الثلاثاء، ٣٠ حزيران ٢٠٠٩

مرغريتا ـ بيروت: تلك الخضرة أكثر وحشة من قاع محيط

المستقبل - الاحد 28 حزيران 2009 - العدد 3347 - نوافذ - صفحة 14


لوركا سبيتي

لم يكن من السهل الإستسلام للحياة المطعمة بالحرية، الصاخبة بالوحدة، وبالبحر العالق بين متاهتين. الحياة النَهمة بالخضرة الممتدة إلى ما وراء الشمس، خضرة هي أوحش من قاع محيط وأكثر اسودادا ومطَارَدة من فكرة سارحة. لم يكن سهلاً النهوض من ثقل الغربة النابعة من رأسي، المتسربة تحت جلدي، المارة في الزوايا كدخيل، والمتمرسة بالعطف كلص، والمتناجية أزمنة من الذل لتصير قريبة. الغربة في جزيرة كالحَمْل بمستبد، وإنجابه كهلا، كالعبث بعقلٍ إصطفي، كغرق ولد عانق الماء ظانا أن في الماء توأمه، كالمتجني على نفسه فلا يفلت من عقابها، كالمُحَفِز غيره على طرد فكرة الزوال وهو زائل في كل هنيهة. الغربة تنتقل من جسدها الغريب عنها إلى وريدي القريب منها وبه تتسرب إلى كل مواطني، فيصير قوتي وضعفي سيان، العين والنهد والأصابع والسرة والفخذ والقدم سيان، نمل يستحيل قرقعة بين الأضلاع وفحيحا عند الأطراف، وخلف الأهداب خمر وبكاء. الغربة جراد يوحد لون الفصول، يفصم عقل الغرف، خطوط في وسط البراعم، شرفات متشابهة الغريزة، وأعناق ترتبك من فكرة التنبؤ. الغربة تزحف نحوك كنهر من العقارب، من الأسماك الناهشة، مثل الجبال الناتئة فوق جيل جديد من الفرح المستعار واللهو ورائحة الجنس المنتشرة في هواء الجزيرة، في سمائها المبسترة، تحت أشجارها اللامتناهية، وخلف أحلام مشرديها، وفي دفء اللقيطات وأنفاسهن الرافضة، في إختراع الصيادين لسعادتهم إختراعا، في شغب المارين فوق عوالم، المعنى والراحلين نحو قطعان الحقيقة الكامنة في الجسد، الأجساد هناك شرسة ومتيقظة وكسولة في آن، مريضة الوهم والذكرى، موظفة بدوام كامل وبأجر زهيد، متسلطة كمن لم تسعفه الصدفة فتحوله شَرِها متألما متقرح المعدة والحنجرة !
هل قرأتم يوما أجسادكم؟ هل ذهبتم إلى أبعد من كونها عجينة منتفخة بفعل خميرة الروح؟ من كونها أكثر من لحم ودم وإحتمالات مؤجلة لشيخوخة مريضة ستأتي قريبا؟ هل تلمستم العذوبة الطالعة من ثرثراتها التي تسهل فكرة زوالكم فتحيلها حديقة مفتوحة على حقول مترامية؟ هل تركتم أبوابها مشرّعة عن قصد فأحسستم بغزارة حضور الزائرين المبتهجين المندهشين؟ أأبكتكم رؤية القتلى الممددين في سراديبها؟ أشرّحتم اللغز الهائل للبركان؟ أهرعتم لبلسمة الصخر وإنقاذ ما تبقى من الذهب؟ أجسادكم شموسكم، خبزكم، قهوة الصباح، كبوة الظُهر، وعند المساء هي هذا الشعور الذي يكلل كاهلكم ويمسّد بلسانه الطريق ليهتدي، ولا طريق. هي الحرية التي لا تشبه أية حقيقة مكتشفة، هي الضوء الذي إذا ما فضحته فراشة الوعي تطلع منه اقواس قزح وحيوات وكميات فاتنة من التعب. أجسادكم مضجع لعقولكم وأجسادها، ووريد لقلوبكم وأجسادها، هي التراب الذي فيه ستوارى أرواحكم وأجسادها! لكل ذرة في الكون جسد، ولكل جسد حليبه، وللحليب نزوات بئر قابع في قلب حكاية، وللحكاية أحصنتها وأبطالها وميادينها وموتها، أتمكنتم من الإصغاء إليها حتى النهاية؟ أصفقتم بعد إسدال الستارة؟ أأملتم بعد أن صعقكم الكبرياء؟ فقط كبرياء الجسد مسموح له التباهي لا الخنوع، والتحليق لا المشي، والشفافية لا الحضور، وعليكم أيضا ألا تحسدوه، بل أن تصفقوا لإنزلاقاته التي تستولدنا أطفالا صغارا، وترمينا في مهب المطارح النادرة وتضيعنا في معاقل الإختفاء، نختفي لنتمرن على الصوت الخفيض، لنعتاد سكان الهواء، ولنصيب نقاط الضوء التي تعلو جباههم، لنتلو المحو، ثم نعود لنظهر فيه، في الجسد، على شاكلته، في حلة إغماء، أو وعي مدجج، الأصبع في الحنجرة والقيىء برائحة الياسمين... الجسد هو البعد الغزير لحالة متواصلة من الحب، هو أن تألف الأسئلة القلقة الغضّة التي تدخل في الرحم لتصرخ من الرأس، ولتطلع في الوسط المفرغ من الجليد ومن الحنطة، هو الذي يبقينا معلّقين في الهواء فوق ساحات نضالنا اليومي وقتلنا المتمدن لقبائل تفترش واحات لاوعينا، الحب الذي يوقف تهليلنا لغربتنا عن أجسادنا التي بدورها تصيرعدوة لنا حين لا نعيش معها بما فيه الكفاية، حين لا نشاركها إختناقها وإمتعاضها، حين لا نعْبُر بها إلى الجهة المقابلة دون تردد، الجهة العظيمة الخالية من المسكنة والضعف وإدعاءات الشرف الذي عليه بدل أن يوقظ فينا الحذر والتردد والكذب ويرعب خيالاتنا الجميلة ويبعثرها، أن يبرر حريتنا وعرينا وركضنا الشقي وراء ما نريد.عليه إيجادنا بدل أن يمحونا، يصادق فينا قلوب الآخرين ويعانق معنا نشوتهم ويُذهب عنا وعنهم التعب والهم والخوف الذي لو نفخناه سيتشعب بأشعته ويحلّق.
المرأة السمراء التي تشتري الثياب كأنها تصدر سعالا خفيفا، والتي تمارس الجنس كأنها تلعب بالماء، والتي تنتعل أحذية عالية الكعب كأنها تريد الامساك بغيمة، والتي تملأ نهديها بالسيليكون كأنها نجمة سينما، تعمل ليلا نهارا لا لتؤمن قوتها ولا لتغير أثاث بيتها ولا لتمتلك بيتا حتى، بل لتتزين وتتبرج وتتعطر ومن ثم تبتسم متراقصة بلحمها اللذيذ وضحكتها التي تشبه ممسوسا إنتهى لتوه من مضاجعة دافئة، والمرغريتانية السمراء الهندية الأصل، المبتدئة في ركن قدميها على الرصيف، والمتشبثة بما قالته أمها عن لا مبالاة الرجل وقلة مسؤوليته والحاجة الماسة لسائله. لا زال بطنها منتفخا، ولا زال لسانها يتلعثم، وتحت إبطها عطر لم يفسده غبار النهار. ما زال صدرها يرشح بالحليب، لا زالت حُبلى. طفل يُتعب يديها حتى الإزرقاق وآخر لم تسعفه قدماه الصغيرتان للحاق بها فضاع وسط ضوضاء الأسواق. سوق السمك، سوق الخضار، سوق الثياب، المتراصة جنبا إلى جنب. والطفل الآتي بعد شهر ونصف الشهر، يأكل سمكا نيئاً وأناناسا طازجا وقشور الصدف. يضحك على حياة سيأتيها حاملا معه صفاته المغتصبة فراغات دواخله والمحددة سلوكه منذ الصرخة الأولى، صفات ورثها عن أبويه سلفا، هو سينمو ويغدو رجلا ربما مشاكسا أو لصا أو مدمنا أو متشردا إختار اللا مكان مكانا له. ولكنه في كل الأحوال سينضح حبا وحنانا، وأيضا لن يعرف أباه الذي رمى البذور وطفر، ولن يدخل المدرسة ولن يصبح أميرا، سيكبر مع العشب البري وورق أشجار الموز ويرقص على لحن الحفيف ووقع حبات المطر وسيغفو على حدو صراصير العتمة، ويقضي الليل مع الكلاب الشاردة فيعطيها شيئا من ألفته، لتعطيه نعمة تحمُّل الجوع. وسيتشاجر مع أخوته من غير أبيه، الذين بدورهم يعرفون أنهم قراصنة البحر وصيادوه، أبطال الأزقة التي مهما سويت مداخلها وسيجت منازلها وردمت الحفر التي تحدد طريق العودة، ستظل تصب في البحر، بحر مرغريتا، وسيظلون هم الحيتان الأليفة الثملة منذ الغسق حتى الغسق..يشبعون من الملح ويكتظون بألواح الصفيح حالمين بسقف يحمل عنهم ثقل السماء ويريحهم من التجسس على النجوم المذرورة خلف الماوراء الذي لا يعرفونه..
من بيروت إلى مرغريتا، ومن مرغريتا الى بيروت، بحر تجتره بحار، وسماء تنشب معاركها في قلب المرايا، ومقاه تنتظرعصافيرها المخلصين ليقلوها إلى الأبد، وأياد ترتفع لتودع وهي نفسها تنكس أصابعها وترتدي لونا داكنا وتنتظر غدا آخر، وعيون تشدّ على أهدابها وهي تأمل، وجواز سفر يتمنى موته، ولوحات تختصر مجد القوة المرتفعة المحبة للهب. وحدي أنا عرفت معنى الحزن، ذلك الحزن الذي سمعت نقر قدميه حين اقترب، ولامست إحتراق قلبه حين غادرت مراياه، هجرته دون خدش، دون أن أخرج يدي من تحت قميصه، دون أن أذوِّب الجليد المختبئ داخل حذائه الخفيف، دون أن أجرح حنجرته ودون ان تصطك أسنانه. بقي يبتلع ريقه ويعطس دون ألم. بقي يخرج للعمل ويبحث في وقته عن قوته عن عشيقة أخرى تذكره بزلّاته الصبيانية، وتزيد على أطفاله المنتشرين في قلب الإنسانية وفي قلب الضحك أطفالا آخرين. للحزن أطفال يعيشون في أدراج خزائننا، يواكبون إرتفاعنا ويردعوننا عن الإنتحار، ويضحكون علينا حين يستضحكنا الفرح ببعض من لحظاته ويستحيلون درعا حين يحاول اغتيالنا بشيء من رصاصاته. وحدي أنا فهمت حزن البحر، وقرأت إشاراته وتعلمت لغته العملاقة، فبتّ أتّقن لغتين. ليس للبحر كبرياء ولا إحساس بغبن أو خوف، ليس لديه عداوة مع أحد ولا إكتراث للآتي ولا مخطط بالإستيلاء. ليس عنده شك بأنه سيموت كباقي أصدقائه، كالغزوات والعناقات وكالسفن المحترقة في جوفه، هو لا يريد ان يبقى مقبرة فقط، او إنعكاس الله في السماء، أو بوح العشاق وإلهام الشعراء، هو لا يحبذ فكرة الأبد ولا القوة المنطلقة بأن لا شريك له. تجذبه فكرة الموت هو يريد إختباره، لمعانقة من هو أوسع منه، وليشعر بالإرتياح من عناق سيملأ جسده ويحفر في روحه أنفاقا تساعده على التبول، هذا الملح وتلك الأمواج تفضح وحدته، وتترك لبرده الشتوي مكانا في غرفه الفارغة. البحر وحيد أيها الشعراء، يا من تعرفون مدى الحزن الذي يسكن في زوايا الأشياء، يا من تتمنون الموت ولا تعترفون بموتكم الأزلي ولا بملائكته المنسليّن من أرحام قصائدكم. عانقوا البحر وهبوه من محبتكم ما هو مشتاق، ومن صداقتكم ما يستحق. أيها الممتلئون أنينا وشكاية أتفضلون الإبتسام على الجهر بتعاستكم، أتخبئون الورم ولا تستأصلونه حتى تُنهكون، أتُسمِعون كلماتكم للعناكب وحين يختلط الضوء بالعتمة تلتهمكم خيوطها فلا تدرون أنكم أصبحتم سجناء أمام عين الشمس. عاصفة الأفكار هبّت على البحر المضطرب المتهدل القائل (لا) فوق قبضات الأفق .
الساعة الآن الواحدة بعد منتصف الليل، وأنا ما زلت في قلب نصي ووراء قضبانه، أمام خصمي القريب وشبيهي الذي تتصاغر عنده أحزان التجارب. قدماي ثقيلتان، لحظي مغرم، معدتي تؤلمني ولست أستطيع الخروج. أشعر بي أختنق، أود التكلم عن شيء لا أعرف ماهيته، عن حدث، عن رغبة، عن كائن، عني في مدينة، عني في بيروت .
بيروت مذ دخلتها، تعبتُ من الركض والإغواء ولم تتعب هي من العشق. لم تكف يوما عن الوله ولا عن الحبور. كل مدينة عرفتها بعدها حالة تكرار وإعادة، كل أرض متجلدة تكسر قوائم المستنجدين بحمائمها. ما أكثر مدن القسوة والمحبة الفائقة، وما أكثر مدن الأصنام والحياة المسمرة والرسم البليغ، ولكن بيروت قبر الشعراء وساحة حشرهم ورصاصة إنتحارهم. كلهم مروا من هنا، ولم يموتوا. وقرأت بيروت حياتهم فتقمصتها الحياة .أما أنا فمنذ غادرتها إلى مرغريتا، وهي تغويني بعطر الأرق المنبعث من كل تفاصيلها، تناجيني لأتلصص على مكامن السلوان، تشدّ على يدي لأفصح عن جسدي، وعن إشتياقه ولأحقق رغباته بإخلاص، لأصغي لأصوات دواخله ولأعترف بوجوب موته ولأحذر من ألاعيب عقله المدمّر. العقل الميدان لكل حرب وسلام، العقل الآلة والجسد أداته، العقل ألعوبة الحواس والجسد أنا الذات الحقيقية، الأنا البعيدة عن الغرور والملتزمة بقرار الذهاب إلى أبعد المطارح في غاياتها التي ليست هي غاية بذاتها ولا هي هدف مسّمى ولا مذّنب من الفضائل أو من الرجس. الجسد الذي تتقاسمه الرغبات، تفتته، تنثره وسط الريح والحصى، تشرد خلاياه، فتعصره عند كل جفاف لتروي غليلها، ولتفتح بقية عفنها على المنبوذ والمقتَفَى فى إثره والمتمكن من المبالغة والحاضن مواعيد الشهوة والمتميز بغرابة تزلفه .الجسد الذي كل ما يمر به، دوائر متقلبة، فراغ يعلو صفحة الحياة، سرير مفعم بالأبيض يظل على الداوم مخربا تعلو أديمه حبات ندى وأنفاس تتوهج بعد برد متتالي الإرتفاع .
بكيت كأيّة امرأة تحتاج الى كل الحنان مرة واحدة... كأيّة إمرأة قد تهرم برئتين مشتاقتين لن تحصل طوال العمر إلا على شبح الشيء ولن تقبّل إلّا فما زائفا ولن يطلع من داخلها ذاك الطائر المجنون.... ولن تعيش طويلا لتموت كثيراً!!

العين الناظرة إلى أبعد ما وراء الذي تراه

العين الناظرة إلى أبعد ما وراء الذي تراه

المستقبل - الاحد 28 حزيران 2009 - العدد 3347 - نوافذ - صفحة 9


حسن داوود

في التعليق على الصورة الملتقطة في العشرين من حزيران الجاري ذكرت وكالة رويترز أنّها، ووكالات الإعلام الأجنبية الأخرى، تخضع لقرار مُلْزِم بعدم الخروج من المكاتب لإجراء التقارير وتسجيل الأفلام والتقاط الصور. الصورة الظاهرة مع هذه السطور مهرّبة إذن، ربما عبر التويتر الذي شاع ذكره في الأيّام الأخيرة منفذا لتسريب ما يجري في شوارع طهران وأزقّتها وسطوح أبنيتها. وقد واكبت نشاط التويتر، المفاجئ في جدتّه وسرعته، بل واكتشافه، مقالات في صحف العالم وصفت الدور الذي يؤدّيه. لمن هم في العمر الذي مكّنهم من معايشة أيّام ثورة آيات الله في إيران، ذكّرهم التويتر بالكاسيت، تلك التي قيل عنها آنذاك إنّها وسيلة التعبئة والإتصال بين الخميني، المنتقل آنذاك لإقامته الموقّتة في باريس، وجماهيره في مدن إيران وأريافها.
ورجل الصورة لم يكن بين أولئك الذين شهدوا تلك الثورة، أو أنّه ، كما قد تدلّ صورته، كان أصغر من أن يفهم ماذا يعني ذلك الاستنفار والضجيج الهائلان اللذان كانا متفجّرين من حوله. ولا ريب أنه، في صورته هذه، يحيّر الناظر إليه في محاولته تقدير عمره. ولا يرجع ذلك فقط إلى اختفاء أكثر وجهه تحت الضمادة، والكمامة التي ارتداها لغرض التخفّي على الأغلب، بل إلى تلك النظرة المحدّقة بالعين الواحدة، الساهمة والواعدة بالانتقام في الوقت ذاته. ربّما كان أكبر قليلا من عمر الشباب النموذجي، أو ربما هو في العمر الوسط بين هؤلاء، الشباب، وأولئك الذين سبقوا الشباب إلى إنجاز ثورتهم في العام 1979. أمّا السبب الداعي إلى تقدير عمره فمردّه إلى اتّجاه لدى المحلّلين في الصحافة يقوم على اعتبار انتفاضة حزيران هذه صراعا بين جيلين، وإن لم يفتهم ربمّا أن أجيالا أخرى فصلت بينهما ما دام أنّ ثلاثين عاما توالت بين هؤلاء وأولئك. الأصحّ أن نقول إنّ رجلنا هذا ينتسب إلى واحد من تلك الأجيال التي بدأ اعتراضها، لا بدّ، منذ الأيّام الأولى للثورة. ذاك لأنّه لم يمرّ يوم في إيران كان الناس فيه متجمّعين تحت قيادة حاكميهم. الإنتخابات التي حقّق فيها محمّد خاتمي فوزه الأوّل، ثمّ فوزه الثاني، كان من أعطوا نسبة السبعين في المئة أكثر من جيل واحد. وإنّ واحدنا ليخطئ إذ يظنّ أنّ الحياة التي يقترحها رجال الدين، أو يفرضونها، ستشدّ الإيرانيين كلّهم بجاذبيّتها. كلّ من زاروا إيران رأوا بأمّ العين تعبيرات الإحتجاج المختلفة، سواء في تفلّت النساء التدريجي من الحجاب، أو في إجراء الحياة في الخفاء بعيدا من الأعين المتلصّصة لمن أعطوا تفويض حماية الأخلاق، أو في الرقابة السياسية والأمنيّة على الجامعات، طلابا وأساتذة، أو في ترك الحياة الثقافيّة للإيرانيين تجري في المنافي ويمنع وصولها إلى من ما زالوا في بلدهم لم يغادروه.
وهي حياة موازية تلك التي تجري في الخفاء ابتداء من تهريب الكتب والأفلام وصولا إلى ما يفيض عن ذلك الخفاء خارجا إلى الحدائق العامّة التي، في الليل خصوصا، تنتشر فيها روائح الممنوعات بقوّة ما تُشمّ في الغرف المقفلة. وهي تفيض عن الخفاء أحيانا في عدم التزام سائق التاكسي جانب الحذر حين يسأل راكبي سيّارته على ماذا يريدون أن يحصلوا، ذاكرا بضاعته الممنوعة كلّها بأسمائها.
الأصح أن نقول إنها أجيال وليست جيلا واحدا، أجيال تتجدّد في مجابهة ما يبقى، بالقسر أو بقوة الإعتصام بالعقيدة، على حاله . يصعب على من كانوا أصحاب ثورة ذات يوم أن يقبلوا أن الأشياء لا تبقى على حالها، أو أن مبدأ الحياة هو التغيّر. بعض من كانوا ثوريّي إيران، وانتزعوا السلطة من الشاه، لم يصدّقوا ميل أبنائهم إلى الحياة الجارية في بلد الشيطان الأكبر، كما في بلاد الشياطين الصغار أو الأقلّ شأنا، كمثل بريطانيا وفرنسا وسواهما. قالوا لنا، نحن محاوريهم هناك في طهران، إنهم لا يعرفون كيف تصل أشرطة الفيديو، آنذاك، إلى أيدي أبنائهم وكيف يتسنّى لهم متابعة الموَض الجارية هناك. في ما يعتقده أحمدي نجاد ومن معه ممن يسمّون المحافظين، أو المتشدّدين، أن ما ينشدّ إليه الجيل الجديد لا يعدو أن يكون تعلقّا بالتفاهة. وهو، إذ يخطر له أن يسمّي الطرفين المتنازعين اليوم في طهران، وهذا ما أشارت إليه مقالات صحافية كثيرة، يروح يقارن بين جيل خاض حروبا وأرسى عقيدة وواجه دولا مستكبرة، وجيل لا همّ عنده إلا أن يعيش كما يحبّ ويهوى.
ذلك النظام الرافض للتغيّر لن يستطيع البقاء ما دام ّ كلّ ما يسعى إليه هو إبقاء إيران تحت سلطته. لم يعد مالكا القدرة على احتواء الإيرانيّين بتصعيد الإستعداد للحروب والمواجهات والزهو باقتراب الوصول إلى القنبلة الذريّة. «هذه، القنبلة، لا نريدها... لا نريد أن نواجه أحدا أو أن نتحدّى أحدا» قالت سميرة مخملباف، المخرجة السينمائية الشابّة، معبّرة، لا عن ما يراه أبناء جيلها فقط، بل عما يريده مثقفو إيران ومبدعوها على اختلاف أجيالهم.
طبعا يصعب على المأخوذ بالمشاهد المهرّبة، القصيرة والمجتزأة، والتي «لا يمكن الوثوق بصدقيّة بعضها»، كما ذكرت، متحسّبة، وكالات الإعلام التي توزّعها، يصعب على مشاهدها إذن أن يتنبأ بما ستؤول إليه تلك الإنتفاضة. ربّما ستتمكنّ القوّة من إسكاتها، ربما سيتمكّن مُسكتوها من طيّ صفحتها الآن والقول إن من قاموا بها مجموعة عملاء وجواسيس بدليل أن كثيرين ممن جرى اعتقالهم مشكوك بولائهم لوطنهم لأنّهم يحملون جوازات سفر أميركيّة وبريطانيّة. لكنّهم لن يجدوا إلآّ تشديد القوّة وإبقاءها متحسّبة متيقّظة، القوّة التي ستعتق هي أيضا.
ذاك لأنّ تلك الأصالة الحازمة لم تعد قادرة على أن تصنع رمزا أو أن تجدّد رموزها. مقتل ست عناصر من الباسيج، بحسب ما أورد الإعلام الإيراني، إن صحّ، فسيُنسى من لحظة ما يُستخدم في النزاع الإعلامي، أما ندا سلطاني فأيقونة باقية. ما لن يتمكن المسلحون العسكريّون، أو المسلحون المدنيون المسلحّون بالعصيّ والسواطير، بحسب ما نقل على «التويتر»، من تبديله، هو أن يكون ما جرى، وسيستمرّ جاريا ربما، هو بداية لزمن جديد. هذا ما تؤكّده تلك النظرة، المحدّقة ثابتة في ما هو أبعد من مرماها القريب.

لِمَن أقترع؟ : مواصفات الترشيح الفضلى

logo
المصدر: جريدة الأخبار (http://www.al-akhbar.com)

لِمَن أقترع؟ : مواصفات الترشيح الفضلى

بعد اقتراعها في زحلة (أرشيف ــ أ ب)بعد اقتراعها في زحلة (أرشيف ــ أ ب)حمّى الانتخابات تنتشر وتسري وتستعر في كل البلدان. كل الأنظمة (المتشدّدة في القمع والأقل تشدّداً) تزهو بانتخاباتها، كما يزهو المواطنون باقتراعهم. هناك مثل ابن النازي اللبناني الصغير ممن يلوّحون بإصبعهم المخضَّبة بالحبر أمام عدسات الكاميرا. يبتهجون لمجرّد رؤية صندوق الاقتراع، فيما أنا أبتهج لرؤية صندوق من الحلوى العربيّة (أو التركيّة). التصويت صار إثباتاً للحضاريّة بينما هو بالفعل وسيلة لإسباغ شرعيّة على حكم النخب الاقتصاديّة المُسيطِرة، وللمساهمة في تثبيت وكلاء الاستعمار المُتجدِّد

أسعد أبو خليل*
الاقتراع أحدث معجزة: أبدل مطلب التغيير بوهم التغيير. تضع وريقة في صندوق وتخال أنك تحكم من خلالها. هي تزيّف عمليّة الحكم وتخدّر الناخبين والناخبات: يظنون أن الحكم للشعب لا للنخبة التي لا تكترث للشعب. والمنافسة ـــــ وإن على أشدِّها في الظاهر ـــــ سرعان ما تتحوّل إلى تحالف وقبلات وعناق. والذي وُصِف قبل سنة بـ«السارق والكذّاب والقاتل» استُقبل على الرحب والسعة بعد الانتخابات. لكن السؤال شغل هؤلاء الذين (واللواتي) لا ينتمون إلى أي من المعسكريْن الطائفيّيْن المتقابليْن: لمن نقترع؟ الرفيق سماح إدريس اقترح الورقة البيضاء حلاًّ. لكن المشاركة في عمليّة انتخابيّة حتى لو بورقة بيضاء تسهم في إسباغ شرعيّة على نظام سياسي وانتخابي باطل في أساسه. هناك خيار القعود في البيت أو المشاركة بورقة لاغية، لأن الورقة البيضاء تُحتسب. يمكن مثلاً الاقتراع في لبنان لـ«كسّارات فتوش» ـــــ وهي بالفعل في القلب.
عشت نصف حياتي في لبنان، ونصفها الآخر في الولايات المتحدة، ولم أقترع لمرشّح قطُّ. الكثير من الرفاق اليساريّين (عرباً وغير عرب) اقترع لأوباما هذا العام، وقرّعني لأنني كعادتي لم أشارك في مهرجان الانتخاب. كانت موجة سائدة لمنع التمديد لعهد بوش الفظيع. وهناك منّا من أصرّ على أن الفارق بين بوش وأوباما هو مثل الفارق بين حزب العمل والليكود (أو مثل الفارق بين عقاب صقر وحسن يعقوب). لم أستطع أن اقترع. والاقتراع يفترض إيماناً ولو ضئيلاً بعدالة النظام السياسي والمسيرة الانتخابية، وهذا كان فوق طاقتي وفوق قدرتي على الإيمان بديموقراطيّة التنافس الرأسمالي. ولم أترشّح لمنصب، وإن كان منصب «الزعيم الأوحد» الذي تمتّع به عبد الكريم قاسم ــ الذي مات فقيراً خلافاً للزعماء ــ يُغريني. اتصل بي مرّة قبل حوالى أربع سنوات الراحل بيتر كاميو (المؤسّس والرئيس لـ«حزب الخضر») وعرض عليّ أن أترشّح إلى عضوية مجلس الشيوخ الأميركي عن حزب الخضر. طبعاً، إن فرص الفوز للحزب الذي لا يحوز أكثر من خمسة في المئة من الأصوات في الانتخابات العامّة معدومة، وإن كان مرشحه للرئاسة، رالف نادر، استطاع جذب الكثير من الأصوات في مختلف الولايات عام 2000، مما دفع بالبعض في الحزب الديموقراطي إلى لومه وللأبد على خسارة آل غور. قلت للرفيق بيتر إنني لست ناشطاً سياسيّاً أميركيّاً بالمعنى المألوف، وإنني لم اقترع قطُّ. لا عليك، قال، والحزب سيقوم بكل ما يجب من ناحية التنظيم والإعداد والتمويل، والغاية هي في دفع شعارات ومواضيع لا تحظى باهتمام الحملات الانتخابيّة التقليديّة، وذكر موضوع فلسطين لعلمه بأهميته القصوى في نفسي. عرف كيف يدغدغ مشاعري: ذكّرني بأن الحملة الانتخابيّة ستتيح لي الدعوة إلى قضيّة فلسطين في وسائل الإعلام، ولا سيما في المناظرات التلفزيونيّة ضد السيناتورة دايان فاينشتيْن ـــــ وهي مثل غيرها في مجلس الشيوخ من عتاة الصهاينة ـــــ وتستطيع أن تميّز عتاة الصهاينة في هذه البلاد: هم المتحمّسون والمتحمّسات لثورة (حرّاس) الأرز. ثم بدأ بالكلام اللطيف عن ضرورة التخفيف من حدّة خطابي كي لا نستعدي من يمكن كسبهم، حسبما قال. قلت: أترى ما تفعل يا بيتر؟ تحاول أن تديرني وتسيّرني وتقَولِبني (كما في فيلم «المرشّح» لروبرت ريدفورد) قبل أن تبدأ الحملة الانتخابيّة. اعتذرَ وطلب مني أن أتمهّل قبل إعطاء الجواب. لم يطل تفكيري في الأمر. كتبت له رسالة (أرفقتها على مدوّنتي) شرحت فيها موقفي بالتفصيل. كيف يمكنني أن أدعو الناس للتصويت لي وأنا غير واثق برغبتي في التصويت لنفسي؟ كيف يمكنني أن أشارك في عمليّة انتخابيّة لا أؤمن بجدواها الديموقراطية؟ وكيف يمكن القول بالإصلاح من الداخل فيما أرى أنه يتطلّب أكثر بكثير من الإصلاح؟ شكرته ورفضت الدعوة. ولكن، يمكن في حالات معيّنة أن أقترع.
أنا اقترع لمرشح لا ولم يطلب بركة من رجل دين في يوم من الأيام. لمرشّح لا يقول ـــــ مثل إلياس عطا الله ـــــ أين هو الآن؟ ـــــ إن موقف البطريرك الماروني لا يُعارض أو يُخالف. لمرشّح يناصر أسعد الشدياق (يجب قراءة الفصل عنه في كتاب الرفيق أسامة مقدسي الجديد، «مدافع من الجنة» الصادر حديثاً بالإنكليزيّة) ضد الإكليروس. لمرشح يحذو حذو روبسبيير أو أبي العلاء في عبادة العقل. سأقترع لمن لا يرتدي زي العروبة ليومٍ واحد فقط ولأغراض طائفيّة خبيثة. سأقترع لمن يجاهر بدعوته للعودة إلى اتفاق القاهرة مع تعديله لإعطاء فصائل الثورة الفلسطينيّة حريّة حركة أكبر، مع الإصرار على فك الأسر عن مخيّمات اللاجئين في لبنان، ووقف الإهانات التي يتعرّض لها الفلسطينيّون في لبنان على حواجز الجيش اللبناني. سأقترع لمن يطالب بمعاقبة كل من رفع سلاحه في وجه لاجئ فلسطيني في لبنان. سأقترع ضد من أقام قدّاساً أو قداديس لراحة أنفس عملاء جيش لحد في لبنان: ضد من أقام قداساً لضحايا 11 أيلول مع أنه لم يقم قداساً واحداً لضحايا فلسطين والعراق وأفغانستان. سأقترع مع العقل ضد الشعوذة، ومع العلم ضد زين الأتات. سأقترع لمن يقول إن لبنان لن يكون آخر دولة توقّع اتفاق سلام مع إسرائيل: لمن يقول إن لبنان ملتزم برفض إسرائيل وبدعم تحرير فلسطين وحتى التحرير الكامل والعودة. سأقترع لمن يلتزم برفض مبدئي للرأسماليّة ولمن يقاوم العولمة بكل الوسائل. سأقترع مع الفقراء ضد الأغنياء، مع قوة الضعفاء من دون انتظار ضعف الأقوياء ـــــ كما قال كارل ماركس منبِّهاً. أقترع لمن يؤمّم مشروع سوليدير ويقيم مكانه شققاً لذوي الدخل المحدود، مع الإصرار على محاسبة من انتفع ونصب وسرق وبلف من خلال المشروع منذ إطلاقه الشنيع. أقترع لمن يطالب بمنع الإرث (المالي والسياسي) من أساسه، ومن يرى أن «الإصلاح» يكمن في تأميم مرافق الدولة لا في تخصيصها. أقترع لمن يرفض أن يفصح عن طائفته ومذهبه ومن يطالب بسنّ قانون لمنع أي ذكر للطائفة في القوانين والوثائق الرسميّة. أقترع لمن يترشح لتمثيل المزارعين والعمّال لا الأثرياء. أقترع لمن يطالب بمنع التحريض والفتنة المذهبيّة والتعبئة على أساسها، ومعاقبة المخالفين حتى لو كانوا من سكان السرايا أو من يسيرون بأمر من هاني.
أقترع لمن لا يتهاون في التعامل مع أعوان العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006. من يصرّ على محاسبة كل من قصّر ومن تهاون ومن تعامل ومن تخاذل ومن عرض مواقع للمقاومة على وسائل الإعلام. من يصرّ على محاكمة فريق 17 أيار ويتجاهل مطالب رجل دين طائفي يسعى دوماً لحماية المتعاملين مع إسرائيل. من يرى أن العداء لإسرائيل واجب وطني وقومي وإنساني. أقترع لمن يقسم باسم الذي «خلقا من جزمة أفقا»، لا باسم قسم 14 آذار الطائفي السخيف الذي يتعهّد بديمومة الانقسام اللبناني الطائفي. أقترع لمن ينحني أمام المرأة في الخيمة التي لا تلد إلا جيشاً (كما قال مظفّر النوّاب)، لا الذي ينحني حتى الأرض أمام أمراء النفط وشيوخه. أنا أقترع لشفيق الحوت لا لسمير عطا الله، لناجي العلي لا لبيار صادق.
النائب السابق الياس عطا الله (أرشيف)النائب السابق الياس عطا الله (أرشيف)أقترع لمرشّح فقير معدم لا مال له ليجول بالطائرات الخاصة ولا لباس رسميّاً له ليدخل به إلى ردهات الفنادق الفخمة. لمن يقتات من دون ذلّة ولا سؤال. لمن يتنقّل بين المدن والأحياء بالسرفيس لا بالسيارات الفارهة والقوافل المُصفّحة. أقترع لمن لا ينتمي إلى محاور أو إلى دوائر: من ينتمي إلى الإنسانيّة والثورة الدائمة والمتجدِّدة والخلّاقة. لمن يرى أن إدخال لبنان في منظمة التجارة العالميّة يماثل في خطورته التوقيع على اتفاق 17 أيّار، لمن يرى أن النمو يفترض مخالفة كل توجيهات البنك الدولي وصندوق النقد العالمي.
أقترع لمن لم يفتتن يوماً بالأرزة: من فضّل عليها زيتون فلسطين وبرتقالها منذ نعومة أظفاره. أقترع لمن نبذ الصهيونيّة اللبنانيّة من إنشاء لبنان الحديث مشروعاً استعمارياً رديفاً للكيان الغاصب جنوباً، لمن لم يسامح المطران مبارك (الذي وصفته جريدة «النهار» أخيراً بـ«الوطني») على شهادته أمام اللجان الدوليّة لدعم المطالب الصهيونيّة في الثلاثينيات والأربعينيات. أقترع لمن لا يرى إلا اسم صائب سلام وسعدي المنلا عندما يرى علم الأرزة، ومن يرسم حنظلة فوق الأرزة على العلم. أقترع لمن يقدّر أشجاراً وزهوراً غير الأرزة.
عمرو موسى (أرشيف)عمرو موسى (أرشيف)أقترع لمن لم يلفحه «ريح الشرق» أو ريح الغرب. من اختطّ خطاً خاصاً به (أو بها) من دون استعانة بمحور خارجي. من لم ينسّق ترشيحه مع سفارة أو مع مركز استخبارات، ومن لا يطلب ترفيعاً أو ترقية من أنظمة متخلّفة ومتكلّسة. من يرفض أن يتعرّف ـــــ مجرّد التعرّف ـــــ إلى الأمير مقرن أو إلى رستم ريف دمشق. من يعارض التطبيع مع إسرائيل إن أتى من قطر أو أتى من مصر أو الأردن. من يرى أن ضرورة العمل العربي المشترك تفترض هدم الجامعة العربيّة لا دعمها. من يرى فيها أثراً من آثار الاستعمار. أقترع لمن لا يحبّ عمرو موسى ومن يرفض بالقطع مبادرة توماس فريدمان.
أقترع لمن يحترف الحب والصداقة والفن والحريّة (الحقيقيّة لا تلك المرفوعة في شعارات آل الحريري). من يمتهن الرغبة والشوق والتحدّي والمحظور والمجازفة. من يطير عندما يمشي الآخرون ومن ينام عندما يستيقظ الآخرون ومن يأكل عندما يصوم الآخرون ومن يغني عندما يصمت الآخرون ومن يعزف عندما ينصت الآخرون ومن يصرخ عندما يهادن الآخرون ومن يقف عندما يجلس الآخرون ومن يجلس عندما يتأهب الآخرون. أقترع لمن يصرّ على المشي والقيادة «عكس السير». من لا يأتمر إلا بضرورات الثورة والصراع الطبقي. من يخالف القوانين والأوامر، ومن يسنّ قواعد للمخالفة والمعارضة والرفض. من يقول لا ـــــ لا نعم أو «لعم» التي أتقنها ياسر عرفات.
أقترع لمرشحة ترفض أن ترث مقعداً من زوج أو أب أو أخ أو شقيق أو عم أو خال أو جد. أقترع لمرشحة لا تخجل من المجاهرة بمطلب الكوتا النسائيّة بنسبة النصف (على الأقل). أقترع لمرشحة ترفض أن تقرأ خطباً كتبها لها مستشار أو قريب. أقترع لمرشحة تضع مسألة تحرير الجاريات السريلانكيّات والإثيوبيّات المُستعبَدات على رأس أولويّاتها. أقترع لمرشحة ترفض أن تعدّ تلك السيّدة التي أعدّت أطباق الطعام لشارون على خانة النساء، وأن تطالب بمحاكمتها وتقديمها حليقة الرأس أمام القاضي. أقترع لـ(مرشح) ومرشحة لا تستكين في طلب أكثر من المساواة التامة بين الرجل والمرأة من دون اعتبار القانون والدين والتقاليد والعائلة والشرف الرفيع. أقترع لمرشحة تطالب بيوم للمرأة في كل يوم من السنة. أقترع لمرشحة تنحني أمام سيّدات المخيّمات في لبنان، وخصوصاً هؤلاء اللواتي هُجّرن من نهر البارد بأمر من السنيورة وقيادة الجيش وبموافقة كل الأطراف في لبنان. أقترع لمرشحة لا تخجل من المجاهرة بمناصرة النسويّة الجذريّة، لا نسويّة مقاهي الصفحات الثقافيّة. لمرشّحة ناضلت من أجل حقوق المرأة في كل الطوائف لا في طائفة أو دين واحد على طريقة الاستشراق أو «النسويّة الاستعمارية» كما سمّتها ليلى أحمد في كتابها المهم عن «الإسلام والجندرة». أقترع لمن لا تناضل من أجل المساواة بين المرأة والرحل: بل من أجل قلب كل وسائل القوة والسلطة التي يتمتّع بها الرجل على حساب المرأة وبدعم من الدولة والدين والقيم البالية. لمرشحة تؤيّد جوديث بتلر لا قاسم أمين وأفكاره الإصلاحيّة الباهتة أو النسويّة الأرستقراطيّة لهدى شعراوي التي استفظعت كيف يتمتع «سائقها» والفرّاش بحقوق لا تتمتّع هي بها.
أقترع لمرشح يناصر الفقراء والضعفاء ويناضل من أجل إقصاء غسان غصن عن قيادة الحركة العمّالية، ونفيه إلى جزيرة أرواد معاقبة له على تسخير الحركة العمّاليّة لأغراض سياسيّة رخيصة. أقترع لمرشح يجعل نصرة العمّال السوريّين الفقراء على جدول أولويّاته، ويطالب بمعاقبة القتلة والمعتدين الذين لم يتوقفوا عن التعرّض للعمّال السوريّين منذ اندلاع ثورة (حرّاس) الأرز الخبيثة، وخصوصاً في مدينة عاليه. أقترع لمن يطالب بتحقيقات صارمة وجديّة في أخبار انتحارات الخادمات الأجنبيّات والعمّال السوريّين ووفياتهم. أقترع لمرشح يناصر المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان ضد اعتداءات الميليشيات اللبنانيّة وضد اعتداءات الجيش اللبناني الذي لم يفوّت فرصة منذ إنشائه للتهرّب من مواجهة المعتدي الإسرائيلي. أقترع لمرشح يرفض أن يخوض الانتخابات على قائمة تضم متخرّج في مدرسة النازي اللبناني الصغير، حتى لو ترشح على لائحة المعارضة مثل بوسي الأشقر (الذي وعد في بيان الهزيمة بالدفاع عن حقوق...الطائفة). وأرفض أن اقترع لمرشح (أو مرشحة) لم يدخل مخيّماً فلسطينيّاً واحداً في لبنان ـــــ على الأقل. أقترع لمرشح جاهرَ بمعارضة عنصريّة ثورة (حرّاس) الأرز عندما رأى من لا يستحقّ لقب ثوار وهم يضربون باعة العكك فقط للشك في جنسيّتهم. أقترع لمرشح يحضر احتفالات الجالية السريلانكيّة في لبنان ومن لا يخشى أن يُتهم بالاستزلام للنظام السوري إذا ما هو استطاب الكباب الحلبي أو كرابيج حلب.
أقترع لمرشّح يعد بأن يعود إلى البرنامج المرحلي لـ«الحركة الوطنيّة» ـــــ على أقل تقدير. أقترع لمرشح يواظب على محاربة بوادر الإقطاعيّة ومظاهرها في كل الطوائف. من لا يرضى بقانون انتخابي أضيق من مساحة (مسخ) الوطن الصغير. من يصرّ على اعتماد التمثيل النسبي غير الطائفي لفرض نمو أحزاب فوق الطوائف. من يؤمن بنظريّة المؤامرة للتنبّه والتبصّر خشية تجاهل المؤامرات عندما تطلّ بوجهها البشع. أقترع لمن يرفض اتفاق الطائف واتفاق الدوحة وحتى ميثاق 1943. لمن يرفض كل التسويات الطائفيّة والمذهبيّة. لا أقترع أبداً لمن كنت أذكره في وفود «الحركة الوطنيّة» قبل أن أراه في فريق سليم الحصّ قبل أن أراه في فريق الحريري. أقترع ليساري حالي، لا لسابق. أقترع ليساريّة ماركس وباكونين، لا لليساريّة الزائفة الصادرة عن المكتب الإعلامي في قريطم.
ولكن قد أقترع يوماً ما. لا، سأقترع بالتأكيد لأطفال أهلنا في مخيمات اللاجئين في لبنان. لهؤلاء أعطي صوتي وأضيف إليه لفائف من اللبنة والزعتر مُطعّمة بحبي وحناني. لهؤلاء، أكسر صناديق الاقتراع لأصنع منها لعباً خشبيّة وبلاستيكيّة. لهؤلاء، أقطع كل أشجار الأرز في مسخ الوطن لأصنع منها زوارق خشبيّة يبحر فيها أطفال فلسطين إلى فلسطين. لهؤلاء، أجمع كل اللافتات الانتخابيّة لأجعل منها بطانيّات يتدثّرون بها في ليالي الشتاء. لهؤلاء، أمزّق كل صور المرشّحين والمرشّحات ليكتب عليها ويرسم أطفال فلسطين أحلامَهم. لهؤلاء، أجمع كل قطعة سلاح رسميّة وغير رسميّة (ما عدا السلاح المُكرّس لمقاومة العدو الإسرائيلي) وأوزّعها بالقسطاس على أهل المخيّمات ليدافعوا بها عن مخيّماتهم من شرور العدو والصديق. لهؤلاء، ألغي ديموقراطيّة لبنان الزائفة لنجعل من لبنان «هانوي عربيّة». لهؤلاء، أخيط من كل أعلام لبنان أعلاماً فلسطينيّة عملاقة وكوفيّات وأدعها تغطّي على كل الأعلام الأخرى. لهؤلاء، أجمع كل سمك البحر وأشويه لهم. لهؤلاء، أشرّع كل حدود لبنان لينطلقوا منها للثورة. لهؤلاء، أطرد كل أفراد العائلتيْن اللتيْن أمعنتا تآمراً ضد شعب فلسطين في تاريخه المعاصر. لهؤلاء، أزج في السجن كل من رفع سلاحاً أو يداً ضد أهل المخيمات. لهؤلاء، أرفع جسراً للعودة فوق رؤوس القبعات الزرق القابعة لحماية إسرائيل من مقاومة إسرائيل في الجنوب. لهؤلاء، أمنع إلياس المرّ الهزلي من تولّي أي منصب وزاري حمايةً للبنان والمخيّمات. لهؤلاء، أجعل من الكوفيّة الفلسطينيّة زيّاً رسميّاً للعروبة. لهؤلاء، أغنّي أناشيد الثورة من المآذن. لهؤلاء، أسير وراء قطار الثورة الفلسطينيّة ليمرّ في كل مدينة وقرية في لبنان. لهؤلاء، ألتزم الصمت في ذكرى صبرا وشاتيلا كل عام. لهؤلاء، ألتزم شعار عزل النازيّة اللبنانيّة.
لهؤلاء أقطف كل الرمّان لأطعم به أطفال المخيّمات صباحاً ومساءً. لهؤلاء، أهدم مغارة جعيتا وأبني مكانها متحفاً عن تاريخ نضال شعب فلسطين. لهؤلاء، أكتب على لوحة نهر الكلب أن كل الغزاة والمحتلّين لم يغادروا بعد. لهؤلاء، أبيع محتويات المتحف الوطني لأدعم ثوار فلسطين تحت الحصار المضاعف. لهؤلاء، أحفظ عصافير في قفصي الصدري كي يتلهّى بها الأطفال في ساعات الملل. لهؤلاء، أصبغ الأرزة بالأبيض على العلم اللبناني لأكتب مكانها كلمة فلسطين. لهؤلاء، أقطف كل ورود لبنان لأضعها على أضرحة ضحايا صبرا وشاتيلا وضحايا حرب المخيمات. لهؤلاء، أسرق الطائرات ليتعلّم أطفال فلسطين قيادة عربات العودة الحتميّة. لهؤلاء، أنتزع الطعام من أفواه الأثرياء لأسدّ جوع أطفالهم. لهؤلاء، أستولي على محطات النازيّة اللبنانيّة وأكرّس برامجها من أجل الترويج للثورة الفلسطينيّة. لهؤلاء، أستولي على عربات «الهامفي» المُستعملة التي يتلقّاها الجيش اللبناني من الولايات المتحدة للدفاع عن لبنان بوجه إسرائيل ـــــ والعربات تلك تمثّل صلب الاستراتيجيا الدفاعيّة لكتلة «الأمير مقرن أولاً» ـــــ وأستعملها لاصطحاب أطفال المخيمات في نزهات في كل لبنان. لهؤلاء، أكسر حجارة بعلبك لأدعّم بها ملاجئ المخيمات الفلسطينيّة لتقيهم قصف الأعداء (والأصدقاء). لهؤلاء، أجعل من قمم صنّين منتجعاً صيفيّاً لهم لتقيهم قيظ الصيف. لهؤلاء، أجعل السخرية من ترّهات سعيد عقل رياضة يوميّة مفروضة في كل المدارس.
أما لو عاد «الرجل الخطير»، فهو حتماً سينال صوتي وحنجرتي وسأزيّن بنفسي تمثالاً مرمريّاً له ـــــ وهو أفضل لبناني، من دون أن يكون لبنانيّاً.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)


عدد السبت ٢٧ حزيران ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/144411

ذلك كان المكسب


ذلـــــك كـــــان المكســـــب

أنسي الحاج-الاخبار

نَمْل حول بئر

يواجه الخلاّق فكرةَ العدمِ بفكرة المطلق. (الخلاّق أو الهدّام، قلّة فَرْق من هذه الزاوية). العدم ليس الموت وحده، بل كل ذبول أو وهم يتبخّر. والمطلق ليس دوماً تجريديّاً، بل غالباً ما يتلبّس بمظاهر الجمال البشري أو الفنّي والشعري.
المصاب بسراب المطلق لا يعرف السلام. وقد ترفّه عنه تسلية، لكنّه لا يلبث أن يعود إلى صحرائه وسرابها.
وطالِبُ المطلق لا يشبع، إذا انتصب العائق في وجهه زاده اضطراماً، ولا يتورّع عن بذل أمانه وعافيته في سبيل غايته، متجرّداً من حيائه، وقد انطبق عليه قول يشوع بن سيراخ «في فم الوقح يحلو الاستعطاء، وفي جوفه نارٌ مشتعلة». والمطلق كالحبيب، لا بدّ من إغرائه، والإغراء لا يتوقّف، ومشغوفُ المطلق يأتي في أعلى هَرَم المدمنين.
في الأدب الهندي الفارسي العربي حكاية شهريار، وقد غلبت عليها شهرة شهرزاد، مع أن البطل المأسوي فيها هو شهريار، دون جوان الشرق. الرواية تقول إنه كان يؤتى له كل يوم بامرأةٍ يقتلها بعد قضاء حاجته منها ويعاود سيرته مع الوصال والقتل حتى كادت البلاد تقفر من الصبايا، فتطوّعت شهرزاد لشفاء غليل الملك بسحر الحكاية: جاذبيّة الفنّ وإيحاءاته عوضَ محدوديّة الجسد وصدماته. في الخيال لا تنتهي المرأة ولا الرغبة، والمسافة بين المدّ والجَزْر مردومة بالنوم والنوم مردوم بالأحلام.
قلنا إن الخلاّق يواجه العدم بالمطلق، والصحيح أن الخلاّق يبلور هذه المواجهة بآثار عينيّة أو سمعيّة أو ذهنيّة، غير أن هذه المواجهة لا تقتصر عليه. فبالإضافة إلى العاشق الشهرياري أو الدونجواني هناك المؤمن والمتصوّف، والمعتنق قضيّة سياسيّة مثاليّة، وسائر هواة التفرُّسِ في الهاوية. فضلاً عن الانتحاريّين. لقد جعل الإنسان رفضه لفكرة الزوال أساساً لتشييد حياة رديفة شكّل مجموع مبانيها ما يُعرف بـ«الحضارة»، وبات معها أيّ مستسلم لفكرة الزوال يبدو بطلاً. وذروة المفارقة هنا هي خلّاق الجمال القانع بزواليّته، كأن تقول متصوّفٌ ملحد أو ساحرٌ غير مؤمن بالسحر. ذروة المفارقة، وبرهان على كون الطاقات الإبداعيّة لدى الخلاّق لا تعبأ بمواقفه الواعية...
على أنه من الممكن تَلَمُّس ملامح المطلق حتّى في حياة البسطاء والعاديّين. تكفي مراقبة قناعتهم الظاهريّة. كيف يمكن أن تكون هذه الوداعة مجرّد نهر يتابع سيره بلا شعور؟ مَن يصدّق هذه الكذبة؟ وعلى افتراض ذلك، ألا تكون مثل هذه القناعة المخيفة نوعاً من أنواع الأبديّة المسبقة؟
من بعيد يبدو البشر نملاً ينغل حول بئر، حول الفجوة التي لا مفرّ منها، ولا مُطْلَق ولا ما يَحزنون، بل مجرّد انجراف مع وقت يُعار لنا. وما نصنعه منه وبه لا يُحسب لنا أو علينا إلاّ بعد فوات الأوان.

ذلك كان المكسب

سئلتُ كيف قفزت فوق موضوع الانتخابات. الواقع أني منذ عقد الستينات وأنا أدعو إلى الورقة البيضاء. (أعادتني إليها أخيراً رواية خوسيه ساراميغو «الوعي» وقد أهداني إيّاها صديق كبير). ولم أجد في نفسي الشجاعة لتكرار الدعوة، فاستدرت صوب شؤون أخرى.
لا شك أن البلاد تجتاز أزمات، والانتخابات فرصة يمكن اغتنامها للمساعدة. لكنّي أفضّل التخلّي عن هذه الأدوار للأجيال الشابة المتحمّسة، فجيلي، أو أنا وليس جيلي، سئمت محاولات بثّ الآمال الوطنيّة. لستُ ممّن يدعون الشباب إلى اليأس ـــــ مع أنهم لو فعلوا لكان في ذلك كسرٌ لرتابة الفصول ـــــ لكنّه العمر. بالكاد لا أزال أتوسَّم خيراً في المعجزات، وصرتُ أنظر بضيق نَفَس إلى قضايا مررنا بمثلها وتباطحنا وإيّاها قبل أن نكتشف أن شيئاً واحداً حقّقناه عليها وليس هو الانتصار ولا التغيير، بل تسجيل مساحة جديدة للحريّة في نهاية الصراع.
هذا كان مكسب معاركنا المتأرجحة بين السذاجة واليمين واليسار والأنارشيّة. حتى أسخف حروبنا ما كنا نخرج منها إلاّ بقطعة حريّة.
لم نخترع هذه الخصلة بل هي جزء من تراث شعبنا. مساحةُ وداعة حين تُترك لعاداتها، ومساحةُ شغب حين تُمسّ عاداتها، ومساحةُ عصيان تراجيدي عندما يُمسّ قدس أقداسها وهو الحريّة. تستطيع أن تتفاوض مع شعبٍ اكتسبَ حريّته بأبحاثه الفلسفيّة والسوسيولوجيّة والاقتصادية أو نتيجة حرب عالمية. تستطيع أن تتجادل وإيّاه في بديل مؤقت، كالفاشيّة أو النازيّة أو الشيوعيّة الستالينية، أو أن يقنعه نابوليون بالتنازل عن نمط عيشه لقاء حلم الإمبراطورية. لكنك لا تستطيع أن تقدّم إي إغراءٍ كافٍ للتنازل عن الحريّة إلى شعبٍ تشكّل الحريّة جزءاً أساسياً من جيناته وقانوناً يومياً لعادات معيشته ومتنفّساً وحيداً يفرّج عبره عن مأساة كونه مغامراً كونيّاً في وطنٍ أصغر من قفص وجميع المحيطين به يحاولون «إقناعه» بإعلان الطاعة.

زئبق

أُنْتَقَدُ على ما لم أقُل أو أُمْتَدح على ما لم أقصد إليه. ليس القارئ هو دائماً المسؤول عن ذلك بل أيضاً تعثّري في إيصال فكرتي. مثلاً: كلمة قلتها حول سوء حظ أدباء العرب مع الآلة الإعلامية الغربيّة. كان المقصود أننا مُهْمَلون لأنّنا نكتب بلغة لا تنتمي إلى الهيئة الحاكمة، لا لأننا لا نقدّم نتاجاً كغيرنا قد يستحقّ الاهتمام. فُهمَتِ الكلمة دعوة ضدّ العربيّة وإشادة بالحرف اللاتيني. وقبل أيام، في حديثي عن أسطورة اليهودي التائه، فُهم أنّي أتبنّى الخرافة القائلة إن المسيح تلفّظ بما يُزعَم أنه قاله للإسكافي والخادم، بينما المقال هو لرفض هذا الادّعاء المناقض تماماً لدعوة الناصري ولقضيته.
خصبٌ هو موضوع سوء التفاهم، وابتداءً من أصغر تفاصيله كالتي نحن في صددها، إلى أكبرها.
مرّة جمعتنا مقابلة تلفزيونية أنا والفنان الكبير ريمون جبارة فأخذ يتحدث عن «سوء التفاهم الخلاّق». كان ذلك قبل رواج عبارة «الفوضى الخلاّقة» بسنين. كان يتحدث عن إيجابية في خلل التواصل أو تبلبله بين الكاتب والقارئ. عن برج بابل ما قد يفضي إلى لغة أفضل ممّا كان سائداً قبل البلبلة.
التفاهم رضى، سوء التفاهم قلق. الرضى ارتواء، القلق زئبق.
الزئبق رسول الآلهة.

حريّة العلاقة بالغيب

تُحتمَل فكرة الدين في حالة واحدة هي أن يكون، بفضل بذور باطنيّة فيه، سبيلاً إلى النفاذ نحو فضاء اللادين، نحو حريّة الاختيار المطلقة لنوع العلاقة بالغيب.
كما كان مفترضاً في الشيوعيّة أن يكون تطبيقها في الدولة سبيلاً إلى زوال الدولة.

إلى السيّد اسبر نصر الله ــ أوتاوا

عذراً أيّها القارئ، مشكلتك معي هي مشكلتي معك. من جهتي حللتها بكوني لا أكتب لك، من جهتك، الحلّ هو أن لا تقرأني. لعلّ هذه هي إحدى حريّاتنا القليلة.



عابـــرات

لم تقع عيناي على أوراق الشجر المتساقطة إلاّ سمعتها تنادي بشيء قريب من: «ارفعني!».
■ ■ ■
أنتَ أقلّ من إبداعكَ إلى أن تتباهى به فتمسي أقلّ من الأقلّ.
■ ■ ■
ندعو بحرارة إلى الصدق والتخلّص من التمثيل. هل توقّفنا لحظةً وفكّرنا أنَّ ما لا يداخله التمثيل بتاتاً هو كارثة؟
■ ■ ■
ما يحصل يموت فوراً والعين لا تحبّ إلاّ البعيد.
■ ■ ■
ما الذي يسكن أيضاً في النور؟ الأشباح. وفي صميم النور.
■ ■ ■
من زمان تولّى قيادة الدفّة رجلٌ قليلُ الألمعيّة، فقال لي أحد الأصحاب: بعد الآن، واجبُ الجميع وطنيّاً أن يكونوا أكثر «مديوكريّة» منه.
■ ■ ■
غيرُ صحيحٍ أن الحياةَ تحبّ مَن يلعنها، إنما هي تُواصل تعذيبه حتّى ينتقل من لعنها إلى تمجيدها. حينئذٍ ترتاح، ثم تبدأ بالضجر منه ومن وداعته.
■ ■ ■
قد تجتهد لتتخيّل الآخر، أما نفسك فإنك تغرق في تخيّلها من اللحظة الأولى حتى الأخيرة.


عدد السبت ٢٧ حزيران ٢٠٠٩


الجمعة، ٢٦ حزيران ٢٠٠٩

ذاكرة بيروت المتنوعة في بطاقات بريدية

الجمعة, 26 يونيو 2009
1245923155751582800.JPG
الإسكندرية - خالد عزب

جاء اختيار بيروت عاصمة عالمية للكتاب في 2009، ليحرّك رغبة الباحثين في مزيد من استكشاف هذه المدينة. خمسة آلاف عام وربما يزيد، هي عمر العاصمة اللبنانية التي دمرتها حروب وغزوات واقتتال وعاودت العمران. لكن لبيروت ذاكرة حية، خصوصاً عبر تلك البطاقات البريدية التي تؤرخ للمدينة في نهاية القرن الـ 19 والنصف الأول من القرن العشرين. وتستوقفك في هذا المجال جهود اثنين من أبناء لبنان، الأول فؤاد دباس بمجموعته من البطاقات البريدية، والثاني خالد تدمري بمجموعته الفريدة من الصور القديمة للمدينة. حاول فؤاد دباس أن يقدم بيروت بصورة مختلفة من خلال مجموعته من البطاقات البريدية.

كان مرفأ بيروت متواضعاً بسيطاً كما تكشفه الصور الملتقطة، غير أن تطوراً كبيراً حدث عقب توسيعه على يد الشركة الإمبراطورية العثمانية. فبات مرفأ حديثاً امتد في البحر بفضل إنشاء رصيف بحري طوله 800 متر، شبة مواز للشاطئ، ما يسمح ببلوغ أعماق كبيرة. وفي العام 1925 أصبحت الشركة المشرفة عليه فرنسية، وأضيف حوض جديد وتم توسيعه أيضاً في العام 1934.

وبني أول فندق عند المرفأ في العام 1849، على يد الفندقي الشهير باتيستا، وقبالة الفندق، على الأرض المستحدثة من جراء ردم المرفأ القديم، افتتحت محال أوروزدي باك الكبيرة فرعها في بيروت في أيلول (سبتمبر) 1900، لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لوصول السلطان عبدالمجيد الثاني إلى الحكم، فكان أجمل فرع لهذه المحلات في المشرق، وأولها المجهز بمصعد. وبعد أن دمره حريق مفتعل في 1937 شيدت في مكانه بناية فتال.

حظيت بيروت بتصميمات للمعماري الفرنسي الشهير غوستاف إيفيل عام 1893، كان منها رصيف بحري ومحطة استقبال الركاب في المرفأ ومستودعات الجمارك. وكان هذا جزءاً من محاولات تحديث بيروت التي كان سكانها يزيدون على ستة آلاف في القرن 19 الميلادي. وشهدت بيروت عمليات هدم متتالية 1245923155381582500.JPG سواء لشق شوارع واسعة أو لخطوط سير الـ «تراموي»، غير أن أكثر ما يثير الانتباه في بيروت هو البوسطة العثمانية (البريد).

كانت دوائر البوسطة العثمانية موزعة في أنحاء المدينة. لكن أهمها كان الدائرة المركزية التي دشّنت في 24 آب (أغسطس) 1908، ويقع المبنى قبالة خان أنطون بك الذي كان يضم دوائر البوسطات الأجنبية: إنكليزية، فرنسية، روسية، ألمانية، ونمسوية. وبالفعل، كانت الدول الأوروبية العظمى تتمتع بامتياز نقل البريد. وكان التجار المحليون والأجانب يفضلونها على البوسطة العثمانية التي كانت تعتبر بطيئة وغير أمينة. وبقي الوضع على حاله، على رغم المحاولات الفاشلة التي قامت بها البوسطة العثمانية بإجراء خفوضات كبيرة على الرسوم البريدية وزيادة فروعها في المدينة وحتى فتح دائرة مركزية تجاه منافسيها. لذا، قرر العثمانيون، وبعد أن أعيتهم الحيلة، إلغاء امتيازات البوسطات الأجنبية في المشرق قبيل الحرب العالمية الأولى.

وإذا أردنا أن نلقي نظرة على بيروت، فما علينا إلا العودة بالذاكرة لحي الزيتونة، فإنه مع حلول العام 1830، بدأت المدينة تخرج من أسوارها، ما جعل الفنادق تنتقل غرباً عند واجهة البحر. وبالفعل، كان من الأسهل على المسافرين الوصول بالزورق إلى فندقهم، بعد الانتهاء من الإجراءات الجمركية والصحية، إذ كانوا بذلك يتفادون المرور داخل المدينة القديمة وأزقتها الضيقة المحظورة على عربات الخيل. لا سيما أن شرق المدينة القديمة لم يكن صحياً (دباغات، مسلخ) ويصعب الوصول إليه بحراً بسبب صخور حي المدور المرتفعة.

وفي أي حال، كان الأجانب المقيمون في بيروت اختاروا السكن غرب المدينة ومنهم القناصل، لذا سمي هذا الحي بحي القناصل. ابتداءً من رأس الشامية حيث تقوم مجموعة من المقاهي على ركائز خشبية منها مقاهي البحري وقصر البحر والبحرين. كما كانت هناك مقبرة السنتية الإسلامية التي أعطت اسمها للمحلة. ويرجع اسمها غالباً إلى شجر السنط الذي كان يكثر وجوده هناك. وقد بنيت على جدارها في الثمانينات محال 1245923155601582700.JPG تجارية، عرفت بالمخازن الجديدة.

غرب رأس الزيتونة، يقع خليج صغير، هو ميناء الحصن. وكانت سفن النزهة الخاصة لرواد فندق سان جورج ترسو فيه، وكذلك مراكب بعض الصيادين. شهد هذا الخليج حوادث عدة، آخرها نزول القوات الفرنسية بقيادة الجنرال بوفور دوبول في 16 آب (أغسطس) 1860، فعرف بمرفأ الفرنسيين. ويبدو أن المدينة الرومانية كانت تمتد حتى هذه النقطة.

وبالتوجه غرباً، تمر الطريق الساحلية بمحاذاة الكلية السورية الإنجيلية. ويعود إلى الوالي إسماعيل كامل بك فضل المبادرة إلى إصلاح الطريق الساحلي من جسر المرية إلى ميناء شوران في 1892. كما تظهر على الطرف الشمالي الغربي للمدينة المنارة التي بناها مهندسون فرنسيون ما بين 1862 و1863 والتي كانت تشرف من علو ثمانية وثلاثين متراً، على ميناء شوران الذي أصبح لاحقاً الحمام العسكري وعلى ملعب نادي النهضة الرياضية.

وتطوف بنا مجموعة بطاقات فؤاد دباس البريدية في عدد من الأحياء اللبنانية العريقة ومنها: حي الصنائع، الذي لا يزال قصر فرعون يرتفع على أعالي التلة في شارع الجيش، والذي بناه روفائيل فرعون عام 1892 ومن ثم، جمع فيه حفيده هنري إحدى أجمل المجموعات الخاصة من الأثريات والتحف الإسلامية والصينية، وكذلك مجموعة سجاد شرقي لا تقدر بثمن.

أما حي زقاق البلاط، فيوجد فيه أول طريق عُبد بالبلاط البركاني الأسود في بيروت. وكانت المطبعة الأميركية أول إنجاز حققه المرسلون البروتستانتيون. تأسست عام 1822 في مالطا، وانتقلت في 1834 إلى بيروت، جنوب غربي باب يعقوب. وفي السنة ذاتها بنت السيدة سارة سميث في المحيط نفسه، أول مدرسة للبنات في الإمبراطورية العثمانية.

وغالباً ما يعزو المؤرخون إلى الأمير فخر الدين تشجير حرج بيروت بالصنوبر، كان الحرج متنزهاً لسكان المزرعة والبسطة والمصيطبة. وبني فيه حسن أفندي الحلبوني، أحد وجهاء بيروت من أصل دمشقي، جامع الحرج للقاطنين في تلك المنطقة، والذي أصبح لاحقاً ملكاً لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية.

وينسب 1245923155461582600.JPG حي الأشرفية إلى الملك الأشرف خليل بن الملك منصور قلاوون الذي طرد الصليبيين من مدن المشرق الساحلية والذي بنى، كما يقال قصراً هناك.

وتوثق البطاقات البريدية لبيروت التغيرات التي طرأت على الشاطئ الشرقي والتي غيرت معالمه، عندما نقاربه بصور ورسوم القرن الماضي. انطلاقاً من البرج المسلح، وهو حصن كان يشرف على المرفأ القديم، وصولاً إلى رأس الخضر، لم يكن هنالك سوى شواطئ صخرية عالية جداً.

ولعل من أهم البطاقات التي تنطبع في الذاكرة بطاقة بريدية تذكارية عن زيارة غليوم الثاني قيصر ألمانيا، وثورة عام 1908 واحتشاد الجماهير في المحطة البحرية لاستقبال العائدين من المنفى، كذلك بطاقات تجسد الهجوم البحري الإيطالي الذي أعقب النزاع الإيطالي العثماني في طرابلس الغرب. ناهيك عن الحرب الكبرى ودخول جيوش الحلفاء، فضلاً عن المهن البيروتية.


copyright © daralhayat.com

العــودة إلــى الشــيخ إمــام

العــودة إلــى الشــيخ إمــام

عباس بيضون

نعاود سماع الشيخ إمام ونعيد كل مرة اكتشافه. لسنا فقط معاصري الشيخ ولكن معناأيضا أبناؤنا الذين لا يعرفون ما هي هزيمة 67 وربما أحفادنا الذين لن يعرفوا حرب لبنان او احتلال العراق. سيبقى الشيخ هو نفسه تقريبا بالنسبة لنخبة غير متعينة وكأن لم يمر عليه الزمن. رغم ذلك ليس للشيخ مقام في التاريخ الرسمي للأغنية العربية. انه يداوم على نبذه ويجد سهولة في ذلك اذ يفضل حتى محبو الشيخ ان يبقى لهم وحدهم. وأنا ايضا لست مؤرخا ولا خبيرا لكني أظن ان المؤرخين والخبراء، اذا وجدوا، لن يستطيعوا الاستمرار في تجاهل الشيخ. خطر لنا في يوم ان الشيخ جاء مع موجة هزيمة حزيران وسيذهب معها. كنا ذلك الحين أكثر ما نكون جهلا بالشيخ وحسبنا أنه جزية مفروضة علينا «للثورة». حسبنا أن موسيقاه تنفع في هذا الظرف وصوته يصح في هذا الظرف وأداءه يجوز في هذا الظرف. كان صوته العريض الجوفي لا يناسب الرخامة او النعومة المطلوبتين في الطرب العربي حيث الصوت في سلاسته وضبطه يباري الموسيقى. كانت موسيقاه مباشرة وفورية ولا تباري المقدمات السيمفونية التي اولع بها موسيقيو الأغنية العربية وكان أداءه نابعاً من تقاليد عريقة متعددة فاستكثرنا، يومذاك، على غناء ثوري أن يكون تقليديا. سايرنا الشيخ إمام آنذاك أكثر مما أحببناه، حفظنا أغانيه وأديناها في سهراتنا لأنها كانت أغنياتنا، وحسبنا أنها مناسبة لهذا السبب وحده.
لكن الشيخ عاش معنا وهو الآن يعيش مع أبنائنا الذين، فيما أحسب، يحسنون تذوقه أكثر منا. بل هم الذين يدربوننا مجددا على تذوقه من حيث لم يدر لنا في ماضينا الثوري. انهم يحبون خليطا من أغانيه ولا يتوقفون عند (غيفارا مات) وامثالها. بل يتراءى لي أن غناءه السياسي ليس الأرسخ بالنسبة لهم ولأغاني الحب مقام مماثل. ثم ان غناء الشيخ امام السياسي وبأشعار نجم البارعة لا يزال يُسمع ويحب رغم انقضاء الظرف، ورغم ان المناسبة اختفت. لا يؤثر في ذلك ان تواريخ وأسماء متضمنة في الأغاني لم يعدلها مجرى في الذاكرة. ثمة في أغنية إمام ـ نجم قوة تعبير لا تتخطى المناسبة فحسب ولكنها تحيلها إلى رعف داخلي ومعاناة لا يمكن تجنبها. مصر مثلا في أغنيات إمام ـ نجم لا تحيلنا على المارش الحربي العصبوي الذي نراه في الوطنيات العربية، لكن إلى صلة مغلوبة بالأرض والناس لا يمكن للعذاب الذي فيها الا أن يلمسنا.
مع الوقت ننتبه إلى أننا، نحن الذين تعلقنا بغناء الشيخ، اخترنا ان نوجزه في جانب منه. اخترنا السياسي فيه مع انه ليس سياسياً إلا بمقدار، فهو في الغالب معاناة جماعية مكسورة اكثر منه موقفا. الموقف أضعف ما فيه فالرعف واللهفة والانخراط المأسوي هي الأساس. ليس السياسي هو الأساس في عمل نجم ـ امام. لا لأن موضوعات أخرى موجودة بالقوة نفسها، الحب مثلا، فليست المسألة مباراة بين موضوعات. ليس السياسي او غيره من الموضوعات هو ما يهم الآن في غناء الشيخ. ما يهم هو اللغة والأداء والموسيقى. ما يهم هو التجربة الفنية التي لا نستطيع ان نعزلها، لوقت طويل عن محيطها الفني. لا بد أن نقول هنا ان تجربة امام نجم ورشة فنية كاملة. نحن امام مكان لا حدود فيه للتجريب والتنويع. ولا حدود فيه للابتكار والمغامرة. تجربة امام ـ نجم، واستعجل هنا القول، قد تكون أهم تجربة في الأغنية العربية الحديثة وان تم هذا بوعي وغير وعي. بل يمكن القول انها هي وأغنية زياد الرحباني المحاولتان الوحيدتان لتجديد فعلي. أما محاولة زياد فهذا واضح في مشروعها نفسه وفي مراجعها وتوجهاتها، فيما ان محاولة نجم ـ إمام لم تضع هذا في مشروعها الأولي. لقد وصلت إليه بزخم وبغزارة بدون ان تعنيه غالبا أو تتقصده. ثم ان تجربة إمام ـ نجم تضع بساطة وسهولة حلولاً لما هو اشكالات مزمنة ومقيمة. اذا كانت تجربة زياد الرحباني هي في القفز على تقاليد راسخة. فإن تجربة نجم إمام هي، بالعكس، في استنفار التقاليد بما في ذلك اكثرها سفليه وثانوية، فالتقاليد ليست وحدها تقاليد الطرب البلاطي والارستقراطي. التقاليد هي ايضا تقاليد في اللغة وفي الأداء وفي اللحن وفي التعبير غائرة في الطين الشعبي وهي في الغالب مهجورة، انها أيضا تقاليد تتصل بعذابات شعب وملحمته. كان صنيع امام ـ نجم ان رفعوا هذا التراث الغائر إلى الفن، وهو تراث مدهش في تنويعه وفي وتائر تعبيره: السخرية والتهريج والتعريض واللعب الكلامي والاشارات الضمنية واللمز الخفي والنكتة والنواح والنشيد الحكائي والعديات والوقفات الملحمية... الخ كل هذا التراث طفا بالكامل في غناء نجم ـ إمام وطفا معه طين لغوي لا حدود لثرائه. طين يعصى علينا أحيانا فهمه لكننا لا نزال نشعر بنبضه ومعاناته وغناه.
هكذا نجد أنفسنا أمام تجربة تحاكي تجربة البلوز. لقد صعد من التقاليد روح شعب وتاريخه ومعاناته بل صعد من التقاليد قوة عبارة تلامسنا في أعماقنا.
لا يحتاج إمام ـ نجم إلى الكثير ليرفع هذا الطين الشعب إلى تجربة ومعاناة مفتوحتين. هذا يحدث بقوة الزفرة الداخلية وبقوة الأداء وبقوة الموسيقى. سماع إمام ـ نجم لا يضعنا أمام تجربة فردية، اننا أمام أصوات متعددة ووتائر متعددة. هنا القوال الذي ينشد بكل لغة ويعطي لكل صوت مقامه. يسخر ويهرج بالصوت الذي يبكي به والذي يتعذب به، اننا أمام مسرح كامل وأمام تعدد بلا حصر داخل الأداء نفسه. الشاعر والمغني والمونولوجيست والمنشد والقوال والمنشد هم بالتواتر وفي أدوار وألعاب ومقامات متوالية متداخلة داخل غناء يتحول إلى أوركسترا بإداء واحد وصوت واحد. ثمة الآن هذا الأداء غير الخطي الذي يسم الأغنية العربية. غير الخطي وغير الطربي الذي يجعل التلوين الصوتي والترخيم والتجويد في المقام الأول. لا بد ان التجويد أساس في غناء الشيخ إمام لكنه واحد من عناصر، انه دور من أدوار (بالمعنى المسرحي للكلمة). للتجويد مكان لكن للعدية الشعبية ايضا مكان. للموال مكان وللقوال ايضا مكان.
ليست التقاليد للتقاليد في غناء إمام نجم، فالغناء هنا ليس تمرينا على الأصيل كما يحدث غالبا. بل لسنا البتة أمام أي أصالة او مديح للأصيل. ليست التقاليد هنا سوى مخزونها من المعاناة والزخم التعبيري وهي تنكسر فوراً برسالة فورية وحيه وراهنه بل تنكسر بقوة الآنية واللحظة فيها.
هنا في كل شيء هذه اللحظة وذلك التعبير الفوري الصادم. الموسيقى ليست تمارين سيمفونية انها في الغالب فورية ومباشرة ومتغيرة كالكلام الذي تصاحبه. انها من جنسه ومن لونه، عدية كان أم فكاهة أم موالا أم انشاداً أم.. أم. اما صوت الشيخ إمام الذي احتملناه في يوم على مضض فقد احتجنا الى الوقت لنرى فرادته الهائلة وجماله الذي يتفتح أكثر فأكثر كلما سمعناه. ليس بالطبع الصوت الرخامي والمصقول والزخرفي، فهو في الحقيقة يتنكر لهذه الصفات فيه ويتجاوزها كل لحظة لنجد أنفسنا أمام غناء متحرك حيوي لا يقع في ما يقع التجويد فيه من رتابة وبطء. ينطلق من التجويد، حين يريد، ليضعه في حركة ودرامية ليستا، في أصله، نتذكر محمد عبد المطلب وارمسترونغ وآخرين. نتذكر هذه الأصوات التي هي أكثر من غناء وأصحابها أكثر من مغنين.

السفير----تاريخ العدد 26/06/2009 العدد

الأحد، ٢١ حزيران ٢٠٠٩

اسمعْ يا غلام: أمثولة عن حـزب النازيّة اللبنانيّة


اسمعْ يا غلام: أمثولة عن حـزب النازيّة اللبنانيّة

الرئيس أمين الجميّل يدلي بصوته (أرشيف ــ أ ف ب)الرئيس أمين الجميّل يدلي بصوته (أرشيف ــ أ ف ب)
تمرّ انتخابات وتمضي الأعوام ويبقى في مسخ الوطن، لبنان، بعضٌ من الثوابت. التكاذب والتحايل والنفاق المُتبادل، إضافة إلى ارتهان الداخل للخارج، وخصوصاً إذا كان غربيّاً أو إسرائيليّاً. هناك دول مستقلّة ودول مُستعمَرة تسعى للاستقلال. لبنان لم يكن يوماً مستقلاً ولا يسعى بنوه نحو الاستقلال. على العكس، لبنان بلد يفخر فيه بنوه بتدخّل الرجل الأبيض وتطفّله على شؤونه ويعتبرونه دليلاً على عظمة لبنان حيث «يكتشف» الأطباء أدوية شافية من السرطان مرة في الأسبوع، وفقاً لجريدة الشوفينيّة اللبنانية («النهار»)
أسعد أبو خليل*
إذا كان أهل البيت يُطربون للذلّ فما نفع التنبيه؟ وإذا كان قسم كبير من أهل البلد يقاوم الاستقلال والحريّة، فما نفع عيد للاستقلال ـــــ ولو مرّة كلّ عشر سنين؟ ما نفع السيادة في بلد يصمت فيه السياديّون ـــــ ولا سيما البطريرك الماروني الذي لبس لباس العروبة ليوم واحد في 6 حزيران ـــــ عن الاكتشاف المتسلسل لشبكات تجسّس إسرائيليّة؟ ماذا كان سيكون موقف هؤلاء لو كانت تلك الشبكات سوريّة أو إيرانيّة؟ أسوأ من ذلك، هناك من يقول إنّ المتّهم بالعمالة لإسرائيل زياد حمصي نشط انتخابيّاً حتى لحظة توقيفه (كان «سياديّاً» هو الآخر).
وآل حزب عقيدة الأرزة باتوا من الثوابت في تاريخ لبنان المعاصر: ومنهم برز على مدى حقبة مظلمة في تاريخه المعاصر أسوأ لبناني في تاريخ البلد على الإطلاق: من سعى إلى تبوّؤ منصب رئاسة جمهوريّة إسرائيليّة على كل أرض لبنان. قُضي على المشروع بالضربة القاضية. ويأتي إلى مجلس مبعوثي الطوائف (المُنتخب حديثاً) في لبنان ممثلان اثنان عن عائلة حزب المؤسِّس. ولكن إذا كان الجيلان الأول والثاني من العائلة مخيفين بقدرتهما على التأثير في وضع الكيان وروابطه الخارجيّة، فإن الجيل الثالث مهزلة «عن حق وحقيق». هم مثل إيلي ماروني (الذي يرصد نفقات وزارته الموقّرة لدعوة الجمهور اللبناني للتصويت على الإنترنت من أجل جعل مغارة من مغارات لبنان ـــــ ولا مغارات ولا حمّص إلا في لبنان طبعاً ـــــ عجيبة من عجائب الدنيا السبع. لو أن لنا قدرة على التصويت لجعلنا من فساد النظام اللبناني الذي يأتي بإيلي ماروني نائباً ووزيراً عجيبة من عجائب الدنيا السبع). وماروني هذا يضع اللمسات الأخيرة على خطة لاقتحام مواقع حزب الله في لبنان ونزع سلاحه لطمأنة إسرائيل. لا ندري إذا كان ماروني سيستعين بكسّارات زحلة (وهي في قلب نقولا فتوش الذي ـــــ الحق يجب أن يُقال ـــــ كتب أبلغ الكلام في مديح آل الأسد حتى إن تقلّباته استحقّت هي الأخرى أن تُدرج في عجائب الدنيا السبع، وفي كسّاراته من الصخور أكثر مما في جعيتا).
لكنّ موضوعنا يتعلق بنائب لبناني جديد دخل الندوة النيابيّة مثله مثل والده: وراثة على النمط الإقطاعي التقليدي الذي يحظى باهتمام الأنثروبولوجيا لا علم السياسة. العصا كانت تفوز في قوائم أحمد الأسعد في الجنوب خلال زمن غابر، والعصي تفوز اليوم في قوائم زعماء الطوائف.
اسمع يا غلام، واسمع جيداً. شاهدتك قبل أسابيع وأنت تقرأ بعض الكلام العامّي المكتوب (وقراءة الكلام العامّي المكتوب باتت موضة سياسيّة مألوفة، لأن النطق والحديث يصعبان على أمثال سعد الدين (الحنيف) الحريري وميشال معوض ونديم الجميّل ونايلة التويني («الكاتبة» في جريدة «النهار» ـــــ عليك ان تصدّق أن جدّها استكتبها لمواهبها الكتابيّة في اللغة العربيّة) وغيرهم. أنت طالبتَ بيوم حداد وطني لتكريم عمّك ـــــ النازي اللبناني الصغير، وأضفت كلاماً مُتعاطفاً عن عملاء جيش لحد وجزّاريه. وعند إعلان لائحتكم الانتخابيّة بزعامة رفيق رستم غزالة ونديمه في مرحلة سابقة، سخرتَ من أهل غزة، وقارنتَ بين غزة و«حضاريّة» لبنان، وعدت لتكرّر كلامك أثناء حملتك الانتخابيّة التي نصّبتك بإرادة سعوديّة ممثّلاً لأمة (حرّاس) الأرز. انصتْ يا غلام، وانصتْ جيداً. أيامُكم وسنوات مجدكم الميليشياوي الفاشي ومجد راعيكم في إسرائيل ولّت ولن تعود. لَوّح لتلك الأيام المظلمة من تاريخ لبنان بالمناديل لأنك لن تراها ما حييت، ولن يراها أولادك وأحفادك من بعدك. اسمع يا غلام، يا من نطق أول كلامه فيما كان ضباط العدو وجنوده يجولون في قصر بعبدا: مسخ الوطن تغيّر، وتغيّر كثيراً عن أيام كانت تستقبل فيها عائلتك أرييل شارون في قصر العائلة في بكفيا. يوم كانت زوجة النازي اللبناني الصغير تقوم بإعداد أطباق الطعام بيديها لأن شارون يستذوق طعامها، كما روى في مذكراته. وقد روى أيضاً أن الرجل الذي تريد أنت أن يُعلن لبنان الحداد عليه سنوياً كان يتلذّذ بأداء دور سائق لشارون خلال تجواله السرّي في لبنان أيام الحقبة الإسرائيليّة. أسوأ لبناني يستحق أن يُدرج على رأس قائمة العار في التاريخ اللبناني. هذا ما يستحقّه، لا أكثر. أما اليوم، فلا يجرؤ جنود إسرائيل على الاقتراب من الحدود مع لبنان. الجندي الإسرائيلي بات يخاف المقاوم اللبناني يا غلام. أوَتدري عمق التغيّر في الصراع مع العدو الإسرائيلي؟ أوَتدري حجم المتغيّرات في مسخ الوطن الذي لخّصتموه في تلك الأرزة المستوحاة من الأعلام النازيّة التي بهرت جدّك؟ هاك أمثولة في التاريخ، لعلك تتعلم وتتعظ. أنت تحتاج إلى درس في التاريخ والجغرافيا والآداب العامة حتى لا نتحدّث عن الديموغرافيا واللغة الرسميّة للبلاد.
جدّك يا فتى كان أول ناقل للنازية إلى ربوعنا العربيّة، يا فينيقي (أنت الذي لم يدخل الحلبة السياسية إلا بأمر من الأمير مقرن وموافقته، لا تزال تؤكّد للوفود الأجنبيّة التي اجتمعتَ بها أخيراً ـــــ كما أخبرني واحد من تلك الوفود ـــــ أنك فينيقي ولست عربيّاً). شاهد الألعاب الأولمبيّة في برلين وفُتن بالنازيّة وبتنظيمها وعقيدتها العنصريّة. لم يخف إعجابه بالتجربة النازنية عندما صرّح لعدد مجلّة «العمل» السنوي بأن تجواله في ألمانيا وإيطاليا والنمسا دفعه لإنشاء الكتائب: «... فشاهدت بأم عيني تلك الشبيبة المنظمة، وهداني ذلك إلى التفكير في تنظيم شبيبتنا اللبنانيّة على مثالها». (بيار الجميل، «العمل» السنوي لعام 1966) سلبت عقله الفاشيّة ونظريّة تراتبيّة الأعراق والجماجم والسلالات البشريّة، وعاد إلى لبنان لينشئ حركة فاشيّة. لم يجهد حتى لتغيير الاسم: أخذه من حركة فرانكو. وكما تنادى اليسار العالمي لمحاربة فاشية فرانكو، تنادى اليسار العربي لمحاربة فاشية آل الجميّل ـــــ وفي هذا فخر لليسار العربي (فخر اليسار والشيوعيّة العالميّة أنهما كانا أول من تنبّه إلى خطر الفاشيّة والنازيّة عندما كانت الليبراليّة الغربيّة واليمين متصالحين معهما. ولكن يبقى اتفاق ستالين مع هتلر وصمة عار).
سامي الجميّل (أرشيف ــ أ ف ب)سامي الجميّل (أرشيف ــ أ ف ب)

حزب النازيّة اللبنانيّة الذي أسّسه جدّك لم يخض انتخابات نيابيّة منذ 1951، معتمداً على نفسه وعلى أموال المحازبين. تقول المراجع العبريّة إن حزب الكتائب ـــــ يُسأل عن ذلك الياس ربابي الذي كان سفيراً للدولة اللبنانيّة وسفيراً للصهيونيّة في لبنان ـــــ بدأ بتلقّي المعونات النقديّة من أجل تحسين التمثيل النيابي للحزب منذ 1951 ـــــ فيما كان يصيح بشعارات السيادة الفارغة. وكان يُطلب منه تنفيذ الأوامر، لا أكثر، وإن كان يتذرّع (مثله مثل مُتلقّي الرشى في العرش الهاشمي) بأنه من الصعب نشر فكرة الصلح مع إسرائيل، وإن كان حزب الكتائب تقدّم عام 1967 بسؤال للحكومة اللبنانيّة مُطالباً فيه بوقف مقاطعة إسرائيل، متذرّعاً بعدم الجدوى وضرورات الاقتصاد. لعلّ ذلك كان دفعة أولى على الحساب. وفي سنوات الحرب الباردة، استفاد الحزب من العون الغربي والسعودي، لأنه كان رأس الحربة في مواجهة الشيوعيّة. لهذا، فإن الجد كان يكثر من التصريحات المندّدة بـ«اليسار العالمي». تسديد فواتير، ليس إلا. كانت جريدة «المحرّر» تنشر صوراً لأسلحة سعوديّة تستعملها ميليشيات الكتائب في حروبها في لبنان، فيما كانت حواجز الكتائب تقوم بحرق شاحنات سعوديّة محمّلة بالمصاحف. لكنّ خادم المصالح الأميركيّة الأمين يغفر دون الشيوعيّة والمقاومة.
جدّك يا فتى كان من أدخل من الباب العريض العامل الإسرائيلي إلى لبنان، قبل عقود من رواية جوزف أبو خليل المضحكة عن رحلة في عرض البحر إبان الحرب الأهليّة. بيار الجميّل الجد كان على علم بدور إلياس ربابي (كان سفيراً للدولة اللبنانيّة لعقود مثلما كان أديب العلم المُتهم بالتجسّس لحساب العدو يتبوّأ منصباً رفيعاً في جهاز الأمن العام ـــــ قل إنها الدول المدنيّة) في تلقّي الأموال من إسرائيل لدعم حملات حزب النازيّة الانتخابيّة منذ الخسمينيات. الخمسينيات، يا فتى: أي قبل عقود من اندلاع الحرب الأهلية. اندرج جد العائلة في مشروع أميركي ـــــ إسرائيلي لمحاصرة النظام المصري من كل الجهات بعد فشل العدوان الثلاثي. لم يستطع كتائبيّو المرحلة آنذاك الزعم أنهم يحاربون ضد «الغرباء» من الفلسطينيّين. كان العامل الفلسطيني منعدماً، لأن المكتب الثاني كان يفرض حكماً بوليسياً في مخيّمات اللاجئين (فات نقولا ناصيف ملاحظة ذلك في كتابه الموسوعي عن المكتب الثاني). كانوا يحاربون أبناء وبنات لهم في الوطن، ويزعمون أنهم يحاربون مؤامرة مصريّة.
لكنّ ابنَيْ الجد المؤسّس ورثا المهمّة من والدهما. واحد تعامل مع السياسة كالتجارة: يحافظ على صلات وعلاقات ليبيّة بفتحاويّة بسعودية وقت كان يصول ويجول أثناء المجازر الكتائبيّة في مخيّمات تل الزعتر وضبيّة، وآخر رأى في نفسه (ورأت فيه إسرائيل) النازي اللبناني الصغير الذي ارتهن لإسرائيل (كما ارتهن لجهاز أميركي على ما جاء في كتاب «إرث الرماد» لتوم ووينر). جاء العنيد بعد أخيه: اثنان نصّبتهما إسرائيل في رئاسة جمهوريّة إسرائيل في لبنان خلال أسابيع، وإن كانت حملة الأولى مكلفة ـــــ من جيب إسرائيل وعرّاب المراحل اللبناني. سارع إلى عقد اتفاق مع العدو: كان ذلك من أولويّاته. حتى بعض الدبلوماسيّين الأميركيّين رأوا فيه حماسة فائضة للصلح مع إسرائيل. كان يظن أنه يستطيع أن يستهين بمشاعر اللبنانيّين واللبنانيّات. لكنه لم يهمل جوانب أخرى في الحكم: واظب سامي مارون على الاهتمام بالصفقات والاقتصاد... الوطني طبعاً. بدأ العنيد حكمه بالتهديد بقصف دمشق وأنهاه باستجداء الارتماء على أعتاب قصر المهاجرين. لم يزر رئيس لبناني دمشق كما زارها هذا الحريص على السيادة: لو سُمح له، لنقل قصر بعبدا إلى دمشق في آخر سنوات حكمه، لعلّ عبد الحليم خدّام يعطف عليه بتمديد. تقرأ نصوص اجتماعات جنيف ولوزان ونرى كم بدا العنيد ذليلاً بعدما قلبت ميليشيات في بيروت الغربيّة حكمه نتيجة الضيق المتنامي بممارسات ميليشياته (التي تنعّمت بوصف «الجيش اللبناني» آنذاك). كان جيش الرئيس المُنصّب من إسرائيل يدخل إلى بيوت الآمنين ويخطف النساء والرجال. وبرعت أجهزة سيمون قسّيس في التعذيب والتفجيرات ـــــ على ما يُقال.
ولكن أن تطالب بيوم حداد لأسوأ لبناني فهذا أكثر من كثير. هناك من سيطالب بيوم حداد على ضحايا النازي اللبناني الصغير في السبت الأسود، أو ضحاياه في حارة الغوارنة أو في النبعة أو في تل الزعتر أو في ضبية أو في أماكن أخرى من لبنان حيث بدأت ميليشياته بممارسة الخطف والقتل على الهويّة. لا، لن يمرّ قرار كهذا حتى لو زاد تمثيل حزب الكتائب اللبنانيّة من ثلاثة إلى خمسة في مجلس التمثيل الطائفي، وبكرم من آل الحريري الذين يأتون بهم نوّاباً ـــــ إلا إذا أقنعتنا بأن أهل طرابلس اعتنقوا العقيدة الكتائبيّة الطائفيّة دون أن ندري. تريد يوماً للحداد على من كان ينقل جماجم لضحايا من الفلسطينيّين العزّل (على ما روى شفيق الحوت في مذكّرات وكما روى مراسل «ليبراسيون»)؟ تريد يوم حداد لمن لم يأتمر يوماً بإرادة لبنانيّة أو حتى عربيّة؟ لمن كان يودّ أن يحوّل المخيّمات الفلسطينيّة حدائق للحيوانات أو ملاعب كرة المضرب، على ما روت مجلة «تايم» آنذاك؟ تريد لشعب لبنان أن يحتفل بذكرى من أسهم في إشعال الحرب الأهليّة وإطالة أمدها؟
وأنت كنت صريحاً في تقليد العم، وقد يكون في ذلك جرح لمشاعر الأب. يُقال إنك تحفظ عن ظهر قلب خطب العم، ومن الواضح أنك تقلّده في اللهجة والصوت والحدّة، ولكن في زمن آخر، مما يضفي لمسة هزليّة على محاولة التقليد. وإمعاناً في التقليد، تمرّد الحفيد على حزب الجدّ وأنشأ حركة طالبيّة صغيرة تعنى بالانفصال الطائفي عن مسخ الوطن. وعقد ندوات، لكنّ الحرب الأهليّة لم تكن مستعرة، وقد أراد أن يبرز ميليشياويّاً مثل العم. فكان يخوض بطولات ـــــ زعرنات في شوارع العاصمة ـــــ واختلق لنفسه ذات مرّة مواجهة بطوليّة ضد هجمة من الضاحية، مع أن وزير الداخليّة آنذاك (حليف والده) كذّبه رسميّاً ومن فوق السطوح. ظهر الحفيد على شاشة التلفزيون يتأوّه من الألم نتيجة اعتداء غاشم تعرّض له من الغزاة الشيعة في الضاحية.
نديم الجميّل (أرشيف ــ أ ف ب)نديم الجميّل (أرشيف ــ أ ف ب)

أما أن تسخر من شعب غزة وتقول إن على شعب لبنان أن يختار بين غزة والمستعمرات الإسرائيليّة التي حاولت عائلتك أن تقيمها في لبنان، فهذا كثير كثير. شعب غزة يمثّل الصمود والعزة والصبر والتصميم والثبات والعزم (وهو غير شعار العزم الذي يرفعه الوسطي نجيب ميقاتي من أجل أن يحصل على مقعديْن لا غير في المجلس النيابي)، أما سلالة مؤسّس حزب النازية اللبنانيّة فهي تمثّل الارتهان والكذب والانتهازيّة والشوفينيّة العنصريّة والطائفيّة الهدّامة. شعب غزة يعاني حصاراً وتجويعاً ولا يركع، أما العنيد فكان يمارس ركعاته دوريّاً على أعتاب قصر المهاجرين حفاظاً على موقع رئاسة حصل عليه من المحتل، وطمعاً بتمديد فاته. شعب غزة يؤمن بثوابت النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، والمؤسِّس كان يريد من لبنان أن يغضّ الطرف عن احتلال إسرائيل للبنان، وكان وراء دعوة الجيش السوري للتدخل في لبنان عام 1976 وإسباغ الشرعيّة عليه. أنت تسخر من شعب غزة؟ الأعز على القلب من جيران شعب لبنان غير العظيم؟ شعب غزة يعطي دروساً في البطولة، أما أنتم فتعطون دروساً في تطبيق نظريّة «كويزلنغ» في التعامل مع المحتل. يشرّفك التمثّل بشعب غزة، أنت الذي يساوي بين الكانتون الطائفي والاستقلاليّة.
شعب غزة هو الأمانة والعزة في الفقر، وأنتم صفقات سامي مارون والبوما ومصافحة أنطوان فتال ـــــ هذا الذي اختاره نظام حزب النازيّة اللبنانيّة لتمثيل لبنان في مفاوضات 17 أيار لأنه وضع كتاباً عنصريّاً بالفرنسيّة ضد الإسلام، مما سرّّ خاطر الراعي الصهيوني لقصر بعبدا آنذاك. أهلنا في غزة هم الرحابة والانطلاق في البحر وفي الجو، وأنتم الانعزال والكانتونيّة الطائفيّة ولبنان العائلة (السياسيّة) المنقرضة. شعب غزة هو المبدئيّة، وأنتم التقلّب والتلوّن وفق أهواء وطموحات شخصيّة وماليّة. شعب غزة هو التكافل والتعاون على مقاومة العدو، وأنتم الأنانيّة والتقوقع الطائفي البغيض. شعب غزة أطفال يقارعون الاحتلال بالحجارة والصدور، وأنتم الطأطأة أمام المحتل. هم الوقوف في وجه دبابات العدو ضاحكي الوجه، وأنتم استقبال جيش العدو الإسرائيلي بوجوهكم الكالحة.
يوم حداد وطني للنازي اللبناني الصغير؟ «طويلة على رقبتك» كما يُقال في المشرق العربي. هذه لن تمرّ حتى لو زاد عدد نواب الحزب من خمسة إلى ستة. قد يُقام في لبنان يوماً ما تمثال مرمريّ لـ«الرجل الخطير»، لكنّ تكريم النازي اللبناني الصغير يقتصر وسيقتصر على فئة صغيرة من اللبنانيّين ممن سيقضون العمر في حنين دافق إلى حقبة السيطرة الإسرائيليّة في لبنان. يوم حداد وطني لمن أقام مستعمرة إسرائيليّة في قلب بلد بات يُرمّز به حول العالم لمقاومة إسرائيل؟ لا، لن يمرّ، مهما سايركم غلام تلك العائلة الخاضعة لأوامر الأمير مقرن. النازي اللبناني الصغير يمثّل لقطاع كبير من اللبنانيّين نموذجاً لكل ما هو بشع وحقير وذليل في تاريخ لبنان المعاصر. ولهذا فهو لن ينال يوم الحداد ذاك. ربما يستحق يوماً من التنديد مرّة في السنة (أو 365 يوماً في السنة) لما ارتكبه من جرائم حرب فظيعة، لا ضد الشعب الفلسطيني وحده (لنقضِ على كذبة أن القوات اللبنانيّة خاضت حرباً ضد «الغريب» فقط) بل ضد غيره من اللبنانيّين. ولنتذكّر أن صعود النازي اللبناني الصغير ما بدأ إلا بعدما أثبت تفوّقه الكتائبي في جرائم السبت الأسود.
واعلم يا غلام أننا لن نسمح بتحويل الوطن إلى مستعمرة إسرائيليّة من جديد. إياد نور الدين المدوّر (الذي لم تسمع به وأنت طفل جالس في حضن أرييل شارون في بكفيا) الذي دشّن أول عمليّة للمقاومة الوطنيّة في الجنوب، قضى في أيار 1978، وقد عاهده رفاقه آنذاك على أنهم لن يمكثوا مكتوفين إزاء المستعمرة النازيّة ـــــ الإسرائيليّة التي أقامها عمك ـــــ النازي الصغير ـــــ في ربوعنا. وهناك من يعاهدك يا غلام ويعاهد آل المؤسِّس: أن اللبنانيّين في المهاجر والمنافي سيبيعون منازلهم وحليّهم وسيلقون بدكاكينهم وكراسيهم الجامعيّة في سلّة المهملات وسينقضّون كالصقور على الوطن لمنع أية محاولة لصهينة البلد من جديد. سيبيعون أطفالهم المساكين لئلا «يصبحوا في الشقق الحمراء خدامين مأبونين مأجورين» كما قال أمل دنقل، ويعودون إلى الوطن عندها مهما كان. بالأظافر سينقضّون يا غلام على الوطن ـــــ بهدوء وسلم وسكينة، طبعاً، ولن يمنعهم في ذلك عائلة أو عائلتان حتى لو كانتا موغلتين في الارتباط بالعدو وبمصالحه السياسيّة عبر التاريخ. تغيّر لبنان يا فتى وأصبح حزب النازيّة اللبنانيّة من التاريخ المشين ولن تنقذه مبادرات آل الحريري أو آل سعود.
لكنّ المستقبل قد لا يعجبك. لن يستقيم بناء الوطن على مقاس الأمير مقرن أو على مقاس الراعي الإسرائيلي. ومقاومة المقاومة ستبوء بالفشل، حتى لو تدخّلت جحافل وزير السياحة الذي تجذب أحاديثه ملايين السيّاح. ولكن يمكنك أن تربّي كانتونك الخاص بك: يمكن أن تجد قطعة أرض في عرض البحر تناسب مشروعك الطائفي، ويمكن طاهية شاورن الخاصّة أن تعدّ لك لذيذ الطعام، ويمكن وزير السياحة أن يستعين بالشرطة السياحيّة لحماية الكانتون. يمكن.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)


عدد السبت ٢٠ حزيران ٢٠٠٩

تداعيـــات حـــول عاصـــي الرّحبانـــي


تداعيـــات حـــول عاصـــي الرّحبانـــي

أنسي الحاج
غداً تحلّ الذكرى السنوية لغياب عاصي الرحباني. سنحاول في هذه الكلمات إضافة بعض التداعيات.
كان عاصي الرحباني سيّالاً في التأليف، كما كان متمهّلاً في التعبير الشفهي. وحين يجلس إلى مكتبه ليكتب أو إلى آلته ليلحّن كان الوقت عنده يتوقّف. ولم يكن يحتاج إلى أكثر من شرارة لتتدفّق قريحته: لفظة، ذكرى، طيفُ فكرة، الباقي نهرٌ لا ينتظر غير إشارة ليطيح سدّاً كأنه مستعار.
منذ استهلّ مسيرته في ريعان الصبا، بدا كأنه يختزن خبرة ومعرفة كبيرتين، هو الشرطي البلدي في انطلياس، الشرطي الأكثر رقّة من وتر الكمان، والقوي الجبّار الذي يُشعِركَ بأنه قادر على المستحيل. إنه لسرٌّ هذا الإعجاز. سرّ أيضاً تلك الإحاطة الموسوعيّة بالكاراكتيرات، والجمع بين الإسهاب في الجدل الشفهي والشرح التفصيلي، والإيجاز والتكثيف في الكتابة. سرّ أيضاً وأيضاً تمكّنه من الاستحواذ على متابعة المستمع عندما تغنّي فيروز حكاية، مهما تكن طويلة وأيّاً يكن موضوعها.
قلائل يستوقفهم الوجه البشري كما كان يستوقف عاصي الرحباني. وسرعان ما كانت فراسته تطلع بنتيجةٍ تراوح بين الحكم والتكهُّن. كان مأخوذاً بمعرفة المخبّأ في الصدور، ولم يصرفه استغراقه في أفكاره الشاردة وراء لحن أو نغم أو فكرة عن استيعاب ما يدور حواليه.
وكانت له ثلاث بهجات: بهجة الفطرة وبهجة الفضول وبهجة الشاعريّة. ولعلّها واحدة. ولم تتعارض طفولته مع بطريركيّته ولا شفافيته مع سلطانه. وبقَدْر تواضعه كان تقديره لنفسه ولدور الفنّان، فلم يساوم على كِبَر هذا الدور، وحافظ عليه متقدّماً على العروش والأمجاد.

وما الحاجةُ إلى سلطات والفنّ أعظمُ سلطة؟ لا الفن كنتيجة جهد فحسب بل كسياقِ عَمَل. وهكذا كان إدمانُ الشغل عند عاصي الرحباني أشبه ما يكون بإدمان السلطة ـــــ إدمان مُنْهك لسلطة هي الوحيدة التي تعطي «الشعب» ذهباً محلّ التراب ونعمةً محلّ الخداع والترهيب. سلطة مثلّثة الأقانيم. ولم يقلّ إدمان صاحبة الصوت لحرفة الإسعاد هذه شغفاً وتشدّداً عن شغفِ عاصي ومنصور وتشدّدهما. الترهُّب وتسليط كل الذات على العمل. وسرعان ما جاءت النتيجة سلطة آسرة للقلوب بلغت حجم مملكة. لم يكن لأحدٍ من الثلاثة هواية غير العمل ولا عمل غير هذه الهواية.

أشبع عاصي الرحباني جوعه إلى الواقع بابتكار الأحلام والأوهام حتّى جعل منها تراثاً وتربية. ونبش من الماضي الريفي ما يلائم مسيرته التحديثيّة، منقذاً الفولكلور من الفوضى والانحلال وربّما من الانقراض. لقد حوَّل الأحلام والأوهام والحكايات إلى واقعٍ، بل إلى حقيقة أشدّ حضوراً وحيويّة من الواقع وأكثر حقّاً من الحقيقة، حتى باتت المرارةُ الكبرى لدى فريقٍ من النخبة (وربّما من العامّة أيضاً) متأتّية من انهيار ذلك الحلم وكأنه انهيار الواقع. وفي ردّ فعلٍ ينطوي على تقدير هائلٍ وإنْ غير مباشر لقمّة هذا البنيان، انبرى النقد يعاتب الإرث الرحباني الفيروزي كيف أنه «عيّشنا في وهم»، وذلك بدلاً من نقد الذات وتعرية لعبة الأمم التي ضحّت بلبنان.
ومن جملة النقد للفن الرحباني تركيزه على الجذور. لم يكن هذا التركيز بدافعٍ عنصري ولا حتّى سياسي بالمعنى المتداول، بل كان حمايةً للهُويّة من الابتلاع، وبالهويّة يجب أن نفهم الجوهر الكياني لا الحدود الجغرافيّة. إنه الطفل الذي يذود عن طفولته. الريفي الذي يحرص على تقاليده الكريمة من الانجراف في تلوّث المدينة.
لا يمكن الخَلْق بلا معالم. ولا معالم بلا هويّة. كان الرحبانيان يردّدان أنهما يكتبان للإنسان وعن الإنسان في المطلق، وهذا صحيح ولكنْ بغير المعنى التجريدي: إنسانهما ابن بيئتهما انطلاقاً وابن الإنسانية بعد ذلك. إن امتداد جذورهما في هذه البيئة وبَشَرها مكّنهما من أن يبسطا جناحيهما خارج الحدود.

بين عاصي ومنصور قاسمُ حدسٍ مشترك: الأول بغريزتَي الفرح والقوّة، والآخر بغريزة الليل. ويأتي صوت فيروز على الدوام جسراً للقمر والشمس معاً وقرباناً مضيفاً إشراقاته وظلاله وخالعاً على الكلام رداء السحر.

تسلّل عاصي الرحباني، تلك القوة الهادئة والساطعة من قوى الطبيعة، إلى نفوس أشخاصه المسرحيين تارةً بفهمهم كأنّه هم وطوراً بفرض رؤيته لهم فرضاً عليهم شاؤوا أم أبوا، من الشحّاذ إلى الملك، ومن بنت الشعب إلى الأمير فخر الدين. تلك كانت شخصيته: متبحّرٌ في التشخيص حدَّ عالِم المختبر، وحاسم في الاستنتاج حَسْم الغزاة. إنه الواقعي والرؤيوي، وقلّما خانه انطباعه. ملحّنُ الإرادة وملحّن الإلهام، شاعرُ الذاكرة وشاعر ما سيصبح في الذاكرة. لقد حوّل كيميائي التناغم هذا، البداهة إلى أركان والهواجس والرواسب إلى حلاوة وطلاوة. ومن شدّة التركيز والبلورة بات يحسب، وأكثر فأكثر كلّما دنا من النهاية، أنه «ابن الوعي»، كما كان يحلو له القول بشيءٍ من التوتر، وإنّ نظريّات اللاوعي في الكتابة والفنّ هراء، فلا شيءَ يُذْكَر خارج الوعي، غير منتبهٍ أنّ نتاجه هو بالضبط ثمارُ لاوعيه وقد جلاها وعيه.
وكان ـــــ والشيء بالشيء يُذْكَر ـــــ يشارع، مثلاً، في فرويد وضدّ نظريّة إرجاع قسم كبير من المشكلات النفسيّة والعصبيّة إلى الكبت الجنسي. وبعد قليل، وفي غمرة العفويّة، تستشفّ من آرائه ما لا يتعارض كثيراً وتلك النظريّة.
ولعلّ أساس التعارض هنا - ولسنا في مقارنة - هو الفرق عموماً بين العالم والفنّان، فالأول، ولا سيما فرويد، يريد تنوير الإنسان على فَهْمٍ أعمق لنفسه، والفنّان يحاول أن يخلق عالماً رديفاً يُعيّش فيه الإنسان بسلام مع نفسه. واحدٌ يتوخّى المعرفة للمعرفة وآخرُ يسعى إلى مراحم.

نعود إلى صدام الحلم والواقع.
نعود إلى الذين انجرحوا لأن الواقع بَصَّرَهم بغير ما ناموا على إيقاعه.
ومن الاستخفاف تجاوز هذه الحرقة كأنّها عارضٌ سطحي، فهي مسألة كبرى مطروحة على العقل وأكثر ما يتحدّانا في الخَلْق الشعري والفنّي جديّةً وخطورة:
هل كان الفنّ الرحباني الفيروزي خادعاً أم مخدوعاً؟ وهل كان عاصي الرحباني ساذجاً أم شيطاناً؟
الجواب هو أن عاصي الرحباني قوّة من الطبيعة بلغت من إيمانها بنفسها حدّ اجتراح المعجزات كما بلغت من سذاجتها حدّ تصديق أحلامها. ولا خادعَ ولا مخدوع بل مُسْعِدٌ وسعيد. ولا شيطانَ غير الوحي، وتلك الملاحات التي لم يعرف سرّها غير صاحبها.
وحين يعتب الناس على فنّانيهم فإنما يعتبون على آلهتهم.
والعاتبون قد يجدون عزاءهم في أن للعمارات الرحبانيّة الفيروزيّة تتمّات لم تتم. إمّا أنها لم تحصل وإمّا أن ظروف الحرب ذهبتْ بها. وقبل ذلك ظروف مرض عاصي، وكأنها كانت رمزاً آخر من رموز معاناة لبنان. لقد انْلَجَمَ الحلم وانجرح جناحه قبل أن يصفعه الواقع. والواقع دائماً صفّاع، وهذه طبيعةُ الصراعِ بين أرض الإنسان وفضائه. والحلم لا يهزمه تسفيهُ اليقظة بل إن هذا التسفيه يضاعف الشغف به ويؤكد صدقه، فضلاً عن الحاجة إليه.
إن الخَلْق حلم، والأمل والجمال والتّوق حلم، والحياة بلا حلم مستنقع، وما إن ينتبه المرء إلى كونه حالماً في رقاد أو راقداً في حلم حتى يموت، كما يقول الحديث. والخَلْق الفنّي، وعلى الأخصّ منه ما يريد نشر الأمل والفرح، هو أعلى درجات الحلم، حيث تبلغ طاقة الحياة ذروة تخطّي ذاتها.
إرادة جبّارة جعلت ناسَ الورق يحلّون في المخيّلة الشعبية محلَّ ناسِ اللحم والدم، فصار الواحد يظنّ نفسه أو يتمنّى أن يكون ظلاًّ لناسِ الورقِ هؤلاء. إرادةٌ جبّارة نفختْ روحها القرويّة في العالم العربي كلّه زارعةً فيه، على أجنحةِ صوتِ فيروز الاستثنائي، شكلاً جديداً من أشكال الشغف.

لم يرحم عاصي الرحباني نفسه ولم ترحمه الحياة. وكان يردّد دوماً: لا بدَّ من رحمةٍ أخيرة.
رحمة، أجملُها ما أبدعه وتركه للناس كنزاً لا يَنْضُب.


عدد السبت ٢٠ حزيران ٢٠٠٩


الجمعة، ١٩ حزيران ٢٠٠٩

بورسلين 14 آذار

بورسلين 14 آذار

خالد صاغية
في أحد مقاهي بيروت المنتشرة على شاطئ البحر، تمّ استبدال كؤوس الشاي الصغيرة والشفافة بفناجين من البورسلين الأبيض. جاءت هذه الخطوة «التقدّمية» بعد أشهر على استبدال السكريّات بظروف صغيرة مقفلة مليئة بالسكر. ولدى الاستفسار عن هذا التحوّل، وخصوصاً أنّه يجافي عادات هذا المقهى وعادات معظم اللبنانيّين داخل بيوتهم، أجاب أحد العاملين في المقهى: «هذا حضاريّ أكثر». وللحفاظ على هذا الوجه الحضاري للمقهى، صدرت أوامر واضحة للجميع بأنّه ممنوع إحضار الكؤوس الشفّافة إلى الطاولات، لأنّها ـــــ على ما يبدو ـــــ تتنافى مع الحداثة. المقهى نفسه كان قد منع قبل أشهر تقديم أيّ نوع من أنواع الكحول لأسباب إيمانية هذه المرّة، لا علاقة للوجه الحضاري بها.
ما يجري في هذا المقهى ليس فريداً. إنّه نوع من اللهاث وراء بعض المظاهر «الحديثة» هرباً من صورة «التخلّف» وعقد النقص الملحقة بها. ولا بأس من إرفاق هذا اللهاث بنزعة تديّن تنعكس على السلوك الاجتماعي، وتضفي على المظاهر الحديثة تعدّداً ثقافيّاً.
لقد جسّدت حقبة فؤاد السنيورة الحكوميّة هذا المنحى. فقد قدّم الرجل نفسه كنسخة كاريكاتورية عن ذلك الحاكم الذي يريد أن يلتصق سياسيّاً بالغرب، وأن يظهر بمظهر المحافظ على مصالح الدولة. ونسخة عن ذاك الإسلام الذي يقدّم نفسه منفتحاً وينفخ في نار المذهبيّة في الآن نفسه. وقد راجت عنه، وعن الوزراء المقرّبين منه، صورة «الخبراء» الآتين من خارج «الزعبرة السياسية» والذين يجمعون بين التديّن الشديد والالتصاق بـ(لا الانفتاح على) السياسات الغربيّة (لا الغرب).
وإذا كانت صورة الحريري الأب وإنجازاته، وصورة الحريري الابن المفجوع باغتيال أبيه، هما اللتين طبعتا انتخابات 2005، فإنّ صورة السنيورة وما مثّله، هي التي طبعت حملة 14 آذار الانتخابيّة.
فالاقتصاد لم يكن طبعاً في مقدّمة اهتمامات الناخبين (الجميع يقرّ بالصعوبات الاقتصادية التي تعانيها البلاد، والتي لم تأتِ بالصدفة)، ولا سلاح المقاومة (أقفل الملف عملياً منذ السابع من أيّار)، ولا العداء لسوريا (الجميع يؤكّد أن لا مجال إلا لعلاقات مميّزة (وندّية) معها). لقد خيضت المعركة في وجه «التشادور» هذه المرّة. جرى تخويف اللبنانيين من نمط حياة وُصف بالمتخلّف والمجافي لعاداتهم. استخدم «التشادور» في تصريحات السياسيين وفي الصور الإعلانية التي كانت تتداوَل على الإنترنت، وفي خلفيّة الحديث عن الشيعة وحزب اللّه وإيران.
وفي المقابل، كان السنيورة يبالغ في التحدّث بالإنكليزيّة، ووزراؤه المقرّبون يكثرون من الحديث عن الانفتاح على العالم وعن الوجه الحضاري للبنان. لقد قدّموا أنفسهم بصفتهم الوجه التكنوقراطي والحديث للدولة اللبنانية، في الوقت الذي كانوا فيه واجهة المشروع الذي يسنده من الخلف القائد السلفيّ لمجزرة حلبا في عكّار، وشيخ الكسّارات في زحلة، والزعيم الشاب للنازيّّين الجدد في المتن، ولائحة العائلات والمحسوبيات في كسروان، ويدعمه المال الوهابي من السعودية، ناهيك بأمراء الحرب ومرتكبي القتل على الهوية الذين توزّعوا على لوائح السلطة على امتداد البلاد.
لقد مثّل لبنان فؤاد السنيورة الحداثة فعلاً. حداثة السياسات النيوليبرالية التي أجهزت على لقمة عيش الفقراء. حداثة التبعيّة. حداثة العروبة المفرّغة من مضمونها. حداثة العنصريّة التي تتلطّى خلف حقوق الإنسان. حداثة كاميرات المراقبة والمضاربات العقارية. حداثة «سوليدير» حيث الجنائن الاصطناعية التي يمنع الجلوس على أحد مقاعدها أو قطف إحدى ورودها، وحداثة بناء المآرب على أنقاض حديقة الصنائع. حداثة «الباركميترز» في الشوارع الضيّقة. حداثة تخريب المواقع الأثرية تشجيعاً للاستثمارات الجديدة. حداثة المؤشّرات الاقتصادية الصمّاء التي تخلو من أدنى حسّ بالعدالة بين البشر. حداثة العنصرية ضدّ الفقراء والمختلفين.
لقد أقدمت غالبية اللبنانيين على الاقتراع للوائح 14 آذار. وبعضهم فعل ذلك بالرغم من احتقاره للمرشّحين عليها. فعلوا ذلك خوفاً من العودة إلى شرب الشاي بالكؤوس الشفافة. فعلوا ذلك دفاعاً عن البورسلين وعن حق السكر في أن يوضّب داخل ظروف مغلقة. هكذا أرتب وأنظف، يقولون. تماماً كما عرفوا أنّ المجرمين والفاسدين والسارقين والطائفيين والعنصريّين وأعداء البيئة... لا بأس بهم ما داموا يخنقون أنفسهم كلّ صباح بربطة عنق ملوّنة.
لقد تشارك 8 و14 آذار في حرماننا من أشياء كثيرة. الفارق أنّ 14 آذار أقنعت جمهورها بأنّه لا بأس في التخلّي عن هذه الأشياء، ما دام الشاي يأتينا بفناجين من البورسلين. وعن الشاي، اسألوا أحمد فتفت العائد إلى البرلمان... واللّه أعلم!


عدد الاربعاء ١٧ حزيران ٢٠٠٩

هل كتب الشدياق أول رواية عربية؟


هل كتب الشدياق
أول رواية عربية؟

تسعى الروائية والناقدة المصرية رضوى عاشور في كتابها "الحداثة الممكنة" الصادر لدى "دار الشروق"، إعادة الاعتبار إلى احمد فارس الشدياق وكتابه "الساق على الساق في ما هو الفارياق"، الذي قيل انه نشر بالعربية في باريس عام 1855، فهي تراه "النص الأدبي الأقوى والأغنى في القرن التاسع عشر، إذ يجمع بين السيرة الذاتية والرواية والولع باللغة، ويوظف الكثير من عناصر الموروث الأدبي، بقدر ما يضيف إليه جديداً على مستوى الشكل والمضمون".
تطرح عاشور في دراستها قضية الحداثة الكولونيالية القائمة على نظرة استشراقية للذات، تعتبر التسليم بانحطاط الأنا وتخلّفها شرطاً ضرورياً من شروط النهوض والتحرر، وترى في محاكاة الغالب والسير على خطاه والتطلع بعينيه واعتماد حداثته، علاجاً روحياً وعقلياً لا غنى عنه. وتسأل: "‬لماذا أُسقط انجاز الشدياق وقد أنتج النص الأدبي الأغنى والأقوى في الأدب العربي في القرن التاسع عشر‮؟"، وتقصد رواية "الساق على الساق"، هذا الكتاب النقدي الساخر الذي يجمع بين السيرة الذاتية والرواية والولع باللغة وتوظيف عناصر الموروث الأدبي العربي‮‬،‮ ‬بقدر ما يضيف إليه جديدا على مستوى المضمون والشكل‮، وهو الذي تدين له اللغة العربية الحديثة بمصطلحات عديدة، وضعها الشدياق واستخدمها، فشاعت بين الناس، منها الاشتراكية والجامعة ومجلس الشورى والانتخاب والجريدة والباخرة والمستشفى والصيدلية والمصنع والمعمل والمتحف والمعرض والملهى والحافلة وطابع البريد والملاكمة والممثل والسكة الحديد وغيرها. هل نقنع بالرد الذي قدمه الينا كل من فواز طرابلسي وعزيز العظمة من أن سبب تهميش الشدياق يرجع أساسا الى مواقفه الجذرية من القضايا السياسية والاجتماعية، ومنها مواقفه من المرأة والجنس ومهاجمة الكنيسة؟ وتضيف إلى سؤالها أسئلة أخرى‏:‏ لماذا لم يعتبر الشدياق الرائد الأول للنهضة‏؟‏
ما فعلته رضوى عاشور، انها اعادت المناقشة الى أولها في مسألة "ساذجة"، وهي عن مؤلف اول رواية عربية. قبل اسابيع صدر كتاب "وَي... اذن لست بإفرنجي" لخليل خوري كتبه عام 1859 وأحدث سجالا بعدما حققه الشاعر شربل داغر، واعترض عليه الباحث المصري محمد عبد التواب قائلا بأنه سجّل في رسالة الماجستير "بواكير الرواية العربية" عام 1999 أن رواية "وَي... إذن لست بإفرنجي" عام 1860 وهي السبّاقة في خروج هذا النوع الأدبي إلى النور، ولم يذكره شربل داغر في تحقيقه. وقيل ان الرواية التي تلت رواية خوري هي "غابة الحق" لفرنسيس المراش عام ‏1865‏ ثم رواية‏ "الهيام في جنان الشام‏"‏ لسليم البستاني عام ‏1870‏ وأخيرا‏ "زينب‏"‏ لمحمد حسين هيكل عام ‏1914، وثمة دراسة صدرت حديثا للباحث حلمي النمنم تقول ان اللبنانية زينب فواز وضعت اول رواية حديثة وسبقت رائد الرواية العربية محمد حسين هيكل في روايته "زينب". وهناك من يقول ان "بديعة وفؤاد" للروائية اللبنانية لبيبة هاشم هي اول رواية عربية، من دون ان ننسى روايات من مثل "علم الدين" لعلي باشا مبارك، و"الأجنحة المتكسّرة" لجبران خليل جبران. لا نعلم اي معيار اعتمد لتصنيف الروايات، وما قواعد ان تكون رواية رواية وخصوصا في العالم العربي.
ثمة من يقول ان رضوى عاشور في كتابها "الحداثة الممكنة" قالت الكلمة الفصل، ولا نعرف معنى هذا الفصل واصله، وهل يجوز الحسم في الثقافة ام ان الباب يبقى مفتوحا على التأويلات؟! المهم القول ان عاشور اعتبرت ان "الساق على الساق فيما هو الفارياق" التي وضعها الشدياق عام ‏1855‏ هي الرواية العربية الأولى في تاريخ الأدب العربي الحديث‏. على أن التاريخ الذي أوردته رضوى عاشور يظلم الشدياق في عشرين عاما سبق هو بها، إذ يقول التاريخ المدون على غلاف الرواية إنها صدرت عام ‏1835‏ وليس عام ‏1855‏ كما ذكرت المؤلفة‏.‏ تعرض عاشور آراء النقاد في الشدياق، فإذا كان القاص والناقد مارون عبود يعتبره "ابا الكتاب الادبي في النهضة الحديثة، وباني دولة ادبية شرقية غربية، واول من كتب المقالة الصحافية"، فالأب لويس شيخو صاحب أول إشارة إليه في كتابه "تاريخ الآداب العربية"، إذ صنّف روايته "لم يراع فيها جانب الأدب". أما جرجي زيدان فيرى أنّه "مجرد مرتزق وإن عظمت موهبته". وهذا هو المعنى الذي يشير إليه أيضاً أنيس المقدسي "لأجل المصلحة يترك المارونية ويعتنق المذهب الإنجيلي، ثم لأجل المصلحة يترك المذهب الإنجيلي ويعتنق الإسلام"، في بحثه عن دخول الانجيلية في الشرق. أما روايته "الساق"، فيراها المقدسي "سيرة ذاتية تشوبها كثرة الاستطرادات". وبعضهم قال انه كان اشتراكياً وعلمانيا، وثمة من اعتبره انتهازيا.
المفارقة ان بعض الطوائف اللبنانية اختلفت عندما توفى، في ما بينها، حول من يريد ان يتبناه. واخيرا تم الاتفاق على ان يرفع الصليب والهلال فوق ضريحه في منطقة الحازمية.
يعتبر بعضهم ان اعتناق الشدياق الدين الاسلامي كان الحدث البارز في حياته، مع ان كتاباته ومؤلفاته تدل على ان تفكيره كان في مكان آخر، فهو اكثر تقدما من بعض نهضويّي اليوم، واكثر اطلاعا على ثقافات العالم من ابناء جيله. وربما ينبغي قراءة اسلامه من جانب انه انعكاس لواقع ما وليس ككليشيه إيماني. نعلم ان الشدياق اهتم بنسخ الكتب لنفسه أو لغيره، وصارت له بهذا شهرة واسعة فاستدعاه الأمير حيدر الشهابي أحد الأمراء الشهابيين ومؤلف التاريخ المشهور، وكلفه نسخ تاريخه وتقلبت به الأعمال، إلى أن حدثت لأخيه أسعد حادثة كانت الشرارة الأولى في تغيير مجرى حياته. فقد تحول أسعد من مذهبه الماروني إلى المذهب الإنجيلي، وأثار هذا التحول سخط البطريرك الماروني على أخيه، فنفاه إلى دير قنوبين سجيناً معذباً حتى قضى نحبه وهو في ريعان شبابه. وكان لهذا الحادث أثره في نفس فارس، فكره الحياة في لبنان الذي بلغ من التعصب الطائفي هذا المبلغ، وشد الرحال إلى مصر عام 1825، بدعوة من المرسلين الأميركيين الذين دعوه ليعلمهم العربية، وكأنهم بذلك أرادوا أن يطيبوا خاطره نظير ما لقيه شقيقه أسعد بسبب اعتناقه مذهبهم. أتاحت الإقامة بمصر لفارس الشدياق أن يتلقى اللغة والأدب والنحو والبلاغة والصرف والشعر. في عام 1834 دعاه الأميركيون إلى مالطا لغرضين، أولهما التعليم في مدارسهم هناك، وثانيهما تصحيح ما يصدر من مطبعتهم من كتب عربية. وهناك أخذت ميوله وعواطفه تتجه نحو المذهب الإنجيلي، وكان هذا التحول في نظره انتقاماً لما حدث لأخيه على يد الموارنة. تلقى الشدياق دعوتين، الأولى لزيارة الأستانة بدعوة من السلطان عبد المجيد في الاستانة، والثانية من أحمد باي تونس الذي دعاه الى زيارته والإقامة في تونس لقاء القصيدة التي مدحه بها الشدياق. هناك اعتنق الإسلام وتسمى باسم أحمد فارس الشدياق، بل أضيف إلى اسمه لقب "الشيخ"، وتكنّى بأبي العباس.
الشدياق يشبه لبنان. فهو نموذج للبلاد التي قطعت شوطاً طويلاً، في التحديث مستبقةً الشرق الأوسط بأسره. فهو الأديب واللغوي والمترجم والمحقق، له عشرات الكتب نشر بعضها وان بقي البعض الآخر مخطوطا لم يعثر له بعد على أثر‏.‏


هـ. ش.

النهار عدد الاربعاء ١٧ حزيران ٢٠٠٩

خطاب نتنياهو: برسم التاريخ والنفط!

فواز طرابلسي
حسم خطاب نتنياهو الأخير في حقيقة أنه لا يوجد شريك إسرائيلي للسلام بواسطة لاءاته الثلاث: لا دولة، لا عودة، لا قدس. وأكدت استطلاعات الرأي الأخيرة أن هذا الخيار يحظى بتأييد أعلى نسبة ممكنة من الإسرائيليين (71%).
ولم يقتصر خطاب نتنياهو على تثبيت أمن إسرائيل بما هو الشرط الأوحد في أية تسوية، بل كرّر أيضاً الشروط الفلسطينية والعربية المعروفة لحماية أمن إسرائيل.
سوف يذكر التاريخ خطاب جامعة بار إيلان، لسببين: الأول، هو النقلة النوعية في الخطاب الإسرائيلي بالعودة إلى أصول النزاع من أجل إلغاء الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني على أرضه.. والثاني، هو اكتساب «السلام الاقتصادي» معاني جديدة كل الجدة.
بناء على هذه العودة إلى أصل النزاع، يجب أن نصدّق، ويصدّق العالم، أن الوطن التاريخي لليهود (وقد أعاد إليه نتنياهو اليهودية والسامرة) في أرض فلسطين يعود إلى 3500 سنة. يجب أن نصدّق ذلك، رغم حقيقة أن القاصي والداني، بما فيه المؤرخون الصهاينة أنفسهم، يعرف أن اليهود غادروا أرض فلسطين منذ العام 70 ميلادية. وأما العرب الذين استوطنوا فلسطين على امتداد أربعة عشر قرناً، في منطقة غيّرت لغتها من العبرية إلى الأرامية فالعربية، فيجب إقناعهم، ومعهم سائر العالم، بأنهم «الضيوف» الذين يعيشون وسط «الشعب اليهودي» على «أرضه»!
وقد لا يختلف المرء مع نتنياهو في أن مقاومة الشعب الفلسطيني المسلحة للمستوطنين الصهاينة بدأت عام 1920. أما الاستيطان بالقوة الذي تكرّس ذلك العام، في ظل حراب المستعمر البريطاني وضد إرادة شعوب المنطقة في الاستقلال والوحدة ورفض المشروع الصهيوني في فلسطين، حسبما أورد تقرير «لجنة كينغ كراين» إلى عصبة الأمم، أما هذا الاستيطان الاستعماري فليس بأي حال عملاً عدوانياً يستدعي أن يقابله عنف مقاوم.
كذلك يريدنا نتنياهو أن نصدّق أن الذين بادروا إلى الحرب عام 1948 كانوا الفلسطينيين لأنهم لم يعترفوا بقرار التقسيم. هل هذا صحيح؟ الصحيح أن الحكّام العرب والقيادة الفلسطينية رفضوا قرار التقسيم الذي أقرّته الأمم المتحدة عام 1947. رفضوه بواسطة الضغط الدبلوماسي والتصريحات العلنية. على أن مَن رفض القرار فعلاً وخطّط عسكرياً وسياسياً لمنع قيام الدولة الفلسطينية ـ منذ ذلك الحين!! ـ ونفّذ ذلك المنع عملياً فهم الصهاينة أنفسهم. وضعت القيادة العسكرية الصهيونية خطة للتطهير والتهجير العرقيين تقتضي توسيع حدود الدولة اليهودية من خلال احتلال الجليل لمنع التواصل بين الدولة العربية ولبنان وسوريا. وقضت الخطة أيضاً بإجلاء أكبر عدد ممكن من السكان العرب من أراضي الدولة اليهودية (حيث كانوا يشكلون الأكثرية السكانية) بواسطة المجازر النموذجية وقوة السلاح. على أن الذي قضى نهائياً على قيام الدولة الفلسطينية عام 1948 هو اتفاق القيادة الصهيونية والملك عبد الله (الأول) في مفاوضات سرية بينهما على استيلاء قوات ملك الأردن على القسم الأكبر من الأراضي المقررة للدولة الفلسطينية وضمها إلى مملكته. وهذه كلها خطط وسياسات ومفاوضات وممارسات باتت حقائق تاريخية أكدها مؤرخون إسرائيليون بناء على الأرشيف العسكري الإسرائيلي.
فلسطين في حدود الكانتونات الثلاثة الواقعة افتراضياً تحت سلطة محمود عباس المنتهية الصلاحيات تهدّد أمن إسرائيل. يجب أن نصدّق ذلك. ومعنا العالم كله. وإسرائيل، ذات رابع أقوى
جيوش العالم، بطيرانها وصناعتها الحربية، والمئتي رأس نووي، إسرائيل التي شنّت لم يعد المرء يدري كم حرباً على جيرانها الأقربين في الأعوام 1956 و1967 و1978 و1982 و1993 و1996 و2006 و2008، إسرائيل هذه، التي ضربت المفاعل النووي العراقي، وطاولت عمليات إرهاب الدولة التي تمارسها أراضي السودان والقارة الأفريقية، ولا تزال تهدد بضرب المفاعلات النووية الإيرانية، هذه الإسرائيل لا تهدّد أي جار من جيرانها الأقربين والأبعدين!
الأمر الثاني الجديد في خطاب نتنياهو هو تحويله «السلام الاقتصادي» مصيدة لاستجلاب الأموال النفطية الخليجية للتوظيف في مشاريع مشتركة تنفذها إسرائيل. قد يظن المرء للوهلة الأولى وكأن نتنياهو يقترح مشاريع تنموية وخدماتية غرضها تحسين الأوضاع المعيشية لسكان الأراضي الفلسطينية المحتلة. تتغيّر الصورة كلياً عندما نقرأ الخطاب. نتنياهو المعجب بـ«المشاريع المبهرة... في الخليج الفارسي» يقترح «تحلية المياه» و«استغلال الطاقة الشمسية واستغلال موقعنا الجغرافي لمد خطوط الغاز والنفط وطرق المواصلات التي تربط أفريقيا بآسيا وآسيا بأوروبا». والمعروف أن للإسرائيليين خبرات خاصة في تحلية المياه وفي استخدام الطاقة الشمسية لتوليد الطاقة، يعرضها رئيس وزرائها على العربية السعودية ودول الخليج ذوات الشموس الحارقة والمياه الشحيحة. أما «استغلال موقعنا الجغرافي» فالمقصود به، طبعاً، موقع إسرائيل. والاقتراح هو نقل النفط والغاز العربيين إلى البحر الأبيض المتوسط على الساحل الفلسطيني.
يبقى مَن يصدّق أن هذا الزواج بين الخبرات الإسرائيلية والأموال النفطية من شأنه تحسين الأحوال المعيشية لسكان الأراضي الفلسطينية المحتلة!
السؤال مجدداً: ما الذي يسمح بكل هذا الصلف الإسرائيلي؟
في مجال الصلف التاريخي، ليس غريباً أن تواصل الصهيونية محاولاتها محو الذاكرة الفلسطينية وإزالة معالم ومراحل العملية التاريخية لنشأتها بالاعتماد على التاريخ الخرافي وأرض الميعاد والحقوق التوراتية. لكن الغريب حقاً أن تستطيع أعمال الاستبدال التاريخية هذه أن تفيد من الاهتراء شبه الكامل للرواية الفلسطينية والعربية عن النزاع العربي الإسرائيلي. فقد تحولت تلك الرواية، بعد عقدين من الزمن على الحلول الثنائية واتفاقية أوسلو ومبادرة السلام العربية، إلى تأتأة ترتضي بالرواية الإسرائيلية والغربية التي تعيد «أصل» النزاع إلى حرب حزيران 1967 طالما أن الحل بات يتعلق بآثار تلك الحرب.
أما الصلف الاقتصادي، فيسمح به تحويل مشروع السلام العربي، إلى مبادلة التطبيع العربي بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 1967 والدولة الفلسطينية. وعندما يصير التطبيع «الورقة الأخيرة» للضغط على إسرائيل، على ما ورد على لسان وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، فهل من المستغرب أن يدور البحث في بدائل أو مداخل «اقتصادية» للتطبيع، بعد أن قدّمت غير دولة عربية، من موريتانيا إلى مصر فدول الخليج والأردن، ما يكفي من البراهين على استعدادها للفصل بين التطبيع التجاري والاقتصادي غير المشروط بأي شرط يخص التقدم في مسار التسوية أو الحل وبين التطبيع السياسي والدبلوماسي المسمّى «ورقة الضغط الأخيرة»؟

الأربعاء، ١٧ حزيران ٢٠٠٩

عقاب صقر 49238 !!! (النهاية)

عقاب صقر 49238 !!! (النهاية)

زياد الرحباني
كل الدواير الانتخابية عالمساحة اللبنانية كانت بمحل والعكار وحدها بمحل تاني... وهون الجو ما في أخد وعطا، ما في مزحة بتنمزح بين تنين قاعدين بقهوة، ما في احتمال للفُكاهَة، ما في مزح بالعربي المشبرح. لأنو بالعكار كان الجو صافي وعالمشبرح... صحيح نسبة الاقتراع 53 بالمية ومنيح اللي ما انتخبوا كلهن، لأنو بـ53 بالمية بس، قادر هادي حبيش الله يهديه يجيب 78450 صوت، وهيدا شي كاسح، ومش هون الخوف، الأخ هادي بينزل عاقريطم من وقت لوقت بيمرق عا حواجز جيش يعني، مش إنو بيحبو وبيموت فيه من بعيد لبعيد، بس في عندك المُلا خالد ضاهر اللي حُبّو للجيش كمان قوي بس عُذري، ومش بس عذري، عذري ومعظم الأحيان جُوّاني يعني ما بيصرّح فيه إلا بالمناسبات، يعني بس تنفجر شي بوسطة أو «فيسبا» بمجموعة عسكريين وج الصبح، ووين؟ عالساحل، عامداخل طرابلس من الجنوب والشمال. يعني الملا الخالد والملا خالد زهرمان، غير إنهن ضد «القاعدة» للموت، فازوا على ممثلي الدانمارك بالطوايف التانية، وانتصارهن بشي فوق الـ70 ألف صوت يا عالم، هوّي الضمانة إنو ما بقا حدا في العالم بيسترجي يرسم صورة أو كاريكاتور عن النبي صلى الله عليه وسلم! وهيدا شي بيريّح تيار المستقبل بالنتيجة لأنو التيار صحيح عندو قناة تلفزيونية فاحشة متل ما بدك ومتل ما العربان بيتمنوا، إنما هيدي القناة اللبنانية المدنية المسلمة المؤمنة بامتياز.. يعني صدّقني كل إعلان عن محل تياب نسواني أو فوطة صحية، البَعيد، أو عن عطر أو «كولان»، بتمرق عاتلفزيون المستقبل عامضض!! وهالرقاصات البيارتة كيف بيعملوا هيك حركات والكاميرات عم تصوّرهن من تحت، وهالشي ضروري لـ«الإخراج السليم»، المسؤولين عن المحطة ما بيعرفوا ولا بيقدروا يردعوهن لأنهن إلهن من الـ2005 بيسوّقوا إنهن بيحبّوا الحياة وإنو لبنان الحقيقي جاي، وسوليدير راجعة بأبهى حللها وشو أبهى حِلَلْها يا بابا؟ بدك تسأل مقرن بن عبد العزيز خوجا!!!
بسّ شي بيخوّف فعلاً، والحمد لله إنو العكار عاحدود مع سوريا، هاي متل ما إلها سيئات، أحياناً بوجود «الانفتاح الأصولي الجديد»، إلها حسنات... ما بتعرف يمكن يضطروا جيشين، لبناني وسوري يتعاونوا لَحَصْرو. وطبعاً بطلب من الوزير إيلي ماروني مقدَم للحكومة وذلك خوفاً على السياحة وخاصة السواح الأجانب من غير الدانماركيين. خسارة يعني، في ناس خسارة إنهن يربحوا، هلق صحيح اللي طلَّعهن خِسر كتير فلوس، بس هيدا بعد معو ومستعدّ يحطّ الغالي والرخيص والنادر والنفيس لمَا يسيطر حزب الله وحدو هوّي وحلفاؤه عالمجلس النيابي... يمكن في شي شوي بيطمّن إنو الأخ سعد الحريري دوماً بيوصّي عليهن يحبّوا الجيش وما ينسوا هالشي وإنهن ما يدعوا بصلواتهن على العسكريّة حتى لو كانوا من إخواننا الشيعة!
بسّ كيف ممكن تنحلّ قصة زحلة؟ هون السؤال الوحيد اللي حيَّر كل اللبنانيي. أساساً كيف صارت خسارة لايحة سكاف وكيف رح تقطع هالخبريّة العجيبة؟ برأيي ورأي الزحالنة، ما رح تقطع.
يا عمي، حدا بيزرع الفتنة مطرح ما الزرع بيطلع؟ حدا بيزرع الفتنة بالبقاع؟ حدا بيحصر نثر البدار ببلدة زحلة بالتحديد؟ إنو تجي تنقل نفوس حوالى سبع آلاف مخلوق سُنّي لتسقّط لايحة إلها، إن شئت أم أبيت، طابع مسيحي مشكّل، وتحمل حالك بهونيك نهار أحد بتاريخ 7/6/2009 وتمشي؟ لوين ماشي يا إبن ألله؟ لوين فكرك رايح؟ رايح تألّف حكومة وتناشد بالحوار وإنو أوعا هَه! ما في غيرو؟ إنو زرعت فتنة ومشيت؟ وإنو مين بدّو يحصد؟ ما هالزرع بدو يطلع، إن ما طلع هلّق، بكرا بأيلول، بأول شتوة، الأرض رح تتنفّس ورح يبلّش هالزرع يعلَى، إنو تارك الموسم لأهالي زحلة والمحيط؟ يا عمي ما هاي زحلة ولاه! هاي وادي العرايش، هاي عروسة البقاع، هاي البردوني، هاي مطرح ما الزرع بيطلع وحدو حتى لو المزارعين نايمين، هاي مربَى الأسودة، وإذا إنت ما بتاكل قصبة نيّة، هنّي بياكلوا، أي لشو جايب ملّة كبيرة لبنانية تانية تحركش فيهن، تحركش بربّهن إنتَ الصادق؟
ليك، إنو سليم دياب مختفي عال، والسيد فتفت... بلا تعليق. بكرا «أمن الدولة» بيقول اللي عندو، والحكيم كان محبوس لأسباب جوهرية ورجع فَلَت، وإنو فكركن هيك البلد رح تضلّ فالتة؟ بدكن ايّاها آمنة وفالتة، أي ما بتظبط، أبوك ألله يرحمو، كان فهمان منيح هالشي، كمان ألله يرحمو وميّة مرّة... ليك... هاي الأحلاف المختلطة الجديدة من بعد «ثورة الأرز» ما عاجبتكن، ما هيك؟ إنو شو هالتحالف بين الموارنة والشيعة، من أيمتا؟ بدكن ترجعوا للحرب الأهلية الأساسية، من أوّلها، يعني إسلام ــــ مسيحية، طبعاً لحتّالي يرجع مؤتمر الطائف عليه القدر والقيمة، ماشي... أي خود نتيجة... نتيجة، وينك؟ نتيجة غير النتيجة اللي أعلنها الوزير بارود تاني نهار الانتخابات، وليك اللي طلّع عُقاب صقر عالمجلس، هوّي بينزّلو...


عدد الثلاثاء ١٦ حزيران ٢٠٠٩


عقاب صقر 49238 !!! (تابع)

عقاب صقر 49238 !!! (تابع)

زياد الرحباني
... أساساً «الحكيم» ما بينلام إذا مبسوط بالنتايج الانتخابية، ما الحكيم مبسوط من سنة الـ2005 لأنّو شي جديد عليه، كل هالأشيا اللي صارت من الـ2005 لليوم جديدة وشايفها حلوة، من الحلف مع جنبلاط للرد عحزب الله، وخصوصي بينبسط بس يرد عـ«السيّد حسن». بعدين من استهداف المناطق الشرقية بالعبوات الليلية لمصرع بيار أمين الجميل لسمير قصير، قول هيدا الله يرحمو ما كتير كان بيعرفو بس سأل الست ستريدا عنّو، كمان ما عرفِتْ، فسألوا آخر شي إيلي كيروز، قلّهن «هيدا كان معنا بساحة الحرية وشايفو قبل»، بعدين «الحكيم» صار بدّو ينزّل إميل لحود قبل نهاية ولايتو وحسّ إنو الجوّ حلو، السوريين ضهروا بهالسرعة، هات لنطلع عا بعبدا، هات لنتشكّى عا بيار الضاهر وناخد محطة الـLBC بفرد مرّة. شوي وليد عيدو من هون، أنطوان غانم من هونيك، حسّ برنامجو فجأةً اتعبّى وصار لازم يعطي رأيو برئيس الجمهورية الجديد فركّز هوي ومدامتو عا إيد البطرك وعالصلا والصوم وعالمسيحيين الأصليين بفرد مرّة! وانعزم آخر شي عا مؤتمر الدوحة، أي ما صدّق أكيد! طاير من البسط لأنّو بالنهاية طلِع من الحبس بدون ما يكفّي فترة حكمو وعِلِق يزرّك لكل اللي كانوا هنّي مبسوطين بحبسو. صار بدّو يعلِّم بيت كرامي كيف بيردّوا عليه إذا بدهن يردوا... هيِّن الحكيم فِكرك؟
صراحة بيحتار الواحد بمين بدو ينبسط أكتر، بـ«الحكيم» ولاّ بنايلة التويني؟ هه! هاي نواب! هاي شباب، هاي «نهار الشباب» كلّو يَطّأ عند «برّي»!!
صار رئيس المجلس الحالي والقادم بإذن الله، عندو «ستريدا دوميلانو» و«نفرتيتو»، مش «تي»، «تو»، لأنّو منخار السيدة تويني جاي بَرم، ومش مأثّر عالجاذبيّة فما بيأثّر... اللي بيأثّر هوّي رجْعِة جان أوغاسبيان، أنا مثلاً بتأثّر بهيك أشيا، صراحة ما بدنا ننتهي بالمحاكم بدعوى من أوغاسبيان عا جريدة «الأخبار» ورئيس تحريرها اللي بدّو خبرية بالناقص، بس أوغاسبيان القوي جداً بالتحنيط والتصبير واصل لصيغة لغة لا عربية ولا أرمنية ولا نحوية، شوفوا شو بدكن تعملوا، ولغة بعدها لأنها جديدة مش دايمن بتنفهم عليه، أوقات المذيعة بتفكّرو خلّص جوابو، بتبلّش تسألو السؤال التاني، بيكون هوّي بعدو بنصّ الجواب الأول، هيك شي... وهيدا رِجِع، إذا بقريطم بيفهموا عليه، مش قصّة.
غازي يوسف 76410 أصوات، شي متل الكذب، أيّا، هيدا الكذب بعينو حتى ولو انوجدوا الوراق بالصناديق، عم بحكي عن شي تاني أنا، 76410 أصوات شو عمّار الحوري هوّي؟! عمار آخد أقلّ، عمار 76201 صوت! معقول؟ يحترق بيتو لعمار لحتى غازي يوسف يجيب أصوات أكتر؟ هلّق محمد الحجّار برضو طِلِع بس عندو مشكلة، الحجّار جايب 62072 صوت. بس كيف رح يشوفهن؟ أنا صراحة ما بعرف هوّي كيف بيشوف، الحجّار بيضل مغمّض، هلّق أنا مش شايفو إلاّ عالقاعد وبيكون مغمّض، ما في عيون يعني تشوفها، شو بيعمل لهيك؟ ما بعرف. وهولي بيجولهن شي 62000 إنسان، كيف رح يقدر يشوفهن كلهن، هلّق يمكن ما تكون قصة طالما هنّي بيأمّنولو!
وسامي الجميل شو؟ سامي طِلِع؟ النتايج الرسمية هيك بتقول، يعني خَلَص بدنا «نعْطُبِر» إنّو مضبوط (نعطبر بحرف الـ ط مش الـ ت، وهاي مش غلطة مطبعية، هاي «نعطبر» متل ما بيلفظها الرئيس أمين الجميل) وهيدا لفظها المضبوط، لأنّو الرئيس جايبها معو أباً عن جَدّ من مصر ومصر هيي المصدر، مصدر بيت الجميل نفسهن، «غَاتَك نِيلة»!
طيّب بأيّا منطق بيطلع سامي وفارس سعيد الأمين العام لقوى 14 آذار ما بيطلع وهاي تاني دورة، فارس سعيد «حبيب القلب» فارس هوي ومازولا، وكيف الطريقة نْفَهّمو إنّو فهمنا إنّو هلّق انْعَرَفْ مين مظبوط بيمثّل المسيحيين حسب ما هوّي بيتمنى: إنّو مش العماد عون رغم الـ22 نايب إللي طلعولو، كيف في طريقة يطلع عالتلفزيون ويحكي بس بغير شي؟.
أما دولة الرئيس «مايك المرّ» فشي تاني دوماً... مايك سقط بسّ طِلِع أوكّي؟ هيك أصولها، يعني ما طِلِع بس طِلِع، هاي سنّة المتن الشمالي يا شبابي!! هيك هوّي معوَّد وداوخ الكل شي أكيد، لأنو إذا ما طِلِع بتأذّوه، وإنتو ما بتريدوا، شخصية تاريخية فاتحمّلوه وبلا تْشِفْشُق حكي وإشاعات.
أما طرابلس فالصَفَدي حلّق ويا ريت ضلّ وحدو، سمير الجسر جايب أقلّ منو بـ12180، وبيستاهل لأنو مفكّر إنو هوّي المستقبل الأصلي. إنّو إذا هوّي المستقبل، الصَفَدي اللي جايب 66139 صوت شو بيكون، الآخرة يعني؟ هلّق طبعاً من أهم اللي بقيو بالمنية ـ الضنية، «الفتفت» أحمد فتفت جاب 37667 صوت، هولي بالنسبة لـ«العميل 009» أكتر من ممتازين، أحمد فتفت صحيح، بس رجع يفتفت فجأة، وما في خوف صرنا عا آخر، راح الكتير وبقي القليل. من اللي رجعوا طلعوا كمان بالبقاع الغربي، جمال الجرّاح بـ33389 صوت، على فكرة جمال هوّي الوحيد اللي بعد ما انلقط، وأنا بفتكر إذا وصلولو للجرّاح هيدا، رح يكون محوَّل عا «غوانتنامو» دغري، ما ببيت ليلة بنظارة قصر العدل.
(يتبع)


عدد السبت ١٣ حزيران ٢٠٠٩