الأربعاء، ٢٩ نيسان ٢٠٠٩

عبارة "صالح للاستثمار" أقفلت استوديو آخر مصوّر أرمني في طرابلس

عبارة "صالح للاستثمار" أقفلت استوديو آخر مصوّر أرمني في طرابلس

المستقبل - الاحد 26 نيسان 2009 - العدد 3287 -



محسن أ.يمين
مارّاً في شارع يزبك، المتفرّع من ساحة التل في طرابلس، ثم منعطفاً الى اليسار، باتجاه شارع الشيخ إسماعيل الحافظ المؤدي إلى سينما الليدو المنازعة من أجل البقاء، فساحة الكورة، لا بدّ ان تُلاحظ بأن استوديو أفيديسيان الذي كان، طيلة خمسين عاماً، جزءاً لا يتجزأ من المشهد هناك، قد أُقفل، وإن متجراً لبيع أجهزة الخلوي، قد حلّ محله، بين عشية وضحاها.
وبإنطفاء أضواء "فوتو جوزيف" يكون الستار قد اُسدل على آخر استوديوات المصوّرين الأرمن القدامى في المدينة، وعلى تاريخ كان لهم اليد الطولى في كتابة سطوره، على غرار ما فعلوه، في أي حال، في سائر الأنحاء اللبنانية التي حلّوا فيها، إثر نزوحهم إليه، وفي الشرق الأدنى، عموماً. وهو تاريخ شهد بدايته، في عاصمة الشمال، مع باغداصار أورفليان، لدى جنوح شمس القرن التاسع عشر الى المغيب. ثم عاد وتواصل مع ابراهام عربيان، ويعقوب ابراهميان، فبولدكيان، قبل ان يرسخ قدماً مع فاهان ديرونيان،وانترانيك انوشيان، ووارطور هارمنديان المعروف، اختصاراً، بهارمند، وخاتشاريان الذي كانت زوجته ليديا اول أنثى احترفت التصوير في طرابلس، قبل ان تعقبها ماري، ارملة المصور يرتشان دنكيكيان.
وعندما التحق جوزيف، عام 1948، بمحل آل ستافرو الكائن في بناية وقف الروم في شارع يزبك، أي قريباً من المحل الذي افتتحه هو، فيما بعد، وراح يتعلم على أيدي حنا وفيليب ستافرو أصول التصوير، كان جاك قويومجيان قد سبقه الى مزاولة المهنة، قرب كاراج الأحدب (فوتو جاك)، وسيتراك ألباريان يتأهب للانطلاق بمحله (فوتو فينوس)، قرب سينما الاوبرا، ويرتشان، المار ذكره، قد بدأ يوزّع عمله بين زغرتا ـ إهدن وطرابلس (في شارع محمد كرامي، قرب المالية، قبل أن ينتقل الى شارع الحرية).
وقد تزامن افتتاح محل جوزيف افيديسيان، عام 1959، وافتتاح سركيس راستيكيان، هو الآخر، لمحلّه المحاذي في شارع يزبك، عام 1958. بينما لم تكن محلات الإخوة تاليان: غاربيس، مختار الأرمن في الميناء، الذي كان في بناية الإنجا التي تداعى جزء منها مؤخراً،روبير، في شارع عزّ الدين، وكريكور، قرب مقهى الرضة، ثم قبالة كاراج حمزه، في شارع يزبك.
يومها، كان التصوير الفوتوغرافي في عنفوانه. السينما، وليدته، كانت تركت له هامشه الخاص كي يستمر على قيد الحياة، ويتحرك بحرية، ويزدهر. والمصورون الأرمن، وإن كانوا يشكلون غالبية مصوري المدينة، فهم لم يكونوا وحدهم في الساح. الاّ ان ابواب الرزق كانت ما تزال تتّسع للجميع.
وفي غمرة هذه الحيوية التي كانت تسري في محال التصوير المتركّزة، في الغالب، في شارع التل، ومتفرعاته، لم يكن جوزيف يكتفي بكسب معيشته من محترفه فحسب، بل راح يبحث عن لقمته في السيل المتدّفق للصور الفجائية (الفوتو سوربريز) التي عرفت رواجاً، حينئذ، عبر انتزاع لقطاتها من نهر الحياة اليومية الذي كانت تتلاطم امواجه، على امتداد الشارع الرئيسي لمنطقة التل، وفي محيط المنشيّة.
آنذاك، كان امامه قدر ما يُريد من الزبائن المطواعين الذين لم يكونوا يتخلفون عن استلام لقطاتهم من المحل، سواء تنبّهوا لها وهي تؤخذ، أم باغتتهم. فآلات التصوير كانت بعيدة جداً عن بلوغ معدلات انتشارها اللاحق، وبخاصة، الحالي.
وكان هناك، في المطاعم والمقاهي والملاهي المجاورة، وفي الأندية الزاخرة بالحركة، ما يغريه كي يجول بعدسته.
فيدلف إليهم بأعلى قدر ممكن من الخفة، سارقاً اللحظات، دونما افتعال، أو إملاءات، بداعي التصوّر. سواء كانوا يأكلون ويشربون ويغنون، أم يكتفون بمجرد تبادل الأحاديث والنكات والأنخاب، أو "الأركلة". لم يكن جوزيف، على ما يظهره نتاجه المتناثر، يخاف من معاكسة بؤرة الكاميرا للنور، وهو يقترب من الأشخاص، أو المجموعات. ولا كان يسلب الأولاد ما يتميزون به من عفوية.
هذا فيما يتدبّر أمور الأستوديو في غيابه شقيقه افيديس افيديسيان الذي لم يتأخر في الانضمام اليه في عمله أو يشاطره، حمل العبء خلال وجوده فيه. الرئيس الشهيد رشيد كرامي الذي كان يمكن أن يطل عليه، من قصره الكائن في كرم القلّة هرع للمثول امام عدسته، التقاطاً لصورته الانتخابية الأولى. وكلية التربية والتعليم الإسلامية التي لم تكن، هي الأخرى، على مبعدة دأبت على الاستعانة بجهوده من أجل أخذ الصور التذكارية السنوية لصفوفها التعليمية.
وباختصار، لم يكن ثمة ما يمكن أن يكسر من حدّة اندفاعة افيديسيان للعمل، سواء خارج الاستوديو أم داخله، حتى معاجلة الموت لشقيقه، عام 1966. فالأرباح التي كانت المهنة تدرها، في ذلك الحين، كانت تدفعه الى الاستمرار، وإلى عدم التخلي عن حماسته، لا في تلبية حاجات المحل، ولا في القيام بالتغطيات اللازمة.
ولو تسنّى لك ان تترددّ على جوزيف في المرحلة الأخيرة، ووجدته يقصّ على أحدهم حكاية الذين أعقبوا شقيقه في مساعدته، وفي أخذ التصوير عليه وهم توالياً، فؤاد اصلان ونبيل اصلان (فتحا فيما بعد محلين في سوريا) والياس (من قرية بقاعكفرا)، للاحظت، دون كبير عناء، أن جملة أمور كانت قد شرعت، مذ ذاك، تتحالف عليه، وتقوده إلى إتخاذ قراره غير المفاجئ بالإقفال: تقدّمه في السنّ، معاناته جراء مرض السكري وافتقاره إلى ابن يورثه المهنة، ثم قلّة المترددين على محل عرف كيف يُجاري موجة التصوير الملون، يوم كان صاحبه يمتلك الهمة الكافية لمجاراتها، الا انه فوّت على نفسه فرصة ركوب موجة التصوير الرقمي، والمتغيرات التي فرضها طغيان الكومبيوتر، وحلول الفوتو شوب، محلّ قلم الروتوش.
لذلك، لم يكن من الصعب عليك تبيّن أن الاستوديو، الضيّق أساساً، كان قد مضى عليه وقت لم يخضع فيه للتحسين والتحديث. حتى البورتريهات المعلقة على حيطانه، تغاوياً بمسحتها الفنيّة البادية، والتي تدور بنظرك على الواحدة منها تلو الأخرى، فور دخولك، هي من ايامه الاولى، أو يكاد.
لم تكن تحتاج الى هذا المحارب القديم الذي استراح الآن ليفصح لك عن حال محترفه لتعرف أنه لن يدوم طويلاً. كان المحلّ، بألوانه الكئيبة، وقلة قاصديه، ينوب عنه في ذلك.
وإذا كنت، فوق ذلك، ممّن تناهت إليك أخبار زملائه الأرمن في الكار لكنت ازددت اقتناعاً بأن الأمر لن يطول به اكثر.
فاستوديوهات هارمند، والاخوة تليان قد اُحرقت خلال الحرب.
ومصائرهم تراوحت، فيما بعد، بين الموت والهجرة. هنري باهادوريان الذي انفرد من بينهم بفتح محل في الأسواق الداخلية قضى جراء انفجار عبوة ناسفة. انوشيان هاجر إلى الولايات المتحدة الاميركية حيث تُوفي وهو يرسم، بعد تركه الاستوديو لسركيس ناشاكيان (مختار الأرمن) الذي لم يحالفه الحظ بالاستمرار. جاك قويومجيان الذي صار يعتمد على دعم أولاده المنتشرين اكثر من اعتماده على موارد محله، آثر القاء سلاحه المرفوع في وجه الزمن، والتنعّم بسكينة الشيخوخة في بيته. سركيس راستيكيان فارق الحياة قبل أعوام. اما سيتراك ألباريان، وابنه بيرج فقد دفع بهما اليأس من الأوضاع التي سادت لبنان في أعقاب إستشهاد الرئيس رفيق الحريري، الى مغادرة لبنان الى غير رجعة بعد بيع بيتهم، في محلة الهيكلية. هذا اذا لم نُضف الى القائمة أولئك الذين لم يطل بهم المقام في طرابلس كسيرغان يعقوبيان، او الذين انطفأت أضواء آرماتهم في الميناء كيعقوب عارابيان وارتو زانيكيان.
رغم هذا كله، فقد خدع جوزيف الجميع، قبل نحو شهرين، عندما حلّ محله في العمل عبد العزيز، ولازم هو البيت إثر اشتداد وطأة المرض عليه. فقد وافقه آنذاك رأياً، على ضرورة طرد هذا المظهر الكئيب المخيم على الاستوديو، وإعادة الإشراقة، اقله، إلى واجهته، وبعض مكتبه. وقد سرى الظن، حين راحت فرشاة عبد العزيز تطلع وتنزل، مبتلعة العبوس الذي طال أمداً، أن نفحة من التفاؤل قد هبّت، من مكان ما، وحملت جوزيف على المضي قدماً في تجربته، بعد ترنّح.
الاّ أن هذا الشعور لم يلبث أن تبددّ مع رؤية باب الاستوديو الذي خُلعت آرمته موصداً، وقد لصقت عليه ورقة كتب عليها ما يلي: "صالح للاستثمار". فاتضح أن الدهان طرد الوجه الكالح لكنه لم يفلح في طرد شبح الإقفال الذي ظل يحوم دونما توقف.
ولو سألت عمّا يفعله جوزيف، الآن، بعد تقاضيه ما ترتب له في ذمّة المالك من حقوق، لما تأخر أحد زملائه الذين آلمهم انسحابه من الحلبة في الجواب: لا شك في أنه يصطاد السمك، إمّا على شواطئ الميناء، أو في منتجع اللاس ساليناس، في أنفه، حيث تمتلك إحدى بناته شاليهاً من شاليهاته. فلطالما كانت هذه هوايته. قناعةً منه ربّما بأن صيد السمك بات أسهل من اصطياد الزبائن، وأضمن لقمة، في محله المنقرض للتوّ.


الثلاثاء، ٢٨ نيسان ٢٠٠٩

متحف القرن الثالث عشر

متحف القرن الثالث عشر

<
>ربيع جابر الحياة - 28/04/09//

المتحف أبيض الحجارة يتوّج الهضبة ويطلّ على البحر. نوافذه عالية مستطيلة يعكس زجاجها أزرق الماء والسماء. في مدخله عُلقت خريطة للعالم القديم، عالم ما قبل كريستوفر كولمبوس. اليابسة جزيرة شاسعة تعوم على مياه البحار والمحيطات. هنا وهناك تتخللها ألسنة الماء. في الحد الشرقي جزر اليابان. في الحد الغربي جزر إرلندا. ولا أحد يعرف ماذا يختفي وراء بحر الظلمات. عوليس حاول الذهاب الى هناك فوقعت الموجة العالية على سفينته وانتهت حياته. هوميروس لم يذكر هذا، لكن دانتي فعل.

انه التمثال الأول عن يمينك. رجل ضخم الجثة، قوي النظرة، وعلى كتفه شال روماني. كأنه قيصر! لا نعرف لماذا نحتوه على هذه الصورة بالذات. الحجر أبيض رخام، والذي تخيل دانتي شبيهاً بموسى في تمثال مايكل أنجلو لا بد من أن يصاب بخيبة الآن. تحت التمثال لوحة نحاسية نُقرت فيها كلمات ايطالية. هذه ترجمة شبه حرفية: دانتي اليغييري (1265 - 1321) سفير فلورنسا الى روما في زمن الفتن ومؤلف «الكوميديا الإلهية» (1304 - 1320)، وهي رحلة قام بها في منتصف حياته، كما يخبرنا في النشيد الأول من «الجحيم». «الكوميديا» ثلاثة أجزاء، تجنح الى الخيال، وأبياتها الشعرية تولّد في النفس أحاسيس مرعبة.

وراء التمثال حفرة في الأرض وسلّم لولبي. تنزل على السلّم والدليل يحذرك لئلا تطرق رأسك بالجدارية الغريبة: المنحوتات تتدلى من السقف! ترى سماء ملأى بالنجوم والدليل يخبرك أن هذه اللوحة توجز السطور الأخيرة من النشيد الرابع والثلاثين من «الجحيم». تستغرب انها هنا، في المدخل. في قبو المتحف جداريات أخرى، وأمام إحداها تقف ثلاث طالبات في زي مدرسي موحد. هذه من النشيد الرابع وفيها ثلاثة رجال يتكلمون: دانتي وأوفيد وهوميروس. المكان رائحته رطوبة وفطر. بارد الهواء ولا يناسب «الجحيم». قبل أن تقول هذا تتذكر الجليد في الدائرة التاسعة والأخيرة. من أغرب المقاطع في ملحمة دانتي ذلك المقطع: الجليد الذي يبقى جليداً حيث اللهب الأبدي. قبو المتحف يثير فيك - وفي الآخرين - فزعاً. لهذا تسرع الى الرجوع. نتراكض صاعدين على السلّم الحديد ونخرج من حيث دخلنا.

التمثال الثاني لا تعرفه. والثالث لا تهتم به. لكن الدليل يقول شيئاً ولهذا تتوقف المجموعة. هذا التمثال الخامس عن يسارك ويرتدي العباءة العربية. هنا ترجمة المنقوش على البلاطة: «إبن بطوطة (1304 - 1377) رحالة مسلم كتب بالعربية. أصوله من طنجة في المغرب شمال أفريقيا. بلغ في أسفاره الهند ودوّن رحلته في كتاب يُسمى «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار». يقتبس منه الياس كانيتي مقاطع عن سلاطنة الهند في كتاب «الحشد والقوة». تزوج نساء كثيرات وزار صقلية». يقول الدليل ان هذا التمثال جُلب الى هنا خطأ. كان المفروض أن يؤخذ الى المتحف الآخر في الجزء الغربي من الجزيرة: «متحف القرن الرابع عشر». لكن بسبب صعوبة فكّه عن قاعدته وشحنه - وأيضاً بسبب تعقيدات المعاملات الإدارية - تُرِك التمثال هنا.

يليه تمثال ياقوت الحموي الرومي (1179 - 1229) صاحب «معجم البلدان» وفي مواجهته تمثال ماركو بولو البندقي (1254 - 1324). الاثنان يتبادلان نظرة غريبة: كأن أحدهما توأم الآخر. هل هما على صداقة أم على عداوة؟ قد يجوز اعتبار الاثنين من أبناء القرن الثالث عشر، لكن ياقوت قضى قبل ولادة ماركو بولو. دانتي في المقابل عاصر ماركو بولو ولعلهما التقيا في أسواق روما أو البندقية أو فلورنسا. بولو كان كثـير الخـروج، مع أن ثمة من يزعم أنه قضى في السجن زمناً طويلاً، وأنه - مثل سرفانتس - كتب كتابه (أو فكر فيه) وهو حبيس الحيطان الأربعة. الدليل لا يتوقف كثيراً أمام تمثال الرحالة البندقي لكنه يشيـر الى مقـطع في الكتاب الصغيـر، مقـطع من «رحلات ماركو بولو»: «تعد شارشان من ولايات تركستان وفيها أنهار كبيرة وكثير من اليـشب والعقـيـق الأبيـض وهما سلعـة تجارية مهمة تؤخذ كي تباع في كاثاي... وإذا مر بهذه البلاد جيش من التتار وكان عدواً سلب أمتعة السكان وأموالهم، وإن كان صديقاً ذبح ماشيتهم والتهمها. ولذلك فإنهم متى علموا باقتراب جنود فروا بعائلاتهم وأنعامهم الى الصحراء الرملية، مسيرة يومين، الى أي مكان يجدون فيه مياهاً حلوة لمواصلة العيش هناك». النص مكتوب بالإيطالية والانكليزية. في الهامش ملاحظة قصيرة: «شارشان إذاً مدينة متنقلة».

تُقرع أجراس في برج يتبع المتحف. الوقت تجاوز الظهيرة. الشمس تقتحم النوافذ وتقع على لوحة تحتل جداراً كاملاً. إذا توقفت لحظة انتبهت ان ابن بطوطة (تمثاله) ينظر الآن الى حيث تنظر: اللوحة مشهد ريفي، لا شرقي ولا غربي، خضرة وماء وأعداد من الحيوانات الحقيقية والخيالية، بينها الديك والخروف والتنين والكلب والسمندل والحصان والطاووس والثور والدجاج. («ودجاج الصين وديوكها ضخمة جداً، أضخم من الأوز عندنا، وبيض الدجاج عندهم أضخم من بيض الأوز عندنا. وأما الأوز عندهم فلا ضخامة لها. ولقد اشترينا دجاجة فأردنا طبخها فلم يسع لحمها في برمة (قدر من حجر) واحدة، فجعلناه في برمتين. ويكون الديك فيها على قدر النعامة وربما انتتف ريشه فيبقى بعضه أحمر. وأول ما رأيت الديك الصيني بمدينـة كولم فظننتـه نعامة وعجبت منه فقال لي صاحبه: ان ببلاد الصين ما هو أعظم منه» - ابن بطوطة). الحيوانات كثيرة في السهل، وعند طرف اللوحة نهر أو بحيرة، بسفن شبه محطمة تطفو على المياه. («السفن التي تبنى في هرمز من أردأ الأنواع، كما أنها خطرة على الملاحة، حيـث تـعـرّض التجار وغيرهم ممن يستخدمونها لأخطار جسيمة، وترجع عيوبها الى عدم استخدام المسامير في بنائها، وشدة صلابة الخشب وتعرضه للانشقاق والتصدع كالفخار. وعندما يحاول النجّار دق مسمار يرتد ثانية وكثيراً ما ينكسر» - رحلات ماركو بولو).

يتجمد الدليل (مثل تمثال آخر) تحت القبّة التي تتوسط المتحف. ينتظر سكوت الجميع قبل أن يتكلم. يريدنا أن ننظر الى الرسوم على القبّة العالية: أصناف من الطيور الملونة. يفتح فمه وتخرج منه، في سلسلة عجيبة، أسماء لاتينية تشبه موسيقى فخمة. لا نعرف ماذا يُدهش أكثر: الطيور التي تبدو حيّة في القبّة الخشب، أم الأصوات الخارجة من بطن الرجل وحنجرته، كأن الطيور سكنت فيه.

عند الخروج من المتحف نرى باصاً يتوقف في الباحة وناساً ينزلون منه. نسمع صوت الراديو (انفلونزا في المكسيك) ونعرف أننا عدنا الى القرن الحادي والعشرين.

الاثنين، ٢٧ نيسان ٢٠٠٩

الهاجس الإبستمولوجي في فكر محمد عابد الجابري

الهاجس الإبستمولوجي في فكر محمد عابد الجابري

<
>عبداللطيف فتح الدين الحياة - 25/04/09//

هدف هذا المقال تبيان ثلاثة أمور: أولها؛ أن الهاجس الإبستمولوجي ظل على مر السنين يتبوأ منزلة خاصة في فكر محمد عابد الجابري. ثانيها؛ أنه ما كان اهتمام الجابري بالإبستمولوجيا من جنس «الإبستولوجيا للإبستمولوجيا». فما كانت هي مقصودة لذاتها، وإنما تُقُصِّدَتْ لغاية. وهذه الغاية هي نقد العقل العربي ـ مشروع الجابري الأساس. فإذن الغاية: نقد العقل العربي، والوسيلة: المنهج الإبستمولوجي. وذلك بما وشى عن توظيف وسيلي للإبستمولوجيا في فكر الجابري. ثالثها؛ أن الجابري ما اهتم بالإبستمولوجيا مطلق الإبستمولوجيا، وإنما اهتم بما يخدم مشروعه، فكان أن يَمَّمَ نحو الإبستمولوجيا الفرنسية، أولاً، ونحو مفكرين إبستمولوجيين بعينهم ـ سنرسم ملامحهم في هذه المداخلة ـ ثانياً، ونحو مفاهيم إبستمولوجية مخصوصة.

بداية، يمكن القول: إن الهاجس الإبستمولوجي ما شكل هدفاً في حد ذاته، بالنسبة للأستاذ الجابري، بل اتخذ طابعاً إجرائياً ووظيفياً حاول من خلاله الاشتغال على مشروع نقد العقل العربي الذي انتصف نصفين: 1- من جهة؛ ثمة: تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي. وهما المؤلفان اللذان استهدفا النظر في الآليات المنطقية والمعرفية التي أعملها العقل العربي القديم. مما يؤسس بذلك لإمكانية إعمال منهج النظر الإبستمولوجي أو البحث عن النظم المعرفية التي أسست للعقل العربي. 2- ثم السياسة والأخلاق كموضوع للعقل العملي.

إذا ما نحن أخذنا الشق الإبستمولوجي - وهو موضوع هذه المداخلة - فإننا نجد أن تعامل الجابري الوسيلي مع فلسفة العلوم قد تجلى، بحسب اعتبار الأستاذ سالم يفوت، في مظاهر عدة. من أبرزها أن الأستاذ الجابري ما خصص سوى مؤلف واحد لفلسفة العلوم: وهو الكتاب الموسوم باسم «مدخل إلى فلسفة العلوم» (1976)، وهو مؤلف يقع في جزءين. ثم إنه ما لبت أن قَفَّى على أثره بكتاب «نحن والتراث» (1980)، الذي وإن لم يكن مؤلفاً في الإبستمولوجيا، بالمعنى الحصري للكلمة، إلا أنه كان بمثابة جسر وصل هموم الإبستمولوجيا النظرية بهموم التراث العملية. فما هي أبعاد تجليات الممارسة الإبستمولوجية في كتابات الأستاذ الجابري؟ وكيف تم عنده توطين بعض المفاهيم الإبستمولوجية، المستقاة من حقول معرفية غربية، في قراءة التراث الفلسفي العربي الإسلامي؟

المرجعيات

ليس يمكن استيعاب ظهور التفكير الإبستمولوجي في المغرب، أوائل السبعينات، إلا من خلال المرجعيات والمصادر الغربية. هذه التي شكلت جهازاً مفاهيمياً أصبح أكثر تداولاً في مجالات مختلفة من الفكر الفلسفي المغربي المعاصر. مثلما أنها اعتمدت كآليات وكمفاهيم إجرائية لتحليل بعض القضايا المتعلقة بالتراث الفلسفي. وذلك على نحو ما فعله محمد عابد الجابري بصفة مخصوصة. الأمر الذي جعل مفاهيم الإشكالية الإبستمولوجية تظهر كعناصر مؤسسة ضمن الإشكالية التراثية. فما هي العوامل التي شكلت الإطار النظري لظهور التفكير الإبستمولوجي في المغرب؟ وكيف تمت تبيئة المفاهيم والأدوات المستقاة من الحقل الإبتسيمي الغربي داخل فضاءات معرفية في الثقافة المغربية بعامة وفي مجال التراث تحديداً.

الحق أن أهم اللحظات التي شكلت حجر الزاوية بالنسبة إلى الممارسة الإبستمولوجية في الحقل المعرفي بالمغرب بعامة وتعامل الجابري الوسيلي مع الإبستمولوجيا بخاصة، إنما تتجلى في أعمال الإبستمولوجي الفرنسي روبير بلانشي حول مشروع «عقلانية معاصرة» في مقابل «العقلانية الكلاسيكية». وقد انتقد في الوقت ذاته «الفلسفة الواقعية» من خلال مؤلفين: أولهما كتاب «العلم الفيزيائي والواقع» الذي صدر عام 1948. وثانيهما مؤلف « العلم المعاصر والعقلانية» الذي صدر عام 1967. حاول بلانشي من خلال مؤلفاته تأسيس مشروع لبناء فلسفة عقلانية جديدة، عقلانية وظيفية أو عقلانية رياضية، تأخذ في الاعتبار القيم المعرفية الجديدة للثورة العلمية المعاصرة. هذا وقد تميز الموقف العقلاني الجديد، لدى بلانشي، بانتقاده تيارات فلسفية ثلاثة متعارضة أراد أن يكون تجاوزاً لها جميعها: العقلانية الكلاسيكية والواقعية والوضعية. وفي انتقاده لهذه التيارات الفلسفية اعتبر أنها لا تمثل الفلسفة المطابقة لعلم هذا العصر. والحال أنه مما لا شك فيه استحالة فهم مشروع بلانشي إلا ضمن محاولة الفلسفات العقلانية المعاصرة إعادة النظر في إشكالاتها العامة حتى تتوافق مع نتائج الثورة العلمية. ولعل حضور فلاسفة أمثال باشلار وبرانشفيك في مشروع بلانشي، قراءة وتأويلاً، وما تشترك فيه من مبادئ، نبه في شكل واضح إلى أن فلسفة بلانشي لم تكن موقفاً فلسفياً منعزلاً، وإنما كانت تتقاطع مع لحظات مناظرة لها في الحقل الفلسفي والإبستمولوجي.

لحظة التأريخ للعلوم : شكل الاهتمام بعلاقة تاريخ العلوم والإبستمولوجيا أهمية خاصة، وذلك لما لهذين الميدانين من علاقة تقاطع وانسجام من حيث الموضوع والأهداف معاً. فتاريخ العلوم والإبستمولوجيا يدرسان معاً المعرفة العلمية، وتاريخ العلوم يمارس دائماً مصحوباً بتصور إبستمولوجي معين. وحيث يكون من اللازم لاستخلاص القيم الإبستمولوجية للمعرفة العلمية وإبرازها أن نعتبر تاريخ هذه المعرفة، فإنه يصبح من الضروري للابستمولوجي أن يعتمد على تاريخ العلوم. ومن بين المشاريع التي عرفت انتشاراً واسعاً في هذا المجال يمكن استحضار، على سبيل المثال لا الحصر، فلسفة غاستون باشلار.

وقد عايش هذا المفكر العلمي الفذ الثورة العلمية التي بدأت منذ أواخر القرن 19 وخلال القرن العشرين، مثلما عاين الهزة التي أحدثتها في المفاهيم العلمية والفلسفية على حد سواء. وقد لاحظ بعد ذلك أن هناك فرقاً في التقدم الحاصل في المجالين: فهناك، من جهة، حركية في تاريخ العلم، يقابلها، من جهة أخرى، سكون في تاريخ الفلسفة. وقد عمل باشلار على إبراز القيم المعرفية التي ساهمت في تجاوز التصورات المطلقة في الفلسفة العقلانية الكلاسيكية. إذ لم تصبح المعرفة عبارة عن قوالب ومقولات عقلية ثابتة يمكن استنباطها خارج الزمن، بل انخرطت في الديمومة والتاريخ وأصبحت قابلة للتغير بمقتضى التحولات التي طرأت على العلوم.

والحق أن المشروع الباشلاري، باستعماله بعض المفاهيم الأساسية التي أحدثت هزات على مستوى تاريخ العلوم شأن مفهوم «التجاوز» و«القطيعة الإبستمولوجية»، كان محط اهتمام وتأويل واسع من طرف معاصريه، مثل المفكر الماركسي ألتوسير الذي استعار مفهوم «القطيعة» واستخدمه من أجل فهم فكر ماركس وتطويره. ذلك أن قراءة ألتوسير لماركس طرحت إبراز المفاهيم المكونة للإشكالية التجريبية أو الاختبارية، للنقد والمراجعة، فالغالبية العظمى من الفلسفات قد استغلت العلوم لأهداف تبريرية تخرج عن أهداف الممارسة العلمية. والحال أن التأويلات الفلسفية لنتائج العلوم بغاية التدليل على بعض القيم الخارجة عن مجال العلم لا تعكس الحقيقة العلمية كما هي بل تعكس منها أعراضاً إيديولوجية عملية. ومن مهمات الفلسفة، بحسب ألتوسير، رسم الحدود بين ما هو للإيديولوجيا، من جهة، وما هو للعلم من جهة أخرى؛ أي إبراز صور وألوان تسرب الإيديولوجية النظرية والعملية إلى الممارسة العلمية، وفهم العلماء لما يفعلونه.

لحظة ميشال فوكو: تميزت أعمال ميشال فوكو بأهمية بالغة في الفلسفة المعاصرة، وذلك على اعتبار أنها كانت تمثل «آخر الاتجاهات الفلسفية التي انتهى إليها الفكر الإنساني بعد تعلق طويل باتجاهين : اتجاه إلى الذات المشخصة واعتبارها محور التأمل الفلسفي، واتجاه مضاد لا يعنى بغير الظواهر المحسوسة ويؤدي إلى ظهور الفلسفة الوضعية ثم الوضعية المنطقية بصورها المختلفة»؛ فأهمية فوكو تكمن في استحداثه تساؤلاً فلسفياً جديداً عن البنية المعرفية السائدة في حقبة معينة والتي تبرر ظهور العلم والتفلسف في تلك الحقبة، إذ اعتبر كتاب «الكلمات والأشياء» أول تطبيق للاتجاه البنيوي في مجال البحث الإبستمولوجي. وبه أصبحت البنيوية سيدة البحث الفلسفي.

ومن بين المفاهيم التي شكلت أهمية خاصة في كتاب «الكلمات والأشياء» هذا مفهوم «الإبستميي» Epistémé الذي يكشف عن الإمكانات والشروط التاريخية لظهور المعارف ودراستها في صورها التجريبية وأن ما تدرسه «الإبستميي» هو «مجموع العلاقات التي بإمكانها أن توجد في فترة معينة بين الممارسات الخطابية التي تفسح المجال أمام أشكال إبستمولوجية وعلوم...». وعليه، فالإبستمي، وفق تحليل فوكو، هي مجموع العلاقات التي يمكننا الوقوف عليها في فترة ما بين العلوم حينما نحلل مستوى انتظاماتها الخطابية. قد نقف هنا على نوع من التماثل بين الإبستمي والبنية، وبخاصة في نقطة العلاقات. فالإبستيمي ليست بنية ساكنة. إنها متغيرة وذلك لعلاقتها بالتاريخ، فكل مرحلة تاريخية محكومة بإبستمي معين، تقطع مع سابقتها وتكون مقدمة لإبستمي لاحقة، لذلك فإنها «ليست شكلاً ساكناً ظهر يوماً ليختفي فجأة، بل هي مجموعة من الانقسامات والتفاوتات والانزياحات والتطابقات المتحركة باستمرار والتي تنشأ ثم تنحل».

وهكذا يتبدى لنا من خلال إبراز مصادر الفكر الإبستمولوجي بالمغرب أن لحظات تشكل الخطاب الإبستمولوجي تتحدد من خلال المناحي الجديدة في الفكر الغربي وعلى أساس المرجعيات التي أطّرت عمليات إنتاج التصورات والتفكير في المفاهيم. وهو الأثر الذي وسم بميسمه الفكر المغربي ابتداء من السبعينات. إن صورة مواءمة وتكييف الجهاز المفاهيمي الغربي مع خصوصيات الفكر العربي المعاصر تعكس الجهود التنظيرية لتوطين المفاهيم ضمن سياقات فكرية جديدة. فكيف تمت تبيئة المفاهيم والأدوات المستقاة من الحقل الإبتسيمي الغربي داخل حقول ومجالات معرفية في الثقافة المغربية بعامة وفي مجال التراث تحديداً؟

توطين مفاهيم الإبستمولوجيا

دشن محمد عابد الجابري البحث الإبستمولوجي في بداية السبعينات من خلال مؤلفه «مدخل إلى فلسفة العلوم» في جزءين عام 1976. وقد يضم مجموعة من النصوص والأبحاث التي قام بترجمتها في مجال إبستمولوجية الرياضية والفيزياء. هذا وقد ركز الجابري على أهمية الدراسات الإبستمولوجية بالنسبة إلى تطور الفلسفة. وذلك: «باعتبار أن البحث في قضايا متعلقة بتعريف العلم وبيان موضوعه ومناهجه وغايته، وتحديد علاقاته بغيره من العلوم ...، هو من جملة الأبحاث التي تنتمي في شكل أو آخر إلى عالم الفلسفة. ومعروف كذلك أن عزل شيء ما عن الفلسفة لاتخاذه ميداناً لبحث مستقل، لهو من أصعب الأمور، خصوصاً إذا كان موضوع هذا «الشيء» ينتمي إلى عالم الفكر والنظر، لا إلى عالم المادة والواقع. ذلك لأن من خصائص الفلسفة أنها تظل دوماً تلاحق موضوعات وتطاردها في بيوتها الجديدة، فتتلون بلونها، وتتطور بتطورها وتغتني بتقدم البحث فيها, إن هذا بالضبط هو سر بقاء الفلسفة حية على الدوام، متجددة باستمرار».

يترجم هذا الاهتمام الخاص بأهمية استيعاب الفلسفي للعلوم عن المكانة التي خصصها الجابري في جزء كبير من كتابه لنصوص روبير بلانشي حول «المنهج التجريبي» فضلاً عن الإبستمولوجية التكوينية لجان بياجي، وفلسفة النفي عند باشلار ... فالفلسفة، بحسب الجابري، كانت تستند دوماً إلى علوم عصرها لتستوحي منها قضاياها ومبادئها. وقد عبر في موضع آخر عن الإكراهات التي يطرحها تخلف الدراسات في الوطن العربي عن ركب مثيلاتها في الغرب في الوقت الذي نحن أحوج ما نكون فيه إلى «تحديث العقل العربي» و«تجديد الذهنية العربية» . وقد أكد بذلك أن هناك: «رؤية موجهة، سواء في العرض أو التحليل أو في النقد وإبداء الرأي، رؤية تستمد مقوماتها ومؤشراتها من الفكر التقدمي المعاصر، الفكر الذي يكرس العلم والمعرفة العلمية لخدمة الإنسان، لتطوير وعيه، وتصحيح رؤاه».

هذا وقد اعتبر الأستاذ سالم يفوت أن حضور هذه الرؤية الموجهة هو ما يؤسس التعامل الوظيفي والوسيلي والغرضي مع الإبستمولوجية لدى الجابري. وقد تجلى ذلك في الكيفية التي جمع بها بين اهتمامه الأصلي بالفلسفة الإسلامية وانشغاله بفلسفة العلوم. وهي كيفية تقوم، أساساً، على اعتبار أن هذه تمدنا بمفاهيم وأدوات إجرائية تساعد على قراءة التراث قراءة معاصرة واستثمار عناصره الإيجابية في تطلعاتنا الراهنة. إذا ما نحن حققنا هذا الأمر، ألفينا أن اهتمامات الجابري الإبستمولوجية تأتي كمقدمة لإبراز الملامح التوسيلية لاختياره الفكري، فإن هذا الأمر يبدو جلياً في تعامله مع جملة من المفاهيم الكاشفة لطبيعة المشروع الذي انتدب نفسه للدفاع عنه. وهو المشروع الذي يروم، في جملته، الدفاع عن الحداثة كأفق في النظر والعمل المفتوح على مكاسب التاريخ المعاصر، وذلك انطلاقاً من مدخل نقد التراث ونقد آليات الفكر السائدة في الثقافة العربية. ولعل مقدمة مؤلف «نحن والتراث» تبرز المقاربة المنهجية للتراث كما يقترحها المؤلف حيث يستثمر مجموعة من المفاهيم الإبستمولوجية شأن مفهوم «القطيعة» (التخلي عن الفهم التراثي للتراث) وإحداث قطيعة مع بنية العقل العربي في «عصر الانحطاط». والمفهوم نفسه نجده في الدراسة التي ساهم بها في ندوة «ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي» حيث أعلن عن وجود قطيعة إبستومولوجيا بين مدرستين فلسفيتين، إحداهما مغربية ويتزعمها ابن رشد، والثانية مشرقية ويتزعمها ابن سينا. إضافة إلى اقتراحه قراءة موضوعية للتراث تتوسل بفصل الموضوع عن الذات باعتبارها عملية ضرورية تتمكن الذات بواسطتها من استرجاع فاعليتها الحرة لتشرع في بناء الموضوع بناء مستأنفاً وفي أفق جديد.

إن اختلاف المنطلق الإيديولوجي للقراءات التي مورست على نصوص التراث لا يمنع، مع ذلك، من وجود وحدة بينها من حيث الفعل العقلي المنتج لها جميعاً حيث نقرأ في نحن والتراث: «ما يهمنا من عرض القراءات السائدة للتراث، في الفكر العربي المعاصر، ليست الأطروحات التي تقررها أو تتبناها أو تكتشفها هذه القراءة أو تلك، وإنما يهمنا فيها جميعاً طريقة التفكير التي تنتجها، أي الفعل العقلي فهو وحده الذي يمكن أن يكتسي الصبغة العلمية ويمهد الطريق، بالتالي لقيام قراءة علمية واعية». يبرز الجابري، إذن، أن النقد الذي يبدو ضرورياً هو نقد معرفي وليس نقداً إيديولوجياً، فإذا كان هناك عائق إبستمولوجي يتمثل في الرجوع إلى سلف ما، على رغم اختلافه، فهذا العائق لا يمكن الوقوف على حقيقته إلا بنقد معرفي. هناك فعلان عقليان تتحدد من خلالهما علاقة المعرفة بالإيديولوجية: الفعل العقلي الأول هو ما ينبغي لنا من أجل فهم علمي للتراث أن نقطع مع منهجه، هو الفعل الصادر عن العقل العربي في واقعه الراهن، وهو ما يصفه الجابري إذ يتحدث عن: « بنية ساهمت في تشكيلها عناصر متعددة على رأسها أسلوب الممارسة النظرية النحوية والفقهية والكلامية التي سادت في عصر الانحطاط، الأسلوب الذي قوامه القياس منهجاً علمياً». أما الفعل العقلي الجديد الذي يجعل الذات هي التي تحتوي التراث وليس العكس، فهو يصدر عن منهج جديد يعتمد نزعة نقدية كما كشف عنها من خلال مشاريع كل من ابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون، وذلك: «لأنهم جميعاً ينطلقون، كل في ميدانه وبحسب نوع اهتمامه، من نقد أبستمولوجي لطريقة التفكير السائدة ومبادئها المؤسسة ... ومن نزعة عقلانية، لأن البديل الذي طرحوه كان بديلاً عقلانياً... مفاهيم علمية تحرر العقل من سلطة اللفظ وسلطة الأصل، مفاهيم الاستقراء والاستنتاج والكليات والمقاصد وهي مفاهيم تشكل مع مبدأ السببية بنية عقلية أخرى هي ذات البنية التي قام عليها الفكر الحديث في أوربا ولا زالت تؤسس التفكير العلمي إلى اليوم».

واضحة هي إذن منهجية الجابري في قراءة التراث. انطلقت دراسته الإبستمولوجية للتراث العربي من إدراكه لمشكل رئيس في الفكر العربي الإسلامي، وهو مشكل القياس: قياس الغائب على الشاهد... هذا العنصر الإبستمولوجي في بنية الفكر العربي هو الذي يفسر في رأيه خلل هذا الفكر وتخلفه، بغض النظر عن الأساس العلمي الذي ينبني عليه مبدأ القياس... ويتضح ذلك جلياً في طرحه مقاربة منهجية في مقدمة كتابه «نحن والتراث»، وأيضاً في بعض صفحات «التراث والحداثة» وعلى فقرات من مقدمات أجزاء «نقد العقل العربي» يتطرق فيها باختصار إلى بعض المفاهيم المعرفية مثل «البنية» و «الإبيستيمي» و «القطيعة» و «الذات» و «الموضوع»... كما يمكن الوقوف على بعض التفصيل في ما قاله عن مقاربته المنهجية المؤلفة من ثلاث مقاربات: بنيوية وتاريخية وإيديولوجية.

والحال أنه يتبين منذ الوهلة الأولى أنه لا يمكن أن نشكل مادة متكاملة عن التصور الإبستمولوجي النظري، بل يمكن ملامسة عُدة نظرية تأتي كمقدمة لإبراز الملامح الوسيلية أو الأداتية لاختياره الفكري. وهذا الأمر يبدو جلياً في تعامله مع جملة من المفاهيم الإبستمولوجية الكاشفة لطبيعة المشروع الذي انتدب نفسه للدفاع عنه، هذا المشروع الذي رام، في جملته وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، الدفاع عن الحداثة كأفق في النظر والعمل المفتوح على مكاسب التاريخ المعاصر، وذلك انطلاقاً من مدخل نقد التراث ونقد آليات الفكر السائدة في الثقافة العربية. هكذا رسم الرجل مساراً تحديثياً للبحث العلمي في ميدان التراث وإعاد تأسيسه على قواعد ومناهج جديدة. ومن ثمة رام الربط بين هموم الإبستمولوجيا وهموم التراث.

* كاتب مغربي.

الأحد، ٢٦ نيسان ٢٠٠٩

المدارس لم تعد هي من يقترح مواضيع الإنشاء

< المدارس لم تعد هي من يقترح مواضيع الإنشاء

المستقبل - الاحد 26 نيسان 2009 - العدد 3287 -


> حسن داوود
لمناسبة تسمية بيروت عاصمة عالميّة للكتاب، كما لمناسبات أخرى بينها ما بدأ في العام الماضي احتفالا بجبران خليل جبران لانقضاء 125 عاما على رحيله، أقبل تلامذة لبنان على ما دعتهما إليه وزارتا التربية والثقافة لكتابة نصوص أدبيّة وقصصيّة. القارئ لهذه النصوص المشاركة، المرسلة من كافّة مدارس لبنان، يستوقفه ذلك الاختلاف بين مجموعة منها وأخرى. وهو، إذ يسعى إلى أن يجد تفسيرا للاختلاف لجهة مستوى الكتابة، يميل إلى الاعتقاد أنّ ذلك راجع إلى المدارس ومستويات التعليم فيها. لكن هناك اختلافات أخرى، وهذه تصل في أحيان إلى درجة من الحدّة تبدو معها النصوص كما لو أنّها واردة من بلدان متباعدة وليس من بلد واحد صغير تتّصل مناطقه ويتداخل بعضها ببعض. أقصد هنا الاختلاف في الأولويّات والاهتمامات، كما في العناصر التي يُصنع منها التخيّل، والنظرة إلى المستقبل، تلك التي تتعدّى السؤال الذي يُسأله الأولاد عادة: ماذا تحبّ أن تكون عندما تكبر؟ وهنا، في هذه الأخيرة، يجعلنا كاتبو النصوص الصغار نغضّ الطرف عن الإجابات التي نسمعها عادة في برامج تلفزيونية التي هي أن واحدهم يريد أن يكون إطفائيّا وآخر يريد أن يصير طبيبا أو معلّما أو مخترعا...وغير ذلك.
تلامذة لبنان، عموما، وقبل الحديث عن الاختلاف بينهم، يذهبون في أفكارهم إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. ذاك أنّهم موغلون في ابتعادهم عن الظرفي والمرحلي ليضعوا أنفسهم إزاء المصيري والقدري. فهناك دوما مأساة وموت في كلّ من القصص المقدّمة للاشتراك في المسابقات. أما الأحداث التي تتتابع في السطور فتقوم على مسائل الفقدان والموت والِشهادة والاستعداد للانتقام والتصرّف بالزمن مقسّما على وحدات كبرى، كأن يكتب من هو في سن الثالثة عشرة.." بعد أن مرّت عشرون سنة.." ليقول في وصف من كانت شابة إنّها كبرت و" بان الشيب كثيفا في رأسها".وفي نصوص كثيرة نجد كيف أنّ الموت هيّن الحدوث وحدوثه هذا مسرع وحتميّ، هكذا بما لا يماثل أبدا ذلك الميل المفترض عند الصغار والذي اعتدنا أن نراه مؤثرا السلامة والنهايات السعيدة. في بعض المسابقات اقتبس التلامذة قصصا وروايات شائعة مثل ليلى والذئب وقصّة البجعات السبع (وهي إحدى قصص ألف ليلة وليلة ) محدّثا إيّاها، أي ليجعلها أكثر عنفا وقسوة.
وذلك الميل إلى ما هو تشاؤمي لا نجد له مراجع كتابيّة، أو قرائيّة على الأصح. ذاك بأن التلامذة قلما يستشهدون في نصوصهم بجمل مأخوذة من كتب. وحين نراهم وقد فعلوا ذلك، على قلّته، لا يبتعدون عن الكتب التي طلبت المدرسة منهم قراءتها في أعمار لهم سبقت (أتكلّم هنا خصوصا عن المسابقات المخصّصة لمن تفوق أعمارهم الأربع عشرة سنة، أما عن الكتب التي تقترح المدارس قراءتها فمعروفة لمن سبق لهم أن عملوا في مهنة التدريس)؛ وهناك ضرب آخر من الاستشهادات المأخوذة من الكلام الديني الذي يُكتسب مشافهة، بالنظر إلى تداول هذا الكلام وشيوعه في السنوات الأخيرة.
ليس جديدا أن نقول إنّ التلامذة في لبنان قليلو الإكتراث بالقراءة. حسبهم أنّهم صغار هذه البيئة التي يُخجل تناولُها بالإحصاءات العالميّة، خاصة حين تقارن ببيئات ثقافيّة أخرى، كأن يُقال مثلا إنّ ما ينقله العرب إلى لغتهم من آداب العالم لا يتجاوز خمسة في المئة ممّا تنقله اليونان، بمفردها، إلى لغتها (بحسب تقرير نشرته مجلة "فورين أفيرز" عدد آذارـ نيسان 2009، وقد نقلنا في " نوافذ " بعضا من خلاصاته في العدد ما قبل الأخير).
ما يقابل النصّ الديني في نصوص الصغار هو النصّ الجبراني، أو الإنشاء الجبراني الذي حصّله هؤلاء من كتب مثل الأجنحة المتكسّرة خصوصا. ما زال هذا الإنشاء فاعلا، بل ومهيمنا، على الرغم من السنوات الفاصلة عنه وما حفلت به هذه السنوات من حروب وهجرات وإجلاء الجماعات عن مناطقها، كما على رغم ما أصاب صورة لبنان كما هي في النصّ الجبراني. ذلك القسم من التلامذة، الجبراني، هو ذلك المازج بين فرديّته المنكسرة وهجاء المجتمع الحالي وقوانينه، الباقية على أركانها السابقة ذاتها، أيّام جبران. في بعض الأوراق نجد أنّ "النَفَس" الجبراني يتحوّل إلى مرجع نقدي فيقوم، بإنشائه الجامع بين الثورة والنبوّة، بتناول الواقع الراهن وهجوه، هكذا بما يحوّل كاتبي تلك النصوص إلى مبشرين بعقيدة. أمّا قارئ النصوص فيمكنه أن يحدس من أيّ المناطق، أو من وحي أيّ الجماعات، أتت هذه المسابقات، ذاك بأنّ هناك من ما زال ينازع تكريس جبران أديبا حاملا لمعنى لبنان، وهذا، على أيّ حال لا يحتاج تبيّنه إلى بحث مستفيض، فهو، شأن مسائل كثيرة مماثلة، يُدرَك بالحدس والملاحظة التي غالبا يُستغنى بها عن الدليل.
أقلّ من نصف المسابقات بقليل تناولت المقاومة والقتال والشهادة، وقد نُسجت قصص فرديّة، كتبت بصيغة المتكلم أحيانا، عن أبرياء سقطوا جرّاء القصف الإسرائيلي، فقام أبناؤهم بالانتقام لهم. الشاب الذي تُروى قصّته، أو سيرته، يعيش حياة عاديّة غالبا، كأن يهتم بتحصيل علمه، حتى الوصول إلى الجامعة، لكنّ فكرة القتال، الذي سينتهي بالاستشهاد، تظل قائمة، وإن مؤجّلة ومتروكة إلى أن يحين أوانها. ولا يُصوَّر مصرع الشهيد كحدث فاجع. في قصص كثيرة تقدّمت للاشتراك في المسابقة بدا أنّ ذلك المصير أشبه بنهاية نمطيّة يُلجأ إليها ليحسن الختام.
أماّ الثأر والانتقام فيمكن لسببهما أن يذهب بعيدا في الزمن، وأن لا يكون متّصلا بالتجربة الشخصيّة لبطل القصّة، سواء كان كاتبها نفسه أو شخصيّته المخترعة. في بعض القصص أُرجع السبب إلى حادثات تاريخيّة قديمة بينها تاريخ القرية التي ينتمي إليها الكاتب (على غرار إحدى القصص التي تناولت مجزرة حولا في الجنوب) أو أخرى عامّة لا تتّصل بالتاريخ المحلّي، اللبناني، لمراحل النزاع والحرب مثل مجازر دير ياسين وكفر قاسم وغيرها..
ما يجعل هذا الموضوع الكتابي منتسبا إلى جماعة من جماعات لبنان وليس واحدا من اتجاهات كتابيّة قائمة هو لغة القصص وروحها ووجهتها وتمثيلها للثقافة الدينيّة لجماعتها.
التنوّع في ما يكتبه تلامذة لبنان يبدو أقرب إلى أن يكون انعكاسا لعيش أهلهم وليس اختيارا فرديا بين أنواع كتابيّة. أحد الذين اطّلعوا على المسابقات قال إنّه يستطيع معرفة أسماء كلّ من كتابها من نصّه، الاسم الذي يدلّ، بدوره، إلى ما ينتسب إليه صاحبه.

السبت، ٢٥ نيسان ٢٠٠٩

الرجل الخطير: عندما تغيّر تاريخ لبنان

logo
المصدر: جريدة الأخبار (http://www.al-akhbar.com)

الرجل الخطير: عندما تغيّر تاريخ لبنان (إلى الأبد)

هذه قصّة قصيرة أو طويلة. أحداثها وتفاصيلها من نسج خيال الكاتب. وليس التشابه (وهو للرمال كما قال محمود درويش) بين بعض الأحداث التاريخية وسياق الرواية إلا من باب المصادفة. أمّا الإشارة إلى بعض الأسماء المعروفة، فهي أيضاً محض رمزيّة. أي إن الإشارة إلى فؤاد بطرس قد تكون إشارة إلى شفيق الوزان، أو العكس

أسعد أبو خليل*
في ذكرى الحرب الأهليّة في لبنان يكثر التكاذب ويزدهر التزوير ويكثر التلويح بأعلام الأرز والبلوط. تُعقد حلقات الدبكة ويتكثّف الكلام الذي يشبِّه لبنان بعواصم يقطن فيها الرجل الأبيض. ميشال سليمان زها بتشبيه لبنان بباريس وسويسرا في خطاب واحد. أما سمير فرنجية (العازف عن خوض الانتخابات لأن أهله في زغرتا نبذوه على ما يبدو) لا ينفك عن التصريح: أن لبنان ليس «مثل مجاهل أفريقيا». أما جريدة «النهار» (ذات الباع الطويل في الطائفيّة والعنصريّة والعنجهيّة والنخبوية الشوفينيّة واليمينيّة ـــــ الظاهرة أحياناً والمُستترة حيناً آخر ـــــ والاستعلائيّة الطبقيّة، والحريصة تاريخيّاً دوماً وأبداً على الترويج الرخيص لكلّ إدارة أميركيّة حتى في العصر البوشي، إلى درجة أنها جعلت أخيراً من طائرة صغيرة تُستعمل لرش المبيدات في أميركا «طائرة عسكريّة»، فقط لتحسين صورة عطايا الولايات المتحدة إلى لبنان) تتذكّر المناسبة على طريقتها فتختلق رواية مُبتكرة لشرارة الحرب تختلف عن ذاكرة الإنسان وعن الوقائع التاريخيّة التي لم يمرّ عليها الزمن، ولم يعف. هذه السنة، جعلت جريدة «النهار» من بيار الجميل الجدّ (المُنبهر بتجربة الشبيبة النازية في ألمانيا وإيطاليا كما اعترف هو في عدد «العمل السنوي» لعام 1966) متنسِّكاً ووادعاً يصلّي ورعاً في كنيسة في ضاحية بيروت عام 1975 عندما تعرّض لاعتداء مزعوم (لم يثبت قط أن بيار الجميّل تعرّض بالفعل لمحاولة اغتيال صبيحة مجزرة عين الرمّانة، لكن ماكينة تصنيع الأكاذيب وبخّها تعمل بطاقة مضاعفة في ذكرى الحرب). وجريدة «النهار» قرّرت أيضاً هذه السنة أن ضحايا البوسطة في عين الرمّانة كانوا مسلّحين مدجّجين من الجبهة الشعبيّة ــ القيادة العامة، وأن فوهات بنادقهم كانت تطلّ من نوافذ البوسطة إمعاناً في استفزاز الكتائبيّين وفي استجداء رصاصهم. الرواية الرسميّة التي بثّها رشيد الصلح أمام مجلس النواب لا قيمة لها في جريدة تحرص على الدعائيّة في عصر جرائد تنضح نفطاً وسخاً وضخّاً من عواصم الرجل الأبيض. ولكن في ذكرى الحرب، يجب أن نذكره ــ ذاك الرجل الخفي، وأن نذكر دورَه المُغيّب.
من منكم قابل الرجل الخطير ومن منكم لم يسمع به؟ وصلت سمعته إلى قارات خمس أو أكثر. معروفٌ ومجهول هو. مَن منكم صافح الرجل الخطير أو صادفه في شارع؟ لو سألتم عن الرجل الخطير لما علمتم شيئاً عنه. لكن أنتم تنعمون بفعله وإن كنتم جاهلين. وهو بعيد عن الاحتفاليّة وعن الإعلام. بعيد عن كل هذه المعمعة. هو غير معروف أو ظاهر. ولكن قد يُكتب لمسخ الوطن أن يستقلّ حقيقةً يوماً لو أنه نُصب للرجل هذا تمثالٌ من مرمر ووُضع في كل الساحات. لو أن الوطن استقلّ فعلاً لرأيتم تماثيل منتشرة له في كل مكان، ولرأيتم اسمه يستبدل أسماء شارل مالك وألفرد نقاش (والأخير كان صهيونيّ الهوى قبل إنشاء دولة العدو) ومجيد أرسلان ـــــ والأخير كان من إسهامات لبنان في الصراع مع إسرائيل ـــــ يا لخجلتنا من شعب فلسطين! لو أن لبنان وطن، لتصدّرت صورة الرجل الخطير أغلفة الكتب المدرسيّة.
وحدثُ الرجل الخطير هو دليل أن التاريخ ـــــ وإن تطوّر ماركسيّاً عبر صراع الطبقات أو هيغليّاً عبر التصاعد اللولبي للديالكتيك الفكري ـــــ يمكن أن يتطوّر ويخطو مسرعاً بساعد واحد، أو ساعديْن. لا أكثر. لا يحدث ذلك عادة. ليس ذلك أمراً اعتياديّاً أو عرضيّاً. لكنها لحظات نادرة وفي منعطفات «مصيريّة» كما يسمّونها في لبنان للإبهام. ليست هي نظريّة انعطافات الطريق أو نظريّة «لو»، لكنها قد تماثل ما سمّاه ماركس «لحظة الحماسة». هي تلك. في لحظة الحماسة الحاسمة يتقدّم واحد أو واحدة ليقرّرا عنا وعنكم وعنكنّ. هو فعل ذلك من دون وجل أو تردّد أو التباس. فعل بالنيابة عنكم وعنكن. فعل فيما نام غيره أو قعد.
الرجل الخطير كان (في جانب منه فقط) مضطرباً دائماً. لم يكن يشكُ من أمراض ولم يعانِ مشاكل ماليّة ولم يشغله الصراع بين العصابات في الأحياء في سنوات الحرب الأهليّة. وكان صافي الذهن، قرير النفس. كان من صنف آخر. الرجل الخطير لم يحلم بالأرزة ولم يتغنّ بها يوماً. شجرة البلّوط وشجر الأرز وشجر الكرز عنده سيّان. كان يحلم بعلم غير العلم الذي وضعه صائب سلام وسعدي المنلا بوحي من علم استعماري. لم يؤمن أساساً بكينونيّة مسخ الوطن وكلام اتفاق الطائف عن سرمديّة الكيان (وهو مستقى من ترهات «سيدة البير» ـــــ وهو غير البير الذي أنشد عنه وديع الصافي) قزّزه ونفّره من الكيانيّة أكثر من قبل. الرجل الخطير لم يكن منتمياً إلى طائفة: لقد نبذ الطوائف كلّها. هجرها من دون أن يدخلها أو ينتمي إليها واحدة واحدة. ولم يلتق الرجل الخطير برجل دين واحد ولم يطلب بركتهم. لعلّه قرأ ما قاله روبسيير أو الشدياق عن الإكليروس. للرجل الخطير هموم: وهي كانت كثيرة، لكن هموم الرجل كانت من نوع آخر.
والرجل الخطير لبناني، لكن من نوع آخر. نشأ في لبنان، مختلفاً. نشأ في لبنان، لكن غير لبناني. لم يقبض كيانيّة لبنان ولا لحظة. سخر منها. عندما كان يقف الجمع تحيّة للنشيد الوطني كان هو ينشغل بعدّ العصافير حوله أو بتقليم أظافره بأسنانه. وعندما كان يُطلب منه التلويح بعلم صائب سلام وسعدي المنلا، كان يلوّح بأقرب كوفيّة فلسطينيّة. بالنسبة للرجل الخطير، «لبنان...آخراً» لا أولاً. إنه يربط شعار «لبنان أولاً» بالمرحلة الإسرائيليّة في لبنان. لبنان آخراً لأنه كان مع تفتيت الكيان وتذويبه لا في الأنظمة الشنيعة التي تحيط بلبنان بل في كيان فسيح أوسع وحرّ، في كيان يستبدل ويتخطّى الأنظمة المحيطة. وهو لم يُخدع يوماً: لم يظن ولو ليوم أن لبنان هو حرّ. أكاذيب حكايات الاستقال وأبطال الاستقلال ورجالات الاستقلال وزيارة قلعة راشيا من قبل فريق من الساسة الذين امتهنوا الطأطأة أمام أقدام المستعمر الفرنسي الذي أتى بمعظمهم إلى حلبة السياسة، لم تنطل عليه يوماً. انطلت على غيره، لا عليه.
عاش الرجل الخطير سنوات الحرب وعرف فصولها وآلامها وانتصاراتها (لم تكن كل فصول الحرب بشعة عنده) وتقلّباتها. وهو، «بحكم العمل»، تنقّل أثناء الحرب بين بيروت الغربيّة والشرقيّة. لم يكن بعيداً عن الحرب لكن الحرب أفرزت ميليشيات وعصابات كما أفرزت عقائد ومقاومات (ليست من نوع الميليشيات التي أنشأتها إسرائيل في لبنان وزرعتها بأسماء مختلفة، بما فيها تلك العصابة الحربيّة التي ترأسها النازي اللبناني الصغير في بيروت، والتي كانت تأتمر بقرارات من تل أبيب). ولم ينتم إلى عصابة شاكر البرجاوي أو إلى الدكاكين التي زرعها ياسر عرفات في كل الأحياء والأنحاء والقرى. لم يتخصّص في السرقة والتشبيح التي برع بها غيره. لكن الرجل الخطير الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أرشيف)الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أرشيف)كان مع الحسم العسكري. كان يرى أن فريقاً من اللبنانيّين استسهل التحالف لعقود مع إسرائيل وأنه يجب عقاب هؤلاء للتاريخ. كان يريد أن يكسر شوكة هؤلاء حتى لا يستسهل أحدٌ إطلاقاً التحالف مع أعداء «الأمة». وقف بوجه مشروع الرجل الخطير للحسم العسكري عاملان: النظام السوري كان يعارض الحسم العسكري في لبنان، وقد قتل (على الأرجح) كمال جنبلاط عندما توصّل الأخير (متأخراً بعض الشيء) إلى استنتاج ضرورة الحسم العسكري مع الانعزاليّين. أما العامل الثاني فتمثّل في قيادة ياسر عرفات الذي كان هو أيضاً (لأسباب مختلفة تتعلّق بالنفوذ الذي أراد المحافظة والمقايضة عليه) معارضاً للحسم العسكري. الرجل الخطير كان يريد الحسم، وباكراً. هؤلاء لن يرعووا ولن يكفّوا عن غيّهم، كان يقول. أصدّهم بصدري أو بعنقي، كان يناشد مَن يسمع.
لكن هناك من يقول إن الرجل الخطير لم يصبح خطيراً إلا في 1977. لقد قرّر أن السلام مع إسرائيل لن يسري على لبنان. بينما كان الجميع حوله متسمّرين حول شاشة التلفزيون ليروا السادات وهو يهبط سلّم الطائرة بابتسامة صفراء، خرج الرجل الخطير من وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل (أرشيف)وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل (أرشيف)المنزل. لم يقو الرجل الخطير على متابعة الحدث تلفزيونياً. قرّر أن هذا لن يسري في موطنه. لن يصبح التعامل والتعاون مع العدو حدثاً عاديّاً كما هو في مصر والأردن وفي رام الله. الرجل الخطير لم يقبل يوماً الحديث عن دولة فلسطينيّة مسخ: بالنسبة له كل كلام لا ينطلق من رفض الكيان الصهيوني في المطلق وتحرير كل فلسطين هو لغو في لغو. قرّر الرجل الخطير ألا ينطلق سادات آخر من لبنان، رغم وفرة الطامعين بالدور. الرجل الخطير مشى دون أن يتوقّف يوم وطئ السادات أرض المطار في إسرائيل. مشى من تطوان إلى جدة في ساعة أو ساعتيْن. هناك من يبالغ ويزعم أنه مشى المسافة في دقيقة أو دقيقتيْن، لكن الرجل الخطير دقيق. يومها، شعر الرجل الخطير بأنه يسبح في الهواء.
في الأيام العاديّة، كان يذرع الأرض بخطواته الثابتة. كان مثل راسكولنيكوف في رواية «الجريمة والعقاب»: يعدّ خطواته واحدة واحدة ويقيم تعداداً لأنفاسه. كان وقع أنفاسه مسموعاً أحياناً، ولكن ليس في كل وقت. كانت الشمس تسطع على شعره فتحيله برّاقاً ولم تكن الريح تلويه، ولا الأعاصير. كان يبدو ـــــ لمن لا يعرفه عن كثب ـــــ مضطرباً جداً. لم يصدّق ما فعلوا به. أقاموا الدنيا فوق رأسه ولم يقعدوها. كان يظن أنه هادئ الطباع مسالم، لكنهم استفزّوه. أرادوا أن يطبعوا موطنه بوصمة الإسرائيلي. دعوا جيوش العدو الإسرائيلي إلى لبنان وأرادوا أن يقيموا مستوطنات إسرائيليّة وكتائبيّة وقواتيّة وشمعونيّة في وطنه هو. لم يرد أن يتحمّل فوق طاقته. كان يمشي ذهاباً وإياباً ويحسب الحساب ويعدّ الأيام والليالي. قرّر أن لياليه لن تطول مثل ليالي شهرزاد. لم يفهموه ولم يصدّقوه. ظنّوا أنهم يستطيعون أن يعيدوا رسم الخريطة وتقاسيم الوجه وأن يضعوا عينين ملونتيْن محلّ عينيْه. لم يكن أزرق العينيْن. كان يرفض الحاضر ويرفض أن يرى العلم الإسرائيلي. الرجل الخطير كان يقول إن العلم الإسرائيلي هو للحرق. وعندما يكلّمه أحدهم عن «الحضاريّة» في النضال كان يرحل بعيداً. كان البعض يسأله عن هذا الليبرالي الوهابي أو ذاك، وكان لم يسمع بواحد منهم.
الرجل الخطير لم يقتنع يوماً بأن العدو هو إسرائيل وحدها. وماذا عن أعوان إسرائيل بين ظهرانينا؟ كان دوماً يردّد. وهل أعوان إسرائيل بيننا أصدقاء؟ كانت المسألة مزعجة له. ثم، كيف يمكن العدو أن يجتاح وأن يسود وأن ينتشر من دون أعوان الداخل؟ وسألهم أكثر من مرّة: هل كانت النازية استقرّت تلك الحقبة في فرنسا لولا أعوانها من الفرنسيين؟ وهل تعاملت المقاومة الفرنسيّة التي أمعنت تقتيلاً ومن دون هوادة بالمتعاملين تعتبر هؤلاء أصدقاء؟ وكان يشير إلى حواجز مشتركة أٌقيمت في لبنان بعد اجتياح 1982 بين إسرائيليّين ولبنانيّين. مَن هؤلاء؟ أصدقاء؟ أبناء في الوطن؟ «فشر». (والكلمة الأخيرة له).
كانت أنفاسه تضيق وكان يحصي جنود العدو عندما يراهم يتجولّون في أرضه. تلك اللحظات، كان الرجل الخطير يدخل ما يسمّونه في صنع الأفلام «الحركة البطيئة». كانت السيّارات تبدو كالسلاحف والطائرات مثل مسير الزواحف. مَن هؤلاء الواقفون على أرض الرجل الخطير؟ الذين سرقوا أرض فلسطين وزيتونه وروّعوا أهلها بالمجازر؟ كان يمشي ويعدّ مجازر إسرائيل الواحدة بعد الأخرى. والرجل الخطير لم يكن مثل جبران باسيل أو مي شدياق يردّد ترهات عن بيع شعب فلسطين لأرضه: كان يعلم عن بيع لبنانيّين (من آل تيان وتويني وسرسق وسلام) أراضيَ في فلسطين. لم يصدّق ما رأته عيناه عندما شاهد جنود العدو في شوارع حفظ تضاريسها عن ظهر قلب. رجل قرّر العمل على تحرير فلسطين بات يرزح تحت احتلال إسرائيل للبنان؟ تضاعفت مهماته منذ تلك اللحظة اللعينة. لو كان له أن يصرخ، لصرخ، لكن الصراخ لم يكن من طباعه. كان يكتفي بالتفكير العميق والتأمّل والتبصّر في القرار. ثم كان ينصرف للتخطيط. وعندما كان ذلك النازي اللبناني الصغير يهدّد الأبناء والبنات في بلده بـ«القرار»، مشيراً لاحتلال إسرائيلي قادم للبنان، كان يقول له من دون أن يراه أو يسمعه: لكن القرار ليس لك أنتَ يا فتى. القرار لن يكون لك.
وعندما كان يسمع النازي الصغير ينفي تهمة التعامل مع إسرائيل كان يشمئز. وعندما طالبه وفد الجامعة العربيّة برئاسة سعود الفيصل (داعي الفتنة) بقطع العلاقة مع إسرائيل، قال إن لا علاقة له بإسرائيل وإنه وطني لبناني. لم يكن الرجل الخطير ينصت للنازي الصغير وهو يلقي خطبه. كان يحدّق إليه بهدوء وبغضب دفين، من دون أن يسمع كلامه. كان يقول إن كلامهم وارد في صحف عبريّة، وأنه يكفي أن تقرأها لتعرف ما يدور في خلدهم المأجور. كان يقول إن النازي الصغير في لبنان يتقيّأ كلاماً عن لبنان، كلاماً يأتيه مع دستة أوامر عبر الحدود. وعندما كان النازي الصغير يتقيّأ كلامه عن الوطنيّة وعن مساحة لبنان، كان الرجل الخطير لا يقول شيئاً على الإطلاق. علم في ما بعد أن النازي الصغير استُدعي إلى الرياض من أجل مباركته سعودياً والترويج له عربيّاً. وقد مدَّه «وكيل» الأمير سلطان في لبنان، صائب سلام، بالشرعيّة الإسلاميّة الطائفيّة من أجل تسهيل تسويقه في كل لبنان. أما آخر خاتم زعماء الإقطاع الشيعي المتخلّف في لبنان، فأفتى بشرعيّة «الانتخاب» في وجود الاحتلال الإسرائيلي بعد أيام فقط من فتوى له بعدم جواز الانتخابات الرئاسيّة في ظلّ الاحتلال. يريدونني ألا أعادي هؤلاء، كان يقول في قرارة نفسه.
الرجل الخطير عاصرهم كلّهم وشهد خداعهم ورياءهم وتقلّباتهم. الرجل الخطير كاد أن ينفجر للمرّة الأولى في حياته عندما رأى صفوفاً من السياسيّين يطلبون بركة النازي الصغير. يذكر الرجل الخطير أن محمد صفي الدين وسليمان العلي وغيرهما من بقايا إقطاع مُحشرج كانوا يتسابقون للقاء النازي اللبناني الصغير. شارل رزق لم يزره إلا في صندوق سيّارة لكنه اختلق صداقة معه في ما بعد لعلّ ذلك يقرّبه من الرئاسة. والمسافة بين شارل رزق والرئاسة هي مثل المسافة بين محمد دحلان والفضيلة. فؤاد بطرس (حامي الطائفيّة كما يبرز في مذكرات سليم الحص وكريم بقرادوني) تبنّى ترشيح النازي الصغير فقط عندما تعرّض لمحاولات اغتيال على يده. لكن الرجل الخطير لم يستسغ فؤاد بطرس يوماً: إنه يذكّره وهو جالس بذل، كيف جلس مع عبد الخليم خدّام لتوقيع الاتفاق الثلاثي. فؤاد بطرس وافق على الاتفاق الثلاثي وهو مثله مثل الآخرين يختلق البطولات في مواجهة النفوذ السوري. فؤاد بطرس الذي أصيب بالصمت عندما اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1982. الرجل الخطير لم يفهم يوماً الصعوبة عند البعض في قول الحقيقة وفي التعبير الصادق عن المشاعر والآراء. لا يقرّر الناس العيش أحراراً مثل الرجل الخطير.
الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 يؤرق الرجل الخطير، قبل حدوثه وبعده وأثناءه. لا يزال يذكر أعوان العدوان واحداً واحداً وواحدة واحدة ـــــ حتى لا ينسى من أعد الأطباق لشارون. يعلم هو أن أعوان العدوان أتوا من كل الطوائف والحركات والمناطق. من غير الرجل الخطير يذكر دور لبيب أبو ظهر مثلاً؟
قرأ الرجل الخطير أخيراً أن نائبة في البرلمان اللبناني كانت تعدّ الأطعمة اللبنانيّة (والسوريّة من دون علمها) لأرييل شارون. عندما قرأ ذلك، شتم الرجل الخطير 128 نائباً لبنانيّاً. 128 شتيمة مقذعة أطلقها الرجل الخطير. شتم الرجل الخطير كلّ من لم يطالب بتوقيف تلك المرأة وسوقها حليقة الرأس (كما فعلت المقاومة الفرنسيّة بالمتعاملات مع الاحتلال النازي) إلى محكمة، حتى لو ميدانيّة. الرجل الخطير لا يسامح ـــــ ليس ناسكاً ولا يحمل عطايا ربّانيّة ليوزّعها بالقسطاس. في ما يتعلّق بالتعامل والتعاون مع إسرائيل، لا يؤمن الرجل الخطير بالغفران ـــــ لا بل هو ينبذ الغفران. يسمع الرجل الخطير كلاماً عن الحياد من رئيس مُعيَّن من قبل احتلال إسرائيل. يذكر الرجل أن هذا الرئيس وعد إسرائيل في قصر بكفيا في لقاء مع قادة العدو بإعطاء العدو أكثر ما أعطاه أخوه من قبله. لم يتعلّم الدرس بعد، يتمتم الرجل الخطير. لم يرعوِ. ويعلم هو أن العائلة التي أفسدت لبنان سياسياً واقتصادياً وثقافيّاً منذ الثمانينيات هي التي أنعشت هذا الرئيس الأسبق في السنوات الأخيرة.
لا تستفزّوا الرجل الخطير فهو يهدر عندما يغضب. الرجل الخطير حرّركم وإن كنتم لا تدرون، وإن كان هو متواضعاً لا يطلب معونة أو وساماً أو تقديراً. لا يرى عظمة أو كبراً. لم يكن له أن يعيش في العصر الإسرائيلي. لا، لقد قرّر بحزم أنه لن يعيش في العصر الإسرائيلي. وكان للرجل الخطير ما أراد. ولكن لو مررت بقبر الرجل الخطير فلن تستطيع أن ترمي وردة أو أن ترفع قبّعة أو تلقي سلاماً أو احتراماً. لن تجد قبراً للرجل الخطير لأنه حيّ. هو حيّ رغم أنف أعدائه ـــــ أصدقاء إسرائيل في لبنان. وهناك من يقول إنه رأى الرجل الخطير يمشي الهوينا على الكورنيش ولكن لا دليل قاطعاً على أن الرجل الخطير قد عاد. إنه يسرح.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)


عدد السبت ٢٥ نيسان ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/131748

الحـــــبّ الكامـــــل

logo
المصدر: جريدة الأخبار (http://www.al-akhbar.com)

الحـــــبّ الكامـــــل

أنسي الحاج
ما هي الشفقة؟ هي تجاوز التعاطف نحو الخشوع أمام المُشْفَق عليه وقد حوّله الظلم إلى معبود.
ليست الشفقة عطف المتفرّج على المتألّم، بل هي حبّ المُشاهِد للمُشاهَد ورفضه ما أُنزل به. يقول فلاسفة هاجموا الشفقة إنها تضيف إلى عذابات العالم عذابات، فهي شقاء يُساق إلى شقاء وعجز إلى عجز. وكان الرواقيون يصفون الحكيم بأنه إنسانٌ بلا شفقة. ومعروفة آراء سبينوزا ونيتشه، على اختلافهما.
يجب أن لا نخلط الشفقة بالمحبّة، ولا المحبة والشفقة بالحنان، ولا المحبة والحنان بالرقّة، مع أنها تختلط في مواضع كثيرة. لكن لنحاول التمييز.
تمتاز الشفقة عن غيرها من مواقف «الضعف» بكونها مزيجاً من القوّة والضعف، من التمرّد على «قَدَرٍ» ومن معانقة وجدانيّة للنازلة به ضربات القدر. الشفقة انفتاح روحيّ غامر وتماهٍ كلّي مع الآخر ينزع فيه صاحبه عن نفسه وَهْمَ كونه، هو، محصّناً ضد ما أصاب هذا الآخر. إن في مَن يُشفق إلى هذا الحدّ الجذري، والذي وصفه دوستيوفسكي في «الأبله» قائلاً إن الشفقة هي «أكثر ما يُهم، وربّما كانت الشريعة الوحيدة للوجود البشري»، إنَّ في مَن يشفق إلى هذا الحدّ شيئاً من التكفير بالنيابة عن ظلم غَدَر بالإنسان.
قد لا أفرح لفرحِ راشدٍ ولكنّي لا أستطيع أن أظلَّ غير مبالٍ أَمامَ وجعِ طفل، ومَن يتأثّر للطفل ويشعر بالرغبة في إنقاذه أو حمايته لا بدَّ أن تتدرّج به الشفقة إلى الانعطاف لا على الراشدين فحسب، بل على جميع الكائنات. أصفى ما في الإنسان الرقّة وأرفع ما في الرقّة عناقُها للآخر أكثر ممّا قد يعانق نفسه. الرقّة نافذة يدخل منها نسيم البهاء والخَلْق، نسيمُ الشعرِ والموسيقى، نسيمُ العطاء والفداء.
البخيل لا يُشفق، الشفقة إنفاق وقد يصبح تبذيراً. البخيل غير معنيّ، البخيل صَلْب جامد، البخيل لا يَسْمع وإن سمع يغيّر الموضوع، البخيل يحبّ راحته، يدافع عن رفاهيته، يضنّ بعواطفه، يحمي صحّته حين يبقي أبواب قلبه موصدة. البخيل ليس شرّيراً بل هو «ليس هنا». لم يسمع قرع الباب لأنه «في الداخل» ولكنه ليس في البيت. البخيل هو دائماً في مكانٍ آخر. الشفقة تغرز ألم المتألّم في قلبها كما يتبنّى ملاكُ الرحمةِ أوجاعَ محروسه ويَضْمن له أنه سيخلّصه منها. ما عرفتُ الحبّ كاملاً إلاّ لمّا صدر عن الثلاثة معاً: الإعجاب والرغبة والشفقة.
■ ■ ■
هل لأنها فضيلة؟ بل لأنها شعور وعاطفة. لأنها شفافية وأكثر العواطف جَرْفاً بعد الشبق والغضب وأحياناً قبلهما. ولا شكّ في صدورها عن حبّ الذات، عن خوفٍ من أن يحلّ بالنفس ما يصيب الآخر. كان روسو يعتبرها أُمّ الفضائل وكان أغوسطينوس يقول «أَحْبِب وافعل ما تشاء». أشفق، واخفض جناحك، وتبارك من لحظة ضيق غيرك التي أتاحت لحبّك أن يتحرّك، وامضِ مع شراعِ الشفقة، وانزل دائماً درجتين أو أكثر من نزول مشفوقك. خلِّ هذه الشفقة مشفوعة برجاءٍ منك أن تُقْبَل، فَرَحٌ لكَ أن تُقْبَل، وأن تَنْفع، وأن تخرج منها أنت ومشفوقك أقوى ممّا كنتما.
تمزج الشفقة مصيرين لتصنع منهما أبلغ جوابٍ على الآلهة.
■ ■ ■
هل الشفقة فخّ، كما يفصّل ستيفان زفايغ في روايته الشهيرة «الشفقة الخطرة»؟ على غرار كلّ شعورٍ قويّ. فهي تلْزم صاحبها مواقف خانقة، له وللمُشْفَق عليه، وقد يُخيَّلُ للناظرِ أنّ المشفَق عليه يستغلّ المُشْفِق و«يديره» على غفلة منه. إذا نسجنا على ذلك توصّلنا إلى أن كل ضعيف يستغلّ القوي، حتى الاستنتاج أن الضحيّة تستعمل الجلاّد (وقد قيل هذا عن اليهود والنازية وقبلاً عن المسيح ويهوذا، كما يقال عن «ابتزاز» الأولاد لأهلهم...) ويمكن الاسترسال مع الاستنتاج التدرّجي حتى القول إن القتيل جعل القاتل يقتله تنفيذاً لخطّةٍ ما.
منطق كهذا إنما يصدر عن كراهية للضحيّة واشتباه منهجي بكلّ عاطفةٍ أو بكل شاردة وواردة. وهو منطق قائمٌ على الإيمان برداءةِ الإنسان من أساسه. ليس لنا أن نضيف إلى هذا النوع من المواقف، اللّهمّ إلاّ أن هناك، بعيداً عن الأحكام الأخلاقية القصوى، ما يَعْبرها ويذهب في اتجاهات تعصى على التصنيف المسبق: مثل ذلك الأهواء والعواطف الكبرى، كالعشق والوجد والبغض والحقد والغيرة والحسد والأنانية والغَيريّة والبخل والسخاء والجريمة والشفقة.
يقع المُشْفِق تحت رحمة هدف شفقته. مفارقة، لكنّها ليست مقتصرة على العلاقات البشرية. الحيوان المحبوب قد يبتزّ محبّيه باستدرار عطفهم. المزهريّة، بشكل من الأشكال الغامضة، تنادي صاحبها للاهتمام بها. كلّ حيّ يحتاج إلى رعاية، وما دام الراعي قادراً على العطاء فهو جديرٌ بالإعجاب، وإذا كان المتنعّم بشفقة الشفيق يتحايل أو يكذب ويستغلّ، فحدوده شفّافة مهما تكن براعته، وأقلّ ما يمكن أن يُعاقَب به هو انتباه راعيه إلى حِيَله وإجفاله منه، فيتعطّل سياق العطاء والأخذ. أما إذا كان الراعي من السذاجة بحيث «لا يَرى»، فذلك شأنه، وما من متضرّر إن تعذّر على المخدوع إدراك الضرر.
■ ■ ■
في خلفيّات الشفقة، فضلاً عن خوف ملاقاة المصير نفسه للمشفق عليه، شعورٌ بالذنب. على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي. البعض خبير في نَعْر هذه العقدة. هنا الاستغلال قد لا يعرف نهاية... إلاّ بثورة على الذات وتبنٍّ للذنب على أساس أن لا ذَنْب. على الصعيد الجماعي: إلى متى يستمر ابتزاز الألمان بسبب نازيّتهم؟ وإلى متى يتحمّل الغرب ابتزازه بسبب لاساميته في الحرب العالمية الثانية؟ خطر الإشعار بالذنب ليس التمادي في الأخذ من المتهم بل التمادي في تجريمه رغم تدفيعه الأثمان. التاريخ اليهودي حافلٌ بالشواهد على تجاوز الشعب اليهودي للحدود في اختبار صبر الشعوب الأخرى.
■ ■ ■
هنا، في المَثَل اليهودي، تكتمل صورة الجلاّد والضحيّة: ضحيّة يَشْغلها هاجس التحرّش بالجلاّد حتّى تتمّ التضحية، وبعد المراسم تنبري الضحيّة للتحكّم في الجلاّد تارةً عن طريق التاريخ وكتابته وطوراً عن طريق الإعلام والرواية والسينما، مروراً بالإمبرياليّة الماليّة. سادو ـــــ مازو. عذّبني لأثبت صلاحي. اقتلني لأحيا. اصلبْني لأعود إلى إلهي الذي هو الإله الأوحد، إله النخبة، إله الجبروت والانسحاق، والكره والنشيد، والعجرفة والمحرقة، والتوسّع والانغلاق، والدم في وجهيه. عذّبني لأنّي الحرّ، وسأعذّبك بدوري لأني الحرّ.
وصحيحٌ أن إحدى العِبَر الكبرى لتاريخ الشعب اليهودي هي تمسّكه بالحريّة، وقد نقل عدواها أحياناً إلى شعوب لم تسمع بها، وكانت لتكون عبرة مثاليّة كاملة لو لم يقترن التشبّث بالحريّة ـــــ حريّة المحافظة على المعتقدات والتقاليد والعادات وعدم الذوبان في المحيط ـــــ لو لم يقترن هذا التشبّث بدوّامة انفلاشيّة من الديناميكيّة العنصريّة المتعصّبة المتعالية والتي لا تتوانى عن استعمال كلّ الأساليب للسيطرة والتفوّق وتسويق الذات، حتّى ما لم يكن يستحق مجرّد تنويه.
ونتوقّف لنتساءل: لو عرف اليهود حدودهم ولم يتعدّوها إلى استنفاد صبر الشعوب الأخرى، هل كانت تصحّ مأساتهم؟ وهل كانت شهادة الحريّة لتكون شفاعتهم؟ إنه السؤال المأسوي. فضلاً عن أن الآخرين، كما يقول سارتر، هم أحياناً الذين يصنعون اليهودي وليس دائماً اليهودي نفسه. والأشدّ مأسويّة أنّك لا تستطيع أن تُمسك عن تقليب الموضوع رغم أنّه لن يفضي بك إلى نتيجة حاسمة إلاّ في حالتي الاستسلام أو الرفض، وكلتاهما مَصْيدة ينصبها الخطأ.
تاريخٌ من التيهِ والتَجمُّع، من الألم والتحمُّل، من الحذر والتصميم. لا يمكن تصوّر الحضارة دون اليهود ولا يمكن قبولها كما تُصوّرها العدسة اليهوديّة. هناك على الدوام هتلر ما يلوح شبحه في هذا الأفق. يجب أن تنتهي البشريّة من عصر الهدنة لتدخل عصر السلام. على هذه الدرب مطلوب من اليهود الغفران كما يطلبون هم من الآخرين الاعتذار. مطلوب منهم أن لا يتحنّطوا إلى الأبد في دور الأقليّة المسيطرة. مطلوب منهم أن لا يتحولوا بدورهم إلى محكمة تفتيش دائمة عن الخصوم والأعداء والذين «قد يشكلون أخطاراً». مطلوب منهم، كذلك وأولاً، أن يتوقّفوا عن إعطاء «الآخرين» ذرائعَ للانقلاب عليهم، وأن يتجاسروا على كسر سلسلة دوّامة الضحيّة الجلاّد والجلاّد الضحيّة.
■ ■ ■
يُخشى من الكبرياء لدى المشفق. يقول إيفان تورغينييف إن الشفقة المجرّدة من الكبرياء هي امتياز المرأة وحدها.
امتيازُ الأُمّ التي في كلّ امرأة.
... وحتّى لو خالطَ شفقة المرأةِ تَفاخُر، تظلّ نقيّة عذبة.
لأنّها يدٌ تنتشل قلباً من الأسى، ووجهٌ يخترقُ الجحيم بالحبّ.



هدباء

غابت في لندن الصديقة الغالية هدباء قبّاني. كانت القلمَ الذي كتبَ بهِ نزار ورفيقة همومه وأعماله مذ غادر لبنان. كان أبوها ثالث أولادها، ونحن أصحابهما كنّا الناعمين بصداقة الشاعر والمتنعّمين بحفاوة هدباء وحنانها. ومَن ذاق دفءَ تلك الإحاطة هو اليوم يتيم.
حوّلتْ هدباء كلّ محيطٍ بها إلى الأبيض. أبيض حليبي مثل رائحة الأطفال. حتّى الشارع الذي أقامت فيه بلندن صار، من طيبتها، مثل القطن. لم أزُر مرّة لندن إلاّ رأيتُ الشمسَ ساطعة من وجه هدباء.
وذَهَبتْ كما يذهب العصافير، على صبا دائم. وحيثما كانت الآن فهي ملاكُ خير. وغيابها، المؤلم الصادم، أشبه بغيابٍ عابث. وردةٌ لن تسقط في البئر. ضحكةٌ سيظلّ صداها يمحو الفراغ.
شيءٌ منّا يموت بانطفاء الأحبّاء وشيءٌ يحيا. شيءٌ منّا يبكي ذاته وشيءٌ يقول: لو لم يكن في الرحيل رجاء لما تَرَكَنا الأحبّاء.


عدد السبت ٢٥ نيسان ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/131582

السبت، ١٨ نيسان ٢٠٠٩

الموضـــــوع واحـــــد


الموضـــــوع واحـــــد

أنسي الحاج
نروح ونجيء والموضوع واحد.

■ ■ ■

ينبع الإصرار على تحميل الإنسان وزْر الشرّ لا من التشاؤم أو المعرفة بل من رغبة في اضطهاد الإنسان. وزْر الشرّ، هنا بالتحديد يقع. كما يقع في التهرّب من مسؤولية التضامن، من واجب التسامح. الشرّ المُسلّي أسهل من الخير المائع والمملّ. من الخير الذي تنوء به النفوس المريضة. الإلحاح على اتهام الإنسان هو أوسع الأديان انتشاراً وأقدمها تاريخيّاً.
وأكثر مَن يتّهم الإنسان بالشرّ المخلوق والمطبوع هو الشرّير نفسه، الشرّير بالعجز والشرّير بالقدرة والشرّير بالفعل. ما من قاتل إلّا يدافع عن قاتل. والبريء يرى البريء في جميع الوجوه. أيّهما المستسلم وأيّهما المقاوم؟ أليس المقاوم هو المُصِرّ على التبرئة؟ أليست صرخة شكسبير في «الملك لير»: «ما من أحد مذنب! ولا أحد! أقول: ولا أحد!» صوت البشريّة المُحبّة لا تَرافُع القَتَلَة؟
البراءة تُخيف. عدا كونها تفتح شهيّة الذئاب، نَعْرَتُها تَخِزُ السيّئ النيّة. لعلّ الذئب إن حكى يقول إنه يأكل النعجة لأن نصاعتها تثير غضبه. الإثم يريح العاجز عن الحبّ. لا سيما طبقات السلطة. السلطوي مبنيّ على افتقار الآخرين، المسيطَر عليهم، إلى الثقة بأنفسهم، يَحفر فيهم بشتّى الطرق لخلق الحاجة إليه، تارةً بالتخويف وطوراً بالإغراء، أي بفَتْفَتَة عقولهم وأرواحهم وأحياناً أجسادهم.
الإنسان مسكين، مخلوق ليقلق، يموت دون أن يشبع من الحياة، يخطئ ويكذب، يَستغلّ ويُذِلّ، لكنه لا يستحقّ أن يقال له «تستاهل!». ولا أن يُعامَل كمائت. طبعاً هو مائت، ولكنه لا يستحقّ أن يعامَل كمائت. أو ليُعامل كمائت بمعنى استحقاقه الحبّ أكثر لأنّه مائت. مثل صديق لي يرفض تعنيف أحد أو إغضابه أو إتعاسه، مخافةَ أن يصيبَ المعنَّفَ مكروهٌ أو يموت. لا يريد تَحمُّلَ تبعاتِ تَسبّبه بالإتعاس، مفضّلاً سطوح المواقف والكلام على الأغوار والحراب. العبور كالفراشة لا كالدبّابة.
ولكنْ هل نختار مواقفنا؟ سؤال هتكته الأجوبة حتّى بات خَجِلاً بالتعبير عن نفسه. نُسبَ إلى كارل ماركس قول مفاده «نحن نفكّر تبعاً لما نأكل». أو ما هو أشبه. ولم يكن، لا هو ولا زوجته ولا أولاده، يأكلون شَبَعهم. هل يفكّر ويتصرّف تبعاً للنقص الغذائي؟ كثيراً ما أفضى إلى صديقه إنغلز بعذاباته جرّاء الحرمان، فضلاً عن المآسي والأمراض والتنكيلات البوليسية التي عاناها طول حياته وبالأخصّ في أواخرها، وقضى، وقضت زوجته ومعظم أولاده وأحد أصهاره، تحت وطأتها، في مراحل أفظع من الجحيم. «أكبر زارع أحقاد» قيل عنه. وعن شيوعيّته: «الشيوعية أفيون المثقّف»، وما إلى ذلك من تشنيع وتهكّم. هل يُلام شخصٌ لم يَذُق طعم الراحة ولا استقرّت له فرحة إنْ هو نَقَم؟ وهل يعطي خدّه الأيسر أم يحفر في الأساس؟ شرّير؟
التنظير لمجتمع العدل والعمل في اتجاهه مروراً بالتحريض والهدم وهندسة الانهيار المرغوب، شرٌ يغالب شرّاً أسوأ منه، إذا سلّمنا مع معارضي ماركس بأن دعوته شرّيرة، وما هي كذلك. قرأتُ قبل أيام للأستاذ بشير العمري مقالاً نشرته له جريدة «النهار» يسترجع فيه حواراً مقتضباً جرى له مع الدكتور طه حسين يوم جاء بيروت في الخمسينات وعقد في قصر الأونيسكو مناظرة مع رئيف خوري نظّمها سهيل إدريس في موضوع الأدب والالتزام. التقاه العمري الشاب في أحد أروقة المقرّ قبيل دخول المحاضِر إلى القاعة الكبرى ودار بينهما الحوار الآتي:
ـــــ العمري: «قرأتُ رائعتكم «دعاء الكروان» أكثر من مرتين، وكنت بعد كل قراءة أقول لذاتي: حبّذا لو كان أديبنا الكبير عمد إلى بعض التعديل في أحداث رائعته، كي يتسنّى له القول «إن الشرّ لا يُنال إلاّ بالخير». (وما كتبه طه حسين في روايته هو «إن الشرّ لا يُنال إلّا بالشرّ»).
ويمضي العمري قائلاً: «فابتسم الدكتور، ثم سألني بالعربية الفصحى وبصيغة الغائب: كم من السنين طواها محدّثي الفاضل؟ ثم تلمّس نظّارته السوداء، كأنما يستميح العذر لنفسه عن سؤاله المبرَّر. فأجبته بالفصحى وبالصيغة عينها: لقد طوى ثلاثةً وعشرين عاماً منذ شهور قليلة. فقهقه عميد الأدب بالتقسيط المريح، ثم قال بالعاميّة المصريّة المحبّبة: «يا خبر ابيض... يَبْني لسّه بدري عليك». وتابع بالفصحى: «أنت في شرخ الشباب... غداً تغزوك الخبرة وتقتحمك التجربة».
ثم يربط الكاتب ذكرياته بالواقع السياسي الراهن في لبنان متسائلاً: هل العيش المشترك يعني أن يسكت اللبناني حتى يعيش، وأن يعيش لكي يسكت؟ وخاتماً مقاله بالقول المرّ: «ارقْد في سلامٍ أيّها الأديب العربي العملاق... فلك الحقّ كلّه في أن الشرّ لا يُنال إلّا بالشرّ. وعلينا الباطل كلّه في أن الشرّ لا يُنال إلّا بالخير!».
إضافة إلى تسليط الضوء على هذا الملمح الخطير في تفكير صاحب «الأيّام» وفي شخصيّته التي كانت على موعد دائم مع البحث والتساؤل والشكّ ونسف الرواسم وذرّ الاضطراب في صميم الركود، يأتينا صوتٌ نَضِر من وراء العقود ليرمي فتنةً زاهرة غضّة في بحيرة مثاليّاتنا الطوباوية. لا يُنال (أو لعلّها لا يُغْلَب) الشرّ إلّا بالشرّ. صدىً آخر من أصداء نيتشه وإنْ غير مقصود، وقَبْلَه لبعض دوستيوفسكي المتألّم الغاضب، وقَبْلَهما بودلير، وقبل الجميع الماركي دو ساد أبوهم جميعاً ولو تَلَفْلَفوا...
على أنّه «موقف» لا فعل. فكرٌ لا قذيفة. وأدب، لا جيش زاحف نحو تحطيم الهدف. لم يحاضر في الشرّ غير الطوباويين، وعند الحشرة تظهر إنسانيّتهم أسخى وأصدق من كَهَنة الأخلاق وحرّاس الهيكل.
والعكس صحيح، كثيرون ممَّن كرزوا بالمحبّة والشفقة والغفران والرحمة والحقّ والعدل والتسامح والحريّة، كانوا، وهُم، وسوف يظلّون، أقسى القلوب وأظلَم النفوسِ وأخبث العقول وأشدّ الكائناتِ ممارسةً للاستغلال والقمع والاستعباد واضطهاد الأَضْعَف.

■ ■ ■

نروح ونجيء والموضوع واحد.
لأنه في السرّاء يأتي ويأتي في الضرّاء. على وجهٍ نبيل وعلى وجه حقير. في المقاومة وفي الاستسلام. في انعدام الإيمان بالله وفي حضوره.

■ ■ ■

لعلّ الصورة الأشدّ قباحة بين الصور التي يعرضها العالم على أنظار بنيه هي صورة الكمّاشة الهائلة التي يقبض بها أباطرة امتصاص الدماء، وهم بضع مئات حول الأرض، على مصائر مليارات البشر. إن إتلاف المحاصيل الفائضة (الفائضة عمّن؟) من القمح وإغراقها في البحر حرماناً للعالم الثالث منها حتى لا تهبط أسعار السلعة، من الفضائح الاجتماعية الاقتصادية الإنسانية الكبرى التي سجّلها العصر الحديث. لكن حجب الأدوية عن ملايين سود أفريقيا وفقراء آسيا المصابين بفيروس الإيدز لأنهم لا يملكون دفع ثمنها، هو الأقلّ احتمالاً. ليس أن جريمتين كهاتين لا مبرر لهما إلّا في انعدام الخير لدى أولئك الأباطرة، بل إن وجودهم ممسكين بالأقدار متحكّمين في المجتمعات والدول والأفراد هو وجود غير مبرَّر، وعدم مكافحته غير مبرّر. إن هؤلاء أنفسهم هم من طينة مرسلي القنبلة إلى هيروشيما وناغازاكي ومرسلي الجنود بالملايين ليموتوا كالحشرات في الحربين الأولى والثانية. لقد استفحل شرّ الأباطرة وتجاوز قضية الإنسان الاجتماعية ـــــ الاقتصادية إلى قضيته الإنسانية من أساسها، بعدما بات الإنسان أسير دوّامة الاستهلاك العبثي الأخرق التي ألقته فيها الرأسمالية المستميتة في تصعيد الإنتاج حتى الانفجار. لم تعد الأزمة أزمة سياسيّة واقتصاديّة بل بلغت حجم المأساة الوجودية العامة.

■ ■ ■

ومع هذا يقاوم فينا، مهما حفّزَنا الظلم على الكفر، يقاوم فينا شرْشٌ مغمور يُمثّل إلهاً ما، يمنحنا طاقة الاستمرار ويجهّز بطّارياتنا من جديد. سُمّيتْ غريزةُ البقاء، ولعلّها كذلك، ولكنْ ليس فقط. إلّا إذا عنينا بغريزة البقاء قوّةً تتجاوز ميكانيكيّة التمسّك بالحياة نحو ما يفوقها عمقاً وتسامياً، نحو أجوبةٍ لم نكن نسمعها من قبل تأتينا من أغوارٍ لم نكن ننتبه إلى وجودها، إلى وجودها فينا وخارجنا، أغوار أقرب إلى الشفاه من كلامِ كلّ يوم، أحرّ من الدعاء ومن التجاوب مع الدعاء.
هل تكون تلك الأغوار هي غرفة اللّه؟

■ ■ ■

الما وراء هو الغريزة وما وراءها. ما يحيطها وما تُبطنه. السماء هي بين الجوانح. الأعماق ترقد تحت سطوحٍ غير مُنْتَبَهٍ لها.
■ ■ ■

... ولكن حتى لو سلّمنا بهذا، ما ربْح الخير؟ أين هزيمة الشرّ؟
ما دامَ الفناء بالمرصاد، لا جواب.
إلّا إذا اعتنقنا يقيناً من يقينات: يقين النظريّة القائلة بأن الحياة هي محض ماديّة تنتهي بانطفاء الوقود، يقين الإيمان بحياةٍ ثانيةٍ بعد فناء الجسد، يقين الشكّ...
وفي معزل عن ثنائيةِ الخير والشرّ بل في معزل حتّى عن فكرة تخطّيهما أو مزجهما معاً في بوتقة واحدة.
القضيّة هي الوجود والعدم. حتّى نحلّ سؤال العدم لن نرتاح من الدُوار.
والمفجع أن الإنسان غالباً ما لا يشارف المَخارج إلّا في النهاية.

■ ■ ■

في الانتظار، أيّها الحيّ، لا تنشغل بمراكمة السنين بل زدْ لحظتك ضياعاً عن اللحظة. تيه في التيه، عن التيه. لَعِبٌ يلعبُ فوق لعبِ اللاعبينَ. لا بداية ولا نهاية، بل سباحةٌ بين الأمواج والرياح.

■ ■ ■

لم يعد هذا العصر يسمع موسيقى جميلة إلّا أحياناً في السينما. إمّا الضجيج وإمّا الفراغ. نسينا أن الأشياء إيقاعات. وتحت كلّ أشكال الموسيقى يندرج رمل الشاطئ بذهبه الرتيب ينتظر زيارات الموج.
موجةُ هدهدةٍ تداعب الرمل المسفوح على أَرَقِه. موجات غَزَل. موجات حنين إلى مجهول تنبثق من حيث لا يدري صاحبها كيف كانت ستظهر. لسنا نحن، هذه الرمال، مَن يصنع الموسيقى، هو ذلك المصدر الغامض، المحض مادي والمحض غير محسوس معاً، هو الذي يصنعها ويصنع روحنا معها، كما أن دموعنا الداخلية تصنع بحرنا الداخلي ـــــ بحر النفس، بحر الروح، بحر ذلك المصدر الغامض.
سلِ الموسيقى، الموسيقى التي تُسلّمها كيانك بلا تَحفُّظ، التي تتمنى لو كان لك أكثر من كيان لتسلّمها إيّاه، سَلْها ما وراءها، تعرفْ ما وراءك. وحدها، هذه الشِعْر الغاسل، المتبادَل بلا كلمات، هذه الشِعْر المخلوق مع المخلوق في المهد، وحدها تملك الجواب.


عدد السبت ١٨ نيسان ٢٠٠٩

الرئيس المُحنَّط أو تـــابع التابع


الرئيس المُحنَّط أو تـــابع التابع

الملك عبد الله والرئيس حسني مبارك (أرشيف)الملك عبد الله والرئيس حسني مبارك (أرشيف)تفاعلت الأزمة بين حزب الله والنظام في مصر، فكان أن كرّست لها محطة «العربيّة» فقرة خاصّة في برنامجها الإخباري ـــــ الدعائي اليومي قبل أيام. أتت برئيس تحرير «روز اليوسف» وبعقيد لبناني متقاعد، هشام جابر، ومن باب توخّي وجهة نظر محايدة، استدعت صالح القلاّب للتوفيق بين وجهات النظر ربّما

أسعد أبو خليل*

مجلّة «روز اليوسف»، مثل كل مجلات مصر الرسميّة وجرائدها (المحروسة)، فقدت بريقاً لم تذقه من عقود. يكفي أن تقارن بين جريدة «الأهرام» قبل الثورة وفي عهد عبد الناصر وبينها وبين الجريدة نفسها في عصر السادات ومبارك. من يقرأ «الأهرام» اليوم، إلا الباحث عن إعلانات الوفاة؟ ومجلّة «روز اليوسف» الحالية تمثّل نسقاً مألوفاً في بعض الإعلام العربي الرسمي (ومواقع الإنترنت مثل «إيلاف»): هو إعلام يرتدي زي الليبراليّة فيما هو يتحالف مع أنظمة التسلّط والطغيان العربي مقابل منافع جمّة، ويعتمد في جذب القرّاء على الإباحيّة السوقيّة وتسليع المرأة وإثارة شهوات المكبوتين. والمجلّة المذكورة تنطق باسم الحزب الحاكم مهما كان ومهما فعل ومهما قتل. والطريف أن الإعلام الساداتي والإعلام السعودي لا يتوقّفان عن مهاجمة عبد الناصر بسبب قمعه للإعلام، كأن الإعلام الحالي في مصر أو السعوديّة أو الأردن حرّ وطليق. ينسى هؤلاء أن الصحف والجرائد المصريّة في أيام عبد الناصر كانت تُقرأ: كانت «الأهرام» تحتضن كُتّاباً من طراز محفوظ والحكيم وإدريس ولويس عوض وغالي شكري وغيرهم من المواهب. من يستطيع أن يشير إلى مواهب في إعلام مبارك اليوم؟ يكفي أن تذكر أن أسامة سرايا يترأس تحرير «الأهرام». إن المقارنة بين محمد حسنين هيكل (مهما قيل فيه) وأسامة سرايا ليست في مصلحة مبارك أو السادات... أو سرايا نفسه. وكان مركز «الأهرام» يضم عدداً من المفكّرين والكتّاب، فيما يعجّ اليوم بجوقة جمال مبارك. ومن الطريف أن الإعلام المصري والسعودي يندّد بطائفيّة إيران وحزب الله، فيما هو ينفخ في نار الفتنة المذهبيّة والطائفيّة من دون توقّف أو استراحة. أي إن الإعلام المصري يستنكر الطائفيّة والمذهبيّة إلا إذا صدرت عن مؤسّساته الحكوميّة والإعلاميّة، مثلما هو يروّج لوطنيّة قطريّة ضيّقة في الوقت الذي يتذكّر فيه القوميّة العربيّة فقط لمواجهة المخطط الصفوي ـــــ القجاري.
بدأت الحلقة المذكورة بشتم عنيف من رئيس تحرير «روز اليوسف» التي تمدح أميركا وتردحها في الأسبوع الواحد بناءً على مصلحة حسني مبارك وبناءً على ما إذا كان صدر تصريح عن مسؤول أميركي عن وضع حقوق الإنسان في مصر. لكن المصلحة المصرية (على مستوى النظام) والإسرائيليّة والأميركيّة كانت متطابقة في السنوات الماضية عندما اكتشف النظام في مصر أنه أخطأ حين ظنّ أن الإدارة الأميركيّة ـــــ أي إدارة أميركيّة ـــــ تعير وضع حقوق الإنسان أي أهميّة في أي نظام عربي. ارتاح عندها النظام المصري وتنفّس الصعداء. والقلاّب، الذي كان يفترض أن يمثّل وجهة النظر المحايدة في المناقشة، كان غاضباً ومتوعّداً وثائراً وهائجاً وشاتماً. والحَبّوب ـــــ كما يقولون في الشام ـــــ كان يشغل منصب وزير الإعلام في النظام الأردني. والعمل في أنظمة القمع العربيّة مهنة بائسة بصورة عامّة، لكنها أكثر إساءة وحقارة في مجالَيْ الإعلام والاستخبارات (بالإذن من سمير عطا الله كاتب المدائح في الأمير مقرن ومن جهاد الخازن كاتب المدائح في الأمير نايف). ووظيفة الإعلام في النظام الهاشمي هي للدفاع عن الارتباط المالي والسياسي بإسرائيل والدفاع عن مجازر الجيش الأردني بحق الشعب الفلسطيني. عدنان أبو عودة تدرّب في بريطانيا على أصول الحرب النفسيّة (كما ذكر آفي شلايم في سيرته المُبجِّلة للحسين) قبل أن يتبوّأ مهمة الدفاع عن مجازر أيلول في الإعلام الأردني. والقلاّب ظهر خبيراً، لا بل فقيهاً في الفكر الشيعي، أفتى لمصلحة مفتي صور المطرود علي الأمين (وهو عزيز على قلب الأمير مقرن)، الذي يتطوّع في الإعلام المصري والسعودي لتبنّي سياسات الحكومتيْن ـــــ بالإضافة إلى سياسة حكومة ثالثة في المنطقة ـــــ بما فيها سياسات تحقير الشيعة والتعبئة المذهبيّة ضدهم. لكن التعويل على مفتي صور المطرود لكسب الرأي العام الشيعي يشبه التعويل الأميركي عام 2003 على أحمد الشلبي لقيادة العراق ولتوقيع معاهدة سلام بين العراق «الجديد» وإسرائيل. أما هشام جابر، فيذكّر بالضيف الليبرالي في محطة «فوكس» اليمينيّة. فمن المعروف أن محطة «فوكس» تأتي بمتحدّثين يمينيّين أشاوس وطليقين، ثم تأتي بضيف ليبرالي خجول وضعيف ومتأتئ. وهكذا تفعل المحطات السعوديّة والحريريّة عندما تأتي بهشام جابر للدفاع عن وجهة النظر المضادة. عبّر جابر عن احترامه لشتائم القلاّب والضيف من «روز اليوسف» قبل أن يعبّر عن احترامه لمفتي صور المطرود. وتمتم جابر بكلام عن خلاف له مع حزب الله في الوقت الذي افترض فيه المشاهد أنه دُعي إلى الحلقة لتمثيل وجهة النظر الأخرى. لكن هذه هي شروط التنوّع في إعلام آل سعود.
جمال مبارك (أرشيف)جمال مبارك (أرشيف)والحملة المصريّة على حزب الله تشتدّ وتتسع لتشمل إعلام الأمير سلمان بن عبد العزيز. والأخير يتحرّق للتتويج ملكاً على السعوديّة، كما أخبرني قبل أعوام سفير الولايات المتحدة السابق في السعودية، تشاز فريمان. وسلمان يسارع إلى التقرّب من الصهيونيّة لعلّ أميركا تدفع بوصوله إلى المُلك كما يلاحظ قارئ صحيفته اللندنيّة. حملة الإعلام المصري لا تواجه حملة مضادة من إعلام حزب الله الذي يظن أن صمته تذاكٍ حادّ. وخطاب حسن نصر الله الأخير كان واضحاً في شرح موقف الحزب من مختلف الأنظمة العربيّة. أوضح الحزب أنه لا يعادي أياً من الأنظمة العربيّة، وأنه لن يشن حملات على أيّ نظام عربي. ويعلم ضيوف محطة «المنار» في الأشهر الماضية أن المحطة تطلب من الضيوف الامتناع عن انتقاد السعودية. يجهل الحزب أن الأنظمة العربيّة هي التي تريد العداء والحرب مع حزب الله، حتى لو هادن هو وسالَم. المخطط مرسوم شاء حزب الله أو أبى، مثلما اختلق النظام الأردني في لحظة مواتية (لإسرائيل دائماً) الكشف عن مخطط تعدّه حماس لتفجيرات في الأردن. ومن قال إن الأنظمة البعثيّة هي الوحيدة التي تختلق الكشف عن مخططات جهنميّة في بلادها؟ لكن حزب الله لم يتوصّل بعد إلى ما توصّل إليه جورج حبش ووديع حدّاد بعد 1967: أن هدف تحرير فلسطين يتعارض ويتناقض فعلاً وقولاً مع مهادنة الأنظمة العربيّة (وحادت الجبهة الشعبيّة في ما بعد عن الرئيس فؤاد السنيورة (أرشيف ــ أ ف ب)الرئيس فؤاد السنيورة (أرشيف ــ أ ف ب)هذا الاستنتاج). لكن حزب الله معذور في تفضيله عدم فتح معركة مع الأنظمة، لأن سلاح الفتنة المذهبيّة، الذي تحوّل إلى سلاح ماضٍ رسمي بأيدي المعسكر السعودي، يضعف قوة حزب الله بسبب سهولة انتقاده نتيجة تركيبته الطائفيّة وأيديولوجيّته غير الجامِعة. يُلام الحزب لعدم اهتمامه ببناء جبهة مساندة للمقاومة على نسق الجبهة المساندة للثورة الفلسطينيّة التي أنشأها كمال جنبلاط، ويُلام أيضاً لعدم ارتياحه إلى التحالف مع الجناح العلماني ـــــ اليساري من المقاومة في لبنان وفي غير لبنان، وإن كان لا يُلام لعدم رغبته أو قدرته على انتهاج عقيدة مغايرة لعقيدته.
لكن نظام حسني مبارك لا يلوي على شيء. المسألة ـــــ كل المسألة ـــــ هي في التوريث الذي يعمل عليه الرئيس المحنّط بمثابرة ونشاط. وحسني مبارك هو رئيس الصدفة مثلما كان أنور السادات راعيه رئيس الصدفة. وإذا كان السادات هو تابعاً لعبد الناصر (واتفقت مراكز القوى على السادات لأنه التابع الأقل خطراً، إذ كان مثال الـ«موافق أفندي» في عصر عبدالناصر)، فإن مبارك نشأ تابعاً للسادات: أي إنه أتقن أداء دور تابع التابع. ومن الطريف أن مبارك والسادات أطلقا اسم «جمال» على بكريْهما تيمناً باسم عبد الناصر. وكان ولاء مبارك مطلقاً للسادات، بينما نبذ عدد من وزراء خارجيّة السادات رئيسهم بسبب صلحه مع إسرائيل، بمَن فيهم نافخ السيجار، إسماعيل فهمي، الذي كان مفتوناً بـ«العزيز هنري». والزميل روبرت سبرنغبورغ في كتابه عن حكم مبارك توفّق في تحليل حكم مبارك نظاماً يعتمد على تسلّط المؤسّستين العسكريّة والاستخبارية، وعلى ضلوعهما في قطاعات مختلفة من الاقتصاد الوطني «المُنفتِح». كذلك فإن مبارك العريق في التبعيّة لم يأمن لتابع ولا يزال يرفض تعيين نائب له. وعندما قويت شوكة عبد الحليم أبو غزالة أقصاه، وعندما عبّر شعبان عبد الرحيم عن حبّه لعمر موسى، عزله في الجامعة العربية.
وحكام العرب محكومون مثل جلجامش بعقدة الخلود: لا يفهمون كيف هم لا يتمتّعون بالخلود. والشيخوخة تزعجهم فترى الثمانيني منهم مثل مبارك أو عبد الله يدخل عقده التاسع بشعر أسود فاحم. الشيب يشتعل في شعر سواهم من العامة لا في شعر الحكّام (صدّام أصرّ على صبغ شعره وهو في الأسر). ومبارك وقع على وصفة سحريّة لضمان التوريث: اكتشف لسروره البالغ أن الإدارة الأميركيّة لا تكترث للديموقراطيّة ولا لحقوق الإنسان وأن الموضوعيْن يُستعملان من أجل عصر المزيد من التنازلات نحو إسرائيل ونحو المزيد من التعاون مع الحروب الأميركيّة العالميّة الجارية. واكتشف ذو الشعر الأسود الفاحم ـــــ الرئيس المُحنّط على طريقة الفراعنة ـــــ أن التطبيع مع إسرائيل يمكن أن يخفِّف من أي انتقاد أميركي (وأوروبي) لحكومته الظالمة، كذلك فإنه يزيد من التأييد الغربي لموروثه النجيب. يا لفرحة مصر، أم الدنيا: جمال مبارك ينطق بالإنكليزية، وقد نَسّق مع بوش التأييد المصري السرّي للغزو الأميركي في العراق. سيكشف التاريخ عندما يُكتب أن دولاً عربيّة كانت جزءاً سرّياً من القوات المتحالفة مع أميركا في غزو العراق، وخصوصاً أن تقارير أميركيّة وصفت أخيراً الأردن بالعضو السرّي في تحالف الاحتلال في العراق. وهكذا، سرّع مبارك من وتيرة التطبيع، وهكذا، خَفت حضور مصر في رفع الصوت الهامس ضد عدوان إسرائيل وإرهابها.
ومن المضحك أن الإعلام المصري الرسمي يختبئ وراء لازمة مُتكرِّرة عن «الأمن القومي المصري». من يقول لهؤلاء إن الأمن القومي المصري مات يوم توقيع اتفاق سيناء الأول؟ هل يهزل هؤلاء بالحديث عن «الأمن القومي المصري» وإسرائيل تحاصر غزة وتقصف مواقع على الحدود المصريّة؟ وأين كان الأمن القومي المصري عندما عقدت الحكومة الإسرائيليّة جلسة خاصة للنظر في طلب الحكومة المصريّة إرسال المزيد من قوات الشرطة المصريّة إلى الجانب المصري من الحدود للالتزام بأمن إسرائيل؟ الحقيقة أن اتفاق كامب ديفيد وما تضمنه من التزامات علنيّة وسريّة ذوّب مفهوم الأمن القومي المصري من أساسه لإعلاء شأن الأمن الإسرائيلي فوق ما عداه. لكن الحكومة المصريّة تسير على خط أنور السادات: أي على سكة تعبئة عنصريّة وشوفينيّة للشعب المصري من أجل أن ينبذ قضيّة فلسطين (وتصويرها كعالة على المصلحة المصريّة) ومن أجل أن يختبئ وراء تعبئة طائفية ومذهبيّة أساءت إلى الوحدة الوطنيّة في مصر وأسهمت في إطلاق تنظيمات العنف الجهادي في عصر السادات حتى لو أثلجت قلوب الليبراليّين العرب الهانئين في فيء آل سعود وآل شخبوط.
ولا يتحدّث الإعلام المصري عن تهديد دولة إسرائيل التي تجتاح وتقصف وتقتل على مدار الساعة للأمن القومي المصري، فيما شكل وجود عضو واحد في حزب الله بمصر تهديداً أكيداً للأمن القومي المصري. ولم ينتبه دعائيّو حسني مبارك إلى الإهانة التي ألحقتها مزاعم النظام عن مؤامرة عضو حزب الله في مصر. أية دولة هي تلك التي تهتز بسبب مؤامرة (مزعومة أو حقيقيّة) لرجل واحد؟ «مؤامرة لرجل واحد» تصلح عنواناً لفيلم مصري من السبعينيات. لكن الدولة المصريّة تفعل ما يجب عليها لكي يجري ترتيب البيت لخلافة جمال مبارك والحصول على دعم أميركي وإسرائيلي وأوروبي للخلافة قبل أن يظهر الشيب في شعر حسني مبارك. وترتيب البيت الداخلي من أولويّات «سي حسني» لكنه يعني مشكلة تكمن في فقدان الابن لأيّة مشروعيّة من أي نوع كان وإن أحاط نفسه بقطط سمان. لا يستطيع جمال مبارك أن يفطر على نصر أكتوبر المزعوم، ولا أن يتسحّر عليه. والالتصاق المتزايد بين النظام المصري وإسرائيل يخلخل بنيان التركة التي سيسلّمها مبارك لابنه. ويستدرك الإعلام المصري الأمر، فيختلق بطولات لحسني مبارك. وفيما كان الإعلام المصري يعجّ بأخبار المؤامرة الخطيرة التي حبكها ونفّذها عضو واحد من حزب الله، كانت جريدة «الأهرام» وغيرها من الجرائد تعنون بأخبار عن ضغوط وحملات مصريّة لمقاومة تهويد القدس ومعارضة المستوطنات. إنها بطولة محمد حسني مبارك. لم نسمع بأمر الحملات المصريّة تلك. ويحاول أدعياء مبارك تذكيرنا بتضحيات الشعب المصري من أجل فلسطين، لكن الشعب (في كل البلدان العربيّة) شيء والأنظمة شيء آخر. ثم لو كانت الأنظمة العربيّة قد أحسنت الدفاع عن فلسطين عام 1948 ومنعت قيام الدولة الغاصبة لوفّرت على شعوبها تضحيات بالغالي والنفيس والأشعار.
لا شك في أن نظاميْ السادات ومبارك نجحا في تدعيم أسس الهويّة القطريّة التي خبت في عهد جمال عبد الناصر الذي نجح في تعبئة شعبه وراء شعارات هويّة قوميّة شبه علمانيّة. ربط عبد الناصر بين مصير شعبه ومصير فلسطين، لكنه أضرّ بالاثنيْن في تسليم مقدّرات جيشه لملك الكيف، المشير السعيد. وقدرة عبد الناصر على الترويج للهويّة القوميّة نبعت من ثقة بالنفس وإدراك لحقيقة شعبيّته، بينما سعى خليفتاه لتدعيم حكميْهما على أسس ضيِّقة لكسب ودّ شعب يئنّ تحت وطأة الجوع والزحمة والضيق والهزيمة. لهذا اختلق لهم السادات ألعوبة العبور وحديث أكتوبر. طبعاً، لا يمكن اختزال الشعب المصري بشعارات أنظمة غير منتخبة، لكن لا يمكن إنكار قدرة الأنظمة ـــــ كل الأنظمة ـــــ على تدعيم منطق الهويّة القطريّة على نسق «الأردن أولاً» و«لبنان أولاً» و«الوهابية أولاً». وسلطة الأزهر الدينيّة مطواعة تاريخيّة حتى تحت الحكم البريطاني، تفتي بالفداء من أجل فلسطين قبل ليلة من إفتائها بالسلام على شمعون بيريز من باب الاحترام.
والنفخ في الهويّة القطريّة محاولة من الأنظمة التي تحوز نسبة ما يقارب 100% من الأصوات (وصلت إلى ما يفوق 100% في إعلان وزير داخليّة سوري من الخمسينيات) يهدف إلى تحقيق التماهي بين النظام وعزة الشعب، فيصبح الهجوم من أي كان في الداخل وخصوصاً في الخارج هجوماً على عزة الشعب وعنفوانه. لهذا، فالنظام المصري أصرّ على تصوير انتقاد النظام المصري لتواطؤه وتعاونه وتحالفه وتنسيقه المفضوح مع إسرائيل خلال الأعوام الماضية وكأنه هجوم على مصر نفسها. برع السادات في ذلك عندما حوّل معارضة صلحه الذليل مع إسرائيل إلى حملة عنصريّة على المصريّين ووصف المصريّين المعارضين لكامب ديفيد بالجواسيس والعملاء لمصلحة دول أجنبيّة. لهذا، فإن أسامة سرايا يصدح بأسلوب يضفي وقاراً على تعليقات أحمد سعيد ويقول إن «القاصي والداني يعرفان ما تفعله مصر للفلسطينيّين».
أولاً، لاحِظ أن حسني مبارك تحوّل إلى تجسيد لـ«مصر». ثانياً، صحيح أن القاصي والداني يعرفان أن النظام المصري حوّل القضيّة الفلسطينيّة التي كانت في صلب السياسة الخارجية لمصر قبل السادات إلى هامش في اهتمام الاستخبارات المصريّة. ويعرف القاصي والداني (والدانية) أن النظام بات متعاوناً (مثلما كان النظام الأردني منذ إنشائه على يد استعمار بريطانيا قبل أن يتسلّمه الاستعمار الأميركي بعدما غابت الشمس والقمر عن الاستعمار البريطاني) مع المخطط الإسرائيلي لضرب القضيّة الفلسطينيّة عبر قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيّين. ويعرف القاصي والداني أن الحصار الخانق على غزة لم يكن ليتمّ من دون التعاون التام مع الحكومة المصريّة. لكن قلم سرايا زلّ في المقالة لأنه ولول مندِّداً بمخطط حزب الله لإحداث «الوقيعة بين مصر وإسرائيل». هذا هو مكمن التهديد للأمن القومي المصري ـــــ كما يسمّونه.
مَن كان يتصوّر أن يأتي يوم يتهم فيه نظام عربي ـــــ في مصر خصوصاً ـــــ خصوماً عرباً له بإحداث «الوقيعة» بينه وبين إسرائيل؟ وماذا تعني الوقيعة بين نظام عربي وإسرائيل؟ وكيف يمكن التوفيق بين الدفاع حتى اللفظي عن حق أدنى للشعب الفلسطيني والخوف من إحداث الوقيعة مع إسرائيل؟ وهل أحدثت إسرائيل الوقيعة في تاريخها مع الدول العربيّة عندما قصفت أو اجتاحت لبنان ومصر وتونس والسودان والعراق وفلسطين والأردن وسوريا؟
الصحافة الإسرائيليّة تشارك في جوقة الحملة المباركيّة من أجل التوريث: وشمعون بيريز بات يفتي في أمور الفقه السني والشيعي متسلّحاً برعاية سعوديّة وأزهريّة. وإسرائيل تحترم الحرص المصري على عدم إحداث «الوقيعة» بين النظام المصري ودولة الاحتلالات الصهيونيّة. والصحافة السعوديّة تختلف بين أمير وآخر، لكن حازم صاغية (الذي اعتبر عنصريّة سعيد عقل وتحالفه مع إسرائيل ودعوته إلى قتل الفلسطينيّين في لبنان أثناء الحرب الأهليّة تسلية ما بعدها تسلية) اعترض على المسّ بالسيادة المصريّة، مع أنه كان قد ارتأى من قبل أن الغزو الأميركي للعراق لا يخرق السيادة العراقيّة. أي إن خرق عضو في حزب الله لسيادة مصر أدهى من خرق سيادة العراق على يد الجيش الأميركي.
وفؤاد السنيورة يزور مصر في أيام الأزمة: لكن زيارة السنيورة خاصة، وهي غير مرتبطة بالأزمة على الإطلاق. والمكالمة الهاتفيّة بين مبارك والسنيورة غير مرتبطة بالمؤامرة لإحداث «الوقيعة» بين مصر وإسرائيل. والسنيورة أبدى تفهّماً لأنه هو أيضاً فعل المستحيل قبل حرب إسرائيل على لبنان وبعدها لعدم إحداث الوقيعة بين لبنان وإسرائيل. ودموع السنيورة الشهيرة كانت حزناً وأسى على الوقيعة. والنظام العربي الرسمي يُجمع على أن الوقيعة بينه وبين إسرائيل مُستنكرة ومنبوذة، أما سعي هذا النظام إلى تأجيج الفتنة المذهبيّة وإثارة الحرب الأهليّة الفلسطينيّة، فهو محمود. لقد دخلتم عصر السلام والوئام، فاخفضوا رؤوسكم أو طأطئوها حتى لا ترتطم بسقف الأمن القومي ـــــ القطري.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)


عدد السبت ١٨ نيسان ٢٠٠٩

الثلاثاء، ٧ نيسان ٢٠٠٩

رسالة إلى غابرييل غارسيا ماركيز



رسالة إلى غابرييل غارسيا ماركيز

<
>ربيع جابر الحياة - 07/04/09//

لن يقرأ الرجل هذه الرسالة. حظه طيب. عمره 82 عاماً ويحيا بين أوروبا وأميركا وساعة الصباح لا يفتح جرايد عربية. بلى، يهوى الصحافة، ومنذ سنوات تملّك صحيفة في كولومبيا. لكنه لا يتقن العربية الى ذلك الحد. أبناء العالم الثالث ينقسمون على لغات كثيرة، أكثر من 72 لغة، ولا نعلم ماذا يجمع بينها. لن يقرأ هذه الرسالة. الثغرة الوحيدة التي يجوز من خلالها أن تبلغ هذه الرسالة صندوقه البريدي اسمها حماقة الآخرين: ان يدخل مجهول على الخط ويحمل هذه الكلمات اليه مترجمة.
عمره 82 عاماً ولم يعد يهتم بالرسائل. قال انه وضع القلم من يده وهذا يعني أنه كفّ عن الكتابة. هل يصدق نفسه؟
بين شهر وآخر يعود الواحد منا الى «مئة عام من العزلة» (1967) ويقرأ عن الحياة في ماكوندو. هو يقرأ وماركيز يكتب من أجله. لا يكف عن الكتابة لحظة هذا الرجل، أحقاً يظن أنه اعتزل الكتابة؟ (أمس، يوم الاثنين 6 نيسان/ ابريل 2009، كتب مرة أخرى «مئة عام من العزلة»).
كان في الأربعين من عمره عندما نشر ذلك الكتاب. الطبعة الأولى من «مئة عام من العزلة» نزلت الى المكتبات أثناء «حرب الأيام الستة». بلى، حزيران (يونيو) 1967. كان يفتح جرايد بوغوتا (وبوينس أيرس؟ هناك نُشرت الطبعة الأولى) كي يقرأ شيئاً عن روايته (هل فعل ذلك؟). قرأ عن الحرب في الشرق الأوسط ودخن عدداً من السجائر. ماكوندو حقيقة وحروب الشرق الأوسط أكذوبة؟ كان يغرق في غيمة تبغه وفي تلك الأثناء نفدت الطبعة الأولى من الرواية. قال انه تفاجأ. وناشره أيضاً تفاجأ. ولا بد من أن القراء تفاجأوا أيضاً. ماكوندو باغتت الجميع. هذا العالم الحقيقي والخيالي. ما الخيال وما الواقع؟ ماركيز لا يقدر أن يميز بين الاثنين.
كانت روايته الرابعة. لعلها الخامسة. هل تخيل وهو يذكر أوريليانو بوينديا في «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» (1961) أن هذا المحارب الخرافي سيظهر من جديد بعد سنوات قليلة في رواية عن عائلته وأهله وأولاده؟ هذا كولونيل آخر، ليس عجوزاً، ويقدر أن يعتبر نفسه إحدى أهم الشخصيات الروائية في تاريخ الأدب. هو يصنع الأسماك المذهبة أو يشنّ 32 حرباً أهلية صغيرة ونحن نعتبره ما نشاء. أين تكمن القوّة الغامضة لهذه الرواية؟ في بناء القرية الأسطورية ماكوندو؟ في الشخصيات التي تتحرك أمامنا كأنها حاضرة على كوكب الأرض كما لن نحضر أبداً؟ في الحكايات التي تتوالى محبوكة بفنٍ لا يضاهى؟
كيف يكفّ ماركيز عن الكتابة؟ حتى لو سكت عن الكتابة وهو في الأربعين، حتى لو لم يسطر «خريف البطريرك» (1975) و «سرد أحداث موت معلن» (1981) و «الحب في زمن الكوليرا» (1985)... حتى من دون هذه الكتب كلّها لم يكن أحدنا يقول انه ساكت. الرجل يتكلم معنا بلا توقف، هل كفّ عن التدخين؟ كافكا هجم المخلب على رقبته من دون أن يشعل تبغاً. وماركيز؟ عمره 82 عاماً لكنه ثابت الى الأبد في سن الأربعين. أو ما قبل الأربعين. كتب «مئة عام من العزلة» في عام واحد (1966). في شهور؟ في 15 شهراً؟ في 7 شهور وحسب؟ قد يعطينا جواباً، لكن هل نصدق؟ كيف يصدق القارئ رجلاً كتب كل تلك الروايات؟
في أي لحظة هاجمه الفرح اللانهائي وغمره كالطوفان؟ بينما جوزيه أركاديو يمد يده ويقبض على ريبيكا؟ بينما 16 رجلاً يحملون الاسم ذاته (أوريليانو) تطاردهم الرصاصات وتخترق صلبان الرماد في جباههم؟ متى شعر أنه يرتفع على موجة خيالية والصور تهجم عليه من حيث لا يعلم: وهو يكتب عن جوزيه أركاديو الثاني ناهضاً من بين الأموات في القطار الليلي الذي يترك ماكوندو بعد المذبحة؟ لعل هذه الصفحات - بينما الرجل يعود تحت المطر، مصدع الرأس وفي شعره الدم اليابس - أجمل صفحات «مئة عام من العزلة». عندما يدخل مطبخاً، مضطرباً كشبح، يقول للمرأة اسمه. كي يتأكد أنه موجود. تسكب له القهوة بلا سكر وبينما يشربها (هل شربها؟) نعرف أننا أحياء. هل نحن أحياء؟
بعد المطر الذي يتساقط أربع سنوات وأحد عشر شهراً ويومين يخرج أوريليانو الثاني كي يتفقد ماكوندو. في تلك الساعة يكتب ماركيز من أجل قراء عرب لا يعرفهم لا يعرفونه: «الذين نجوا من الكارثة كانوا سكان ماكوندو من قبل أن تهزها عاصفة شركة الموز. رآهم جالسين وسط الشارع يعرّضون أنفسهم لأشعة الشمس وما زالت على أجسادهم خضرة الطحلب ورائحة الحبس التي بللها المطر، غير أنهم كان يبدو عليهم الفرح لأنهم استعادوا أخيراً قريتهم التي ولدوا فيها. وعاد «شارع التركو» الى ما كان عليه من قبل، شارع العرب وأخفافهم، والأقراط في آذانهم، أيام كانوا يجوبون العالم يبدلون الببغاوات بالألعاب، حين وجدوا في ماكوندو زاوية صغيرة من الأرض يرتاحون فيها من عناء رحيلهم التاريخي. كانت البضائع في البازار خلال سنوات المطر تتساقط كاليخنة وتتبرقش البضائع المعروضة على الأبواب بالطحالب. والواجهات عاث فيها دود الخشب، والجدران تآكلت رطوبة، لكن عرب الجيل الثالث كانوا يجلسون في المكان نفسه، وفي الوضع نفسه الذي جلس عليه آباؤهم وأجدادهم، صامتين، لا يهزهم الخطر، ولا ينال منهم الزمن ولا الكارثة. ظلوا كعهدهم بعد وباء الأرق وحروب العقيد أوريليانو بوينديا الاثنتين والثلاثين، لا يتبدلون في حالتي الحياة والموت. لقد أظهروا قوة روحية عجيبة أمام بقايا طاولات اللعب، وعربات باعة المقليات، وبسطات إصابة الهدف، والشارع الصغير الذي كانت تفسر فيه الأحلام ويُقرأ المستقبل. ولما سألهم أوريليانو الثاني، بطريقته المرحة المألوفة، عن أية وسيلة خفية استخدموا كي ينجوا من الكارثة، وماذا صنعوا كي لا يموتوا غرقاً، أجابوه واحداً بعد الآخر، من باب الى باب، وهم يرسلون اليه الابتسامة الذكية نفسها، والنظرة الحالمة نفسها، الجواب نفسه من دون أن يتفقوا عليه، قالوا له: كنا نسبح».
في هذا المقطع نعثر على أسلوب ماركيز «المرح المألوف» وهو يتألق: بضربات سريعة يرسم شارعاً وعالماً كاملاً وطقوس «عرب الجيل الثالث» الذين استقروا في احدى زوايا ماكوندو ليرتاحوا من «عناء رحيلهم التاريخي». كيف تبدل هذا المقطع (وأثره فينا) بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001؟
هل كتب ماركيز تلك السطور «من أجل قراء عرب لا يعرفهم ولا يعرفونه»؟ هذه جملة للمحو. في سنته التاسعة والثلاثين على هذه الأرض كتب الرجل - ليس من أجل أحد ولكن حبّاً بالكتابة - 400 صفحة يصعب أن تقع في هوّة النسيان. في سنته الأربعين رأى الصفحات مجموعة بين دفتي كتاب. الرواية التي كانت خيالية وغير موجودة وكامنة في أعماقه خرجت منه، وهو يقعد الى طاولة الكتابة، ثم غادرت الغرفة الموصدة الى الناشر، الى المطبعة، الى أنوار العالم. صارت موجودة. بعد مرور هذه السنوات الطويلة هل يتذكر ماركيز تلك اللحظة الأولى، وهو يكتب تلك الجملة الأولى في بداية الكتاب: «بعد سنوات طويلة، وأمام فصيل الإعدام، تذكر الكولونيل...». بينما يكتب الجملة الأولى هل كان يتخيل أين ستأخذه الفصول، هل كان يعرف الكلمات الأخيرة في الكتاب: «... فالسلالات التي قدر لها القدر مئة عام من العزلة لا يمنحها القدر على الأرض فرصة أخرى».
عمره 82 عاماً الآن. كيف يقطع الوقت، ماذا يقرأ؟ قصص بورخيس، «حياة تيديو أيزيدورو كروز»، «الموت الآخر»، «التحدي»، «بيدرو سالفادورس»؟ يكرر قراءة «يوميات سنة الطاعون»؟ يقرأ «بيدرو بارامو»، «سور الصين العظيم»، «لعبة الحجلة»، «آنا كارينينا»، دانتي، «جبل الروح»، «الإلياذة»، شكسبير، و «العهد القديم»؟ ماذا يتذكر بينما يقرأ - للمرة التي لا يعرف رقمها - كتاباً قديماً طالما أحبّه؟ هل يفكر في الوقت ومرور السنوات؟ هل يتذكر قرية الطفولة والجدّة التي تشبه أورسولا تعجن وتخبز في الفرن الحطب خبزاً وحلويات؟ كيف مرّت الحياة؟ ماذا يتلاشى وماذا يبقى؟ بين اسبانيا والمكسيك وكولومبيا كم خطاً رسمت خطواته؟ أقام زمناً في باريس، كيف يتذكر تلك الأيام؟ قال في مقابلة في الثمانينات الخيالية للقرن العشرين إنه يعلم أنه مقروء في اللغة العربية، مع أن أحداً (ناشراً) لم يتصل به ويأخذ حقوق الترجمة والنشر! هل كان مبالياً؟ أم كان يداعب القراء الخياليين؟ «مئة عام من العزلة» موجودة في العربية، في أكثر من ترجمة. وكذلك أعماله الأخرى. هل يهمّه الأمر؟
هذه رسالة لن يقرأها. هل يحبّ الكلمات المتقاطعة؟ يقص الشبكة من الجريدة ويتسلى بها في ساعات الصباح؟ يحبّ المشي والرياضة؟ ينزل ويسبح ظهراً في البركة المستطيلة؟ عندما تمرّ شخصياته أمام عينيه، ساعة القيلولة الحارة، هل يمدّ يده ويستوقف الكولونيل بوينديا؟ انتهت حياة الكولونيل يوم رجوع السيرك (والغجر) الى ماكوندو. كان النمل الطيّار يملأ الجو. قبل أن يلفظ الروح، وحيداً تحت شجرة في مؤخرة البيت، استعاد ذكريات قديمة. كانت عزلته شبه كاملة. وماركيز؟ يحيا ماركيز بين عدد لا يحصى من القراء. هؤلاء خياليون، لن يقعدوا معه الى مائدة واحدة، لكنهم يعرفونه. ما يربطهم خيالي أيضاً. في أراضي الأدب الغامضة تمتد الحياة، ثرية ومتشعبة، الى ما لا نهاية.