فغالي ساهرة، وكتابها وثيقة نادرة قد تدفع الكثيرين إلى التفكير.


عدد السبت ١١ تموز ٢٠٠٩

مـــاركسـيّــــــــات

مـــاركسـيّــــــــات

أنسي الحاج
يتساءل المؤرخ أندريه بورغيير: ماذا يبقى من الإسهام الماركسي في الفكر التاريخي الراهن منذ انهيار جدار برلين وتساقط الأنظمة الشيوعيّة؟ ويجيب بأن هذا الإسهام باقٍ على حاله لم يصبه تلف ولا يزال برسم الاكتشاف، معلّقاً على قول سارتر أنه قرأ ماركس ولم يفهم شيئاً، بأن الوسط الثقافي الفرنسي لم يُحِط بفكر ماركس الإحاطة الكافية وبقي مريدوه مقتصرين على «دائرة ضيّقة من المناضلين الذين يطالعونه ويستخدمونه على نحو رَعَوي». ويعطي بورغيير مثلاً على حيوية الماركسيّة واستمرار معاصَرَتها هذه العبارة لكلود ليفي ستروس: «نادراً ما أعكف على معالجة قضية سوسيولوجية أو إتنولوجيّة دون أن أقوم قبل ذلك بإنعاشٍ لفكري عبر مطالعة بضع صفحات من (كتابَي ماركس) «لوي بونابرت» و«نقد الاقتصاد السياسي». قصدي من ذلك ليس معرفة ما إذا كان ماركس قد أصاب في توقّع هذا أو ذاك من تطورات التاريخ. لقد علَّم ماركس، مقتدياً في ذلك بروسّو، أن علم الاجتماع لا يقوم على خلفيّة الأحداث، تماماً كما أن الفيزياء لا تقوم على معطيات الشعور. إذا انتقلنا إلى مستوى آخر من الواقع، يبدو لي أن الماركسيّة تنهج نهج علم الجيولوجيا والتحليل النفسي: ثلاثتها تُظْهر أن الإدراك يكمن في اختزال نموذج من الواقع تحت شكل نموذج آخر، وأن الواقع الحقيقي لا يتبدّى أبداً في الواقع الأسطع، وأن طبيعةَ الحقيقي يبدأ ظهورها أول ما يبدأ في الحرص الذي تبديه على التواري».
■ ■ ■
من المفارقات العربية أن رشيد رضا رأى تطابقاً بين القيم الماركسيّة والمبادئ الاجتماعية والاقتصادية للدولة الإسلامية الأولى.
■ ■ ■
بعد ثورة 1917 البولشفيّة عقد مسلمو الإمبراطورية الروسية الآمال على حلف مع الشيوعيين يعيد إليهم استقلالهم، وتجاوبوا مع نداء لينين بالانضمام إلى حركته، واعداً إيّاهم باحترام ثقافاتهم ومؤسساتهم. غير أن إنشاء جمهوريات الاتحاد السوفياتي ابتداءً من 1923 بدّد الآمال. وفي المقابل، وكمثال وحيد من نوعه، كان أتاتورك زعيم تركيا الفتاة يتحالف مع الشيوعيين على أنقاض الإمبراطورية العثمانية ثم ينقضّ عليهم ليبني دولته العلمانيّة بنهج شبه أوروبي غربي. لكن تركيا الأنتي شيوعية أعطت بضعة أعلام شيوعيين في الأدب خصوصاً، طليعتهم الشاعر ناظم حكمت.
في البلدان العربيّة عانى الشيوعيون على الدوام من التناقض بين أمميّتهم وبين استهواء الحركات القوميّة لهم أو اضطرارهم إلى مسايرتها تحت شعار مشترك هو مناهضة الإمبريالية. وعلى الجملة، في الصراع بين الغرب والشرق، كان الشيوعيون العرب يسدّدون الفواتير، تارةً باضطهادهم علناً وطوراً بقصقصة أجنحتهم عبر تذويبهم في الديكور المحلّي. وفي التنازع العربي ـــــ الإسرائيلي برزت أكثر فأكثر تناقضات الأحزاب الشيوعية والتناقض القومي ـــــ الأممي والإسلامي ـــــ الماركسي، وبينما كانت النزعات العربية الراديكاليّة في السلطة وفي المعارضة تنادي باقتلاع إسرائيل من الجذور، كانت الأحزاب الشيوعية تركّز على مهاجمة الصهيونيّة كحركة عنصريّة متفرّعة من الاستعمار الغربي. وعلى صعيد آخر، انعكس فشل الأنظمة العربية «الاشتراكيّة» على الشيوعيّة العربية عموماً، أولاً لمصلحة القوميّات وفي ما بعد لمصلحة صعود النجم الإسلامي.
■ ■ ■
نقطة قد تستوجب البحث: الأخلاق في الماركسيّة. جوهريّة؟ غير محبَّذة لأنها غير واقعيّة؟ لأنّها معوّقة في ما يتعلق بممارسة العنف، مثلاً؟ هناك مَن صنّف ماركس في خط نيتشه على صعيد الانعتاق من الأخلاق التقليديّة، بالإضافة إلى انحياز ماركس الطبيعي لسلاح السياسة كأداة كبرى لتحقيق غايات الحرب الطبقية. وحين تقول سياسة لا تعبأ كثيراً بالمناقبيّات عادة. إلاّ أن هذا التصنيف لم يصمد عند الماركسيين الجدّيين، وهم إذ يقرّون بأن الماركسيّة تخلو من أدبيات المناقبيّة التقليدية التي تحفل بها العقائد التبشيرية عادة، يلفتون إلى قيم ثابتة عند صاحب «رأس المال» أبرزها: البُعد الكونيّ، احترام الشخص كغاية في ذاته، والدعوة إلى تحقيق استقلاله الذاتي في جميع الحقول.
هذه القيم أضفتْ على كتابات ماركس روحاً حماسيّاً ميّزها من البحث العلمي الصرف الجاف. عندما ننسى أن الماركسيّة نظام يتوخّى تحرير الإنسان قد نغرق في تفاصيلها العقلانيّة. وهذا ما حصل مراراً، وهو في أساس خلافات والتباسات كثيرة. حتّى لو لم يعيّن المرء قيمه الأخلاقيّة بأسمائها، يكفي أن تكون غايته التحرير أو الحريّة، وتحقيق «سيادة الحريّة محل سيادة الضرورة»، حتّى نتيقّن من أن قيمه ـــــ لا بل «قيوده» ـــــ الأخلاقيّة جزء طبيعي من مشروعه.
■ ■ ■
خلافاً للشائع، لم يُعر ماركس الموضوع الديني أهمية كبيرة. فقد كان مقتنعاً بأن تحسين الظروف الاقتصادية سوف يستتبع تلقائياً تلاشي «الأوهام الدينية». اكتفى، تقريباً، باعتبار الدين «بنية فوقية» غايتها صرف انتباه الشعوب عن القضية الأساسية، أي استغلال الإنسان للإنسان واستعباده. نقّاد كثيرون عابوا على ماركس هذا التبسيط، فالغيبيّة ليست مجرد نتيجة للبؤس المعيشي، ولا يمكن، عن طريق توفير الحقوق الاجتماعية، إلغاء الحاجة إلى تلَمُّس «الغائب». لقد هجس ماركس بالعنصر الاقتصادي كما هجس فرويد بالعنصر الجنسي، وفي كل هجس طغيان، وإن تكن حقائق الحياة وما انكشف وينكشف من أسرار الكائن البشري قد أعطت الحقّ لنظريات فرويد أكثر ممّا أعطته، على صعيد العلاقة بالدين، لكارل ماركس. لعلّ تحرّر الإنسان، روحاً وجسداً، سيظلّ منوطاً باسترجاعه أملاكه النفسيّة أكثر منها حقوقه الماديّة، وتيقّنه من أنه كان ويبقى هو الخارج والداخل، المصوِّر والمصوَّر، الجائع والمُطْعِم، راسم الحدود ومتجاوزها. ممكن للإنسان إن يُسْقط الآلهة حيث يريد، فلا شرط على الخيال ـــــ ولا قيود على الرغبة والحاجة، ولكن شتّان بين إسقاطٍ كهذا تحت وطأة الجهل والاتّباع، وشعور نابع من تَصالُح مع الذات والكون.
■ ■ ■
في كتابهما «الأيديولوجيا الألمانية» (1846) يقول كارل ماركس وفريديريك إنغلز: «أفكار الطبقة المسيطرة هي، في كل زمن، الأفكار المسيطرة». رقصة التوازن اللبنانيّة تقوم على مزيج أفكار «الطبقات» المسيطرة. أو بالأحرى الطوائف المتفاعلة بعضها مع بعض أو ضد بعض سياسيّاً واجتماعيّاً. ترتفع كفّة في الميزان أحياناً على كفّة، ولكن ضمن قوانين الجاذبيّة، وإذا أطاحتها نشبت حروب أهليّة أو تدفّقت موجاتُ هجرة. لبنان ليس أكثر من نقطة غير مرئيّة على خريطة الأرض ويتوقّف على ديموقراطيته الطائفيّة أن تكون هذه النقطة قاتمة أو متوهّجة. أكثر من أيّ وقت مضى ترتدي الديموقراطية في لبنان معنى التعايش، بل معنى التحاضن.
■ ■ ■
حاول شعراء، بينهم أندريه بروتون والعديد من السورياليين، وخاصةً في ثلاثينات القرن العشرين، التوفيق بل التوحيد بين الشعر والعلم، بين الخيالي والسياسي، بين «تغيير العالم» بحسب قول ماركس و«تغيير الحياة» بحسب كلمة رمبو.
رأى الشعراء أن غاية الطموحَين واحدة، وهي تحرير الإنسان، غير أن الوسائل اختلفت حدّ التضارب الجارح. فمقتضيات العمل السياسي تستوجب انضباطاً معيّناً وأعمالاً فعّالة في الواقع المباشر، فيما يريد الشاعر الحريّة، بل التحرير التام من كل ضغط. كثيرون من التغييريّين اعتنقوا الثورة عن طريق التأمّل في حقائق التاريخ والاقتصاد ومكابدة العمل السياسي، على عكس معظم الشعراء إن لم نقل جميعهم. فهؤلاء ينطلقون من الإحساس والحلم والتأثّر، وإذا استهوتهم نظريّة فبمقدار كونها ترجمة لإحساسهم وحلمهم وتأثّرهم، ترجمة لا تلزمهم تأدية فروض عمليّة أو واجبات حزبيّة، فكل ما ينتمي إلى نظام، أيّاً يكن النظام، مرفوض، خصوصاً الأنظمة الشموليّة، وبالأخصّ منها تلك التي لا تعير كبير شأن للجانب النفساني والخيال الطَلْق والفكر الحرّ.
وأكثرُ مَن عبّر عن هذا التمزّق بين ثوريّتي الماركسيّة والسورياليّة هو بروتون نفسه، حين قال ما معناه إنه، مثلما رفض فكرة تعالي الله أو مجاوزته، يرفض فكرة تعالي المادة أو مجاوزتها. ففكر الإنسان متفوّق على المادة وعلى التاريخ، وحرّيته مطلقة لا يُملى عليها من خارج، فلا شيءَ سابق على الوجدان ولا شيءَ يقدر على استعباده، ويستحيل اختزال الفرد وأفكاره بالتاريخ والمجتمع.
هذه المشكلة عاناها غير الشعراء أيضاً وغير السورياليين. سارتر نفسه عاش ما يشبهها، وإن يكن خلافه مع الشيوعيين قد حصل لأسباب أخرى وظلّ يؤرجحه بين مدّ وجزر حتى الرمق الأخير. ولعلّنا نستطيع، ببعض التبسيط والمجازفة، اختصار هذه المشكلة الثقافيّة بالتعارض الأساسي بين العالم الداخلي للكاتب أو الفنّان وحاجة هذا العالم إلى النبض على هواه بصدق وصيرورة مفتوحة على مجاهلها ـــــ وعقيدة خارجيّة جاهزة، مغلقة، لا تعبأ بشيءٍ يخالف أو يتجاوز حدود المادة والمعطى التاريخي وتنظر إلى ما يجادلها في هذا نظرة سخرية أو عداء.
وأبعد من السورياليّة والشيوعيّة يطرح الفيلسوف فردينان آلكييه هذا السؤال: «لماذا الفكر السياسي المسمّى يساريّاً يندرج مع الفكر الثقافي الأشدّ رجعيّة والأكثر تخلّفاً؟ ولماذا التمرّد، الذي من خلاله ينتفض الإنسان على الضغوط التي ترهقه، يبدو متعارضاً مع الثورة؟».
■ ■ ■
في مقدمة كتابه «نقد الاقتصاد السياسي» يتنبّأ ماركس بقرب «زوال عهد ما قبل التاريخ للمجتمع البشري»، مطلقاً على الماضي كلّه حكماً مُبْرماً. بصرف النظر عن صحّة التنبّؤ أو عدمها، يستوقفنا هذا الأمل الوحشي. كثيرٌ من النتاج الماركسي المتراكم منذ ماركس لم يعد قابلاً للقراءة، لكنّ ما يُبقي هذه الشعلة حيّة ليس الحرف بل الحلم. ما يبقيها حيّة وما يشكّل خطرها الأكبر: فحول هذه اليوتوبيا وتحت ستارها هُدِم ما هُدم وقُتل مَن قُتل وارتُكبت ضد مجتمعات بأسرها فظاعات ومجازر. شأن كل حقّ يقع بين أيدي غير أصحابه. الخيانة مضمونة، سواء عبر انتهاك أمانة الأصل أو بالإفراط في الأمانة حتى التحجّر. مفارقة فاجعة لم يعرف لها التاريخ نهاية. العدل يُنتج ظلماً والحلم كابوساً والمساواة دبابة تُسوّي المعترضين بالأرض.
العودة إلى ماركس مرغوبة دوماً للقراءة. هو وإنغلز. هل يُحتمل أن يصبحا من جديد أساساً لثورات سياسيّة تنشئ أنظمة توتاليتاريّة جديدة تبدأ بالقول إنها ستتجنّب الأخطاء التي وقعت فيها الأنظمة الشيوعيّة السابقة؟ وماذا ستعني بالأخطاء: مبالغة الدكتاتوريّة أم «تقصير» الدكتاتورية؟ وأيّ حظ لمثل هذا الاحتمال بالتحقّق والنجاح بين معسكرَي الرأسماليّة والأصوليّات الدينيّة؟ وقبل ذلك وبعده: هل حُكم على الإنسان بأن لا يَرتجي غير ما سيندم على حصوله؟
■ ■ ■
نلتفت إلى مصادر أخرى. إلى طاقات الفنّانين ومخيّلات الشعراء. الجمال. هؤلاء هم آباؤه وأبناؤه. الاستمتاع بالجمال حقّ كوني شامل وسلوك فردي خاص في وقت واحد، والحريّة هنا مكفولة بلا نصوص. ما من سلطة إلاّ الإعجاب والحبّ. ما من دم يسيل بل هو انفراج السعادة. وراء جباه الخلاّقين، شعراء وفنّانين، تجلس مصادر الزمان، ومن هذه الجباه تخرج، على شكل لحظات من الرعشة والسحر، تلك الأبديّة التي أُسقطت عن الإنسان يوم حُكم عليه بالموت، وتُعاد إليه جمالاً أدبيّاً وموسيقيّاً وتشكيليّاً، جمالاً يضاهي، لو عشنا فيه، ألف حياةٍ خالدة في الجنّة.


عدد السبت ١١ تموز ٢٠٠٩

مقاطعة إسرائيل: فليذهب جاد المالح إلى... بلادِه


مقاطعة إسرائيل: فليذهب جاد المالح إلى... بلادِه

النائب نديم الجميل أمام عدسات المصوّرين  (أرشيف ــ بلال جاويش)النائب نديم الجميل أمام عدسات المصوّرين (أرشيف ــ بلال جاويش)ليس صحيحاً أن جاد المالح مُنِعَ من المجيء لإحياء حفلاته في بيت الدين. كان يجب أن يُمنَع بالتأكيد، لكنه للأسف لم يُمنَع. كما لم تكن معارضة الدعوة من منطلق العداء لليهوديّة، حتى لو أن موقف «المنار» ضعيف هنا، لكن لماذا تصبح معاداة اليهوديّة (وهي مُستنكَرة ومُستفظَعة) أسوأ من العدوان على غزة عند هؤلاء؟

أسعد أبو خليل *
تستطيع أن تقول الكثير في نقد فريق آل سعود ـــــ آل الحريري، لكنك لا تستطيع إلا أن تلاحظ وحدة موقفه وتماسك خطابه وطاعة أدواته. أي أن هذا الإعلام لا يسمح حتى بالفرادة في التعبير في مناصرة هذا الأمير أو ذاك الشيخ النفطي. الأميرُ يأمرُ، والأقلام تطيعُ صاغرة. كان نقد النظام السوري سائداً في هذا الإعلام في الأعوام الماضية: فلبّى الجميع، إلى أن أتت أوامر مختلفة قبل أسابيع، فصمت الجميع. وفي هذا الأسبوع وما قبله، قضيّة جاد المالح هي القضيّة الشاغلة. الجوقة نفسها غنّت وضربت الدفوف أسىً على تمنّع جاد المالح عن زيارتهم وإتحافهم بنكاته. فراس زبيب الكاتب في نشرة «المستقبل» رفض حتى تصديق بيان المالح، وقال ما لم يقلْه المالح نفسه، إنه مُنِعَ من زيارة بلد الأرز والبلّوط. وحازم صاغيّة استعان بالخطاب المبتذل والمُتكرِّر عن «التوتاليتاريّة»، لكن بأسلوب ينمّ عن جهل عميق بالنتاج الأكاديمي عن الموضوع. من المفيد أن نميِّز في دعاية الجوقة بين الحقيقة والاختلاق والخداع.
أولاً، ليس صحيحاً أن المالح مُنِعَ في لبنان. كان يجب أن يُمنَع بالتأكيد، لكنه للأسف لم يُمنَع. ثانياً، لم تكن معارضة الدعوة من منطلق العداء لليهوديّة، حتى لو أن موقف «المنار» ضعيف هنا، لكن لماذا تصبح معاداة اليهوديّة (وهي مُستنكَرة ومُستفظَعة) أسوأ من العدوان على غزة عند هؤلاء؟ ثالثاً، إن قول إبراهيم العريس (الذي وَصَف قبل أشهر مبادرة الحوار بين الملك السعودي وشمعون بيريز بأنها أعظم مبادرة في «تاريخ البشريّة») بأن للمالح تاريخاً طويلاً من التنديد بقمع إسرائيل للشعب الفلسطيني هو مُختلَق في أساسه. وإذا كان في حوزة العريس براهين على ما يقول، فكان يجب أن يقدّمها في مقالته. رابعاً، ليس صحيحاً البتة ما ورد في إعلام آل سعود ـــــ آل الحريري أن البسمة والضحكة لا تستقيمان في المجتمع العربي من دون حفلات للمالح، كما أنه ليس صحيحاً أن المالح هو أظرف كوميدي في «تاريخ البشريّة». خامساً، إن غضب جوقة المالح لا يتعلق بالفن من أجل الفن، بل بالفن لأجل التطبيع مع العدوّ. لهذا، فإن فراس زبيب كان صريحاً عندما قال إن مناصرة المالح للحملة من أجل جندي إسرائيلي مُحتلّ (لنُقلِع في الإعلام العربي عن محاكاة الإعلام الصهيوني في تسمية من ترى فيهم إسرائيل ضحايا لها، وكأن ضحايانا وُلدوا من دون أسماء أو وجوه) يجب أن لا تشكّل عائقاً أمام دعوته وتكريمه في لبنان. أما أمر تأييد فريق 14 آذار الضمني للتطبيع مع إسرائيل فواضح للعيان. تراهم ينتقدون كل أداء النظام السوري باستثناء أمريْن: التزامه عدم قتال إسرائيل والمفاوضات مع إسرائيل. فالأمران محلّ إعجاب عند عليّة 14 آذار. وسامي الجميّل أكّد قبل أسبوع أنه بالتأكيد يسعى نحو سلام مع إسرائيل. وتزامن الأسف على زيارة المالح ـــــ صدفةً طبعاً ـــــ مع مقال لغبريال مراد على موقع «ناو حريري» دفاعاً عن جيش لحد.
وجد فريق آل الحريري في لبنان قضيّة وبطلاً: جعلوا من جاد المالح رمزاً للفن الراقي والأداء الرفيع. الطبقة البورجوازيّة في لبنان لم تأخذ مقاطعة إسرائيل على محمل الجد يوماً من الأيام: حتى في عز المقاطعة بعد 1948، كان أبناء الذوات وبناتهم في «الكوليج بروتستانت» والـ«آي سي» والجامعة الأميركيّة واليسوعيّة يستعينون بالواسطة ليهرّبوا في أمتعتهم إلى لبنان ما ابتاعوه من ماركات وأسماء وسلع من شركات واردة على قائمة مقاطعة إسرائيل. وكلما كان المُقاطَع متحمّساً لإسرائيل أكثر، ازداد اقتناعُهم بموهبة المُقاطَع. قل إنها مغازلة العدو على الطريقة اللبنانيّة. وإعلام 14 آذار اختار أن يناظر محطة «المنار» وحدها في الأمر: وذلك لتسهل المناظرة في ما بينهما، كما هم يتعاملون مع كل نقد لثورة (حرّاس) الأرز على أنه صادر عن عاصم قانصوه وحده. زياد مخول جعل من الحملة ضد المالح إرادة من آيات الله فقط. أراح نفسَه. ومحطة «المنار» في موقع ضعيف: ليس فقط لأنها عن حق حاضنة أحياناً لمعاداة اليهود كيهود، بل لأنها متزمّتة جداً في مسألة الفن والتعبير إلى درجة أنها تقاطع حتى أغاني جوليا بطرس. ينبغي للقيّمين في محطة «المنار» أن يطّلعوا على تاريخ الفن الإسلامي، كما قال نصري الصايغ، وأن يتيقّنوا من أن الطرب والموسيقى والرقص وحتى المجون لا تتعارض مع المقاومة (هل هذا ما عناه نيتشه عندما قال في «هكذا تكلّم زرادشت» إنه يبحث عن إله يمارس الرقص؟).
السيدة نورا جنبلاط (أرشيف ــ مروان طحطح)السيدة نورا جنبلاط (أرشيف ــ مروان طحطح)لكن فريق مثقفي 14 آذار مصابون بنفاق فاقع في مسألة اللاساميّة. آموس عوز (العنصري ضدّنا الذي يفاخر بمشاركته في قتال العرب) عرّف معاداة الساميّة بأنها الظن بأن اليهود هم أسفل أو أفضل من الغير: لهذا، فإن معاداة اليهود عند الملك الحسن الثاني في المغرب كانت من النوع الثاني. وهكذا، يصبح الفنان اليهودي عند فريق 14 آذار أكثر موهبة إذا كان يهوديّاً، على أن يكون صهيونيّاً، لأن هؤلاء شنّعوا بإيران عندما دعت حاخاماتٍ يهوداً إلى طهران لحضور مؤتمر سخيف صادر عن إرادة رئيس يعاني على الأقل من تشكيك بالمحرقة.
لكن مثقفي 14 آذار مُخادعون في محاولتهم الظهور معادين لمعاداة اليهوديّة، وهم يتصنّعون الحساسيّة هنا فقط: 1ــ للظهور بموقع المتفوِّق حيال ثقافة يعتبرونها دونيّة عند «الدهماء» و«الغوغاء»، أو للسخرية من حس العامّة الفني.
2ــ لمحاكاة الرجل الأبيض لأنهم يعتقدون (جهلاً) أن الرجل الأبيض شُفي من معاداة اليهوديّة. وتبلغ هذه المحاكاة درجة مضحكة إلى حد أنهم يتماهون مع الخطاب الغربي ضد الإسلام والتعصّب مع اليهود (لا يعلم هؤلاء أن التشكيك بالمحرقة يصيب خُمس السكّان في أميركا وفقاً لدراسة في كتاب ديبرا ليبستات عن «إنكار المحرقة»). ومحاكاة الرجل الأبيض في لبنان تفسّر اهتمام البعض بإتقان اللكنة الأجنبيّة أكثر من اهتمامهم بإتقان اللغة الأجنبيّة. 3 ــ يجهدون لتحضير جماهيرهم للاستسلام أمام إسرائيل. ونتساءل: حساسيّة ضد العنصريّة من الفريق الذي امتهن العنصريّة ضد الشيعة في لبنان، والأمر فاقع في إعلامهم، والفريق الذي امتهن السخرية العنصريّة من الشعبين السوري والفلسطيني؟ هؤلاء في موقع الوعظ عن الحساسية الليبرالية الفائقة؟ هؤلاء الذين جرّوا خادماتِهم السريلانيكيّات إلى مهرجاناتهم الطائفيّة؟ الأمر مثل المزحة التي لا تنطلي حتى على مطلقيها.
ثم ما السبب في انكفاء الفريق هذا عن انتقاد معاداة السامية في ما بينهم؟ الكنيسة الكاثوليكيّة هي الحاضنة (التاريخيّة) الطبيعيّة لمعاداة اليهود، ولكن من المستحيل أن ينتقد هؤلاء خطاب الكنيسة، مثلاً. وجريدة «الأوريان لوجور» التي تنطّحت لقيادة الحملة دفاعاً عن المالح ليست في موقع الوعظ أبداً: ماذا كان موقف الجريدة من احتلالات إسرائيل وعدوانها عبر السنوات؟ وصاحب الجريدة، ميشال إده، الذي يظن أنه خبير زمانه في شؤون اليهوديّة والصهيونيّة، والذي تقلّ معرفته في الموضوع عن... أحمد الشقيري، حاول إقناعي قبل بضع سنوات في بيروت بأن اليهود في نيويورك كانوا على علم مُسبَق بأحداث 11 أيلول، وأنه لم يمتْ أي يهودي أو يهوديّة في 11 أيلول. وعندما حاولت أن أبيّن له جهلَه، أصرّ على موقفه وقال إن اليهود في نيويورك لزموا منازلهم ذلك اليوم. هل يجرؤ هؤلاء على انتقاد لاساميّة ميشال إده؟ ولا ننسى أن مثقفي 14 آذار هم جزء من حركة تمتدّ من حزب النازيّة اللبنانيّة لتصل إلى فريق السلفيّة الوهابيّة الذي لا يزال يستعين بخطاب عن «أحفاد القردة والخنازير». فاتتهم الإشارة وفاتهم وجود خالد ضاهر في صفّهم.
الموضوع متعلّق ـــــ يقولون ـــــ بحريّة التعبير. وهم يتحدّثون ـــــ والرجل الأبيض دائماً هو نصب أعينهم ـــــ وكأن هناك حريّة رأي وتعبير مطلقة في الغرب. لكن حريّة الرأي المطلقة ليست موجودة، ولا حتى نظريّاً. وجون لوك (أبو الليبراليّة النظريّة) أفرد قسماً في نهاية كتابه «عن التسامح» ليؤكّد أن تسامحه لا ينطبق على الجميع، وذكر في من ذكر «الأتراك» (وهي الإشارة الأوروبيّة إلى الإسلام آنذاك). وإهانة اليهود والتشكيك بالمحرقة جريمة في كندا وفرنسا وعدد من الديموقراطيّات الغربيّة التي لا تزال تحرّم بعض الإيديولوجيّات التي تراها مُنفّرة أو مُحرَّمة كما تفعل ألمانيا. وإسرائيل التي يتمثّل الليبراليّون العرب بها لا تزال تلتزم مقاطعة شبه تامّة للنتاج الموسيقي لفاغنر. وهل يوافق فريق مُناصري المالح على أن الأخير ليس في مرتبة موسيقى فاغنر؟ ورفيق الحريري الذي يؤلّهون خاض معارك قاسية ضد الإعلام ـــــ أو ضد مَن بقي من الإعلام غير المُمَوَّل منه ـــــ عندما رأى إهانة لشخصه أو لشخص واحد من ملوك شخبوط، أو للرئيس السوري (كما حصل معي أنا عندما مُنعَ كتاب صادر في الغرب لأنه تضمّن دراسة لي عن السياسة الخارجيّة السورية التي اعتبرتها حكومة الحريري في منتصف التسعينيات «مُهينة» للرئيس السوري).
كل دولة وكل مجتمع يستنبط معايير خاصة به للاستثناء من حريّة التعبير (والقائمة طويلة جداً هنا في أميركا بناءً على معايير الحرب ضد الإرهاب كما كانت بناءً على معايير الحرب ضد الشيوعيّة من قبل).
الوزير الأسبق ميشال إدّه (أرشيف)الوزير الأسبق ميشال إدّه (أرشيف)يحاول زياد مخول أن يتصنّع معركة جريئة ضد آيات الله، لكنهم في صف 14 آذار يحاربون آيات الله ليس بفولتير أو فرح أنطون أو روبسبيير، بل بالبطريركيّة وبدار الإفتاء وبمحمد علي الجوزو وبالرهبانيّات المارونيّة. هؤلاء يحاربون فكر الخميني بفكر... ابن باز. هؤلاء يناصرون المفاهيم القروسطيّة (مثل «الحرم الكبير» الذي لوّحت به الكنيسة هذا العام في أكبر خرق لحريّة التعبير في لبنان). والكنيسة تحارب حريّة التعبير في كل الأشكال: ضد «كود دافنشي» وضد بعض الفرق المسيحيّة و«عبَدَة الشيطان» وشهود يهوه إذا ما شكّلوا خطراً على الكنيسة. هؤلاء، لو عاد أسعد الشدياق، لبالوا عليه مرّة أخرى. الذين صمتوا عن قرار الكنيسة في عام 2009 بالتهديد بـ«الحرم الكبير» وبمحاكم التفتيش، لا يحقّ لهم الوعظ في حريّة التعبير. لكن كل هذا، بالإضافة إلى فرمان طارق متري للرقابة العليا على الصحافة، لم يثرْ حفيظتهم: لا بل كان مثقفو 14 آذار وصحافيوها من أنصاره، وطالبوا بالمزيد من تقييد الحريّات «لعيون الشيخ سعد».
كان يمكن أن يتعامل المرء مع نورا جنبلاط على أنها خارج الطاقم السياسي، وأفراد عائلات رجال السياسة في لبنان يجب أن يبقوا ويبقين في منأى عن السجال، إلا إذا اختاروا أن ينزلوا إلى حلبة السياسة. فنورا جنبلاط اختارت ألا تتراجع عن موقفها بدعوة صهيوني، غير مُعتذِر، جاد المالح، إلى مهرجانات تديرها هي من أجل الترفيه عن بورجوازيّة لبنان. ومن اللافت أن نورا جنبلاط عقدت مؤتمرها الصحافي محاطة بعليّة النازيّة اللبنانيّة، مثل نديم الجميل وإيلي ماروني. كان المشهد لافتاً. أن تُحاط بنديم الجميل وإيلي ماروني بالذات: الأول التقى من دون اعتذار مع حفيدة إسحق رابين في حفل عام وعلني في لندن، والثاني صاحب الاقتراح الشهير باقتحام مواقع حزب الله لنزع سلاحه لحساب... شرعيّة حزب النازيّة اللبنانيّة. لكن أمين الجميّل رفض ـــــ حسبما قال ـــــ أن يزايد عليه أحد في ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة: الذي نصّبته دبابات إسرائيل والذي أشرف على عقد اتفاق استسلام بين لبنان وإسرائيل، والذي وعد حكّام إسرائيل ـــــ كما تذكر المراجع العبريّة ـــــ بأن يذهب أبعد من أخيه... يرفض أن يُزايَد عليه في القضيّة الفلسطينيّة، مع أن الكلّ في لبنان يستطيع أن يزايد على الجميّل، ربما باستثناء أنطوان لحد أو زياد الحمصي. لنورا جنبلاط أسبابها التي دفعتها إلى أن تحيط نفسها بالاثنيْن، إضافة إلى تمام سلام وطارق متري. (حتى زياد بارود أقحم نفسه إلى جانب المالح مع أنه كان يجب أن يهتم بأمر المال السعودي في الانتخابات وأمر تصريح بطريرك أنطاكية المُخالف للقانون الانتخابي).
أولاً، ما علاقة تمّام سلام بالثقافة، ومَن أئتمنه على شؤونها؟ وهل سمعنا بدور لوزير الثقافة هذا قبل مسألة جاد المالح؟ أي أن الوزير سلام اعتبر أن قضيّة المالح هي أهم قضيّة تمرّ عليه في الوزارة. وماذا قال سلام؟ قال إنه سمع بالإنترنت وإن ليس كل ما يُنشر على الإنترنت صحيحاً. هذه الدرر الثقافيّة لسلام نوّرت المؤتمر الصحافي. وطبعاً، برز طارق متري المتحمّس الأكبر في الأمر. تساءل طارق متري ساخراً ـــــ مع أنه كان في فرمانه لفرض رقابة حريريّة عليا على الإعلام قد اقترح منع السخرية والتهكم ـــــ إذا كان إلغاء حفل جاد المالح سيساعد في «تعزيز مواجهة لبنان للعدوانيّة الإسرائيليّة». فات الوزير أن يلاحظ أن لبنان الرسمي لا يواجه عدوانيّة إسرائيل ولم يواجهْها في تاريخه قط. صبية وفتية وفتيات تطوّعوا في تاريخ لبنان المعاصر لمواجهة عدوانيّة إسرائيل، فيما تقاعست الدولة: من أيام بشارة الخوري ومجيد إرسلان إلى أيام فؤاد السنيورة والياس المرّ. لكن، يمكن الإجابة عن سؤال طارق متري بالإيجاب. إن إلغاء حفل جاد المالح أجدى بكثير، مثلاً، من ذلك الخطاب الفاشل والباهت الذي ألقاه طارق متري في مجلس الأمن في حمأة العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. أي أن طارق متري هو آخر من يحق له النصح في موضوع مواجهة عدوانيّة إسرائيل. كان لمتري الفرصة للإسهام في مواجهة إسرائيل عندما كان في موقع المسؤوليّة أثناء عدوان إسرائيل على لبنان، وسقط. لكن متري لا يُؤخذ على محمل الجد: فإسم الرجل تحوّل إلى حالة. ولاحظنا أن متري أصدر بياناً خاصاً بالموضوع: تحمّس طارق متري لمجيء جاد المالح إلى لبنان أكثر من حماسته ضد عدوان إسرائيل على لبنان.
لكن السجال مع هؤلاء في فريق آل الحريري شيء، والحوار مع الرفيق بيار أبي صعب شيء آخر، لأن الأخير مدافع عنيد عن مقاومة إسرائيل. الرفيق بيار يختلف معنا في الموقف ويطالب بالسماح للمالح بالمجيء إلى لبنان. يفسر بيار ذلك بسبب أخطاء وردت في بعض المواقع الإلكترونيّة عن المالح. وهناك حديث عن صور مركّبة، وعن مزاعم غير صحيحة. لكن كل هذا لا يهم. المهم ما هو ثابت وأكيد: أن المدعو المالح أيّد جنود إسرائيل وناصر الكيان الغاصب. يكفي هذا. الباقي تفاصيل. هناك من يحاول (مثل طارق متري) أن يتلاعب بمعايير مقاطعة إسرائيل عبر القول إن المقاطعة يجب أن تتوجّه ضد جنود الاحتلال وحدهم. ولا نستبعد أن يفتي متري بعد قليل بأن المقاطعة يجب أن تستهدف فقط هؤلاء الجنود من جيش العدو الذين صوّبوا وأصابوا فينا مقتلاً. أما الباقون، فيرحّب بهم متري ويتطوّع إيلي ماروني للرقص أمامهم بالشمعدان في مطار بيروت الدولي. أي أن المقاطعة التي بدأت بمقاطعة كل من يقدّم العون اللفظي أو المعنوي أو المادّي للدولة الغاصبة باتت تكتفي فقط بمقاطعة البعض ـــــ لا الكلّ ـــــ في جيش العدو. (وهناك من المواطنين والمواطنات في دول غير إسرائيل ممن خدم في جيش الاحتلال، مثل رئيس أركان البيت الأبيض، رام عمانوئيل).
يقترح الرفيق بيار عن حسن نيّة أن نستخدم حضور المالح إلى لبنان لمناظرته أو إقناعه. الأمر أكبر من ذلك بكثير. يمكن مناظرة المالح على أرض محايدة كخصم يحمل أفكاراً معادية، ولكن ليس لإقناعِه، بل لإقناع جمهور من الطرف الثالث. المالح حزم أمره إلى جانب جيش العدو. والخلاف مع العدو ليس سوء تفاهم أو خلافاً عابراً يمكن أن يُحلّ على فنجان قهوة (أو شاي، على طريقة أحمد فتفت).
إنه خلاف أراده العدو بالحديد والنار: وهذا ما عناه أمل دنقل: «نَقتل أو نُقتل. هذا الخيار الصعب». ولم تتسربل حركات تحرّر وطني في تاريخها بنزعات لإقناع مهذّب للعدو ـــــ المحتلّ. التهذيب مع العدو ليس من شيم ثوار التحرّر، وإلا لكانت الجزائر كما أرادها المُستعمر الفرنسي، فرنسيّة مثل باريس، أو لكان مثقفو باريس قضوا وقتاً أطول في التسكّع في المقاهي خلال الحرب. المقاطعة التامّة هي أضعف الإيمان (بمقاومة العدو) في هذه الحالات، حتى لو تناقضت مع حسابات كل الأنظمة العربيّة (من سوريا وقطر إلى مصر والسعوديّة) الغارقة في وحول التطبيع طمعاً برضى أميركي.
أما القول إن المالح ينتمي إلى بيئة متعاطفة مع إسرائيل لإعفائه من المسؤوليّة الأدبيّة والأخلاقيّة، فهذا الكلام ينطبق فقط على الرضيع والأخرق، فالكل ينشأ ويترعرع في بيئات محمّلة بالتعصّب والعنصريّة والعداء للمرأة، لكن المرء يصل إلى سن يتحمّل فيها مسؤوليّة ما يحمل (أو تحمل) من أفكار وقيم. وهناك في أميركا وكندا من اليهود ممن ينتقدون إسرائيل أكثر بكثير من بعض العرب ـــــ هنا وهناك. الراشد مسؤول عن أعماله وكلامه، لا البيئة التي ينتمي إليها، وإلا فإن الأعذار التخفيفيّة واجبة على كل مناصري إسرائيل ومناصراتها في الغرب.
الأمر خطير: هناك من يريد أن يُروّج للتطبيع مع إسرائيل تحت مسمّيات مختلفة: السلام أو الفن الرفيع أو حب الحياة أو الحوار بين الأديان أو الانفتاح أو ترشيح عربي لمنصب مدير الأونيسكو. وهناك في لبنان من تاق حتى قبل إنشاء دولة الكيان الغاصب، لسلام مع إسرائيل. لبنان مسخ وطن يستقبل فيه رئيس الجمهوريّة، ميشال سليمان ـــــ مع نبذ الألقاب ـــــ وغيره من الساسة سفير «فرسان مالطة»، وما أدراك ما «فرسان مالطة». لبنان كان ثاني دولة عربيّة توقّع اتفاق سلام مع إسرائيل. لم ننسَ.

ملاحظة: نشر موقع «العربية» مقالي عن إيران، لكنه حذف منه كل النقد للأنظمة العربيّة وللإعلام السعودي. طبعاً، ليس مستغرباً ألا تلتزم وسائل إعلام آل سعود المعايير المهنيّة والحِرَفيّة (مثلما سرق موقع «ناو حريري» خبراً من مدوّنتي من دون ذكر المصدر) لكنني أحببت إطلاع القارئ والقارئة في العالم العربي على الأمر.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)


عدد السبت ١١ تموز ٢٠٠٩

الاثنين، ٢ تشرين الثاني ٢٠٠٩

اسواق بيروت؟

اسواق بيروت؟
الياس خوري


القدس العربي
03/11/2009


كانت تمطر، وكنا نمشي وسط قباب جديدة، وشوارع مستقيمة ومتوازية، فرشت ارضها بالبازلت. نحن في اسواق بيروت القديمة، نبحث عن ذاكرتنا، فنجد انفسنا نمشي على الذاكرة.
سألت صديقي المهندس المعماري، الذي كان يقودني وسط الأسواق الثلاثة التي حافظت على اسمائها، عن الذاكرة. هل يمشي الانسان على ذاكرته؟ فابتسم وقال لي ان الذاكرة هي حذاء العمارة.
لم افهم قصده، لكنني ابتسمت وانا اتابع حكاية الأسواق التي تمت المحافظة على اسمائها: سوق الطويلة وسوق الجميل وسوق اياس.
لكنني اشعر انني في مجمع تجاري، مول كبير وضخم، له مداخل متعددة. كل معالم الماضي اندثرت، خان انطون بيك سوي بالأرض وسيقام في مكانه سوبر ماركت من تصميم زها حديد، الأسواق القديمة تلاشت، لن يكون هناك خياطون في سوق اياس، ولن يعود سوق الصاغة، ولا مكان لسوق الافرنج. وحده مبنى جريدة 'الاوريان'، بقي منتصبا في مكانه، وفي حاجة الى اعادة ترميم. بركة العنتبلي القديمة استبدلت ببركة رخامية صغيرة. مطعم العجمي لا اثر له، ورائحة بيروت اختفت.
سألت صديقي عن علاقة العمارة بالرائحة، قلت له اننا لا ندوس على ذاكرتنا فقط حين نمشي هنا، بل ندوس ايضاً على رائحة الأمكنة. الذاكرة قد تكون حذاء، مثلما يكتب الشعراء، لكنها حذاء الرائحة.
حكاية الاسواق، في منطقة باب ادريس، تشبه حكاية بيروت القديمة كلها. المدينة القديمة دمرت، في سياق مشروع اعادة الاعمار الذي تتولاه شركة 'سوليدير'. بيروت العثمانية التي كانت في محيط ساحة الشهداء، جرفت كلها ورميت في البحر، ولم تجر اعادة ترميم سوى منطقة ساحة النجمة، ذات الطابع المعماري الكولونيالي الفرنسي، التي صاروا يطلقون عليها اليوم اسم 'الداون تاون'، او اسم 'سوليدير'، وازدهرت فيها المطاعم، وصارت قبلة للسياح الخليجيين.
الأسواق، وهي ايضا ذات طابع عثماني وتقع داخل السور القديم، جرفت ايضا، وتقرر اعادة بنائها كأسواق. لكن الشركة العقارية، ارتأت بدل اعطاء كل سوق لمعماري، ضمن مخطط توجيهي وضعه المهندس جاد تابت، بهدف المحافظة على التنوع من ضمن الوحدة، وفي سياق احياء روح الأسواق القديمة والمحافظة على رائحتها، ان تعطي الأسواق لمصمم واحد. فجاء المعماري الاسباني رافائيل مونيو، بتصميم موحد، متجانس الى حد انه يلغي التمايز، ليبني هذا السوق الكبير المسقوف، والذي يشبه مولا كبيرا على الطريقة الامريكية الحديثة.
لمَ لا؟ قلت لصديقي المهندس.
وصديقي الذي غطى الأسى عينيه الصغيرتين اللامعتين، ليس مجرد مهندس معماري، بل هو من وضع المخطط التوجيهي لاعادة اعمار الأسواق.
كنا قد خرجنا مهزومين من المعركة الثقافية التي قادها معماريون ومثقفون، على رأسهم جاد تابت وعاصم سلام، بشعور مرير بالهزيمة. انتصرت 'سوليدير' على الثقافة اللبنانية بأسرها، التي كانت تقاوم من اجل استعادة النسيج التوحيدي لبيروت. عام 1994 وافق صديقي على رسم المخطط التوجيهي للأسواق، في محاولة منه لانقاذ ما يمكن انقاذه.
مشينا وسط محاولة الانقاذ هذه، لنجد انفسنا في مدينة جديدة. مخازن عالمية لبيع الثياب، لا اثر للدكاكين الصغيرة، او لما يطلقون عليه اسم البازار، عالم ما بعد حداثي يجعلك تشعر انك في لا مكان.
قلت له ان هذا هو منطق الرأسمالية الريعية، ان تكون في لا مكان.
ابتسم صديقي بمرارة وهو يروي لي عن بقايا السور العثماني المقبب الذي اكتشف في المنطقة. قال ان المخطط التوجيهي لحظ الابقاء على السور، وتحويل منطقته الى حديقة اثرية عامة. لكن منطق الشركة العقارية، الذي لا يريد للأسواق التحول ملتقى للسابلة، قام بتدمير السور، وترك منه بضعة امتار مسوّرة، لا معنى لها، كي يدّعي المحافظة على التراث!
لكن هذه الاسواق ليست قبيحة؟ قلت له.
كان المطر ينهمر، ونحن نحمل مظلة صغيرة، ونمشي في سوق اياس، الذي ترك وحده غير مسقوف. في الماضي، قال صديقي، كان سوق اياس هو السوق الوحيد المسقوف، لا ادري لماذا سقفوا سوقي الطويلة والجميل، وتركوا هذا بلا سقف. شيء غريب، على اية حال، الأسماء لم يعد لها اي معنى هنا، فهذا مجمع تجاري واحد، لا طابع له، وسيسمى سوليدير 2، ولا شيء آخر.
لم تكن المظلة الصغيرة قادرة على حمايتنا من المطر، نظرت الى صديقي فرأيت الماء يلتمع على صلعته، قلت له انه يجب ان يضع قبعة على رأسه، واخبرته عن خالي الذي كان يملك محلا في سوق الجميل، ومات من حسرته على تهديم الأسواق، وكيف انه رفض ان يخلع طربوشه العثماني، حتى عندما كان في المستشفى، يعاني سكرات الموت.
وقفنا في شارع فرعي مسقوف، حيث روى صديقي، عن سوق الخياطين، حيث فصّل له عمه بذلة عرسه، وعن المكتب الذي ورثه عن والده في تلك المنطقة، وعن السحلب الساخن، الذي كان يشربه في الثانية صباحا، عندما كان يضطر الى العمل حتى الصباح، من اجل انجاز مشروعاته الهندسية.
هل سيعود السحلب الى الأسواق؟ سألته.
ركبنا السيارة عائدين الى البيت، وفي الطريق توقفنا في مقهى 'التشايس'، في الجبل الصغير، الذي لا يزال يقدم سحلبا ساخنا.
من حول لهب الحليب الممزوج بالمستكة، قلت لصديقي ان مشكلتنا هي محاولتنا رتق هزيمتنا السياسية بالثقافة. خرجنا كوطنيين وديموقراطيين وعلمانيين من الحرب بحصاد الهزيمة، لكننا اعتقدنا اننا نستطيع متابعة حربنا في الثقافة وربما الانتصار ايضا. لكن معركة اعادة الاعمار اعادتنا الى الحقيقة العارية. فأعيد بناء بيروت كي تشبه بناتها من اصحاب رؤوس الأموال الريعية، واندثرت مدينتنا بحجة مسح آثار الحرب التي خضناها من اجل المحافظة على روحها.
هذه ليست مدينتنا، قال صديقي.
لكن السحلب طيّب الرائحة، جاوبته.
لم يبق لنا سوى ذاكرة السحلب، اجابني بأسى.

لا عزاء للعرب وهم يعيشون أظلم حقبهم تحت الهيمنة الأمريكية 'العرب: تاريخ' ليوجين روغان

لا عزاء للعرب وهم يعيشون أظلم حقبهم تحت الهيمنة الأمريكية
'العرب: تاريخ' ليوجين روغان

من القدس العربي
03/11/2009


ابراهيم درويش : العرب من هم في هذا العصر؟ قال مفكرهم انهم تحولوا الى ظاهرة صوتية وكتب آخر ان الانتساب للعروبة صار صعبا ان لم يكن سبة. وبين هذا الوصف وذاك يمارس العربي جلد ذاته علنا وكل يوم، فقد وفرت مئات القنوات الفضائية للعربي ان ينتقد نفسه ويصرخ ناقدا وضعه وتخلف انظمته وعجز الجمهوريات التي صارت وراثية وولايات مسماة على اشخاص بعينهم اي لم يعد ينتظر مهرجانات الشعر ليمارس عملية الجلد هذه. وفي كل مرة يسمع فيها العربي عن تجربة نجاح يحاول اللحاق بها او الاحتفاء بها، احتفاء العاجز والمراقب عن بعد وكأن الاحتفاء يحرره من تبعات المسؤولية، يتصيـّن عندما يتحدث عن التجربة الصينية، ويتفرّس عندما يأتي الحديث عن ايران ويتترّك عندما يعني تركيا ويعجب بماليزيا ويتنمّر مثل النمور الورقية متتبعا خطى شاعرهم 'شاعر الشعب' حافظ ابراهيم عندما حيا اليابان وشعبها والميكادو. امام الشعور بالعجز والضعف والفرقة التي يعيشها العرب على الاقل منذ سقوط الدولة العثمانية والاستعمار والاستقلال الملتبس ماذا يجعل باحثا يهتم بالعرب، هل بسبب النفط والنفط اصبح يجف ام لأن الخلافات والتناحرات العربية تظل مجال بحث مهم للكاتب اي كاتب؟ هل الحب والاعجاب بالعربي هو الذي يدفع هذا الكاتب او الكاتبة لقراءة تاريخنا؟ نعم قد يكون اعجاب الرومانسي على طريقة الرحالة الهاربين من عالمهم المعقد الى صحراء العربي التي تمتد كالبحار على يابسته، ولكن اين البدوي النبيل؟ قد... وقد... اسباب عديدة يمكن للقارئ ان يقدمها في هذا السياق. فالعربي الاسم والامة هو محل تجادلات في البحث والقراءة، من يرى العربي لا يفهم الا لغة العصا كما ورد في كتابات المحافظين الجدد، والعربي القح النقي كما في كتابات الرحالة والمغامرين والعربي الاصيل المتنوع، والعربي حامل لواء الاسلام. هذه المقدمة تبدو ضرورية لقراءة كتاب المؤرخ يوجين روغان، المحاضر في جامعة اوكسفورد والصادر بعنوان 'العرب: تاريخ' عن دار نشرها. كتاب روغان ليس محاولة لقراءة تاريخ العرب من اقدم العصور حتى اليوم على طريقة فيليب حتي في كتابه 'تاريخ العرب' او كتاب البرت حوراني 'تاريخ الشعوب العربية' ولكنه قراءة في تاريخ العرب الحديث منذ دخول المناطق العربية في ظل الحكم العثماني، والحكم المباشر وغير المباشر للولايات العربية، وتاريخ الاصلاح والتنظيمات، والتدخل الاجنبي، وعصر الاستعمار والاستقلال وخيباته، والهزائم والكوارث التي رافقت صعود وسقوط القومية العربية والاسلام السياسي، وينتهي مع العرب في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، احتلال بغداد، وصعود القاعدة ، ونهاية حقبة بوش وبداية عهد اوباما. يرى روغان اهمية قراءة التاريخ لفهم الحاضر. فعلى صناع السياسة الغربيين الالتفات للتاريخ ان ارادوا حل معضلات العرب ومشاكلهم، لان تاريخ العرب الحديث الذي يبدأ من القرن السادس عشر تشكل عبر عوامل خارجية. واكثر من هذا فقادة الغرب بحاجة الى فهم التاريخ كما تشكل وجربه وفهمه العرب انفسهم حتى يتجنبوا تكراره واعادة اخطائه. ويشير روغان هنا الى مقولة رددها الغرب طوال مغامراته في الشرق، فمنذ عهد نابليون وغزوه لمصر عام 1798 جاء كل قائد غربي يحمل معه وعود الحرية والخلاص لشعوب العرب من الظلم. لم يصدق العرب نابليون وشكوا بإسلامه كما لم يصدقوا وعود الجنرال مود 'فاتح' بغداد ووعود جورج بوش الذي جاء محررا العراقيين من طغيان صدام. واذا كان تاريخ العرب الحديث هو الذي تشكل بناء على شروط الدول التي حكمتهم وثقافتهم الا انهم اي العرب لم يكونوا دوما لاعبين مستسلمين لقدرهم بل يكشف تاريخهم هذا عن حركية وتنوع مثير تستعصي قراءته خطيا وباتجاه واحد يشير الى الصعود والهبوط، كما تقرأ فيه مصائر الدول والشعوب، والعرب وان قبلوا وتعايشوا مع شروط الاخر الا انهم ظلوا يحلمون كما يحلمون الآن، بالامساك بقدرهم كما كانوا سادة مصيرهم في القرون الخمسة من الاسلام. ومن هنا يفتتح الكاتب قراءته بالتذكير بمقتل رفيق الحريري عام 2005، رئيس وزراء لبنان الاسبق وسلسلة الاغتيالات التي تبعت مقتله خاصة اغتيال الكاتب والمؤرخ سمير قصير، ويحتفي روغان هنا بمقالة قصير، عن العجز العربي وتعليق قصير على فكرة 'الخزي' التي يحملها العربي عندما يفكر بنفسه وضرورة العودة لفكر النهضة والنهوض بالواقع العربي.

أمام تواريخ وليس تاريخا

واذا كان حلم النهضة وامتلاك المصير، وهو ما علم طموحهم طوال الحكم العثماني والاستعمار والتدخل الاجنبي بعد الاستقلال واخيرا عصر الهيمنة الامريكية والعولمة، فالعرب يظلوا مسؤولين عن اخطائهم ونجاحاتهم، فهم كما يقول تمسكوا بالشروط عندما ناسبتهم وخرقوها عندما لم تعجبهم، وتحملوا في النهاية آثارها الكارثية، وهذا الواقع يقدم للمؤرخ مساحة جيدة للبحث والقراءة اذ انه امام تواريخ وليس تاريخا، وهذا هو جوهر العربي الذي يظل لغزا يستعصي على فهم الكاتب والمؤرخ. واذا كان تنوع العربي دليل قوة وثراء الا ان العرب ظلوا ملوك لحظتهم طالما كانت هناك اكثر من قوة مهيمنة فقد اجادوا اللعب على التناقض الفرنسي- البريطاني اثناء عصر الاستعمار والامريكي ـ السوفييتي اثناء الحرب الباردة. ولكن العرب في كل مرحلة تحول عالمي ونشوء نظام دولي جديد عادة ما يدفعون للزاوية قبل ان يتقنوا شروط اللعبة الجديدة. لكن تاريخ العرب الحديث يظل منذ اللحظة العثمانية التي بدأت بانتصارات سليم الاول على جيوش المماليك في مرج دابق والاهرامات في الفترة ما بين 1615- 1617 تاريخ كتب بشروط الاخر، سواء كان الاخ المسلم العثماني ام المستعمر الاوروبي واخيرا الامريكي. وطوال القرون الخمسة الاخيرة من تاريخ العرب غيرت القوى المهيمنة الشروط كلما تغيرت او اجبرت على التغير، ففي المرحلة الاولى من تاريخ العثمانيين كان السلطان لا يطلب من حكام ولاياته سوى الطاعة والولاء والخراج. ومع بداية تفكك الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر وخسارتها ولاياتها في وسط اوروبا بدأت العلاقة تتخذ شكلا آخر، وان ظل يدور حول الاعتماد على الحكام المحليين لتنفيذ فرمانات الباب العالي. ولم ينته عصر الدول المحلية ومشايخها الا بفترة الاصلاحات التي حاولت الدولة العثمانية من خلالها التصدي لضرورات الحداثة ومنع تدخل الدول الغربية من التدخل في شؤون المملكة الداخلية، خاصة عبر ورقة الاقليات. ومع ان الاصلاحات العثمانية ادت الى تأكيد هوية جديدة قائمة على الولاء للدولة والمساواة امام القانون والسلطان، يطلق عليها العثمانية، الا ان فشل الاصلاحات زادت من سيطرة الدولة على مقدرات العرب خاصة عرب الشرق، فكلما خسرت الدولة مناطق وولايات لصالح القوى الصاعدة في اوروبا زاد تمسكها بالولايات العربية، سورية الكبرى، وقاتلت بالانياب كي تحافظ على ولاياتها في ليبيا قبل ان تسيطر القوى الاوروبية على كل مناطقها في شمال افريقيا ويستقر محمد علي وابناؤه في مصر والسودان.

أحلام الاستقلال وسرابها

مع نهاية العصر العثماني بدأ العرب يستخدمون ملامح النهضة الجديدة ومصطلحاتها عن الوطن والامة للخروج من اسر الهيمنة العثمانية 'الاستعمار التركي'، ويبدو ان العرب الذين تحالفوا مع الغرب ضد الدولة العثمانية كانوا يحلمون بولادة المملكة العربية، فبعد نهاية الحرب العالمية الاولى عام 1918 شعر العرب انهم على ابواب بداية جديدة وان طموحهم بالسيطرة على مصائرهم باتت قريبة لكن الاحلام الوردية انهارت امام التخطيطات الاستعمارية التي اقتسمت ارث 'الرجل المريض' خاصة بين بريطانيا وفرنسا. لم ينتفع العرب بمبادئ وودرو ويلسون العشرة وتعاطف الرئيس مع قضاياهم. فمع خروج العثمانيين من التاريخ الحديث وتاريخ العرب دخل للعرب بلفور والوطن القومي لليهود، والهجرة واللجان الكثيرة والثورات والانتفاضات التي لم تتوقف لان العرب الذين ثاروا على العثمانيين شعروا بالخيانة من البريطانيين، ولكن التقسيم الاستعماري للدول العربية بناء على حدود مفتعلة ادى الى قتل ولادة وحدة عربية وللابد، فالحدود والعواصم التي اوجدها الاستعمار اصبحت مؤبدة والوحدة العربية صارت كلاما وسرابا. فبدلا من ان يكافح العرب كما كافحوا ضمن الشروط الدولة العثمانية من اجل وطن واحد، تشرذمت قوميتهم بين مصرية وبعثية وعروبية شمال افريقية ... ومن هنا يقول روغان ان التجربة الاستعمارية الاوروبية تركت العالم العربي مجتمعا من دول عربية وليس 'امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة'، وهذا الواقع يثير خيبة العرب. مع ان التجربة الاستعمارية البريطانية والفرنسية فشلتا في ادامة حكمهما، فبريطانيا دخلت المنطقة من اجل ادخالها ضمن هيمنتها الا ان المنطقة كانت بداية النهاية للاستعمار البريطاني، لم تنفع سياسة الترقيع التي اتبعتها بريطانيا مع الهاشميين، حيث حاولت التكفير عن خطيئتها بتمليك فيصل العراق وعبدالله الاردن، وفشلت في استرضاء اهل فلسطين والتوفيق بين حقوقهم وتحيزها تجاه اليهود الذين لم تمنع هجراتهم. وفشلت في العراق حيث ظلت سياستها تجاه هذا البلد محل شد وربط بين سياستين، مكتب الهند ولندن. ونفس الامر يقال عن مصر. الرابح الوحيد من اضطراب بريطانيا وسياستها في العالم العربي، كان عبدالعزيز بن سعود الذي تسامحت بريطانيا مع صعوده كوسيلة للتفرقة بين مملكة الحجاز والقوة الصاعدة في نجد، لكن فوز بن سعود ورجاله بكامل الجزيرة جاء لان بريطانيا التي سيطرت على مشيخات الخليج وعدن لم تكن واعية بوجود النفط في الدولة الجديدة. لكن بريطانيا التي وضع عبدالناصر المسمار الاخير في نعشها الاستعماري بعد حرب السويس عام 1956 لقيت عزاء وحيدا هنا ان منافستها الاستعمارية الابدية فرنسا لقيت نفس المصير عندما خسرت تونس والمغرب واجبرها الجزائريون في معركة الاستقلال 1954 -1963 على التخلي عن مزعم ان الجزائر هي طرفها الآخر الذي يفصله عنها البحر. لم يشهد العرب كارثة اكبر من كارثة خسارة فلسطين فهي اكبر حدث في القرن العشرين، لكن العرب حتى في الخسارة كانوا يعتقدون انهم قادرون على استعادتها وتحشيد قواهم في ظل القومية العربية الصاعدة وناصر الذي اصبح زعيم العرب بلا منازع من 'المحيطة الهادر الى الخليج الثائر.. لبيك عبدالناصر' فبصوت العرب قاد ناصر العرب. لكن الوهج القومي وحلم الانتصار انهار وحل محله زمن الخيبات. وحتى بعد الهزيمة الثانية شعر العرب انهم بشروط الحرب الباردة كانوا قادرين على التأثير ولعب هذا الطرف ضد الطرف الآخر، كان سلاح القومية واحدا منها والاسلام السياسي وسلاح النفط، ولكنها فشلت بجلب الاستقلال والتحرر للعرب. مع سقوط جدار برلين عام 1989 ونهاية الحرب الباردة دخل العرب عصر الهيمنة الامريكية بدون سند، باستثناء دول الخليج التي رسمت خطاها بحذر داخل النظام العالمي الجديد وحققت استقرارا سياسيا فيما ينتظر العرب الاخرون خاصة في فلسطين. ومع ان الكاتب لا يريد ان يقولها صراحة فالعرب يعيشون حقبة مظلمة في تاريخهم لم يشهدوها من قبل فمنذ التسعينات من القرن الماضي تعامل العرب مع ثلاثة رؤساء امريكيين كل واحد منهم طبق سياسته الخاصة، فقد كان جورج بوش الاب يمثل بداية مرحلة ولادة النظام الدولي الجديد فيما علمت مرحلة بيل كلينتون مرحلة الحوار والتعاون الدولي، لكن النظام الامريكي وصل ذروته المتغطرسة في عهد بوش الابن الذي اراد وعصابة المحافظين الجدد للسيطرة الاحادية على العالم وجاءت لحظة 11/9 حافزا لتحقيق هذا الطموح وبنتائج كارثية لا زالت واضحة من احتلال العراق والحرب على الارهاب التي استهدفت العالم الاسلامي وكان العرب المتهم الرئيسي. ويرى روغان ان منظور المستقبل في المنطقة لم يكن اكثر قتامة ومدعاة للتشاؤم منه كما هو اليوم، ولهذا يعيدنا الى ما بدأه مع سمير قصير 'ليس جميلا ان تكون عربيا هذه الايام'.

لماذا كل هذا الاهتمام؟

بعد كل هذا لماذ يهتم روغان بتاريخ حالته كهذه، ويخصص كتابا من 600 صفحة تقريبا عنه؟ يجيب انه على الرغم من كل الخيبات والصعود والنزول في تاريخ العرب الحديث الا ان تاريخهم مثير للدهشة، فقد حياته، واهتمامه مكرس للعرب وتاريخهم الذي درسه في الجامعة بأمريكا حيث درس العربية والتركية، مما كان في موقع جيد لقراءة المصادر الاولية، كتب وسجلات المحاكم الشرعية ومذكرات ابناء كل فترة، كل هذا اعطاه صورة ان تاريخ العرب 'اكزوتيك' فمن ناحية تشبه التجربة التي مر بها العرب اي تجربة مجتمع انساني في القرون الخمسة الماضية: قومية، امبريالية، ثورة، تحديث وتصنيع، وهجرات من الريف للمدن، حركات تحرر للمرأة. لكن ما يميز التجربة العربية عن غيرها كثير: شكل مدنهم، موسيقاهم، شعرهم، موقعهم كحراس للاسلام ورسالته ورؤيتهم عن انفسهم كأمة واحدة تمتد من الخليج الى المحيط. فهم امة واحدة يربطهم تاريخ مشترك وواحد ولكنهم امم متعددة ومتنوعة، كل هذا يتضح للمسافر من المغرب الى مصر وفلسطين والخليج، كتابة مختلفة، لهجات، فضاءات ومناظر، والوان طعام مختلفة، والعرب في جنوب وشرق الجزيرة العربية اثروا على منطقة الساحل الافريقي وحملوا تاريخهم الى جنوب شرق اسيا. كل هذا يجعل من العرب موضوعا مشوّقاً للقراءة والتحليل، ونظرا للتداخل في التواريخ والاقدار، فقراءة الكاتب تحاول الربط بين مثلا اساليب المستعمر الفرنسي في المغرب ومقارنتها بتلك في سورية وثورة جبل العرب في سورية وتلك في مناطق الريف.
بالعودة لملامح الكتاب، فكاتبنا مطلع على الادبيات المتعلقة بهذه الحقبة ومعرفته واضحة بعودته للتواريخ المحلية للمدن، البديري الحلاق، وميخائيل مشاقة عن حوادث جبل لبنان، وتاريخ الحملة الفرنسية للجبرتي، وادبيات النهضة، الطهطاوي، وخيرالدين التونسي ومعوقات الاصلاح الذي وان بدا مخرجا للدولة من التدخل الاجنبي الا انه جر الى توريط الامبراطورية وافلاسها قبل افلاس ولاياتها التي تورطت في التحديث مثل مصر وتونس. فرهن الدولة للنظام البنكي كان احد عوامل دخول الاستعمار الى الولايات العثمانية ويشير هنا الى نصيحة احد وزراء السلطان عبد الحميد الاول مذكرا الاخير ان والده محمود الثاني، خاض حربين مع روسيا وعاش الكثير من المخاضات ولم يستقرض من الخارج واضاف قائلا انه 'لو استقرضت هذه الدولة خمسة قروش فستغرق' .استمع السلطان لوزيره ولكنه عاد بعد عامين واستقرض. كما يرى روغان ان بداية سقوط الولايات في شمال افريقيا بيد الدول الاستعمارية نجم عن بعدها عن الحكومة المركزية مقارنة بمصر والشرق العربي. والكتاب يسرد تواريخ الدولة وولاياتها بشكل متداخل لكنه يبدو مثل مشاهد فيلم طويل يبدو جميلا، مثل مقاومة الامير عبدالقادر 'صلاح الدين الجديد' او 'العربي النبيل' الذي خلده هوراس وكتب عن هوغو قائلا 'الجندي الوسيم، الامام الوسيم' ويبدو دمويا مثل مذبحة دمشق عام 1860. كما ان روغان كمؤرخ يبدو واعياً للرأي العام وتشكيله مواقف الساسة ودور الاعلام الذي كان يقرع طبول الحرب كما في احداث بلغاريا عام 1876 التي تجاوز فيها الاعلام الاوروبي اعداد الضحايا المسلمين في بلغاريا وركز على الضحايا المسيحيين واطلق عليه اسم 'الرعب البلغاري'، تماما كما حول الاعلام 'طوشة' شوارع في الاسكندرية لمذبحة دعت للتدخل الغربي وقادت لمعركة التل الكبير والثورة العرابية. كما يبدو الكاتب متفهما لجذور الثورات داخل الولايات فثورة عرابي لم تكن وطنية او قومية، فعرابي ظل موالياً للسلطان في استانبول والقاهرة وشعار ثورته مصر للمصريين لم يكن الا من اجل التخلص من الاوروبيين.

رجل تشكل داخل التجربة

وبدلا من قراءة ادبيات وتواريخ الاستعمار الرسمي يحاول روغان قراءة الطريقة التي غيرت فيها الامبريالية حيوات سكان شمال افريقيا ويشير الى حياة احمد امين (1886 1954) حيث يقول ان امين شكلت حياته التجربة الاستعمارية، ليس من خلال كونه مؤيدا لها، بل لعيشه فيها فقد ولد بعد اربعة اعوام من احتلال بلده، ومات بعد عامين من ثورة الضباط الاحرار وقبل عامين من خروج بريطانيا من بلده. ومن هنا تشكلت رؤيته عبر التجربة الاستعمارية، من ناحية وعيه للعالم وانفتاح مصر على الاعلام وتشكل مواقفه من السياسة وأثر دنشواي عليه وعلى رفاقه عام 1906. فأحمد امين يمثل جيلا مختلفا عن جيل والده وعاش عالما مليئا بالتحولات. وبنفس السياق يبدو الكاتب واضحا وصريحا في تمثيله لفظائع الاستعمار في الجزائر وفلسطين التي يكتب عنها قائلا انها 'اهم نقطة تحول في تاريخ العرب بالقرن العشرين وما زلنا نعيش آثارها'، ومع اشارته الى فظائع البريطانيين وقتلهم السكان الا انه وان رأى في خطاب القادة السياسيين الفلسطينيين مقنعا وجميلا لكنه يظل طحن كلام فخلاف القيادة كان ويظل اساس الكارثة التي استدعت الى قراءة لأسبابها عند موسى العلمي وقسطنطين زريق. ولا يغفل ثورة القسام ورواية اكرم زعيتر لها. يظل كتاب روغان ماتعا في قراءته لتاريخ العرب عبر تجربة خمسة قرون واعترف ان فصول الدولة العثمانية والتواريخ المحلية والاستعمار ومقاومته وبروز الدولة الوطنية وخيباتها هي من امتع الفصول وما بقي منه على الرغم من اهميته حتى القاعدة وعصر الهيمنة الامريكية يظل تاريخا عاديا. ويبدو روغان في اعلى حالات الفهم لظروف السلطنة العثمانية وحركات المقاومة وقوى الفعل الاجتماعي والسياسي، فقد اشار الكاتب للسودان وظروفه تحت الحكم المصري الا انني لم الاحظ اهتماما بحركات استقلاله، ويبدو انه اعتبر السودان ضمن التاريخ الافريقي. وهو يعترف ان بعض السياقات قد تكون اهم من اخرى مثل مصر والشرق العربي. مشاركة روغان مساهمة جديدة في تاريخ العرب الحديث، وتظل مهمة، وقد تعين الجانب الاوروبي لفهم العرب ان اراد فهمنا لكننا تعودنا ان الدول الاوروبية عندما تريد غزونا لا تلتفت للتاريخ فتقرير اللجنة الامريكية 'كينغ ـ كرين' وضع على الرف رغم اهميته اثناء مفاوضات تقسيم ارث الدولة العثمانية في باريس. ولم يقرأ بلير او بوش اي كتاب عن العراق قبل قرار الغزو ولم يكونا مهتمين. في الماضي كنا نجد عزاء في تاريخنا أما الحاضر الحديث فلا عزاء لنا فيه، لكن هذا لا يجعلنا نفقد الامل فانا مع ما قاله ويلفرد ثيسجر الرحالة البريطاني عن العربي الابدي الذي دحر الممالك واسقط المخططات، وهذا الحس الذي يخرج منه قارئ كتاب روغان عن الامبراطوريات التي سقطت وانتهت عندما حاولت التلاعب بمقدراته. روغان لم يقل هذا ولكني اقوله. لكن التغيير والخروج من اسر الامبراطوريات والقوى العظمى يقتضي حلا من الداخل واصلاحاً داخليّاً على صعيد الاصلاح السياسي وحل النزاعات ولكن تاريخ العرب القادم كما كان مرهون بهم وبقدرتهم على تحطيم القواعد التي رسمها لهم الاخرون وعندما يفعلون هذا فانهم يتحررون، لكن هذا يجب ان يمنعنا من تجاهل تعاطف الكاتب معنا وحبه لنا لانه يدعونا للاعتماد على ذاتنا ويدعو الآخر الذي يتحكم بمصائرنا ان يخصص ولو بعض الوقت لفهمنا. تاريخ يتجنب الادلجة والشروط المسبقة ويحاول تقديمنا كما نحن وكما نكتب ونصف انفسنا.


يذكر ان الكتاب سيصدر في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي.
The Arabs: A History
By: Eugene Rogan
Oxford University Pre
Oxford / 2009

الخميس، ٢٢ تشرين الأول ٢٠٠٩

قوّة الأدب



الثلاثاء, 06 أكتوبر 2009
ربيع جابر

نوبل الآداب بعد غد. إذا شاء قارئ أن يختار من القائمة الطويلة (من 1901 الى 2008) عشرة أسماء، من يختار؟ هل يبدأ من هامسون (1920) أم من إليوت (1948) أم من فوكنر (1949)؟ قبل ذلك ربما ذكر كبلنغ. وبعد ذلك؟ أندريتش أو كاواباتا أو ماركيز. محفوظ لأسباب شخصية (كتب باللغة التي نسمعها في المنام). كسينغيان وكويتزي وباموك. مَنْ بعد؟ شولوخوف؟ هل أصبحوا عشرة؟ أكثر من مئة اسم ولا يهمك غير هؤلاء؟ حتى كويتزي قد تحذفه. يختار القارئ ما يريد. قدرته لا نهائية. لكنها قدرة عالقة في دائرة مقفلة. ان خياره عاجز عن امتلاك القوّة التي يملكها الأدب.

قوّة الأدب تكمن في قدرته على التواصل. الكتاب لا يأخذك الى عالمه فقط. بل يستولي عليك أيضاً: يجعلك (من دون أن تنتبه) راضخاً أمامه. رضوخ اختياري. لكن كيف يكون الرضوخ خياراً؟ ما الذي يردك الى رولفو مرة تلو أخرى؟ لماذا تفرض جمل «بيدرو بارامو» هذا السحر عليك؟ وكافكا؟ وبورخيس؟ ما الذي يجعل صوت كاتب مات قبل ربع قرن - أو قرن - صوتاً أقرب اليك من حبل الوريد؟ زخم الأسلوب السردي؟ التدفق التلقائي والإيقاع الممسوك داخلياً؟ تفتح الكتاب الأخضر الغلاف وتقرأ القصص للمرة المئة أو العشرين بعد المئة: بينما تقرأ قصة تيديو إيزيدورو كروز تسمع صوت بورخيس كأنه قاعد جنبك. أنت أيضاً أعمى. تغمض عينيك وفي الظلمة الكاملة ترى الصور: الرجل على الحصان أو الرجل جالساً على الأرض يشرب متّة في البرية غير عالم ان لحظة الحقيقة تقترب.

ماذا تكون هذه اللحظة؟ ماذا يكون سرّ الأدب؟ هل نعرف سرّ «مئة عام من العزلة»؟ سرّ «آنا كاريننا»؟ سرّ «موت إيفان إليتش»؟ لماذا أُعطيت الرواية قدرة لا يملكها فن آخر؟ لأنها مخزن الفنون جميعاً؟ لأنها - كالملحمة في عصر هوميروس - شاءت أن تحوي الكون؟ الشعوب تُقبل على الشعر في أطوارها البدائية، كتب بورخيس في احدى محاضراته، ومع تطورها تنتقل الى مرحلة أعلى: النثر. لكن ماذا نقول عن «الإلياذة»؟ «الإلياذة» رواية ولو كُتبت بأبيات شعرية. حكاية المدينة المحاصرة بالمحاربين الإغريق يقضون تحت الأسوار، أليست رواية؟ إذا قرأت «الأوذيسة» في ترجمة انكليزية حديثة (روبرت فايغلز مثلاً) شعرت أنك تقرأ رواية، لا أكثر ولا أقل.

لماذا أُعطي الفن الروائي هذه القدرة على التأثير في القراء؟ أين سرّه؟ في النظرة الروائية الى العالم؟ في المكر الطفولي والحكمة الخفية؟ هل يريد الروائي أن يكتب في كتاب واحد كل ما يعرفه، كل ما يتخيله، وكل ما لا يعرفه أيضاً؟ لا يريد الروائي الرواية وحسب؟ يطلب أكثر منها؟ ماذا يطلب؟ المفروض أنه يروي قصة بحبكة وشخصيات. عليه صناعة مناخ وعليه التحرك الى أمام بذكاء، بحذر، حافظاً التشويق، منفتحاً على الاحتمالات، ومخلصاً للشخصيات ورغباتها في آن معاً. ماذا يعرف الروائي؟ أليس إنساناً ضئيلاً ونقطة ضائعة في بحر؟ وإذا كان هشّاً (وهو هش) وعاجزاً عن تدبر حياته (عقصة برغشة تقضي عليه) ومحكوماً عليه بالعزلة (كي يكتب)، فكيف له أن ينظر الى العالم وأن يفهم العالم ثم يتمكن من الكتابة عنه؟ دانتي شاعر أم روائي؟ نادر ان تعثر في عصورنا الحديثة على شعراء من ذلك الصنف. نادر أن تعثر على هذا الطموح. دانتي قد يساعدنا على فهم الرواية وطموحها. ماذا صنع في حياته؟ بينما يسير وراء فيرجيل، تحت الأرض، ماذا رأى؟ رأى حياته ومدن حياته؟ رأى العالمين، الداخلي والخارجي؟ رأى الأرض (الواقع) أم السماء (المخيلة)؟ ينقسم العالم الى ثلاث مناطق: المنطقة الحقيقية، المنطقة الخيالية، ومنطقة الحدود. شعراء الملاحم روائيون أقاموا في منطقة الحدود، بين الحقيقي والخيالي، بين الأشياء والرغبة في الأشياء، بين ما نقدر عليه وما لا نقدر عليه، بين اليأس والأمل، بين الذاهب والباقي، بين لحظتين. هل تكمن هناك قوّة الأدب؟ على الحدود؟ حيث تحدث المعجزات لأن شيئاً لا يُدرى كنهه يتدخل ويُشرّع الأبواب أمام مخيلة الإنسان؟ ومن دون تلك المنطقة الغامضة هل يُكتب أدب؟ هل يبقى كتاب يستحق أن يُقرأ مرة تلو أخرى وإلى ما لا نهاية؟ الكتاب الكلاسيكي، كتب كالفينو، كتاب يُقرأ تكراراً، وفي كل مرة نجد فيه أشياء لم نرها من قبل. نقرأ والشعر يتغير لونه في الرأس، سنة بعد سنة، عقداً بعد عقد. صار الرمادي أبيض. تغيرنا والكتاب تغير. نغرق فيه ونرى العالم مصقولاً، منعكساً في مرآة، أصفى من العالم الحقيقي، أعمق، وأشد ترابطاً. في أحيان أخرى يحدث عكس ذلك!

أين تكمن قوّة الأدب؟ في أعماقنا أم خارج هذه الأعماق؟ كيف يُحدد الكاتب علاقته بالعالم؟ هل يَعتبر العالم طارداً له، كونه هو يطرد العالم على الدوام؟ إذا لم يطرده كيف يقعد الى الطاولة ويكتب؟ كيف يدعه العالم يكتب ما يشاء؟ لكن الناسك لا يكتب. رهبان الزنّ ينشدون شعراً في وصف القمر والشجرة والشتاء. لا يكتبون روايات. الكاتب يقعد خارج العالم وفي قلب العالم معاً؟ لكن كيف يقدر على ذلك؟ أليس شخصاً واحداً؟ ليس من الأولياء فينام ليلته في الصين بينما يسهر مع الساهرين في بغداد. ليس اثنين. أم هو كذلك؟ هل يكمن السرّ هناك؟ في أنه أكثر من واحد، وخلفه أكثر من ظلّ؟ هل هو مريض، منفصم الشخصية، ومهم أن يُصدم بالكهرباء؟ الكاتب يندثر من دون أن ينتبه. كالنملة على التراب. الكتاب مسألة أخرى. قوّة الأدب تكمن في قدرته على التواصل. ينسج الأدب شبكة. ونحن - إذا كنّا قراء - نعلق على الشبكة. لن يأتي العنكبوت ويبتلعنا. لا نخاف. وحتى إذا هجم علينا الخوف (المخيلة قد تكون مظلمة، مثيرة للفزع بين حينٍ وآخر) لا يقتلنا. العالم الخيالي لا يقتل القراء. إلا إذا كانت الأوراق مسمومة. أو تنام عليها - بين ورقتين قديمتين - جرثومة السلّ. هل قوّة الأدب هناك؟ في أننا ندمنه ونطلب ذلك؟ لماذا يشعر القارئ - إذا حجزته في زنزانة بلا كتب - أنه يختنق؟ بسبب الزنزانة ذاتها؟ هل العالم زنزانة؟ ماذا يطلب القارئ؟ يطلب الحياة مضاعفة الى ما لا نهاية. شهوته عارمة ورغباته لا تُحد؟ وبعد كل كتاب يطلب غيره، لا يشبع ولا يرتوي؟ هل القراءة مرض؟ هل الحياة مرض؟ هل الأدب مرض؟

أين تكمن قوّة الأدب؟

سرَّ الرسم الياباني... الحياة الساكنة في جمالها اللانهائي



الثلاثاء, 15 سبتمبر 2009
ربيع جابر

يتساقط المطر في لوحات هاسوي كاواسي على حياة تشبه حياتنا ولا تشبهها. شارع ومارة ومظلات. امرأتان في الزي التقليدي (الكيمونو). دائرة المظلة مخططة تتلقى حبال المطر. ثمة رجل (حارس الحانة؟) في معطف، ليس غامضاً لكنه يشير الى سرّ. هل هذا حقيقي أم خيالي؟ في لوحة صيفية لكيشيو كويزومي نرى حديقة وشجراً وناساً على مقاعد أو عابرين. هل ينظرون الى بركة الماء والى الصخور وسط البركة؟ على تقاطع طرق في لوحة ليوشينوبو ساكاموتو نرى الترامواي وعربة بمصابيح وهاجة ورجالاً ونساء أمام دكاكين وفي ظل أعمدة: هذه حياة طوكيو في مطلع القرن العشرين؟ «حياة جامدة في ضوء القمر» لسيميا ناوبومي تسحبنا الى جوٍ شعري (خيالي؟) سرّه ضوء القمر. كالفينو نقل عن شاعر قديم ان العالم يفقد ثقله، يصير خفيفاً، في ضوء القمر. «شتاء في انبانوما» لفوميو كيتاوكا تبعث برداً دافئاً في العظام. كيف يكون البرد دافئاً؟ ليس البرد، بل ذكراه. بينما تنظر الى القوارب على المياه البيضاء كالثلج، بينما تنظر الى السنابل الصفراء وسط الماء، يملأ قلبك الحنين. كأنك تتذكر حياة سابقة. ليس الطفولة فقط (أين الطفولة والأبيض يكلل رأسك؟) بل ما كان أنت قبل أن تغدو ما أنت عليه. هل هي لحظة صوفية؟ غاو كسينغيان (هذا صيني، كالفينو إيطالي، لكن الدم الياباني يجري في العروق) انتبه في نصف رحلته الى «جبل الروح» انه بينما يطلب الجمال الكامل (السلام الكامل) يخاطر بفقدان طبيعته البشرية: أنت لست إنساناً إلا بين البشر، وأنت تأكل معهم، تتكلم معهم، تشاطرهم الطيب والخبيث. كان ينظر الى شجرة قديمة تتفرع أغصانها الضخمة تحت سماء رمادية واكتشف أنه يخاف هذا الجمال اللانهائي. لماذا الخوف؟ ساسكند يخاف من عين الحمامة. كاواباتا يرى البزاق خارجاً من التراب بعد شتوة أولى فيرتعش. لماذا يخشى هذا المنظر: القواقع السوداء ملتصقة بأعلى حائط الجل؟ هنا الرائحة عارمة، التراب المبلول والصيف الذي انتهى في رمشة عين.

يطفو المركب كأنه في منام عندما يرسمه جوينشيرو سكينو. اللوحة صغيرة، بقالب خشب محفور تستطيع أن تطبعها الى ما لا نهاية على الكرتون أو الورق. المياه والمركب على البحيرة وما يشبه المعبد البوذي والدرج النازل من المعبد الى حافة الماء. ثمة مظلة على المركب، صفراء اللون بخطوط سوداء، وترى ظلها في البحيرة. لا نرى وجوهنا في هذه البحيرة: لماذا؟ «عزلة» لكيوشي سايتو عبارة عن طريق: مسافة لا تُقطع بين هذه اللوحة وتلك التي تحمل العنوان نفسه لإدوار هوبر. مع أن في اللوحتين ما يشبه الطريق. أين الفارق؟ كيف يستوعب القلب (العقل؟) الفارق بين لوحات الغرب واللوحة اليابانية؟ مثلثات الجبال في خلفية «البحيرة» ليوشيو كانوموري محطمة القمم. المطر صنع هذا؟ تعاقب الفصول؟ هل تكون براكين خامدة؟ في «ضجيج الجبل» لكاواباتا نرى عجوزاً يصغي الى الطبيعة ويسمع صوت الجبل في حديقته. في «ناراياما» لفوكازاوا عجوز يحملها ابنها كي تموت تحت الثلج، في الأعالي. كيف تتذكر العجوز عندئذٍ شبابها؟ هل كانت تشبه الفتاة في لوحة يوميجي تاكيشيا «ضوء الصباح»؟ أم تلك المرأة الحزينة في لوحة تسونتسومي كينانو «في الغرفة»؟ لكن العجوز في «ناراياما» (جبل السنديان) ولدت في قرية فقيرة وهناك عاشت الحياة كلها فكيف تملك الإيماءات (المكلفة؟) لبنات طوكيو؟ من تشبه إذاً؟ النساء الفلاّحات في لوحات الفلمنكي بروغل؟ أين نرسم الخط بين اللوحة اليابانية ولوحات الغرب؟ في «فصل الربيع» لهيروشي يوشيدا نرى أشجار الكرز، مزهرة، بيضاء، تتدلى أغصانها على جسر خشب في حديقة يابانية تقليدية.

زهور أشجار الكرز - وأشجار الخوخ - تملأ الروايات اليابانية. لا تشم رائحة العطر خارجة من «الجميلات النائمات» لكنك ترى اللون الأبيض الناصع. ماذا يحمل هذا اللون الى الأعماق، السكينة أم القلق؟ في «شيوبارا» لهاسوي كاواسي نرى بيوتاً غارقة في الثلج والظلمة، وبيتاً واحداً بمصابيح مضاءة. الضوء الأصفر الخارج من النوافذ يقول لنا شيئاً. «مصباح غيفو» لشينوي ايتو مصنوع من الورق، ترفعه الفتاة المعقودة الشعر، وتعلقه بخيط أمام العيون التي تنظر اليها. الفتاة لا ترى العيون المحدقة، لا تعرف أننا هنا، لسنا جزءاً من عالمها. عالمها هذا المصباح الذي تُعلقه: ونحن، هل لنا قيمة؟

«المعبد في كاتاتا» يتغطى بالثلوج رويداً رويداً. رقائق الثلج تتهادى في الفضاء، تتساقط متمهلة، خفيفة كفراشات الصيف، من سماء بلون البحيرة. المعبد يتعلق على الواح خشب بين الماء والسماء. ليس معبداً. لعله كوخ وحسب. يبدو فارغاً لكنه على الأرجح مسكون. من يعيش في قلب هذا الكوخ الساكن داخل العاصفة؟ في الزاوية أغصان شجرة والثلج يتراكم على الأغصان أيضاً. بعد قليل يكسر ثقل الثلج هذا الغصن الأخضر. تنظر الى الساعة ثم الى الغصن مجدداً. مرّت الساعات، مرّت الأيام، ذهبت سنة، ثم رجعت، ذهبت سنتين وعدت، والغصن لم ينكسر بعد، والكوخ على حاله، والثلج لم يتوقف عن التساقط لحظة. النساء في رسوم غويو هاشيفوشي ينظرن اليك. العيون اليابانية والفم الياباني. لون البشرة أبيض ساطع: أين اللون الأصفر؟ يختفي تحت هذا البياض؟

المطر يتساقط على وسط طوكيو القديم في لوحة تاكاشي هنمي: المرأة تعطينا ظهرها وتقف تحت مظلة غربية، سوداء اللون. ثمة غيرها في اللوحة لكن ثوبها الأزرق يميزها عن الجميع. مركزها أيضاً. والحزن في حركة جسمها. مع أنها جامدة، لا تتحرك. لماذا تحزن واقفة تحت المطر في وسط طوكيو؟ نحن في العقد الثاني أو الثالث من القرن العشرين، والحياة - كما يفترض - ساكنة. لم تقع القنابل على المدينة بعد. عاش الرجل الى الحرب العالمية الثانية: في الساعة السوداء نظر الى لوحته القديمة وشعر بالأمان. غادر الساعة الفظيعة الى عالم زال من الوجود. هل عرفت المرأة (في اللوحة) شيئاً كان يجهله؟ هل حدست بالمستقبل؟ تعطينا ظهرها، ولو رأينا وجهها لحظة (لو تستدير لحظة)، ربما كنا نعرف شيئاً. القطط تقوس ظهورها في رسوم تومو انغاكي. هذه عدائية؟ هل الطبيعة ضد الإنسان؟ أمواج هيروشيجي يمكن أن تقتلنا؟ ستيفنسون كتب في احدى رسائله عن رحلة نهرية: كان يتأمل الأشجار وروعة المياه والقصب عندما طرقه غصن وأسقطه من القارب. لم يغرق لكنه أوشك على ذلك. النهر الساحر الجمال كاد يقضي عليه: لو حدث ذلك ما قرأنا يوماً رواياته. كان في الثانية والعشرين. كافكا - في الأربعين - نظر الى نحلة ترشف رحيق زهرة في نافذته وشعر بعطش لانهائي. كان يحتضر في مصح مسلولين. هل رأى عندئذ - بينما العالم ينام والنحلة ترشف الرحيق في ساعة الفجر - هل رأى كافكا (الطفولي الوجه) الحياة الساكنة في جمالها اللانهائي؟ «زهور تموز (يوليو)» لكشيزو فوجيموري تميل أعناقها، وتتدلى. المزهرية تضم الباقة، وعلى المزهرية أزهار مرسومة أيضاً. أيها حقيقي أكثر؟ ثمة زهرة مختلفة عن الزهور الأخرى، شبه صفراء، شبه خفية. لونها يشبه الخلفية ولهذا لا ننتبه لها للوهلة الأولى. احدى الناجيات من هيروشيما كتبت قصة قصيرة عن زهرة تشبه هذه. لم يصف كافكا المزهرية في نافذة غرفته. كان متعباً، عاجزاً عن الحكي، يخط جملة على ورقة الدواء فيتعب. كان يتلاشى. ماذا رأى بينما يغيب؟ يتعالى جبل فوجي ملتفاً بضباب خفيف في رسوم هاسوي كاواسي. بساتين تترامى وقارب يقطع الماء، وفي الخلفية يتعالى جبل مسحور الى سماء عالية، زرقاء مبقعة بالأبيض.

تولستوي كتب في يومياته الأخيرة عن شجرة يغطي جذعها الفطر. كان يتنزه في جوار مزرعته ورفع عصاه وطرق الفطر القديم مرة، ثم أخرى. كان يتفتت ورأى الأبيض الناصع في قلب البنيّ القاتم وفي قلب المادة الضاربة الى الأسود. شهق أمام جمال الألوان. الزهور في الصفحة الأولى من «حاجي مراد» تبهر الأنفاس. كان يراها في المرج أم في رأسه؟ لفين الذي يقضي نهاراً يحصد العشب مع الحصادين عرف اللحظة اليابانية (الصوفية). كاواباتا وصف أمام أكاديمية في الغرب شعور رهبان الزنّ - البوذية أمام القمر، في ليلة باردة، وسط الجبال وصمت الجبال. هل عرفت آنا كاريننا هذا الشعور قبل أن يلطمها القطار؟ والرجل الذي أحبّته، هل عرف هذا الشعور قبل أن ينكسر (تحته) ظهر الفرس؟ أشجار الغابة تتباعد في «اوازو» لشينوي ايتو. قبل الغابة حقل يحرثه ثور. الثور 091508b.jpg جامد (مع أن الفلاح يسوطه) لكن الحقل يتبدل: كيف هذا؟ لم يكن محروثاً، وها هي أرضه مقلوبة، وبعد قليل يقع عليها المطر. هذه أمطار الخريف، والغيوم تدنو من وراء الغابة. عند الظهيرة تضيء الشمس المحتجبة حواف الغيوم. بطن الغيوم يبقى قاتماً. لأن مادتها سميكة هنا. يهبّ الهواء وتتحرك السماء. الطيور تعبر، والفراشات تذهب الى حيث تنام. السكينة عميقة، لا تُحد. ويُخيل اليك انك صرت تعرف شيئاً عن الرسم الياباني. لكنك تبقى غير متأكد.

مطر يتساقط على صفصافة عارية الأغصان، شبه سوداء، في لوحة كونن أويهارا. وراء الفروع المتدلية مثل خيوط المطر يظهر مبنى مضاء النوافذ. الوقت ليل، والنوافذ صفراء. الهدوء - مرة أخرى - لا نهائي. هل هو هدوء حقيقي؟ لا نعرف ماذا يجري داخل الغرف، لكن هذه النوافذ حياتنا أيضاً.

الأربعاء، ٧ تشرين الأول ٢٠٠٩

اليمن بين استمرار الحرب والوساطات لوقفها

فواز طرابلسي
«الحرب مصرفيٌ، يتعاطى عملة ذهبية هي اللحم البشري»
(إيسكليس، «الثلاثية الأوريستية»)
تدخل الحرب اليمنية في محافظتي صعدة وعمران شهرها الثاني حاملة ظاهرتين جديدتين ومفارقتين: الأولى، هي إعلان الرئيس علي عبد الله صالح المضي في القتال ولو اقتضى الأمر خمس أو ست سنوات إضافية.
والثانية، هي بدء الوساطات العربية ومطلعها زيارة الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى لصنعاء هذه الأيام.
للحروب وظائف كثيراً ما يجري التغاضي عنها عند التباكي على ضحاياها. فالحروب وسيلة فذة للحفاظ على الأنظمة القائمة بافتعال خطر خارجي أو فتنة داخلية تستوجب التعبئة حول السلطة والاستنفار ضد العدو وتصدير أزمات النظام وطمس القضايا التي يعجز عن معالجتها. والحروب فرص ذهبية للمقاولة الاقتصادية عالية الأرباح.
حروب الرئيس علي عبد الله صالح، الشبيهة إلى حد كبير بحروب صدام حسين، تجمع وظيفتي الحروب معاً. الوظيفة «الذهبية» ذكّرتنا بها صنعاء إذ نشرت قائمة لتجار أسلحة تتهمهم بتهريب الأسلحة للحركة الحوثية. ومن غرائب الإعلان أن في رأس قائمة تجار السلاح رئيس لجنة الوساطة مع الحركة الحوثية الذي هو في الوقت ذاته شقيق محافظ صعدة. في الأمر فضيحة مزدوجة: الأولى تغاضي سلطات صنعاء عن هؤلاء التجار إلى الآن... والثانية أن كشف تجار السلاح هؤلاء يغطي على التجار الذين يجنون الثروات الطائلة من خلال صفقات السلاح للقوات المسلحة الحكومية. ولا حاجة إلى كبير تفكّر للافتراض بأن هؤلاء من صميم العصبية الحاكمة في صنعاء.
وطالما نحن في مضمار الاقتصاد السياسي، لا يجوز أن ننسى أن الحروب مناسبات لاستدرار المساعدات المالية الخارجية. فـ«تغريب» الحرب وتصويرها أنها حرب ضد الدعم الإيراني للحركة الحوثية على حدود العربية السعودية شكّل المبرّر الرئيس لكي تغدق المملكة على تمويل الحرب، وهو أمر لم يعد سراً على أحد.
أما ظاهرة الوساطات العربية، فالمفاجأة فيها أن السلطة التي كانت ترفض أية وساطة بل أعلنت انتهاء الوساطة القطرية، كأنها تستدعي الوساطات استدعاءً هذه الأيام. وتخطو عملية تعريب الأزمة اليمنية خطوة إضافية من حيث التعقيد إذ تعلن قيادة الحراك الجنوبي سلسلة من التحركات في كافة المحافظات الجنوبية للمطالبة بانفصال الجنوب لمناسبة زيارة عمرو موسى.
من أجل استكمال الخطوط المتشابكة للأزمة اليمنية، لا بد من ملاحظة أن وساطة الأمين العام للجامعة العربية ترافقت مع الإعلان عن وساطة مصرية تدعمها أنظمة «الاعتدال» العربية وتباركها الولايات المتحدة الأميركية. هذا في حين لا يخفي «الوسيط» المصري انحيازه إلى نظام صنعاء على لسان الرئيس مبارك فيما وزير خارجيته يؤكد زعم صنعاء وجود تدخل خارجي إيراني في الحرب.
هل استدعاء الوساطة العربية إعلان عن العجز عن الحسم العسكري الذي وعدت به حكومة صنعاء منذ الأيام الأولى للحرب والسعي إلى أن تحرز بالسياسة ما عجزت عن تحقيقه بالحرب؟ أم هي مناورة تستجيب لضغوط عديدة من أجل وضع حد للحرب والكوارث الإنسانية الناجمة عنها؟
يصعب الحسم.
المؤكّد أن المطلوب إعلان وقف فوري للدوامة الدموية وفتح الطرقات والممرات لتمكين فرق الإغاثة من العناية باللاجئين وقد جاوز عددهم 150 ألف لاجئ.
والمؤكّد أن أي مبادرة لوقف النزف يجب أن تنطلق من مبدأ أن لا حل أمنياً وعسكرياً ممكناً للنزاعات الجارية في اليمن. وكم كان الأجدر أن تصرف الأموال الطائلة التي هدرت على السلاح والعتاد الحربي والقتل والحروب على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والثقافية في مناطق النزاع.
لا يكفي التذرّع بالقول إن الحرب استمرار للصراع السياسي ولكن بوسائل أخرى من أجل العودة إلى تغليب السياسة على العنف. لكي ينتقل الصراع من طوره السياسي إلى طور الوسائل الأخرى، أي العنف، كان لا بد أن يكون لذلك أسباب أكثر جذرية من أسباب النزاع السياسي.
فالمؤكّد أن اليمن يحتاج إلى تعاقد جديد بين مكوّناته الاجتماعية والسياسية وبين الشعب والحكّام. تعاقد جديد تفرضه إطاحة الحكم الفردي بإرهاصات الديموقراطية التي حملتها الوحدة عام 1990 وفي الوقت ذاته إطاحته بالوحدة بما هي شراكة بين شركاء أحرار ومتساوين. في صلب الأزمة اليمنية، شمالاً وجنوباً وفي البلاد كلها، يكمن الحكم الفردي، المتكل على عصبية ضيقة حاكمة، تطلق المعارضات العصبية المقابلة، وإلى التمييز بين المواطنين من حيث حقوق المعتقد والمواطنة والتهميش المتزايد الذي يغذي النزعات المناطقية الاستقلالية أو الانفصالية.
فعندما تكون الوحدة صنواً للمركزية والتمييز بين المواطنين، على أساس مناطقي وجهوي، تكون في معرض حفر قبرها بيدها وتشكيل التربة الخصبة لنمو وازدهار النزعات الانفصالية.
في المقابل، فلا حل للمسألة الجنوبية خارج اليمن الموحّد. ذلك أن البديل عن الوحدة لن يكون جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، التي اغتالها قادتها بأيديهم عام 1986، وإنما دويلات الجنوب اليمني المجزأة إلى الأربع والعشرين مشيخة وسلطنة. فلا بد من أجل تجديد الوحدة من الاعتراف بوجود مسألة جنوبية ناتجة عن مترتبات حرب العام 1994 وما تلاها من ممارسات التهميش والتمييز بين مواطني الدولة الواحدة. ولا بد من الشروع بمعالجتها ابتداءً من إعادة المفصولين والمتقاعدين قسراً إلى أعمالهم وإيفائهم جميع حقوقهم المادية؛ مروراً بالبت السريع بالنزاعات على الأراضي والعقارات بمقتضى توصيات اللجان الرسمية وإزالة أشكال التمييز الأخرى ذات الطابع المناطقي أو الجهوي.
من جهة ثانية، تزعم السلطات اليمنية الدفاع عن الجمهورية في وجه حركة حوثية متهمة بالعودة إلى الإمامة. ولكن، عندما يتحوّل رئيس الجمهورية ذاته إلى إمام مطلق الصلاحيات، وعندما تصير الجمهوريات «جملكات» تمارس هي ذاتها التوريث، كيف لها أن تحافظ على أية شرعية في وجه من يقوم تصوّرهم للنظام السياسي الإسلاموي على التوريث أصلاً، خصوصاً إذا كانوا يدّعون الانتساب إلى أهل البيت؟
من هنا المطلوب تعاقد جديد بين اليمنيين، عبر حوار وطني يشمل كافة الأطياف لإجراء تعديلات دستورية تمنع التوريث وتعيد التوازن بين النظام الرئاسي والنظام الانتخابي. ولا بد لتلك التعديلات وما يواكبها من ممارسات أن تؤدي إلى تعزيز التعددية السياسية والحزبية والصحافية، ومكافحة الفساد، وتأمين شفافية العلاقة بين المسؤولية الحكومية ومزاولة الأعمال، وتحقيق اللامركزية الإدارية الواسعة الصلاحيات والمرتكزة إلى مجالس المديريات والمحافظات المنتخبة، وتنفيذ مبدأ تداول السلطة من خلال تنظيم الانتخابات النيابية المؤجلة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية.

الاثنين، ٥ تشرين الأول ٢٠٠٩

الأمم المتحدة: مسرح العبثيّة الدولي

الأمم المتحدة: مسرح العبثيّة الدولي

الرئيس ميشال سليمان يلقي كلمته أمام الجمعية العموميّة للأمم المتّحدة (دايفيد كارب ــ أ ب)الرئيس ميشال سليمان يلقي كلمته أمام الجمعية العموميّة للأمم المتّحدة (دايفيد كارب ــ أ ب)
يتقاطر الرؤساء والملوك من كلّ حدب وصوب كلّ عام. يتزاحمون لالتقاط الصور مع إمبراطور الكون الأميركي. الكلّ يريد أن يظهر مبتسماً إلى جانب بوش أو أوباما. بعض الزعماء لا يتجشّم عناء السفر ويُرسل الابن أو الشقيق نيابةً. لكن طقس افتتاح الجمعيّة العمومية لم يتغيّر حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، التي أضفت نمطاً ديموقراطيّاً نسبيّاً على مداولات الجمعيّة العمومية وحتى على مجلس الأمن رغم بنيته غير الديموقراطيّة

أسعد أبو خليل *
يصرّ رئيس جمهوريّة لبنان الممتازة، على حضور الجمعية العمومية للأمم المتحدة كل سنة. هي جزء من محاولة اقتناص وهج فقده في جمهوريّة الطائف. يحاول أن يبدو رئيساً عن جدّ في محفل دولي لعلّ الصور في نيويورك تزيد من هيبة المنصب. لكن في عهد عصر النفقات وهي ذريعة السنيورة لإفقار الفقير ولمنع الإعمار عن الجنوب اللبناني، يتساءل المرء عن سبب ذهاب وفد لبناني عرمرمي (ضمّ الوزير نسيب لحّود، أي ليس هناك ما يمنع تسفير الراسبين في الانتخابات) إلى نيويورك. كم بدا لبنان صغيراً وهامشيّاً، على حقيقته. كان على كل الشعب اللبناني متابعة البرنامج الرسمي لرئيس الجمهوريّة ليتيقّن أن هذا البلد لم يكن يوماً إلا هامشيّاً ودونيّاً لا يحتّل موقعاً إلا تبعاً لأوامر تأتيه من هذا البلد العربي أو من ذاك البلد الغربي. وطارق متري الذي يجود في الخطب الحريريّة هذه الأيام، يتحدّث من دون تردّد عن دور ريادي للبنان. أي ريادة؟ لكن طارق متري اليوم بات كالمكتوب الذي يُقرأ من عنوان مقالات نصير الأسعد.
الرئيس الأميركي باراك أوباما (أ ب)الرئيس الأميركي باراك أوباما (أ ب)والإعلام اللبناني يعطي صورة مضلّلة عن تحركّات زعماء لبنان وزياراتهم حول العالم. ولكن يجب أن يذكر التاريخ أن سعد الحريري زار رئيس قبرص أثناء عدوان تموز طالباً مساعدته في طلب وقف للنار على ما ذكرت نشرة «المستقبل» على صفحتها الأولى آنذاك. هكذا تكون الدبلوماسيّة الفعّالة. وأذكر في عام 1982 ــــ 83 في بيروت قبل مجيئي إلى أميركا، أن صحافة لبنان كانت تتحدّث عن زيارات أمين الجميّل إلى الأمم المتحدة (عندما ألقى خطابه الشهير «أعطونا السلام وخذوا حروباً أهليّة ودماءً في الشوارع وقتلاً بالفؤوس في حرب الجبل وسرقات من خزينة الدولة واستسلاماً أمام إسرائيل») والبيت الأبيض. كان إعلام الدولة وجريدة «النهار» (المُروِّجة لاتفاق 17 أيار آنذاك لن ننسى) يتحدّثان عن اهتمام أميركي رسمي وإعلامي وشعبي بزيارات الجميّل إلى أميركا. وعندما جئت إلى أميركا اكتشفت أن الجميّل وزعماء لبنان يأتون ويروحون دون أن يدري بهم أحد باستثناء موظّفين في وزارة الخارجيّة وروّاد المطاعم اللبنانيّة في واشنطن. يأتي زعماء لبنان إلى الولايات المتحدّة من دون إشارة ولو عابرة في الصحف الأميركيّة، ويستحق لبنان هذا التجاهل بسب صغر حجمه ودوره. لكن مسخ الوطن نشأ على الادعاء الفارغ والأكاذيب. هذا عهدنا به منذ الولادة. ماذا تقول عن وطن يمارس الكذب على تلاميذ المدارس حول حكاية الاستقلال، فيما كانت أحزاب ومقامات دينيّة «رفيعة» ومجيدة تعارض الاستقلال وتطالب باستعمار فرنسي دائم على لبنان. ماذا تقول عن وطن يكلّف فيه الجيش وقوى الأمن الداخلي عناصرهم وببلاغ رسمي التصويت على الإنترنت لمغارة جعيتا؟ (أدعو اللبنانيّين واللبنانيّات للتصويت لأي مَعْلم آخر حتى لا يُصاب العقل اللبناني بخبل إضافي).
وقد التقى ميشال سليمان برؤساء ألبانيا والبوسنة والهرسك وقبرص والنمسا وغينيا، بالإضافة إلى لقاء عابر مع ساركوزي. وقد أنعم عليه الرئيس الإيراني بلقاء أيضاً. لكن صحافة لبنان ذكرت أن سليمان التقى أوباما «على هامش» العشاء الذي أقامه الرئيس الأميركي لرؤساء الدول. هل يدري شعب لبنان ماذا يعني اللقاء «على الهامش»؟ إنه يعني أن سليمان وقف بالصف مثل غيره من رؤساء الوفود وألقى التحيّة على أوباما وذكر له اسم لبنان، قبل أن يأتي مسؤول التشريفات ويقول ما يوازي «اللي بعدو»، كما كانت «أم كامل» تصيح في مسلسل «حمام الهنا» في أواخر الستينيات. أصبح السلام في صحافة لبنان «لقاءً على الهامش» وبحثاً معمّقاً في القضيّة اللبنانيّة.

إصرار نجاد على التشكيك بالمحرقة يساعد إسرائيل في حملتها على إيران

أما أحمدي نجاد، فيستمرّ في تزويد إسرائيل حججاً دعائيّة مجانيّة. أحمدي نجاد يجعلك تحنّ إلى خطب أحمد الشقيري في أيار 1967. لماذا يصرّ نجاد على إقحام المحرقة بالقضيّة الفلسطينيّة؟ هل يظن أن إقحامها يدخل في الرصيد الدعائي الفلسطيني؟ ألا يعلم ... ولكن من المُستبعد أنه يعلم لأن خطابه ينمّ عن تحجّر فكري وانغلاق ثقافي لا مثيل له إلا في أروقة مقرّ هيئة كبار العلماء في السعوديّة. في كل كلام له عن المحرقة يعطي نجاد لإسرائيل فرصة ذهبيّة ليس فقط لاستغلال الاستفظاع الغربي (المُحقّ) للمحرقة ولكنه يعطي أيضاً لإسرائيل فرصة إضافيّة لعزو المقاومة العربيّة لإسرائيل إلى أسباب نازيّة. بات نجاد تحقيقاً لأمنية إسرائيليّة. وأبواق الدعاية الصهيونيّة نفضت في الأشهر الماضية الكرّاسات الصهيونيّة عن العلاقة بين الحاج أمين الحسيني والحكم النازي (وتتناسى الصهيونيّة كما تناسى الحاج أمين الذي تلقّى من هتلر سيّارة مصفّحة شاهدتها بأم عيني في مرأب سيّارات في بيروت، أن النازيّة انطوت على نظرة عنصريّة بغيضة للعرب، مع أن هتلر رفع مرتبة العرب في تراتبيّة الكراهية النازيّة العنصرية بعد لقائه مع الحسيني لأنه كان فاتح اللون على غير ما كان هتلر ينتظر). كان خطاب نجاد في نيويورك مناسبة لإعطاء زخم دعائي لبنيامين نتنياهو كي يفتح ملف المحرقة بالصور والوثائق ويكسب عطفاً مجانياً... على عدوان إسرائيل وحروبها، هديّة من نجاد.
هل يشكّك أحمدي نجاد أيضاً بالمحرقة ضد غير اليهود؟ وماذا يرى في نظريّة داروين؟ هل يشاطر ابن باز نظرته إلى القمر وشكل الأرض؟ ولا يعلم نجاد أن إصراره على التشكيك بالمحرقة أو نفيها من أساسها يساعد إسرائيل في حملتها لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي، ويجعلها توازي بين السلاح الإيراني والسلاح النازي في الحرب العالميّة الثانيّة.
لهذا، فإن واجب مناصري القضيّة الفلسطينيّة أن ينتقدوا ليس فقط من هو في معسكر العدو والخصم، بل أيضاً من يعتبر نفسه أو دولته في منطق الدفاع عن الحق الفلسطيني، مثل أحمدي نجاد هذا. من واجب أنصار القضيّة الفلسطينيّة أن يتوجهوا إلى أحمدي نجاد بالتقريع والنقد. إذا كان هو غير قادر على التحدث عن قضيّة فلسطين من دون التشكيك بالمحرقة، حتى لو بأسلوب يظنه هو ذكيّاً، فعلى أنصار القضيّة مطالبته بتركها لأنصارها ولمن يستطيع أن يدافع عنها من دون إسداء خدمات للصهيونيّة.
أما الزعيم (لأن لا صفة رسميّة له، كونه يعيش في حكم الجماهيريّة حيث يمارس الشعب حكم نفسه بنفسه وقلع أظافره بنفسه وكهربة أعضائه التناسليّة بنفسه والضرب المبرّح لنفسه بنفسه ومراقبة بعضه بعضاً) الليبي فقد كان الحدث الهزلي بامتياز (مسموح للإعلام السعودي السخرية من القذافي، وخصوصاً أن أبواق الأمراء تمنع اليوم من السخرية من الرئيس السوري. كله بأمر أميري، ويُحسن المعلّقون اللبنانيّون تلقّي الأوامر وتلبيتها بسرعة). وقد برز في تغطية خطابه في نيويورك أمر مميّز في هذه البلاد: درجة الجهل بالسياسة الخارجيّة في أميركا وصلت إلى حد أن الإعلام والرأي العام سخرا من القذافي وقرّعاه وندّدا بحكمه دون أن يعلما أو يلاحظا أن العقيد أصبح واحداً من حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: أي إن العقيد دخل في نطاق «محور الاعتدال»، وهو خيّر أميركيّاً، فيما يظن الشعب الأميركي أن أميركا لا تزال تعادي القذافي. وكلام العقيد باطل حتى عندما يكون مُحقّاً في نقده للأمم المتحدة أو للولايات المتحدة، مع أنه خاف ذكر اسم الولايات المتحدة عندما تعرّض إلى ماضيها بالنقد.
كما أنه كال من المديح لأوباما ما لم يكله أي رئيس آخر. وما قيمة كلام القذّافي في الحريّة والاستقلال وهو الذي باع ليبيا مقابل اعتراف أميركي بسلالته، وقد أصبح سيف الإسلام والمعتصم سفيرين سريّين لأجهزة الإدارة الأميركيّة؟ لكن كلام القذافي، من الناحية الطبيّة العياديّة، يذكّر بالهذيان حتى لو حمل في بعضه صواباً، مع أن الشيخ محمد علي الجوزو أشاد بكلمة القذافي ووصفها بـ«المرافعة القيّمة»، وهو لم يفعل ذلك استفزازاً لشيعة لبنان لأن المفتي الجوزو أبعد ما يكون عن إثارة الفتنة المذهبيّة والطائفيّة، ولم يكن دوره في خليّة حمد إلا تكريساً لذلك. والحكومة الأميركيّة تعمد دوماً إلى وصف خصومها العرب والمسلمين بـ«الجنون». وهذا الوصف كان جزءاً من الإرث الاستعماري الأوروبي. والجنون هنا يحتاج إلى دراسة مثلما درس ميشيل فوكو «ولادة العيادة»، أي إن الوصيف «الطبي» هو جزء من منظومة السيطرة الاستعماريّة والسلطويّة.
الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (أرشيف ــ رويترز)الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (أرشيف ــ رويترز)كثيرون من الذين عارضوا الاستعمار وُصفوا بـ«الجنون»: من أحمد عرابي إلى جمال عبد الناصر إلى قادة المقاومة الفلسطينيّة. أما الولايات المتحدة فإنها تستعمل الوصف ضد خصومها وأعدائها، من نورييغا إلى القذافي والخميني وعرفات، إلخ. أي إن الجنون هو في معارضة الولايات المتحدة والعقلانيّة هي في الانصياع لإرادتها. وعليه، فإن أنور السادات تحوّل من معتوه يسخر منه حكّام أميركا في السرّ (راجع مذكرات بريجنسكي) إلى عاقل العقلاء عندما ارتمى في أحضان زعماء إسرائيل. وعليه، ملوك وأمراء مشكوك بصحتهم الجسديّة والعقليّة باتوا ذروة العقلانيّة والنباهة مكافأة لهم على طاعتهم للراعي الأميركي كما يسمّيه صائب عريقات. والتشكيك بسلامة العقيد العقليّة كان جزءاً من السياسية الخارجيّة الأميركيّة في الشرق الأوسط، وقد وصفه رونالد ريغان بـ«الكلب المسعور»، كما أن جورج شولتز تمنّى إصابته بمرض «الإيدز». لكن العقيد بات عقلانيّاً ومُحترماً في السياسة الأميركيّة. أي إنه شُفي من الجنون في اللحظة التي أذعن فيها.
الخطاب الأبرز كان طبعاً لمعبود الجماهير العربيّة والإسلاميّة: أوباما. ولولا خشيتي من جرح مشاعر هؤلاء لأخبرتهم كيف أن المرشّح أوباما فعل المستحيل لإقناع الجمهور الأميركي بأن لا علاقة له ولا صلة بالإسلام والمسلمين، ولا تعاطف البتة، كما أنه أخفى عنهم خبر رحلته إلى باكستان والهند عندما كان في الجامعة خشية إثارة قلق وهواجس لم تزل قائمة. لم يستعمل اسمه الثاني (حسين) في حملته الانتخابيّة، فيما يظنّ الإعلام العربي أن أوباما سليل أشراف قريش ويفخر بنسبه. لكن الترحيب العربي والإسلامي (السطحي) بأوباما مفهوم: كان يسود تعطشٌ في أوساط العامّة لأي رجل يأتي بعد بوش، حتى لو كان تشيني. لكن التعويل على بشرة أوباما (والرجل من أقل الرؤساء حديثاً عن عنصريّة البيض) أو على اسمه، هو بمثابة الضرب في الرمل. للرجل طموح سياسي وليس في تاريخه ما ينبئ بتعاطف مع قضايا العرب والمسلمين (وهي غير قضايا الشيوخ والأمراء الشخبوطيين). وهناك من يبدي خيبة خجولة بابتعاد أوباما عن خطاب القاهرة، وهنا الطامة.
خدع أوباما الشعوب العربية والإسلامية لأن هذه كانت في حاجة إلى إقناع أنفسها بأن عهد بوش ولّى إلى غير رجعة: نظرتهم إلى صنع السياسة الخارجيّة محكومة بتجاهل أخذ المُقرّرات والمؤثِّرات المتعدّدة في حسبان التحليل السياسي للسياسة الخارجيّة التي يلعب فيها اللوبي دوراً مهماً ولكن ليس حصريّاً. ينسى المتيّمون بأوباما في العالم العربي أن كل كلام أوباما المُعسّل عن الإسلام وعن إنشاء دولة فلسطينيّة جاء من قبل في خطب لجورج بوش، وبالحرف. الحكم لا يمكن أن يقوم على الكلام المعسول، بل على الأفعال. هل أوقف أوباما الحروب الأميركيّة؟ على العكس. يبدو أنه يُوسّع نطاق الحرب في أفغانستان فيما لا يزال عدد القوات الأميركيّة في العراق يقارب الثلاثمئة ألف (الجنود بالإضافة إلى ما يسمّى «المُتعاقدين» يجب ترجمة كتاب جيريمي سكيهيل عن «بلاك ووتر»). هل أقفل غوانتنامو؟ لا، وقد اعترف وزير الدفاع الأميركي بأن السجن سيبقى في الخدمة إلى ما بعد السنة المقبلة. هل تحيّة «السلام عليكم» من أوباما أو ابتساماته تمثّل انعطافة في السياسة الخارجيّة؟ على العكس، يمكن القول إن عقيدة أوباما أشدّ خطراً من عقيدة بوش لأن كلامه المعسول وابتساماته تُنسي البعض أن قنابله لا تزال تنهمر، وأن التعصّب الأميركي لإسرائيل وحروبها لم ينقص درجة واحدة.

أوباما أشدّ خطراً من بوش لأنَّ كلامه المعسول يُنسي البعض أن قنابله لا تزال تنهمر

يمكن تأريخ موت الأمم المتحدة عام 1991 عندما رضخت الجمعية العمومية للأمم المتحدة لمشيئة الإمبراطوريّة المُنتشية آنذاك. قرّرت أميركا بإصرار من الكونغرس (وبمبادرة من السناتور باتريك مونيهان الذي عمل سفيراً لبلاده في الأمم المتحدة عندما أصدرت قرار «الصهيونيّة هي العنصريّة» في عام 1975 وبموافقة 72 دولة) على مراجعة قرار ذم الصهيونيّة. وكان للولايات المتحدة ما أرادت. وقرار الرجوع عن القرار حاز 111 صوتاً. رسمت أميركا حدود المسموح به في حقبة السيادة الأميركيّة شبه المطلقة بعد انتهاء الحرب الباردة. أفرغت الجمعيّة العمومية من أي قوة، وتحوّل ليس فقط القرار بل المنبر إلى مجلس الأمن الذي عبّر عن ميزان قوى مختلف تماماً. كانت الجمعيّة العمومية، وبدرجة أقل مجلس الأمن، تعبيراً عن تطلعات شعوب العالم النامي أثناء الحرب الباردة، وكانت كتلة عدم الانحياز ــــ وهي غير كتلة «كسّارات فتوش بالقلب» أو كتلة ميشال المرّ ذات العضو الواحد ــــ يُحسب لها حساب.
أصبحت الأمم المتحدة باعتراف جورج بوش الأب في كتابه «عالم متغيّر» مجرّد وسيلة لخدمة أهداف الإمبراطوريّة الأميركيّة، تستخدمها حيناً وتتجاهلها كليّاً حيناً آخر. وبالنظر إلى الاستهتار بالأمم المتحدة في الحرب على العراق، نرى أن الأمم المتحدة عادت (بحماسة من الأخضر الإبراهيمي وغسان سلامة) إلى العراق بعدما أمعنت فيه إفقاراً وحصاراً وتجويعاً من خلال «النفط مقابل الغذاء» الظالم لتخدم الاحتلال وتساعده في نشر سلطانه. لكن تفجير مقرّ الأمم المتحدة في بغداد غيّر الحسابات، مع أن الأمم المتحدة في أفغانستان، وبإشراف خادم الإدارات الأميركيّة المطيع، الأخضر الإبراهيمي، لا تزال تحاول ما تستطيع لتوطيد دعائم الاحتلال الأميركي. وهي التي غطّت غزو أفغانستان الثأري.
قد يكون الحل العودة إلى عصبة الأمم التي لم تكن تضم في صفوف أعضائها الولايات المتحدة، لكن الأمم المتحدة تحتاج إلى دعم الولايات المتحدة المالي التي تصرّ على السيطرة الكليّة على مقدّرات المنظمة الدوليّة. أذكر عندما كنت أزور عام 1993 بول هير (نائب سابق لمساعد وزير الخارجيّة لشؤون الشرق الأدنى، وابن الدبلوماسي ريمون هير الذي عمل سفيراً في بيروت في الخمسينيات ثم خدم في مصر إبّان الحقبة الناصريّة وأحبّ عبد الناصر) في مكتبه بمؤسّسة الشرق الأوسط في واشنطن حيث كنت باحثاً مقيماً، دقّ جرس الهاتف. تحدّث لبضع دقائق، ثم نظر إليّ مستغرباً. قال: أتدري أنني عُيِّنت للتوّ في منصب ممثّل الأمين العام للأمم المتحدة في أنغولا، والذي هاتفني هو مسؤول في وزارة الخارجيّة الأميركيّة؟ قلت: يعني صدر تعيينك كممثل للأمين العام من دون علم الأمين العام؟ قال ضاحكاً: لا، سيتلقّى الخبر بعد قليل. الولايات المتحدّة هي التي تقرِّر السياسات والتعيينات وسبل الإنفاق والتدقيق المالي (وكأن الموازنة الأميركيّة العسكريّة لا تعاني إهداراً بالمليارات). بطرس غالي تحدّث بصراحة في الجزء الأول من مذكراته عن تجربته مع سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، مادلين أولبرايت، عندما صارحها مبكِّراً بأنه قد يضطرّ في منصبه الجديد لإصدار نقد غير عنيف لسياسات أميركا. توقّفت عن التحدّث إليه وبدأت مشاكله التي لم تنته، مع أنه كان من الساداتيّين المطيعين (ينسى بطرس غالي أن البعض لا يزال يتذكّر كتاباته الاشتراكيّة في الحقبة الناصريّة).
وهذه هي معضلة الأمم المتحدة اليوم: كيف تستطيع أن تخلق أو أن تطوّر منظمة دوليّة لتعكس العلاقات الديموقراطيّة بين الدول على أساس الاحترام المتبادل والإنسانيّة، فيما العلاقات الدوليّة قائمة على لغة القوّة («الفائقة» كما وصفها الوزير الفرنسي السابق، هوبير فيدرين في كتابه «فرنسا في عصر العولمة»). وحتى من ينصحون بين علماء السياسة، مثل جوزيف ناي، باللجوء إلى «القوة الليّنة» فإنهم لا يطالبون بنبذ القوة في سياسة أميركا الخارجيّة في المطلق. لكن عصر السيطرة الأحاديّة لا بدّ أن ينعكس على عمل الأمم المتحدة. أي إن التغيير في العلاقات الدوليّة لا بدّ أن ينعكس على الأمم المتحدة، وخصوصاً إذا قلّ تفرّد الولايات المتحدة بالقرارات الدوليّة. وفي انتظار ذلك، من الضروري رفض الشرعيّة الدوليّة متى تضاربت مصالحها مع مصالحنا: لأن «الشرعيّة الدولية» (أي الكساء الذي لا يستر المشيئة الأميركيّة ويروِّج لها على أنها إجماع دولي) تعبير عن مصالح تهدف إلى خدمة إسرائيل والسيطرة على العرب، سياسيّاً واقتصاديّاً. أي إن الشرعيّة الدوليّة لا تختلف اليوم عن شرعيّة عصبة الأمم التي فرضت وعد بلفور (وأدخلته في فذلكة مشروع العصبة) وباعتنا ما سمّته «الانتداب» ــــ اسم غير مهذب للاستعمار، وهو على أنواع ــــ والإصرار على المصالح الوطنيّة حتى لو تعارضت مع ما يُسمّى ظرفيّاً «الشرعيّة الدوليّة» (وهذا التعبير الدعائي لا يُستعمل في لغات المُستعمر الذي يستعيض عنها بعبارة «المُجتمع الدولي») هو الدرس البليغ الذي لجأت إليه دولة العدوّ، وبنجاح كبير. أصرّت إسرائيل لعقود على تجاهل القرارات الدوليّة حتى تيسّر لها التمتّع بعهد السيطرة الأميركيّة الكليّة. أي أمامنا عقود من التجاهل والرفض والإصرار والعزم، إلى أن تتغيّر بنية العلاقات الدوليّة، وعندها يمكن أن نطالب من جديد بتصويت للمرّة الثالثة على التوالي على قرار «الصهيونيّة هي عنصريّة» هذا إذا كانت إسرائيل باقية إلى حينه. عندما صدّر قرار «الصهيونيّة هي العنصريّة» للمرّة الأولى، قام المندوب الإسرائيلي، حاييم هرتزوغ، بتمزيقه أمام الجمع الدولي. فلنبدأ بالتمزيق، بدءاً بـ242 وصولاً إلى 1701.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)


عدد السبت ٣ تشرين الأول ٢٠٠٩