مرغريتا ـ بيروت: تلك الخضرة أكثر وحشة من قاع محيط
المستقبل - الاحد 28 حزيران 2009 - العدد 3347 - نوافذ - صفحة 14
لوركا سبيتي
لم يكن من السهل الإستسلام للحياة المطعمة بالحرية، الصاخبة بالوحدة، وبالبحر العالق بين متاهتين. الحياة النَهمة بالخضرة الممتدة إلى ما وراء الشمس، خضرة هي أوحش من قاع محيط وأكثر اسودادا ومطَارَدة من فكرة سارحة. لم يكن سهلاً النهوض من ثقل الغربة النابعة من رأسي، المتسربة تحت جلدي، المارة في الزوايا كدخيل، والمتمرسة بالعطف كلص، والمتناجية أزمنة من الذل لتصير قريبة. الغربة في جزيرة كالحَمْل بمستبد، وإنجابه كهلا، كالعبث بعقلٍ إصطفي، كغرق ولد عانق الماء ظانا أن في الماء توأمه، كالمتجني على نفسه فلا يفلت من عقابها، كالمُحَفِز غيره على طرد فكرة الزوال وهو زائل في كل هنيهة. الغربة تنتقل من جسدها الغريب عنها إلى وريدي القريب منها وبه تتسرب إلى كل مواطني، فيصير قوتي وضعفي سيان، العين والنهد والأصابع والسرة والفخذ والقدم سيان، نمل يستحيل قرقعة بين الأضلاع وفحيحا عند الأطراف، وخلف الأهداب خمر وبكاء. الغربة جراد يوحد لون الفصول، يفصم عقل الغرف، خطوط في وسط البراعم، شرفات متشابهة الغريزة، وأعناق ترتبك من فكرة التنبؤ. الغربة تزحف نحوك كنهر من العقارب، من الأسماك الناهشة، مثل الجبال الناتئة فوق جيل جديد من الفرح المستعار واللهو ورائحة الجنس المنتشرة في هواء الجزيرة، في سمائها المبسترة، تحت أشجارها اللامتناهية، وخلف أحلام مشرديها، وفي دفء اللقيطات وأنفاسهن الرافضة، في إختراع الصيادين لسعادتهم إختراعا، في شغب المارين فوق عوالم، المعنى والراحلين نحو قطعان الحقيقة الكامنة في الجسد، الأجساد هناك شرسة ومتيقظة وكسولة في آن، مريضة الوهم والذكرى، موظفة بدوام كامل وبأجر زهيد، متسلطة كمن لم تسعفه الصدفة فتحوله شَرِها متألما متقرح المعدة والحنجرة !
هل قرأتم يوما أجسادكم؟ هل ذهبتم إلى أبعد من كونها عجينة منتفخة بفعل خميرة الروح؟ من كونها أكثر من لحم ودم وإحتمالات مؤجلة لشيخوخة مريضة ستأتي قريبا؟ هل تلمستم العذوبة الطالعة من ثرثراتها التي تسهل فكرة زوالكم فتحيلها حديقة مفتوحة على حقول مترامية؟ هل تركتم أبوابها مشرّعة عن قصد فأحسستم بغزارة حضور الزائرين المبتهجين المندهشين؟ أأبكتكم رؤية القتلى الممددين في سراديبها؟ أشرّحتم اللغز الهائل للبركان؟ أهرعتم لبلسمة الصخر وإنقاذ ما تبقى من الذهب؟ أجسادكم شموسكم، خبزكم، قهوة الصباح، كبوة الظُهر، وعند المساء هي هذا الشعور الذي يكلل كاهلكم ويمسّد بلسانه الطريق ليهتدي، ولا طريق. هي الحرية التي لا تشبه أية حقيقة مكتشفة، هي الضوء الذي إذا ما فضحته فراشة الوعي تطلع منه اقواس قزح وحيوات وكميات فاتنة من التعب. أجسادكم مضجع لعقولكم وأجسادها، ووريد لقلوبكم وأجسادها، هي التراب الذي فيه ستوارى أرواحكم وأجسادها! لكل ذرة في الكون جسد، ولكل جسد حليبه، وللحليب نزوات بئر قابع في قلب حكاية، وللحكاية أحصنتها وأبطالها وميادينها وموتها، أتمكنتم من الإصغاء إليها حتى النهاية؟ أصفقتم بعد إسدال الستارة؟ أأملتم بعد أن صعقكم الكبرياء؟ فقط كبرياء الجسد مسموح له التباهي لا الخنوع، والتحليق لا المشي، والشفافية لا الحضور، وعليكم أيضا ألا تحسدوه، بل أن تصفقوا لإنزلاقاته التي تستولدنا أطفالا صغارا، وترمينا في مهب المطارح النادرة وتضيعنا في معاقل الإختفاء، نختفي لنتمرن على الصوت الخفيض، لنعتاد سكان الهواء، ولنصيب نقاط الضوء التي تعلو جباههم، لنتلو المحو، ثم نعود لنظهر فيه، في الجسد، على شاكلته، في حلة إغماء، أو وعي مدجج، الأصبع في الحنجرة والقيىء برائحة الياسمين... الجسد هو البعد الغزير لحالة متواصلة من الحب، هو أن تألف الأسئلة القلقة الغضّة التي تدخل في الرحم لتصرخ من الرأس، ولتطلع في الوسط المفرغ من الجليد ومن الحنطة، هو الذي يبقينا معلّقين في الهواء فوق ساحات نضالنا اليومي وقتلنا المتمدن لقبائل تفترش واحات لاوعينا، الحب الذي يوقف تهليلنا لغربتنا عن أجسادنا التي بدورها تصيرعدوة لنا حين لا نعيش معها بما فيه الكفاية، حين لا نشاركها إختناقها وإمتعاضها، حين لا نعْبُر بها إلى الجهة المقابلة دون تردد، الجهة العظيمة الخالية من المسكنة والضعف وإدعاءات الشرف الذي عليه بدل أن يوقظ فينا الحذر والتردد والكذب ويرعب خيالاتنا الجميلة ويبعثرها، أن يبرر حريتنا وعرينا وركضنا الشقي وراء ما نريد.عليه إيجادنا بدل أن يمحونا، يصادق فينا قلوب الآخرين ويعانق معنا نشوتهم ويُذهب عنا وعنهم التعب والهم والخوف الذي لو نفخناه سيتشعب بأشعته ويحلّق.
المرأة السمراء التي تشتري الثياب كأنها تصدر سعالا خفيفا، والتي تمارس الجنس كأنها تلعب بالماء، والتي تنتعل أحذية عالية الكعب كأنها تريد الامساك بغيمة، والتي تملأ نهديها بالسيليكون كأنها نجمة سينما، تعمل ليلا نهارا لا لتؤمن قوتها ولا لتغير أثاث بيتها ولا لتمتلك بيتا حتى، بل لتتزين وتتبرج وتتعطر ومن ثم تبتسم متراقصة بلحمها اللذيذ وضحكتها التي تشبه ممسوسا إنتهى لتوه من مضاجعة دافئة، والمرغريتانية السمراء الهندية الأصل، المبتدئة في ركن قدميها على الرصيف، والمتشبثة بما قالته أمها عن لا مبالاة الرجل وقلة مسؤوليته والحاجة الماسة لسائله. لا زال بطنها منتفخا، ولا زال لسانها يتلعثم، وتحت إبطها عطر لم يفسده غبار النهار. ما زال صدرها يرشح بالحليب، لا زالت حُبلى. طفل يُتعب يديها حتى الإزرقاق وآخر لم تسعفه قدماه الصغيرتان للحاق بها فضاع وسط ضوضاء الأسواق. سوق السمك، سوق الخضار، سوق الثياب، المتراصة جنبا إلى جنب. والطفل الآتي بعد شهر ونصف الشهر، يأكل سمكا نيئاً وأناناسا طازجا وقشور الصدف. يضحك على حياة سيأتيها حاملا معه صفاته المغتصبة فراغات دواخله والمحددة سلوكه منذ الصرخة الأولى، صفات ورثها عن أبويه سلفا، هو سينمو ويغدو رجلا ربما مشاكسا أو لصا أو مدمنا أو متشردا إختار اللا مكان مكانا له. ولكنه في كل الأحوال سينضح حبا وحنانا، وأيضا لن يعرف أباه الذي رمى البذور وطفر، ولن يدخل المدرسة ولن يصبح أميرا، سيكبر مع العشب البري وورق أشجار الموز ويرقص على لحن الحفيف ووقع حبات المطر وسيغفو على حدو صراصير العتمة، ويقضي الليل مع الكلاب الشاردة فيعطيها شيئا من ألفته، لتعطيه نعمة تحمُّل الجوع. وسيتشاجر مع أخوته من غير أبيه، الذين بدورهم يعرفون أنهم قراصنة البحر وصيادوه، أبطال الأزقة التي مهما سويت مداخلها وسيجت منازلها وردمت الحفر التي تحدد طريق العودة، ستظل تصب في البحر، بحر مرغريتا، وسيظلون هم الحيتان الأليفة الثملة منذ الغسق حتى الغسق..يشبعون من الملح ويكتظون بألواح الصفيح حالمين بسقف يحمل عنهم ثقل السماء ويريحهم من التجسس على النجوم المذرورة خلف الماوراء الذي لا يعرفونه..
من بيروت إلى مرغريتا، ومن مرغريتا الى بيروت، بحر تجتره بحار، وسماء تنشب معاركها في قلب المرايا، ومقاه تنتظرعصافيرها المخلصين ليقلوها إلى الأبد، وأياد ترتفع لتودع وهي نفسها تنكس أصابعها وترتدي لونا داكنا وتنتظر غدا آخر، وعيون تشدّ على أهدابها وهي تأمل، وجواز سفر يتمنى موته، ولوحات تختصر مجد القوة المرتفعة المحبة للهب. وحدي أنا عرفت معنى الحزن، ذلك الحزن الذي سمعت نقر قدميه حين اقترب، ولامست إحتراق قلبه حين غادرت مراياه، هجرته دون خدش، دون أن أخرج يدي من تحت قميصه، دون أن أذوِّب الجليد المختبئ داخل حذائه الخفيف، دون أن أجرح حنجرته ودون ان تصطك أسنانه. بقي يبتلع ريقه ويعطس دون ألم. بقي يخرج للعمل ويبحث في وقته عن قوته عن عشيقة أخرى تذكره بزلّاته الصبيانية، وتزيد على أطفاله المنتشرين في قلب الإنسانية وفي قلب الضحك أطفالا آخرين. للحزن أطفال يعيشون في أدراج خزائننا، يواكبون إرتفاعنا ويردعوننا عن الإنتحار، ويضحكون علينا حين يستضحكنا الفرح ببعض من لحظاته ويستحيلون درعا حين يحاول اغتيالنا بشيء من رصاصاته. وحدي أنا فهمت حزن البحر، وقرأت إشاراته وتعلمت لغته العملاقة، فبتّ أتّقن لغتين. ليس للبحر كبرياء ولا إحساس بغبن أو خوف، ليس لديه عداوة مع أحد ولا إكتراث للآتي ولا مخطط بالإستيلاء. ليس عنده شك بأنه سيموت كباقي أصدقائه، كالغزوات والعناقات وكالسفن المحترقة في جوفه، هو لا يريد ان يبقى مقبرة فقط، او إنعكاس الله في السماء، أو بوح العشاق وإلهام الشعراء، هو لا يحبذ فكرة الأبد ولا القوة المنطلقة بأن لا شريك له. تجذبه فكرة الموت هو يريد إختباره، لمعانقة من هو أوسع منه، وليشعر بالإرتياح من عناق سيملأ جسده ويحفر في روحه أنفاقا تساعده على التبول، هذا الملح وتلك الأمواج تفضح وحدته، وتترك لبرده الشتوي مكانا في غرفه الفارغة. البحر وحيد أيها الشعراء، يا من تعرفون مدى الحزن الذي يسكن في زوايا الأشياء، يا من تتمنون الموت ولا تعترفون بموتكم الأزلي ولا بملائكته المنسليّن من أرحام قصائدكم. عانقوا البحر وهبوه من محبتكم ما هو مشتاق، ومن صداقتكم ما يستحق. أيها الممتلئون أنينا وشكاية أتفضلون الإبتسام على الجهر بتعاستكم، أتخبئون الورم ولا تستأصلونه حتى تُنهكون، أتُسمِعون كلماتكم للعناكب وحين يختلط الضوء بالعتمة تلتهمكم خيوطها فلا تدرون أنكم أصبحتم سجناء أمام عين الشمس. عاصفة الأفكار هبّت على البحر المضطرب المتهدل القائل (لا) فوق قبضات الأفق .
الساعة الآن الواحدة بعد منتصف الليل، وأنا ما زلت في قلب نصي ووراء قضبانه، أمام خصمي القريب وشبيهي الذي تتصاغر عنده أحزان التجارب. قدماي ثقيلتان، لحظي مغرم، معدتي تؤلمني ولست أستطيع الخروج. أشعر بي أختنق، أود التكلم عن شيء لا أعرف ماهيته، عن حدث، عن رغبة، عن كائن، عني في مدينة، عني في بيروت .
بيروت مذ دخلتها، تعبتُ من الركض والإغواء ولم تتعب هي من العشق. لم تكف يوما عن الوله ولا عن الحبور. كل مدينة عرفتها بعدها حالة تكرار وإعادة، كل أرض متجلدة تكسر قوائم المستنجدين بحمائمها. ما أكثر مدن القسوة والمحبة الفائقة، وما أكثر مدن الأصنام والحياة المسمرة والرسم البليغ، ولكن بيروت قبر الشعراء وساحة حشرهم ورصاصة إنتحارهم. كلهم مروا من هنا، ولم يموتوا. وقرأت بيروت حياتهم فتقمصتها الحياة .أما أنا فمنذ غادرتها إلى مرغريتا، وهي تغويني بعطر الأرق المنبعث من كل تفاصيلها، تناجيني لأتلصص على مكامن السلوان، تشدّ على يدي لأفصح عن جسدي، وعن إشتياقه ولأحقق رغباته بإخلاص، لأصغي لأصوات دواخله ولأعترف بوجوب موته ولأحذر من ألاعيب عقله المدمّر. العقل الميدان لكل حرب وسلام، العقل الآلة والجسد أداته، العقل ألعوبة الحواس والجسد أنا الذات الحقيقية، الأنا البعيدة عن الغرور والملتزمة بقرار الذهاب إلى أبعد المطارح في غاياتها التي ليست هي غاية بذاتها ولا هي هدف مسّمى ولا مذّنب من الفضائل أو من الرجس. الجسد الذي تتقاسمه الرغبات، تفتته، تنثره وسط الريح والحصى، تشرد خلاياه، فتعصره عند كل جفاف لتروي غليلها، ولتفتح بقية عفنها على المنبوذ والمقتَفَى فى إثره والمتمكن من المبالغة والحاضن مواعيد الشهوة والمتميز بغرابة تزلفه .الجسد الذي كل ما يمر به، دوائر متقلبة، فراغ يعلو صفحة الحياة، سرير مفعم بالأبيض يظل على الداوم مخربا تعلو أديمه حبات ندى وأنفاس تتوهج بعد برد متتالي الإرتفاع .
بكيت كأيّة امرأة تحتاج الى كل الحنان مرة واحدة... كأيّة إمرأة قد تهرم برئتين مشتاقتين لن تحصل طوال العمر إلا على شبح الشيء ولن تقبّل إلّا فما زائفا ولن يطلع من داخلها ذاك الطائر المجنون.... ولن تعيش طويلا لتموت كثيراً!!