الأربعاء، ٢٣ أيلول ٢٠٠٩

حوار خاصّ وشامل مع د. عزمي بشارة

حوار خاصّ وشامل مع د. عزمي بشارة

أجرى المقابلة: سَماح إدريس ويُسري الأمير

حين التقينا والدكتور عزمي بشارة في ردهة الفندق، كان الرجل يغطّي الكثير من تعبه بلطفه وحسن استقباله. وهذا ما رافقه في حوار الساعتين في غرفته: فالتعب يكدّ الوجه الأسمر، وينافس أخضر العينين، لكنّ ذلك لم يمنعه من الخوض في النقاش، ولم يوقف حدّة الفكر ودقّة الملاحظة، لتكون النتيجة هذا الحوار الطويل ـ القصير: فقد كان طويلاً لأنّ بشارة استفاض في تقديم مفاهيمه حول القضايا القوميّة والعروبة ونضال فلسطينيي الداخل وتجاربه الذاتيّة وافق المستقبل؛ ولكنّه كان قصيرًا لأنّ الوقت لم يسعفْنا للحديث مع عزمي الأديب والروائيّ.
أُنهيَ الحوار ولم ينتهِ؛ فمن الصعب أن ينتهي نقاشٌ مع أمثال هذا الإنسان المجبول بالثقافة والنضال والناس والأمل.

1- عن المثقف والعمل التنظيميّ

يسري: د.عزمي، أرحّبُ بكَ في بيروت، وشعوري هو أنّك أنتَ مَن يرحّبُ بنا في وطنِه الكبير الذي يحمله معَه. وأعتمد على هذه الرحابة لأسألَكَ بدءًا من النهاية: متى ترى العودةَ إلى الوطن؟
- أتوق إلى العودة طبعًا، ولكني لا أرى أفقًا في الوقت الحاليّ لأنّ الظروف التي دعتْ إلى الخروج من الوطن ما زالت قائمةً، بل تفاقمتْ؛ وبات الأمرُ أكثرَ وضوحًا منذ خروجي، من حيث نوعُ التهم المَحُوكة الموجّهة إليّ. إذا تغيّرتْ هذه الظروف، تُمْكِن دراسةُ الموضوع؛ فالأمرُ ليس خيارًا، بل قرارٌ بأنْ أسلّم نفسي لمخططٍ واضح دونما فائدةٍ تُرجى من ذلك. على كلّ حال، سأَبدأُ، مثلَكَ، من النهاية، فأقول إنّ مفهومي للوطن أوسَع، وإنّ عناءَ المنفى ـ في حالتي كعربيّ وكفلسطينيّ وكمثقّف ـ وطنٌ هو أيضًا.

يسري: الأمر مرتبطٌ إذًا بوقف الملاحقة القضائيّة لا غير؟
- ... بوقفها وتغيير طابعها. فقد كنتُ في السابق مُلاحَقًا قضائيّاً، وتعرّضتُ للمَحاكمَ، لكنني بقيتُ. غير أنّ هذا النوع من التُهم ـ التي توجَّه من دون أيّ أساسٍ أو أدواتٍ للتعامل معها لكونها تُهمًا أمنيّةً خارجةً عن قواعد المعركة السياسيّة القضائيّة المُمكِنة في النضال السياسيّ ـ لا يَترك لي مجالاً للبقاء. والحقّ أنني لا أرى أيَّ فائدةٍ في تسليم نفسي كما ذكرتُ؛ بل على العكس: فكلُّ سجينٍٍ أمنيٍّ أعرفه (أكان "بريئًا" في لغتهم أمْ "مذْنبًا") لم يسلّمْ نفسَه أو لا يسلّم نفسَه. وفي اعتقادي أنّ ما يَنتج من تسليم نفسي في هذه الظروف ضررٌ يصيب الحركةَ الوطنيّة، وهو غباء. وأما ما نتج من خروجي من المؤسّسات التي أقمناها، فقد بدا بفضله وكأنّني تنحّيتُ جانبًا؛ وهذا ما يُفترض أن يفعلَه القادةُ في حياتهم وإنْ كانوا مُؤسِّسين! وبخروجي أُعطِيتِ الفرصةُ لٍـ "التجمّع" بأن يستمرَّ، وللمؤسّسات بأن تنمو. إنّ جدليّةَ الأمور وصيرورتَها أثبتتا أنّ الحركة الوطنيّة ليست حركةً مُشخصَنة. لقد كنتُ أتمنّى، وأنا داخل الوطن، أن يحصل ما حصل الآن؛ وسبق أن طلبتُ التنحّي عدّة مرّاتٍ عن الترشّح للبرلمان على الأقلّ، إذ قمتُ فيه بكلِّ ما يمْكن، وباتَ يستنزفني. لكنْ لم يوافقني أحدٌ من الحركة الوطنيّة خشيةَ "الإسقاطات." وها قد جاء "التنحّي،" ولم تحصل "الإسقاطاتُ" التي كنّا نخشاها، بل حدث عكسُ ذلك: استنفارٌ للحفاظ على الحركة. وهذا يدلّ على أنّ حركتنا نضجَتْ ووقفتْ على رجليها.
أنا مسرور لأنّ هذا الأمرَ تمّ في حياتي، وبنجاح، وهو في الواقع ما كنتُ أدعو إليه طوال الوقت: بناءُ المؤسّسات، على الضدّ من نزعة "النجوميّة الفرديّة" (التي يشجّعها الجمهورُ قبل أن يلومَ القادةَ عليها). ومن هنا أعتبر أنّي نجحتُ في امتحان الجيل المؤسِّس: أيَعْمل ليخلّفَ مِن بعدِه جيلاً يحْمل الرايةَ، ومؤسّساتٍ تحافظ على النهج والناس، أمْ لا؟ وفي هذا الوضع أتيحت لي أيضًا فرصةُ الاستمرار في العطاء الفكريّ والأدبيّ.

سماح: وكيف تجسَّدَ نجاحُ "التجمّع الوطني الديمقراطيّ" بعد غيابِك؟ هل زاد عددُ نوّابه مثلاً؟ هل تطوّر المردودُ الثقافيّ والمادّي لبعض مؤسّساته؟
- كان خصومُ "التجمّع،" بل بعضُ أصدقائه كذلك، يتوقّعون أن ينهار. لكنّه لم يحافظْ على وجوده وحسب بعد خروجي، بل زادَ أصواتَه أيضًا، على الرغم من تعرّضه لحملة تحريضٍ وتخويف لم يسبقْ أن تعرّضتْ لها أيّة حركة سياسيّة في الداخل. هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، وبعد معارضة البعضِ لرأيي في تحصين وضع المرأة في "التجمّع" وتثبيت حضورها في قوائمه الانتخابية النيابيّة والبلديّة، تمّ تبنّي هذا الأمر في غيابي وبناءً على اقتراحي، إذ تمّ انتخابُ امرأةٍ من "التجمّع" للبرلمان؛ كما تمّ تحصينُ ثلث المواقع بالحدّ الأدنى للنساء. أضِفْ إلى ذلك أنّ "اتّحاد الشباب الديمقراطيّ" ضاعف قوّتَه، وتضاعفتْ أعدادُه، على الرغم من تعرّض ناشطيه للملاحقة في فترة غيابي. ثم إنّ المؤسّسات الحزبيّة ناشطة، وقد عُقد مؤتمرٌ حزبيّ واحدٌ على الأقلّ...

سماح: وهل تواصلتََ مع المؤتمر؟
ـ ... مع المؤتمر الأوّل بعد خروجي فقط، وقد كان تنظيميَّ الطابع. ولكنّنا توقّفنا عن التواصل بعد ذلك لأنّنا أردنا أن نتجنّبَ تهمًا من نوع أنّني "ما زلتُ أدير الحزبَ من الخارج" ـ وهذا غيرُ صحيح، وليس في نيَّتي أصلاً: أولاً لأنّه خطأ؛ وثانيًا لأنّني لا أستطيع ذلك من الخارج؛ وثالثًا كي لا يُمنع الحزبُ من العمل! بالطبع، التواصلُ بيننا مازال موجودًا فكريّاً وسياسيّاً وغير ذلك، لأنه مبنيٌّ على روابطَ مبدئيّةٍ لا تتزعزع.
في العمل السياسيّ التنظيميّ يَصْعب في فترة الـ"مؤسّسين" أن يَبرز "الآخرون." وفي المؤسّسات والشركات عادةً لا يتمكّن مديرٌ عامٌّ جديدٌ من إدارتها فعلاً، ما دام مديرُها العامُّ القديمُ موجودًا فيها. هذا الأمر لم يحصل في "التجمّع،" وأنا سعيدٌ بذلك، إذ أرى أنّه لم يكن مُتاحًا بروزُ الشباب بشكلٍ جدّيٍّ إبّان وجودي في الداخل، على الرغم من فسحي المجال أمامهم بشكلٍ واعٍ. لا أقول إنّ خروجي أمرٌ ممتاز، لكنّ علينا أن نرى أيضًا إيجابيّاتِ ما حصل وإيجابيّاتِ المنفى.

سماح: لو أردتَ التنحّي خلال وجودكَ هناك، ما كانوا سيقبلون ذلك أصلاً...
- صحيح، ما كان ذلك مُمكنًا.

يسري: ما السبب الذي جعل هذه التجربة الحزبيّة تنجح كمؤسّسة، في حين فشل العديدُ من التجارب المؤسّساتيّة في العالم العربيّ؟
ـ أتصوّر أنّ الناحيةَ الذاتيّة المتعلّقة بنوع الناس المنضوين في هذا النشاط كانت هي الأساس. إنّ منْ يتّخذ قرارً الانخراط في عملٍ حزبيّ، إبّان صعود انتماءاتٍ عضويّةٍ وشائجيّةٍ وطائفيّةٍ وعائليّة، هو شخصٌ مُنتقًى بالضرورة؛ ففي فترة "أفول الإيديولوجيّات،" وتراجُعِ فكرة التنظيم الحزبيّ الطوعيّ وكلِّ فكرة الأحزاب، وصعودِ فكرة "المنظّمات غير الحكوميّة" في أوساط اليسار، وابتعادِ المثقّفين عن السياسة وكأنّها صارت حكرًا على الحركات الإسلاميّة... في هذه الفترة بالذات لا بدّ أنْ تكونَ نوعيّةُ الناس التي تنخرط معك في هذا النوع من العمل نوعيّةً مميّزةً نسبيّاً.
وفي المقابل، فإنّ الظروف الموضوعيّة للأفراد عندنا لا تختلف عنها في أيّ بلد عربيّ. كما أنّ الثقافةَ السياسيّةَ القائمة، والمتمثّلة في الانصياع إلى القائد والزعيم، والمَيْلِ إلى تحويل الحزب إلى جماعةٍ أهليّةٍ تشْبه الطائفةَ أو العائلة، كلّ ذلك موجودٌ أيضًا عندنا. لكنّ هناك مجموعةً أخرى من التجارب التي نجحتْ نتيجةً لمقدار الجهد المبذول ووعيِ الفرد المسؤول بالاستمراريّة، على عكس قاعدة "ومن بعديَ الطوفان." والمدعوّون إلى القيام بهذه المهمّة يتعرّضون لإغراء إهمالها: فهي تكلِّف جهدًا ووقتًا وأعصابًا وانخراطًا في التفاصيل، وتُبعدُ المرءَ عن أشياءَ يحبّها، ولا تعطي مردودًا معنويّاً مباشرًا، بل هي ما نسمّيه "عملَ النملة" الذي لا يُنتج فكرًا ولا يَظهر للإعلام عادةً. إنّ الساعات التي تُمْضيها في بيتك وبيوتِ النشطاء تناقش وإيّاهم قضايا حزبيّةً تحضيرًا لمؤتمر، أو تصْرفها في اجتماع فرعٍ في قريةٍ أو بلدة، كلّ ذلك لا تراهُ في الإعلام. وإنّ الوقت الذي تستثمره في مثل هذا النشاط التنظيميّ هو خيارُكَ الذاتيّ كمثقف؛ والخيارُ الذاتيّ الحرّ هو الأساس لأنْ لا عملَ سياسيّاً أخلاقيّاً في هذه الظروف بلا تضحية. فكلُّ الناس، كما ذكرتُ، يمْلكون مَيلاُ إلى الزعامة، وإلى تحويل التنظيم إلى رابطةٍ عصبويّةٍ كالعائلة، وكذلك عندهم المَيلُ إلى القمع؛ بل إنّ هذا المَيل قد يوجد عندنا بدرجاتٍ أكبر لأنّ واقعَ عرب الداخل ـ في اعتقادي ـ أقلُّ مدينيّةً (لأسبابٍ موضوعيّة) من باقي المجتمعات العربيّة، إضافةً إلى أنه بقي معزولاً عن تفاعل التيّارات السياسيّة والفكريّة التي عصفتْ بالحداثة العربيّة.

يسري: تتحدّث عن "الميْل إلى الزعامة" وكأنّها نزوعٌ فرديٌّ فقط. ألا ترى أنّ "الشعب" لا يرضَى من مسؤوله إلاّ أن يكون "زعيمًا ونجمًا ومالكََ الحكمة..."؟ وكيف التحصّن من هذه النزعة؟
ـ سأجيب باختصارٍ لأنّ هذا السؤال فلسفيٌّ وفكريٌّ واجتماعيّ. صحيحٌ أنّ الشعبَ يكرِّس هذه النزعةَ بالميْل (الموروثِ عن الثقافة الدينيّة) إلى المخلِّص والخلاص، وبالميل إلى إعادة إنتاج علاقة الرَعِيّة بالراعي أو الحاكم (التي هي من مخلّفات الدولة السلطانيّة). لكنّ ما ضاعف هذا كلَّه هو عبادةُ المشهد الإعلاميّ وتسويقُه السياسيّين وكأنهم نجومٌ أشبهُ بلاعبِي كرة القدم والفنّانين. أمّا بالنسبةِ إلى التحصين الاجتماعيّ ضدّ هذه النزعة، فللنقد والنقد الذاتيّ وللنخبةِ الواعيةِ ضدّ ثقافة القطيعِ دورٌ أساسيٌّ في هذا التحصين. وقد يكون الأمرُ مثلاً بالمطالبة بمواقفَ وبرامجَ وشرحٍ وتحليلٍ، لا بابتساماتٍ وشعاراتٍ وديماغوجيا و"سياساتِ هويّة." طبعًا لا شيء سلبيّاً في الكاريزما القياديّة التي تُسْهم في تعبئةِ الناس إذا كان الموقِفُ الذي تخدُمه صحيحًا. ولكنْ يجب فضحُ الكذبِ والديماغوجيا حتّى عندما يكرِّس الإعلامُ الزعماءََ نجومًا، بل بالذاتِ عندما يفعل الإعلامُ ذلك لأنّ الكذبَ في هذه الحالة بنيويّ.
أمّا القائد فيحصِّنُ ذاتَه بأمرَين: الأوّل، بعدم تعويق بناء المؤسّسات، بل بالإسهام في بنائها واحترامها؛ وثانيًا بالمعرفةِ التي تضعُه في السياقِ التاريخيّ، وتنوِّرُه، فيدركُ حجمَه الحقيقيّ بدلاً من الاستماعِ إلى المُرائِين. وتُمكن هنا إضافةُ عاملٍ ثالثٍ، وهو وجوبُ تمتّعِ القائد بروحِ الدعابة والتهكّم الذاتيّ: فمَن يأخذْ نفسَه بجديّةٍ قاتلةٍ لا يتمتّعْ بروح النقد الذاتيّ؛ والأمور التي تبدو لبعضِ القادة جدّيّةً جدّاً ـ فيعبسون في حضرة المَقام والمناسبة، ويستعرِضون حرسَ الشرف، ويسيرون ويتكلّمون بشكلٍ غريب ـ تبدو لمَن يتمتّعُ بروح الدعابة والسخريةٍ أمرًا مثيرًا للضحك، بل مفزِعًا من شدّة سخفه!

سماح: يحيّرني يا عزمي سؤال: كيف تجد الوقتَ للخوض في كلّ ذلك الجهد الحزبيّ المتواصل؟
- كنتُ في الحزب الشيوعيّ في بدايات الشباب؛ والأحزابُ الشيوعيّة تزوِّدكَ بتجربةٍ كبيرةٍ بالمعنيين السلبيّ والإيجابيّ. فبالمعنى السلبيّ، يصْعب أن تتحرّر من أسلوب العمل اللينينيّ، ولا بدّ أن تتحرّر من تحويل الإيديولوجيا إلى تديّنٍ وحتميّاتٍ قد تُفقِدك الحُكمَ الأخلاقيّ الحرّ على الأشياء ـ وهذه كارثةٌ حقيقيّةٌ على عقليّة الناس وثقافتهم. أمّا بالمعنى الإيجابيّ، فإنّ هذه التجربة تزوّدكَ بالحدّ الأدنى من أصول قواعد الانضباط وعمل المؤسّسات. إذًا، هذا النشاط لم يكنْ غريبًا عنّي لأنّني انخرطتُ فيه منذ الشباب، وبالتالي لم أحتَجْ إلى تعلّمه من البداية؛ والخبرة توفّر وقتًا كما تعْلم.

سماح: ألاحظ أيضًا أنّ مواقفك لا تعبّر عن "ثقافةٍ" وحسب، كما قد نجد عند إدوارد سعيد مثلاً. نقرأ إدوارد فيتّضح لنا عمقُ ثقافته، وتراكمُ القراءات من خلفها؛ ونقرأك فنشعر ـ إضافةً إلى ذينك العمق والتراكم ـ بوجود مُحاوِرٍ أمامكَ: تجيبه وكأنه يسألكَ من دون أن نقرأ سؤاله، وتناقش أفكارَه المتغلغلة في ثنايا ما "تجيبه" به. الكتابة عندك تنطلق من حواراتٍ ونقاشاتٍ حزبيّةٍ وغير حزبيّة جَرَتْ بالتأكيد، لا من كتبٍ قرأتَها وحسب.
- حبّذا لو تجنّبْنا المقارنة! أقرأُ كثيرًا، وبلا توقّف، وبعدّة لغات. ولكنّ التجربة الحياتيّة، لا القراءات وحدَها، تشكّل مصدرًا لمواقفي هي الأخرى. ، عندما كنتُ أكتبُ مقالاً أسبوعيًّا كنت أُنتجُ كتبًا أيضًا، وأعمل في مؤسّساتٍ عديدة (حزبيّةٍ وغير حزبيّة)، وأنشطُ برلمانيّاً. مَنْ عرفني في قطاعٍ واحٍد من هذه القطاعات لم يخطرْ في باله أنّني أعمل في الأمور الأخرى. وهذا الأمرُ أفادني، لكنه أضرّ بي في الوقت ذاته: إذْ كان من الصعب في الأماكن المختلفة هذه أن تُقبَلَ كما أنت، كما أنّ علاقاتي المتعدّدة بعوالمَ متباينةٍ غيرِ متواصلةٍ بالضرورة عقّدتَْ حياتي فعلاً. إنّ إدراك أهميّة العمل السياسيّ ناتجٌ من تجربةٍ سياسيّةٍ طبعًا، كما أنّه ناتجٌ من إدراكٍ فكريّ وأخلاقيّ. ولكنّك لا تستطيع أنْ تقومَ بعملٍ سياسيّ من خلال المقال وحده؛ كما أنّه لا يسعكَ أن تقومَ بذلك من خلال جمعيّاتٍ مموَّلةٍ بموجب أجنداتٍ غربيّةٍ تعْمل على تخريب البديل الديمقراطيّ في مجتمعاتنا وتتركَ العملَ السياسيّ للحركات الدينيّة. أنت بحاجةٍ إلى تيّار سياسيّ منظّم؛ وهذا أمرٌ صعبٌ ومستهلِكٌ للوقت؛ كما أنّ التعامل مع كافّة الأمور الشخصيّة وطموحات البعض وتوقّعاتِهم الفرديّة أمرٌ منهك. ولا تستطيعَ أنْ "تمنّنَ" الناسَ يوميّاً بأنّك تقوم بعملٍ سياسيّ (علمًا أنه طوعيّ)، وأنّك لهذا لا تستطيع أن تذهبَ إلى مكتبة الجامعة يوميّاً مثلاً. عليك أنْ تقبلَ بوضعك، فتقتنعَ بأنّ هذه المهمّةَ (السياسيّة مثلاً) هي عملٌ بدوامٍ كامل، وأنّ المهمّة الأخرى (الثقافيّة) هي أيضًا عملٌ بدوامٍ كامل، فكأنّك عاملٌ يعْمل بوظيفتين أو ثلاثٍ ليُعيلَ أسرتَه.
في السنوات الأولى كان العمل التنظيميّ يستهلكُ الكثيرَ من الوقت. لكنّه صار أخفّ لاحقًا، وبشكلٍ تدريجيّ. وفي آخر سنتين من وجودي في "البلد" بات العملُ الحزبيّ والبرلمانيّ أقلّ، وكان واضحًا أنّني أسلّم الكثيرَ من المسؤوليّات إلى قياديين آخرين. والوقت والتجربة هما اللذان سيُثبتان مََن كان جديرًا بالثقة ومَن لم يكن.
وفي السنواتِ الأولى كان الوقتُ مكرّسًا للشأن العامّ، بما يتضمّنه من نومٍ خارجَ المنزل، وإهمالٍ للحياة العائليّة، والقيامِ بما لا تُحبّ. هذا هو النضالُ ببساطة، وإذا لم ينخرطْ فيه المثقّفون فمَنْ يقومُ به؟ أعتقد أنّ بإمكان المثقّف في باريس أو نيويورك أن يترفّعَ عن العمل السياسيّ التنظيميّ، بما فيه الحزبيّ؛ أما في بلادنا، فالترفّع خطأٌ لأنّ النخبَ قليلةٌ جدّاً، وإذا تعالَتْ عن العمل الحزبيّ فسيتحوّل إلى شؤونِ أُسرٍ وبيوتات سياسيّة. وفي هذا تجدُ عند المثقّفين العرب فكرةً مغلوطةً: ففي رأيي أنّ المثقّف العضويّ لا يكتمل إنْ لم يتورّطْ في العمل السياسيّ. وإذا كان المثقّفُ غيرَ متورّطٍ في العمل السياسيّ، فماذا يفعل؟ النخبُ العربيّة ليست واسعةً وكبيرةً حتّى يحْصرَ المثقّفُ اهتمامَه بأمورٍ أخرى غير العمل السياسيّ!
أما ما تذْكرُه يا سماح بالنسبة إلى الصديق الراحل إدوارد (وكنتُ أعرفُه مثقفًا كبيرًا)، فقد كنتُ ألاحظ فعلاً أنّ ما يقوله مبنيٌّ في الأساس على القراءة. أمّا حين نصل إلى السياسة، فقد كان ما يقوله لا يخلو من سذاجةٍ تتضمّن تكبّرًا وتعاليًا تنويريّاً يشْمل الاعتقادَ بأنّ قولَ الأشياء الصحيحة هو ما يجعلُها تحصل بشكلٍ آليّ. وذلك أشبهُ بالتبشير، بل هو أقلُّ منه: فالواعظُ أو المبشِّرُ أكثرُ تسييسًا لأنّه يخاطبُ جمهورًا ويتفاعلُ معه؛ أمّا في حالة السذاجة السياسيّة فيكادَ مَن يمارسها يعطي أوامرَ و"علاماتٍ" للواقع خطأً أو صوابًا. إنّ هذا الموقف لا يقلّلُ من أهميّة فكر إدوارد سعيد وثقافته، لكنّنا كنّا نشعر [بما ذكرتُه سابقًا] في حديثنا إليه أو عندما يكتب المقالات السياسيّة.
هنا أيضًا أُشير إلى مَيل البعض إلى التعامل مع إدوارد وكأنّه مثقّفٌ عربيّ يعيش في المهْجر (الولايات المتحدة). غير أنّ هذا لا ينطبق عليه في واقع الأمر، ولا ينطبق عليه تعبيرُ "السباحة بين الثقافات" لأنّ ثقافتَه غربيّةٌ في الأساس. فلو كان إدوارد في فلسطين ما كان سيكتفي بالمثقّف الذي عرفناه. ولكنه كان ذا دور عظيم كمثقّفٍ أميركيّ. ومن ناحيةٍ أخرى، فلو كان مثقّفًا عربيّاً في الأساس، لضمّن الاستشراق كمّاً أكبرَ من القراءات العربيّة والثقافة العربيّة، وزاويةَ نظرٍ أخرى، وربّما كان سيكون أكثر تقديرًا لجهد بعض المستشرقين وإنْ حافظَ على المنطلق القِيَميّ والمنهج النقديّ نفسه من الاستشراق. لكنْ، وكما أنّ أحدَ جوانب النقص فيه هو عدم الاطّلاع الكافي على الثقافة العربيّة الإسلاميّة، فإنّ إحدى إيجابيّاته ومصادر قوّته هي أنّه كتب ضمن الخطاب الجامعيّ الغربيّ وفي نقده في آنٍ معًا. أما أنا فمثقّفٌ عربيٌّ فلسطينيّ، ومع ذلك فإنّ الامتحان لكتاباتي الفكريّة يجب أنْ يخضعَ لمقاييسَ فكريّةٍ ونظريّة، لا لأمورٍ أخرى. وهذا ما آملُه. فكتابي، مساهمة في نقد المجتمع المدنيّ، صدرَ قبل دخولي ساحةَ العمل الحزبيّ البرلمانيّ، واستُقبِل بحفاوةٍ بالغةٍ من قِبل المختصّين بتاريخ الفلسفة والأفكار السياسيّة.

يسري: إذًا، عندما اضطررتَ إلى الانخراط في العمل الحزبيّ اضطررتَ إلى تأسيس حزب.
- صحيح. كان علينا أنْ نبدأ كلّ شيءٍ من جديد. وطبعًا شكّل هذا تحدّيًا هائلاً، ولكنّه ليس مخيفًا. وأنا أسرد أفكاري هنا ولديّ فكرةٌ عمّن يقرأ الآداب، وأُحسِنُ الظنَّ بكيفيّة تتقييم جمهورِها لما أقول. لقد اضطررْنا إلى تأسيسِ حزبٍ وأنْ نبدأ من جديد. وكنّا نحتاج الى تأسيس مركزِ أبحاث، فأسّسناه؛ وإلى إنشاء صحيفةٍ، فأنشأناها؛ وإلى بناء جمعيّاتٍ متخصّصة (معروفةٍ حاليّاً) وغيرِ خاضعة للشروط الغربيّة وتكاد لا تتلقّى تمويلاً، فبنيناها. وقد حدث ذلك منذ بداية الانتفاضة الأولى، ومنذ أنْ بدأتُ التدريسَ في جامعة بيرزيت. فكما ترى لم نولدْ أبناءً لقادةٍ حزبيين أو سياسيين، ولم نولدْ وعندنا صحيفةٌ أو مؤسّسات. لم تكن موجودةً، فكان علينا أن نُقِيمها.

سماح: استكمالاً لهذه النقطة فإني أجد ابتعادًا كبيرًا في وطننا العربيّ، بشكلٍ خاصّ، ما بين المثقّفين من جهة، والناشطين سياسيّاً من جهةٍ ثانية. وقد يَبلغ هذا الابتعادُ تخومَ كراهية السياسيين للمثقّفين، وتقديسِهم لـ "الشعب." أنت يا دكتور قد تشكّل نموذجًا للمثقّف العضويّ، أو للمثقف الناشطِ سياسيّاً، وبخاصّةٍ في سنوات وجودك في فلسطين. فكيف يمْكنُ أن نعيدَ إنتاجَ صورة المثقّف العضويّ ونرْدمَ ـ ما استطعنا ـ الهوّةََ القاتلةََ، التي لا يحتملها وضعُنا العربيُّ البائسُ أصلاًً، بين العمل السياسيّ والإنتاج الثقافيّ؟
ـ لا أستطيعُ أن أزايدَ على العالم العربيّ؛ فالعملُ السياسيّ فيه أصعبُ وأسهلُ [من العمل في فلسطين 48] في الوقتِ نفسه. هو أصعب لأنّ ظروفَ القمع أكبر، وإمكانيّاتِ العمل أقلّ، والحريّاتِ أشدُّ تقييدًا (ولاسيّما على صعيد حريّة الرأي والكلمة). وهو أسهلُ لأنّ أفق التطلّع والتطوّر عندنا في الداخل كان أضيقَ: فأنْ تنشِئ حزبًا عربيّاً ديمقراطيّاً في دولةٍ غير عربيّة ومن دون أفقِ الوصول إلى الحكم، وإنْ نظريّاً، ناهيك بالحفاظ على الهويّة العربيّة في ظروفٍ إسرائيليّة تؤسرِلُ الاقتصادَ والحاجات وسُبُلَ سدِّها... كلُّ ذلك شكّلَ صعوبةً غير موجودة في العالم العربيّ، هي صعوبةُ طرحِ مشروع شامل.
والأهمّ من ذلك هو أنه تمّ القضاءُ عندنا على الريف التقليديّ من دون نشوء مركزٍ مُدُنيّ، لأنّ المدنَ صهيونيّةٌ. والحزبُ الحديث يحتاج إلى مركز مدينة، إلى أفراد، ولا يستطيع أنْ يقوم على عشائرَ لأنّه اتّحادٌ طوعيٌّ بين أفراد. نحن انطلقنا من مجتمعٍ ريفيّ غير زراعيّ، يفتقر إلى الزراعة كنشاطٍ اقتصاديّ حقيقيّ، وتحوّل إلى مراكزَ ريفيّةٍ للعمل المأجور. وهذا أشبهُ بأحياء الفقر في المدن، لكنْ من دون مدن! وقد تعاملتُ مع هذا الموضوع بتوسّع في كتابي: الخطاب السياسيّ المبتور. وكما كان هذا التحليل ضروريّاً لفهم طبيعةِ التحرّك، فقد شكّل زاويةً جديدةً في التحليل الاجتماعيّ للمجتمع العربيّ في الداخل.
من المهمّ أنْ يعْلم الزملاءُ المثقّفون العربُ أنْ لا أُفق لتطوّرٍ ثقافيّ حقيقيّ من دون مشروعٍ سياسيّ، وأنّهم "لا يُسْدون معروفًا" للسياسة بعملهم على مثل هذا المشروع لأنّ وجودَه مسألةٌ مصيريّةٌ لتطوّر الثقافة العربيّة نفسها.

2 - عن "الشيوعيّة" و"القوميّة" وما يتجاوزهما

يسري: ما هو البرنامج الذي لم تلاقِه في الحزب الشيوعيّ وأوجدْتَه في "التجمّع"؟
- البرنامج في الحزب الشيوعيّ كان، في حدّ ذاته، مشكلة! فقد تضمّنَ دولةً يهوديّةً ودولةً فلسطينيّةً في الضفّة والقطاع (وهذا الطرح نفسُه جاء متأخرًا)، ولم يعرِّفْ مفهومَ المساواةِ في دولة المواطنين، ولم يعرِّف الحقوقَ القوميّةَ للعرب كسكّانٍ أصليين، واعتبرَ نفسَه في دستوره "حزبَ الوطنيّة الإسرائيليّة والأمميّة البروليتاريّة،" وغير ذلك من الأمور.
لكنّ المشكلة مع الحزب الشيوعيّ لم تكنْ في البرنامج فقط. ففي مرحلةٍ مبكّرة من شبابيٍ، قرّرتُ أنّني لم أعُدْ مستعدّاً للبقاء فيه، ولو لم تسمحِ الدولةُ الإسرائيليّةُ لحزبٍ آخرَ بأن ينظّمَ نفسَه. فلقد وصلتُ إلى قناعةٍ عميقة، وهي أنّ الفَرقَ بين النظام الشيوعيّ والأنظمة الشموليّة الأخرى ضئيل؛ إنّه فَرقٌ في القِيَم الأصليّة التي تآكلتْ، لا في الممارسة. كما أنّ الادّعاء بأنّ القيمَ يمْكن أن تخدمَها الأساليبُ نفسُها ـ وإنْ كانت قيمَ سعادةِ الإنسان ـ يُنشئُ نظامًا شموليّاً مُماثلاً. ومع الستالينيّة، عَمَّرَ هذا الادّعاءُ مدّةً أطولَ، ولعب دورًا أخطر، وأدّى إلى ضحايا يفوقون ضحايا النازيّة التي لم تستطعْ أنْ تنشئَ دينًا جديدًا واختفت كأنّها لم تكن. وكما ذكرتُ، فإنّ الجاذبَ لشابٍّ مثلي إلى الشيوعيّة قد كان القيمَ الأصليّةَ التي على أساسها قامتِ الإيديولوجيا الشيوعيّة، فماذا يتبقّى منها في ما سمّاه لينين "الشيوعيّةَ العلميّة" ثم في الدولة الشموليّة؟!

سماح: لكنّ هذا قد ينطبقُ على القوميّة، فأنتَ...
- لا، هذا ينطبق على التيّارات الفاشيّة! كما أنّ ما قلتُه آنفًا لا ينطبق على الماركسيّة، بل على الأحزاب الشيوعيّة. هناك نقاشٌ فكريّ مع بعضِ تيّارات الماركسيّة، لكنّ الماركسيّة لا تشكّل مشكلةً من هذا النوع، وتبقى بالنسبة إليّ أحدَ المصادر الفكريّة الرئيسة، ولا سيّما في النظريّة الاجتماعيّة وفي نظريّة التاريخ. غير أنّ الشيوعيّة كادت أنْ تكوِّن دينًا جديدًا؛ وهذا ما لم تنجحِ النازيّةُ فيه: فقد بقيتْ محاولاتُها لإقامةِ دينٍ جديدٍ موضوعًا للسخرية، وهنالك دراساتٌ تبيّن أنّ التوتاليتاريّة لم تدخلْ في عمق الحياة اليوميّة في ألمانيا، وقد هُزِمَتْ في النهاية ولمْ تتركْ أثرًا. وأما النظام الشيوعيّ، فلأنّ قِيمَه (كالمساواة والحريّة) أرقى وذاتُ صبغةٍ كونيّة، فقد دام فترةً أطول، وانضمّ إليه الكثيرون للأسباب الصحيحة، ومنهم مَن قضى في سيبيريا وغيرها، ومنهم مَن عاش في الغرب والعالم الثالث، لا في ظلّ الأنظمة الشموليّة ذاتها، فكان لديه هامشٌ لخداع الذات حول ما يجري لأنّه لم يعش في ظلّ هذه الأنظمة.
كان ذلك استنتاجي المبكّر كشابّ، إذًا. وقد اعتمدتُ في سبيله على قراءاتي لماركسيين مثل روزا لوكسمبورغ ولوناتشارسكي، وعلى محاكمات بوخارين، ثم كتابات آيزيك دويتشر عن الستالينيّة، وكتاباتِ آخرين في نقاشهم مع لينين، ثم قراءاتي لـ "مدرسة فرانكفورت" ولا سيّما هوركهايمر وماركوزه، وعلى نقاشاتِ روجيه غارودي مع المكتب السياسيّ للحزبَ الشيوعيّ الفرنسيّ قبل أن يتركه. ثمّ جاءت تجربتي في ألمانيا الشرقيّة، فوجدتُ النظامَ، بلا مبالغة، أسوأَ ممّا استنتجتُه من القراءة. وقد استغربتُ كيف لعاقلٍ أن يرى هذا، ثمّ يعودَ ليدافعَ عنه، وهو يعرف أنّه يكذب! لقد كانت الفلسفةُ التي اكتشفتُها بلا أخلاق (ethics)، ولا أعرف ما هي الفلسفة المجرّدة من الأخلاق! والقولَ "إنّ الأخلاق نسبيّةٌ طبقيّةٌ حسب المصلحة" يعني كارثةً حضاريّةً وتشويهًا فظيعًا. إلاّ أنّ الأهمّ من هذا الإشكال الفلسفيّ كان الاعتقادَ الشيوعيَّ السائد بأنّ الديمقراطيّة "تقليعة برجوازيّة،" بينما رأيي كان أنّ الاشتراكيّة غيرُ ممكنةٍ بلا ديمقراطيّة، وإلاّ تحوّلتْ إلى رأسماليّةِ دولةٍ فاسدةٍ وبيروقراطيّةٍ وغيرِ مُنتِجة. وكنتُ في تلك الفترة قد باشرتُ قراءةَ أمثال الفرد روزنبرغ (تاريخ الديمقراطية)، الذي نظر إلى ماركس من زاوية كونِه ديمقراطيّاً متأثّرًا بالحركة الديمقراطيّة الفرنسيّة.
من ناحيةٍ أخرى، كان مهمّاً لي، كَشابٍّ، الصدامُ السياسيّ مع المسألة القوميّة داخل الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، وكان ذلك مبكّرًا، أيْ قبل البريسترويكا والانهيار بسنوات. فقد خلّفَ موقفُ الحزب من المسألة القوميّة جروحًا في فترة "طفولتي السياسيّة": فحقُّ العودة لم يذكرْه الحزبُ قطّ، بل كان أوّلَ من ذكّرَ مرارًا بحقّ العودة في الكنيست الإسرائيليّ (منذ العام 1948 وحتّى العام 1996) هو ممثّلُ "التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ،" وكان هو أيضًا أوّلَ مَن لفظَ كلمةَ "نكبة" في بروتوكولات البرلمان. ولا نقول ذلك لتسجيل إنجازٍ شخصيّ بل ليدرك القارئُ عمقَ الفارق السياسيّ بيننا في حينه.
ومن نقاط الخلاف مع الشيوعيين الإسرائيليين رهانُهم في البداية على المشروع الإسرائيليّ كمشروعٍ "اشتراكيّ" وكنظامٍ "تقدّميّ،" في مقابل الرجعيّات العربيّة. لم يكن نقاشنا معهم للتسلية، ولا كان يجري تكبّرًا أو ترفّعًا، بل كان عاطفيّاً وجدانيّاً إلى حدٍّ كبير، لأنّه وقع مع جيلٍ من الآباء، ومنهم والدي. فوالدي كان ناشطًا شيوعيّاً قديمًا، وكان مثقّفًا وقارئًا؛ وخلافًا لما نُشر، فإنه لم يكنْ قائدًا حزبيّاً، بل مناضلٌ نقابيّ. وبوصفه عضوًا في اللجنة القوميّة فقد دافعَ عن قريته بالسلاح حين احتلّتها عصاباتُ الهاجاناه؛ لكنْ ألقيَ القبضُ عليه وهو يوزِّعُ مناشيرَ "عصبة التحرّر الوطنيّ" التي ضمّتِ الشيوعيين العربَ وكانت تدعو إلى قبول قرار التقسيم وتنفيذه، وتدعو الجيوشَ العربيّة إلى الانسحاب. والمهمّ أنّ المنشور ذاته دعا الفلسطينيّين إلى البقاء في بيوتهم، خلافًا لموقف الأنظمة المتساهل مع خروجهم ريثما يتحقّق النصر ضدّ الصهاينة. كلّ هذا تمّ بعد خطاب غروميكو في الأمم المتحدة الذي أيّدَ التقسيمَ، وقد كان الشيوعيون ضدّ قرار التقسيم قبل الخطاب بليلةٍ واحدة! وطبعًا أطلق جيش الإنقاذ سراحه مع إخوانه في ما بعد. ولم يكن والدي في الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ بل في عصبة التحرّر الوطنيّ، وقد انتمى إلى جيل اعتبر موقفَه إلى جانب السوفييت أهمَّ نضالٍ ممكن، وكان ورفاقه مستعدّين للتضحية بحياتهم لأنّهم رأوْا أنفسَهم جزءًا من مشروعٍ كونيٍّ اشتراكيٍّ صاعد. وفي نهاية الأمر، كان عليه أنْ يناقشَ قناعاتِه هذه مع ابنه، لذلك كان نقاشًا عاطفيّاً. وتستطيع أنْ تتخيّلَ موقفي من ذلك، مع محبّتي لأعضاء ذلك الجيل، ومن دون تخوينهم طبعًا: فأخطاؤُهم نسبيّة، وهم لم يحْكموا بلدًا. طبعًا هم مازالوا يؤكّدون الآن "أنّ الأيّام أثبتتْ صحّة" موقفهم بقبول التقسيم في حينه، ولكنّ ذلك كان موقفًا خاطئًا في رأيي. وكان يجب أن يكونَ مطلبُهم هو أنْ يحاربَ العربُ الصهيونيّةَ، لا أن ينسحبوا من مواجهتها؛ وأنْ يرفضوا قرارَ التقسيم، لا أن يقبلوه (وليس صحيحًا أنهم لو قبلوه لنفّذتْه إسرائيلُ أصلاً). وكملاحظةٍ شخصيّةٍ، فإني أعتقد أنّ والدي توفّي وهو على رأيي.

سماح: بعد استطرادك البليغ عن الشيوعيين أعود إلى ملاحظتي، وهي أنك تحدّثتَ، في غير مناسبة، عن مشكلتك الجذريّة مع القوميّة...
ـ ليس مع القوميّة بل مع الإيديولوجيا القوميّة التي انتشرتْ عربيّاً أيضًا، وسأشرحُ لك ذلك بعد الانتهاء من الإجابة عن سؤال يسري السابق! اذًا، الصِّدامُ الأوّلُ [مع الشيوعيّة] كان مع فكرها الفلسفيّ، ولا سيّما الأخلاقيّ الفلسفيّ؛ فلم أتمكّنْ من تقبّل أنّ الأخلاقَ هي مصلحةُ "الطبقة،" التي تحوّلتْ إلى مصلحة الجماعة العصبويّة (وكأنّنا في حركةٍ باطنيّة!). ولم أر الأخلاقَ انصياعًا إلى حتميّات الطبيعة والتاريخ، كما ورد في "الشيوعيّة العلميّة،" بل هي عكسُ ذلك: إنّها ما يحرّر النفسَ الإنسانيّةَ بفصل الحريّة عن الضرورة. وهذا الأمرُ بالنسبة إليّ هو كالحدّ الفاصل بين الخير والشرّ، ولا نقاشَ فيه. فالحسمُ الأخلاقيّ حسمٌ حرٌّ، وإلاّ فلن تقوم مجتمعاتٌ بشريّةٌ تستحقّ الذكر، ونكونَ همَجًا. وهذا ما أَعدُّه الجانب التنويريّ في الفكر السياسيّ.
أمّا الصِدام الثاني مع الشيوعيّين فكان، كما ذكرتُ، يدور حول القضيّة القوميّة، وعدمِ فهمهم لأهميّةِ البُعد الحضاريّ الإسلاميّ أيضًا. وهذا الخلاف لم يكن نظريّاً؛ فقد صدرتْ تصريحاتٌ وأبحاثٌ لهم تحْمل هذا الموقف. والأهمُّ من ذلك كان قيامهم بممارساتٍ واضحة تنفي وجودَ أمّةٍ عربيّة.
وكان ثمة خلافٌ مع الشيوعيين حول القضيّة الوطنيّة أيضًا. فقد كانوا يروْن أنّ التقسيمَ هو الحلُّ الواقعيُّ الوحيدَ لانسحاب الاستعمار البريطانيّ، ثمّ حوّلوا "الحلَّ الواقعيَّ الوحيد" إلى أمرٍ فكريٍّ مبدئيّ هو: "حقُّ تقرير المصير للشعبين،" و"مبدأُ دولتين لشعبين" الذي يهتفون به حاليّاً في اجتماعاتهم. ولم يكن دافع الشيوعيّين العرب، على الأقلّ عند موافقتهم على قرار التقسيم، مبدأَ "دولتين لشعبين،" بل الواقعيّة السياسيّة وأولويّة خروج الإنجليز؛ لكنْ تمّ تبنّي العنصر الصهيونيّ في الفكر الشيوعيّ، الأمرُ الذي جعلهم يؤيّدون قانون العودة الصهيونيّ في البرلمان، ويعتبرون الاستيطانَ الكولونياليّ مسألةَ "حق تقرير المصير للشعب اليهوديّ"!
ثمّ كان موقفُهم من عبد الناصر حين لم يكنْ على وِفاق مع السوفييت؛ فموقفُهم في قرارات ومؤتمرات الحزب من المقاومة الفلسطينيّة التي اعتبروها ـ حين نشوئها ـ حركاتٍ برجوازيّةً صغيرةً وفاشيّةَ الطابع. وفي هذا السياق لا أُغفل بعضَ الأمور الرمزيّة أيضًا، كوقوفهم عند عزف "نشيد هاتيكفا" [النشيد الوطنيّ الإسرائيليّ] في افتتاح المؤتمرات، أو قول دستورهم إنّ الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ هو حزبُ الوطنيّة الإسرائيليّة والأمميّة البروليتاريّة!
هذه هواجسُ شابٍّ في السابعة عشرة من عمره، جاء إلى الحزب الشيوعيّ بشكلٍٍ يكاد يكون طبيعيّاً من البيت، ولأنّه لم يكن ثمة خيارٌ حزبيٌّ آخرُ أمام اندفاعه الوطنيّ، إذ مُنِعَتْ في حينه التنظيماتُ العربيّةُ، فاكتشفَ أنّه ملزمٌ برفع العلم الإسرائيليّ في الأوّل من أيّار! أنا الفلسطينيّ، المسلوبةُ أرضُه، ملزَمٌ برفع العلم الإسرائيليّ، أو السيرِ خلفه في مظاهرة؟! ثمّ يقولون إنّهم [الشيوعيين] حافظوا على اللغة العربيّة هناك، علمًا أنّ العربيّة لم تكن في خطر الانقراض يومًا: فتعليمُ الإنسان العربيّ كان، منذ اليوم الأوّل في إسرائيل، باللغة العربيّة، لأنّ إسرائيل لم ترغبْ أصلاً في دمجِ العرب! وإذا كان الحزبُ قد أعطى مِنبرًا لبعض الأدباء العرب (وهذا صحيح)، إلاّ أنّه اضطلعَ بمهمةٍ تاريخيّة خطيرة، هي تكييفُ العرب في إسرائيل مع وجودِ هذه الدولة ومع وضعهم الجديد. ومن هنا امتلأتُ بالرفض حتى الانفجار، وتبلوَرتْ مواقفي أكثرَ فأكثرَ في الحركة الطلابيّة في الجامعات والنقاشات والتجربة، ثمّ في نقاش الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وأخطاء التيّار القوميّ العربيّ... إلى أنْ وصلتُ إلى طرحي هذا.
أما بالنسبة إلى سؤالك يا سماح حول القوميّة، وبالعودة إلى كتاباتي مثل: مساهمة في نقد المجتمع المدنيّ والمسألة العربيّة، ومؤخّرًا كتاب أن تكون عربيّاً في أيّامنا، فإنه يمْكن تلمّسُ فكرٍ جديد. ففي اعتقادي أنّه يتمّ التعاملُ مع القوميّة كانتماءٍ حديثٍ يسيّسُ الثقافةَ، وأساسُها اللغة. وإنني أودّ أن أرسمَ خطّاً أحمرَ عند تحويلِ القوميّة إلى إيديولوجيا اجتماعيّة، مثل أنْ يكونَ الموقفُ من المرأة موقفًاً قوميّاً، فماذا يعني هذا؟ إنّ هذه الممارسة تحوّلُ القوميّةَ إلى إيديولوجيا شموليّةٍ، أو إلى تقاليدَ أهليّةٍ فولكلوريّةٍ من النوع الذي يَستنتِج من "روح الشعب" موقفًا متعلّقًا بالعامل وبالمرأة وبالرجل وبالذكوريّة... إلخ. هنا أرسم الخطَّ الأحمرَ: المشكلةُ ليست في القوميّة، بل في تحويلها إلى منظومةٍ إيديولوجيّةٍ لديها أجوبةٌ عن كافة القضايا. إنّ تحويلَ الثقافة إلى قوميّة، ومنها إلى أمّة، هي خطوةٌ كبيرةٌ في التاريخ تكون اللغةُ فيها هي الأساس. هنا وَجَبَ التحديدُ: هل أنتَ قوميٌّ ديمقراطيٌّ، أمْ قوميٌّ فاشيٌّ، أمْ قوميٌّ اشتراكيٌّ، أمْ غير ذلك؟ أرى أنّه حالَ التحوّل من قوميّةٍ إلى أمّةٍ ذاتِ سيادة، وَجَبَ أنْ تصبح هذه الأمةُ أمّةَ المواطنين بغضِّ النظر عن قوميّاتهم. من هنا أبحث في الديمقراطيّة والعلمانيّة والاشتراكيّة وغيرها، لا بوصفي قوميّاً بل كباحثٍ بأدواتٍ علميّة، وكديمقراطيّ يؤمنُ بالعدالة الاجتماعيّة. إنّ رفضَ تحويل الفكر القوميّ إلى إيديولوجيا شموليّةٍ هو ما يميّزنا كقوميين ديمقراطيين ذوي نزعةٍ مساواتيّةٍ نأخذها من تراث اليسار وتقاليده وفكره ونطوّرها (كما طُوّرَتِ الليبراليّةُ من ليبراليّةٍ اقتصاديّةٍ إلى حقوقٍ سياسيّة وفُصِلتْ عن النيوليبراليّة). ولا أرى مانعًا (بل أرى واجبًا) في تبنّي فكرة العدالة الاجتماعيّة، أو الفكرةِ الديمقراطيّة الليبراليّة، وتطويرهما. ففي الفكرة القوميّة في حدّ ذاتها، لا جوابَ عن سؤال المساواةِ والعدالةِ الاجتماعيّة وغيرهما؛ وإذا حاولنا مثلاً إيجادَ جوابٍ "قوميّ خالص" لقضيّةِ المرأة، من دون فكرٍ ديمقراطيّ أو تقدّميّ، فلن يكونَ أكثرَ من فكرةٍ ذكوريّةٍ تتحدّث عن "دور المرأة القوميّ في الحمْل أو في دعم الرجل في الدفاع عن الوطن"! ولا تنسَ أنّ الفكرَ القوميّ لا يعتمد على نصٍّ يؤسِّس لأصوليّة، أو يُتيح ـ عبرَ إعادةِ قراءته ـ استنباطَ أحكامٍ ومعاييرَ جديدةٍ، كما قد يحصل مع الفكر الدينيّ.
إذًا، ما إنْ تحسم المسألةَ القوميّةَ كنهجٍ حديثٍ في تنظيم المجتمع، فيجب ألاّ يستحوِذَ عليكَ الموضوعُ في كلّ مسألة. عليكَ أنْ تفكّر بالديمقراطيّة كديمقراطيّ، وبالعدالة الاجتماعية كمَن يؤمِنُ بها، وعليكَ تطبيقُهما في هذا الإطار السياسيّ القوميّ وفي إطار الحضارة الإسلاميّة ـ هذا الإطار الذي ما لم تحقّقْه الشعوبُ العربيّةُ، في الوعي على الأقلّ، فسوف تبقى فريسةَ التخلّف من جهة، والتدخّل الاستعماريّ من جهة أخرى.

يسري: بتعريفك، القوميّة هي انتماءٌ ثقافيٌّ ينتمي إليه الناس طوعًا...
- لا، ليس طوعًا... ولكنّنا لا نولدُ فيه كهويّةٍ، بل كمعطًى لغويٍّ ثقافيٍّ بيئيٍّ... الخ. غير أننا نحوّله إلى قوميّةٍ تسعى إلى التحوّل إلى أمّة؛ فالأمّة تُبنى، والهويّاتُ تُبنى.

يسري: بتعريفك أيضًا تقول إنّ القوميّة العربيّة الحديثة تشمل تسييسًا للانتماء الثقافيّ وتشكّل جماعةً مُتخَيَّلةً مثلَ كلّ القوميّات. هل تشرح مفهومَ "الجماعة المتخيَّلة"؟
ـ ذكّرتني بأحدِهم، وكان ينتقدُني لأنّني أقولُ عن العرب إنّهم جماعة متخيَّلة (يضحك). هذا تعبيرٌ تمْكنُ تسميتُه "استعارةً علميّة." وقد وَرَدَ في كتابٍ صغيرٍ لبينيدكت أندرسون، غير أنّ فيه أكثرَ من "لمعة،" علمًا بأنّ الرجل مختصٌّ بقوميّات شرق آسيا، لكنّه يكنّ شعورًا طيّبًا للعرب. وقد سنحتْ لي فرصةُ كتابةِ مقدّمةِ الترجمة العبريّة، وقد ذَكَر (في مقدّمة الطبعة الثامنة على ما أعتقد) أنّه مسرورٌ بذلك لأّنّني فلسطينيّ، ومؤخّرًا كتبتُ مقدّمةَ الترجمة العربيّة. مفارقاتٌ غريبةٌ، أليسَ كذلك؟
وبالعودة إلى موضوعنا، فبينيدكت أندرسون لا يقول إنّ القوميّة متخيَّلة، بل يعتبرها حقيقةً واقعيّةً. ويذْكر أنّ فعلَ الانتماء هو فعلُ تخيُّلِ القوميّة كجماعة (community) لا كمجتمع (society). أندرسون يميّزُ بين جماعتين بشريّتين لغرض كتابه: بين الناس الذين تعْرفُهم مباشرةً (face to face community)، وهم الأهلُ والعائلةُ الممتدّةُ وسكّانُ المنطقة إلخ، أيْ كلّ مَن تعتبرُه مألوفًا وحميمًا؛ وبين المجتمعِ المركّبِ من أفرادٍ لا تعرفُهم، وليس ما يربطهم علاقةً شخصيّةً بل أمورٌ أخرى. ولكي تنتميَ إلى مجتمعٍ لا تعْرف أفرادَه، عليك أن تتخيّلَه جماعةً (community)؛ ومن هنا سمّاه أندرسون "جماعة متخيَّلة" (imagined community). إنها "لمعةٌ" عبقريّةٌ لتفسير الانتماء، ولكنْ أُسيءَ فهمُها، ولا سيّما عندما انتشرَ الكتابُ في أوساطٍ غير مختصّةٍ تَفْهمُ "التخيّلَ" على أنّه عكسُ الحقيقة، في حين أنه عمليّةُ تشكيلِ هويّةٍ لا من لاشيءٍ بل من مكوّناتٍ قائمةٍ بالفعل. ولا أعتبرُ أنّ هناك تصويرًا أو تعبيرًا لهذا الرابط بين الناس، الذي يجعلهم يدْمعون ويقفون للعَلَم ويُستشهدون، أفضلَ من صورة تخيّلِ المجتمع والوطن كأنّه جماعةٌ أهليّةٌ. وإذا كان العالمُ العربيّ يتألّف من أكثر من مئتيْ مليون إنسان، فهذه طبعًا ليست جماعةً أهليّةً، ولا أستطيع أنْ أعْرفَهم ولا أنْ أعرفَ جزءًا كبيرًا منهم لأنتميَ إليهم. ولكنْ في ما عدا التعريفات النظريّة للمشترَكِ بينهم، كاللغة والتاريخ والتطلّعات، فإنّ الانتماءَ إليهم يتضمّنُ استخدامَ هذه المركّباتِ المشتركةِ كي "أتخيّلهم" جماعةً ذاتَ رابطٍ حسّيّ اجتماعيّ. لقد فُهمَتْ لفظةُ "متخيَّل" (imagined) وكأنّها "موهوم" (illusionary)، وهذا أساسُ الالتباس؛ في حين أنّ العكسَ هو الصحيح، وهو أنّ المتخيَّلَ تأكيدٌ على واقعيّةِ الانتماءِ القوميّ.

سماح: كان الأجدى استعمال لفظة "متصوَّر"...
- صحيح. لكنّ هذا المفهومَ ليس جديدًا أصلاً. فنظريّاتُ "العقْد الاجتماعيّ" كلّها مثلاً ترتبط برابطٍ متخيَّلٍ بين أفراد المجتمع، فهل اجتمع الناسُ جميعًا وارتضوْا هذا العقد؟! الحقّ أنّك لكي تنظِّم مجتمعًا مكوّنًا من أفرادٍ أحرار، فأنتَ ملزمٌ بأن تتخيّل أنّهم ألَّفوا عقدًا في ما بينهم.

يسري: لكنّ العقد الاجتماعيّ، في حدّ ذاته، جاء نتيجةً أو لاحقًا للعلاقات التي كانت قائمةً قبلَ التنظيرِ له...
ـ كذلك فإنّ القوميّةَ سابقةٌ على التنظير حولها، والرأسماليّةَ سبقتْ كتابَ رأس المال. "العقدُ الاجتماعيّ" و"الجماعةُ المتخيّلة" ليسا حدثين تاريخيّين، بل نموذجان نظريّان (theoretical models) في فهم واقعٍ تاريخيٍّ متحوّل. فالعقد الاجتماعيّ ليس سردًا لتاريخٍ، كما ذكرتُ، لمجرّد أنّه نظريّةٌ لاحقةٌ زمنيّاً لعلاقاتٍ قَبَليّةٍ ولسيادةِ رابطة الدم والتبعيّةِ الشخصيّةِ للأرض ومالِكِ الأرض وما يشْبه ذلك. هنالك، إذن، أحداثٌ تاريخيّةٌ، وتاريخٌ من تفكّك هذه العلاقات، أدّت إلى نشوء المجتمعات الحديثة.
فعلى سبيل المثال، نشأتِ الرأسماليّةُ من وقائعَ تاريخيّةٍ مثل الاكتشافات الجغرافيّة وتطوّر الآلة البخاريّة والنقل البحريّ. وتقاطَعَ تطوّرُ قوى الإنتاج مع أحداثٍ تاريخيّةِ (كوارث بيئيّة، مجاعات في الريف، انتشار الطاعون، تشريعات في إنجلترا بشكلٍ خاصّ أدّتْ إلى خراب العلاقات الزراعيّة،...) وقذفَتْ إلى المدينة ببروليتاريا حرّةٍ، وصفَها ماركس بـ "صاحبة الحريّة المزدوجة": الحرّيّةِ من الأرض، والحريّةِ في بيع عملها. فأنشأتْ مجتمعًا جديدًا يتميّز بتعاقد السوق. من هنا فإنّ نظريّةَ "العقد" هي تفسيرٌ لنوع المجتمع الناشئ من العلاقة المدنيّة بين مواطنين، بين أفراد، وليست حدثًا تاريخيّاً في حدّ ذاتها. وحتّى نفهم ماهيّةَ هذا المجتمع، فإننا نتخيّلُ نماذجََ تُظهر المجتمعاتِ وقد قامت نتيجةً لتعاقدِ أفرادٍ أحرارٍ على ما يلي: بعد هذا التعاقد تنشأ، من الجسم الذي يتّحدُ، أمّةٌ نسمّيها "صاحبَ السيادة." وهذا نراه عند هوبس ولوك وروسّو وآخرين. هذه الفكرةُ هي نموذجٌ نظريٌّ يشرح أنّ المجتمعَ لم يعد مؤلّفًا من جماعة أو جماعات، بل من أفراد مواطنين. وهذا شرطُ الحداثة.
ولا يختلفُ الأمرُ بالنسبة إلى القوميّة. فكيف نفسّرُ الانتماءَ إلى جماعةٍ غير عضويّة، ليست عائلةً ولا عشيرةً ولا أهلاً، وهو مع ذلك انتماءٌ بما يتضمّنه من حبّ؟ إنه لينْدرُ أن نجد أدبًا أو شعرًا تختلط فيه مشاعرُ الحبّ والحميميّة مثلما نجدُ في حالة الانتماء إلى هذه المجموعةِ الغريبةِ التي لا يَعْرف الناسُ فيها بعضُهم بعضًا، والمسمّاةِ "الجماعة القوميّة." وقد انعكستْ هذه المشاعر على اللغة مثلاً، فصارت هناك "لغةٌ قوميّةٌ" توحِّد اللهجات. والأمر ذاتُه بالنسبة إلى الرواية، التي هي سردُ جماعاتٍ لا قبائلَ، وسردُ أممٍ متخَيَّّلةٍ كجماعات. وهنالك تحليلاتٌ طويلةٌ عن عمليّة الزمن السرديّ، وكيف تتخيّل التزامنَ بينك وبين أُناسٍ لا تعرفهم في حوادثَ مختلفةٍ تقع في الزمن نفسه؛ فالرواية وَحّدَتِ الزمنَ القوميَّ لدى قرّاء اللغة نفسها. وقد حدث ذلك قبل حصول الثورة الروائيّة التالية التي جعلتْ موضوعَها الإنسانَ الفردَ وعالمَه الداخليّ، ولكنّ موضوعَها الأصليَّ بقي كونَها أدبَ المجتمعات الحديثةِ المتخيَّلةِ كجماعات. والمركَّبُ الآخرُ للأمّة هو المواطن، وهو الفردُ في الرواية، خلافًا لشِعرِ الجماعات الأهليّة والشعوب القديمة الملحميّ وغير الملحميّ.
هذا الناتجُ الذي سمّيناه "جماعةً متخيّلةً" لا يمْكن أنْ يكونَ بالولادة. فمع الولادة تمتلك أدواتِ تخيّل؛ ولكنّ هنالك أدواتِ تخيّلٍ ناجمةً عن التطوّر التاريخيّ، مثل تطوّر وسائل الاتّصال والصحيفة ودار النشر وغيرها، ولا يولد الإنسانُ منتميًا مباشرةً إليها. أيكون هذا أساسًا أعمقَ وأكثرَ حداثةً لتشكيل الدول؟ لا شكّ في أنّه أساسٌ أكثرُ حداثةً من الطائفة والعشيرة وغيرها.

يسري: هل تجدُ أنّ التقسيماتِ الطائفيّةَ والقبليّةَ تنتمي إلى التاريخ؟ أنت لم تذكر التاريخ، بل تعرّضتََ للّغة والجغرافيّة.
ـ التاريخ هو الأساس. فأدواتُ التخيّل نفسُها ناشئةٌ ومتطوّرةٌ ومصنوعةٌ تاريخيّاً، كما قلتُ في نهاية الإجابة السابقة. أما بالنسبة إلى التاريخ المشترَك، فعليكَ أيضًا أن تتخيّلَه، وهو تواريخُ قائمةٌ، ويعمل الأدبُ والفنُّ (وعلاقاتُهما بالأسطورة أولاً وبالسياسة والنظريّة ثانيًا) على توحيدها وتأميمِها. فالتاريخ السابق على القوميّة لم يكنْ تاريخًا قوميّاً، وزمنُ شعوبِه لم يكنْ موحّدًا، أخذًا في الاعتبار ضعْف وسائل الاتّصال في الماضي. التاريخ ليس قوميّاً، لأنّ القوميّةَ مفهومٌ حديثٌ. وعندما يؤْمن مثقفون وحركاتٌ بوجود أمّةٍ عربيّة، مثلاً، تستحقّ الحياة وتمتلك نهضتَها، تبدأ كتابةُ التاريخ تاريخًا عربيّاً.
لكنْ، هل هناك تاريخٌ عربيٌّ؟ هل هناك ما يجمع، تاريخيّاً، العراقَ بالمغرب مثلاً؟ نعم، كان هنالك ما يَجْمع من دون تزامن، إلاّ أنه ليس قوميّةً، ولن أدخل في هذا المبحث الآن. لكنْ يُكتب التاريخُ القوميُّ وكأنّه يقود إلى الواقع القائم أو المرغوب. أمّا المحاولاتُ العبثيّةُ الأخرى الجاريةُ حاليّاً والتي تصنع شيئًا من عدم، فهي المصيبة: فكيف تكتبُ تاريخَ مناطقَ لم تكن قائمةً كوحداتٍ بهذه الصورة؟ كيف تكتبُ تاريخَها وكأنّ لها تاريخًا منفصلاً عمّا حولها، أيْ كأنّها كانت دائمًا قائمةً كدولٍ؟ خذْ مثلاً اختراعَ تواريخَ منفصلةٍ للدول العربيّة: إنّ هذا ليس متخيَّلاً، بل ضربٌ من ضروب الخيال! إذ كيف تكتبُ، حقيقةً، تاريخَ تونس مثلاً، منفصلاً عمّا حولها؟ أو تاريخَ فلسطين أو الأردن؟ أو تاريخَ للبنانَ بمحافظاته الحاليّة التي لا تملكُ تاريخًا مشترَكًا ولا منفصِلاً عن سورية؟ أو تاريخَ سورية الحاليّة كأنّها منطقةٌ قائمةٌ وحدَها دون الباقي؟ وماذا عن محاولات الدول الخليجيّةِ الصغيرةِ في كتابة تاريخٍ خاصٍّ بها منفَصلٍ عن الجزيرة؟ إنّه أمرٌ لا يُصدَّق! فإمّا أنْ يُكتبَ تاريخٌ للوحدات الصغيرة التي كانت قائمة فعلاً، مثل دمشق أو حلب أو الإسكندريّة، أو يُكتَبَ تاريخُ الكيانات كما كانت قائمةً. مصرَ، الثابتة تاريخيّاً نسبيّاً، لم تكنْ هي نفسُها قائمةً كما هي اليوم؛ لذا تجب كتابةُ تاريخِ مناطقها، أو تاريخ وادي النيل بشكلٍ عامّ، أو تاريخها كجزءٍ من تاريخ الدولة الإسلاميّة والمحيط العربيّ الإسلاميّ، وهكذا. أما اختراعَُ تاريخٍ قديمٍ للكيانات السياسيّة القائمة فهو قرارٌ سياسيّ، لا أكثر!
في كتابة التاريخ قد يختلفُ المؤرّخون. لكنّ الأخطرَ هو تحويلُ التاريخ إلى منهجِ تدريسِ أحاديٍّ يهدف إلى حظْرِ الاختلافات فيه، فيتحوّل القادةُ إلى أبطال، وتصبح الأحداثُ مسلَّماتٍ، ، ويجري الحديثُ عن "الآباء المؤسّسين" للدولة. لكنّ محاولاتِ أسطَرةِ التاريخ عند العرب تبقى أقلَّ بكثيرٍ من الأسطرةِ التاريخيّةِ في إنجلترا مثلاً؛ فتلك قائمةٌ بشكلٍ أساسٍ على الخرافات والأكاذيب التي تشكّل مادّةً للمسلسلات والأفلام؛ كما ترفدها في الولايات المتحدة وسائلُ فنيّةٌ مثل هوليوُد التي تبني تاريخًا كاذبًا عن "آباء" الأمّة الأميركيّة. كلُّ هذا يؤسّس لأسطرةٍ تاريخيّةٍ لم نحظَ إلاّ بجزءٍ قليلٍ منها، على الرغم من نشاط قوًى كثيرةٍ عربيّاً ضدّ التاريخ القوميّ، أهمُّها المثقّفون المرتبطون بالتنظير للدولة القُطْريّة القائمة. إنّ تدريسَ مناهج التاريخ القُطْريّة ليس إلاّ جزءًا صغيرًا من عمليّة نقل الانتماء القوميّ عند الجيل الشابّ إلى اللاانتماء، إذ ثبُتَت سهولةُ انحلال الهويّة المحليّة القطْريّة إلى هويّاتٍ طائفيّةٍ وعشائريّةٍ وغيرها.

3 - أن تكون قوميّا عربيّاً تحت الاحتلال

يسري: الفلسطينيّ يسمّي وطنَه: "الْبْلادْ." ما الوطنُ عندَك؟
ـ مثلَ أيِّ مجتمعٍ ريفيٍّ غير مكتملِ التكوين قوميّاً قبلَ نشوءِ وسائل الاتّصال الحديثة، كان "البلدُ" في نظر الفلسطينيّ هو القريةَ أو الضيعة. ولكيْ يتكلّمَ عن الوطن بأكمله فقد استخدَمَ صيغة الجمع، "البلاد." أمّا المستوطِنُ الصهيونيّ فلَمْ يعرفْ هذا التنوّعَ المحليّ، واستوطَنَ منذ البداية بهدف بناء أمّةٍ موحَّدةٍ، يُوحِّد من خلالها الأرضَ والتاريخَ واللغة. وبهذا، حوَّل تنوُّعَه القائمَ في الخارج (فقد جاء من "بلادٍ" مختلفة) إلى "البلد" في صيغة المفرد.
في محاولتي بناءَ ثقافةٍ وفكرٍ نقيضيْن، رددتُ على الصهيونيّ في سيرتي الفرديّة نفسها. ومن هنا سكنْتُ في القدس الشرقيّة، وعملتُ في بيرزيت ورام الله؛ وسكنتُ أيضًا في حيفا، متجاوِزًا ما سُمّيَ "الخطَّ الأخضر." كما أنني تواصلتُ مع الوطن العربيّ. وأنا، شخصيّاً، أستخدمُ تعبير "البلد" لفلسطين كلِّها، وأستخدمُ الجمعَ "البلاد" للوطن العربيّ؛ فالوطنُ العربيُّ هو مفهومٌ يوحِّد بلداننا العربيّة أجمع.

يسري: وماذا يعني أن تكون عربيّاً قوميّاً يعيش تحت الاحتلال الإسرائيليّ؟
ـ هذا السؤال شاملٌ، والإجابة عنه تشير إلى كلّ ما قمتُ به حتّى الآن. فجزءٌ أساسٌ من نشاطي ونتاجي كان ردَّ فعلٍ على هذا الواقع. وقد ذكرتُ تعريفي لمعنى "قوميّ"؛ ولو كان ثمة تمييزٌ عربيٌّ بين national وnationalist لاستخدمتُه. وهناك أبعادٌ أُخرى في تشكيل ردِّ الفعل الفكريِّ والسياسيّ على الواقع، مثل الموقف الديمقراطيّ واليساريّ (بالمعنى الذي حدّدتُه لنفسي أيضًا، وهو الموقفُ المؤيّدُ للعدالة الاجتماعيّة). ولكنْ، في حالة العيش في الداخل، نعم هنالك تناقضٌ بين الهويّة العربيّة الفلسطينيّة في حدّ ذاتِها وبين الواقع المَعيش.

يسري: لكنْ، ما هي المهمّاتُ التي حدّدتَها لنفسك انطلاقًا من هذا الواقع الفريد؟
- في الهامش المُتاح أمامَ صياغة مشروعٍ وطنيٍّ في ظروف الداخل، تمَّتْ صياغةُ العناصر التالية:
أوّلاً، الموقفُ الذي يعتبر عربَ الداخل امتدادًا تاريخيّاً للشعب الفلسطينيّ على الأرض نفسها. وهذا هو المنطقُ الذي قادَ أنْ نحْيي ذكرى النكبة بعد قيام "التجمّع،" وقاد إلى التعامل مع قضيّة فلسطين كقضيّتِنا لا كقضيّةٍ لها "أصحابُها" [الآخرون] فنقْبلُ بما يقْبلون. وهذا يعني ولوجَنا النقاشَ في صلب الحركة الوطنيّة، لا كمتفرّجين.
ثانيًا، إنّ الهويّة العربيّة ضروريّةٌ لتماسُكِ المجتمع أمام الأَسْرَلة، وضروريّةٌ على المستوى الداخليّ لأنّ البديلَ منها ليس هويّةً قوميّةً أخرى، بل هويّاتٌ طائفيّةٌ أو عشائريّة. وأعتقد أنّ هذا ينطبقُ على كلّ بلاد الشام، كما رأينا في تجاربَ عديدة، ومنها العراقُ الآن. وقد برز عندنا تركيزٌ واضحٌ وواعٍ على الهويّة العربيّة الفلسطينيّة الجامعة، فأكدّنا أهميّةَ التواصل مع شعبنا الفلسطينيّ ومع العالم العربيّ، وقمنا به عمليّاً. وهذا ما أثارَ حفيظةَ إسرائيل وغضبَها في المرحلة الأولى. فقد كان مقدَّرًا للأحزاب العربيّة ـ بالمنظور الإسرائيليّ ـ أنْ تكون جسرَ "سلامٍ وتواصلٍ" بين الإسرائيليين والعرب، أيْ أنْ يتوجّه عربُ فلسطين إلى العرب الآخرين كإسرائيليين لا كعرب؛ وهو ما جسّدَهُ فعلاً عددٌ من النوّاب العرب في مواقفهم ونشاطهم. وخلافًا لِما يُعتقد، فإني لم أكن في الوفود الأولى التي زارت سورية من الداخل؛ فتلك الوفود زارتها بإذنٍ ورضًى إسرائيليَّيْن، وقرأتْ علَنًا رسائلَ السلام أمامَ القيادة السوريّة ووسائلِ الإعلامِ السوريّة. ما ميّز أسلوبَنا كان قرارَنا التواصلَ مع العالم العربيّ كعربٍ لا كإسرائيليين، ومن دون إذن إسرائيل، وهذا يكسرُ كلّ ما بنَوْه في خمسين عامًا، وكانَ أحدَ أسباب شدّة الغضب الإسرائيليّ علينا. أما لماذا رفضنا الإذنَ الإسرائيليّ، فلأنّه حين يتعلّق بما يُسمَّى "دولَ العدوّ" فإنّه يحوِّل التواصلَ تطبيعًا. وقد احترم السوريون ذلك، مع أنّهم سبق أن استقبلوا وفودًا عربيّة ضمّت مثلاً أعضاءَ عربًا من حزب العمل. وبعد شرحِنا لموقفِنا الرافضِ الاستئذانَ مِن إسرائيل في التواصل، أعتقدُ أنّ السوريين اكتشفوا وجوَد خللٍ في التواصل السابق: فالانفتاحُ على العرب في الداخل تضمّنَ إمكانيّةَ أن يفسَّر كنوعٍ من الوساطَة، لا كتواصلٍ عربيٍّ ـ عربيٍّ. وفي التواصل مع العالم العربيّ كان جهدُنا ملحوظًا في التواصل الثقافيّ، عبر إعادةِ نشرِ كتب، والمشاركةِ في لقاءاتٍ ومؤتمراتٍ، والإسهامِ الحقيقيّ في الناتج الفكريّ العربيّ،
ثالثًا، صياغةُ هموم الناس، المرتبطةِ بالواقع الإسرائيليّ مباشرةً، صياغةً تتوافق مع الانتماء العروبيّ والفلسطينيّ. فالحال أنّ هموم الإنسان الفلسطينيّ في "الداخل" لا ترتبطُ بالعروبة: لا شيءَ عربيّاً في رُخَص البناء، أو في إيجاد وظيفةٍ، أو غيرِ ذلك، وهي كلّها أمورٌ مرتبطةٌ بالمواطَنةِ الإسرائيليّة. فكيف تستطيعُ التعاملَ معها والمطالبةَ بالتساوي مع المواطن اليهوديّ، والحفاظَ على موقفِكَ وهويّتكَ العربيّةِ الفلسطينيّة في الوقت نفسه؟ ففي التعامل مع الإدارات الرسميّة عليكَ أن تشدِّدَ على كونِك مواطِنًا إسرائيليّاً لتنالَ ما هو حقٌّ لك. وهذه معضلةٌ كبيرةٌ شغلَتْنا وقتًا طويلاً، وقد طرَحْنا فيها ـ إلى جانبِ الانتماء العربيّ ـ أمرين: 1) التشديد على أنّنا أفرادٌ مواطنون، لنا حقوقٌ فرديّة، ولكننا جماعةٌ قوميّة في الوقت نفسه لها حقوقٌ جماعيّة، وطالبْنا بالاعتراف بِنا كجماعةٍ أوّلاً. فالابتعاد عن حقوق الناس اليوميّة كان سيعني ابتعادًا عن الجماهير، والتأكيدُ عليها وحدَها يعني الأَسْرلة. 2) أمّا الأمرُ الثاني فهو أنّ المساواةَ التي طالبْنا بها لا تعني فُتاتَ المائدة، أي أنْ يتفضّلَ الإسرائيليُّ علينا بمساواةٍ نقابلُها بولاء، كما كان الطرحُ السائدُ لفكرةِ "المساواة." المساواةُ تعني أنّ الدولةَ للمواطنين، وأيُّ دولةٍ لا يمكنُها أنْ تكونَ دولةَ المواطنين لا يمكنُها منْحَ المساواة. هذا المفهوم الذي طرحْناه أحدثَ دويّاً هائلاً في الحياة السياسيّة والثقافيّة الإسرائيليّة. كما أدّى إلى تغيُّرٍ في سلوك عرب الداخل، بحيثُ صارَ أقلَّ توسُّلاً وأكثرَ تأكيدًا على الذات عندَ المطالبةِ بالحقوق، وأَوصَلَ رسالةً مستمرّةً بأنّ بقاءَ الدولة يهوديّةً وصهيونيّةً سيُبقي المساواةَ غيرَ ممكنة؛ فقد "نتقدّمُ" في النضال الحقوقيّ، لكننا لن نصلَ إلى المساواة. أمّا عالميّاً، فقد فتحَ هذا التحليلُ أُفقًا جديدًا لنقدِ إسرائيل بين القوى الديمقراطيّة.

4 - عن الحلول المطروحة للمسألة الفلسطينيّة

سماح: كيف تفهمون الحكمَ الذاتيّ؟
ـ إنه في رأيِنا للمواطنين في دولة، لا بديلٌ من الدولة. البلديّة نفسُها نوعٌ من الحكم الذاتيّ في قضايا معيّنةٍ تحدِّدُها الدولة، لكنّ الدولةَ لا تُعطي حُكمًا ذاتيّاً للناس في كلّ قضاياهم. لقد نشأ مفهومُ "الحكم الذاتيّ" في البلقان، وفي بقايا الإمبراطوريّة النمساويّة - الهنغاريّة، وكان مطلبًا للأقليّات القوميّة هناك كي لا تتحوّلَ إلى حركاتٍ انفصاليّة. لكنّه لم يكنْ بديلاً من المواطَنة أو الدولة، بل كان تفضيلاً إضافيّاً للمواطنين لأنّهم يشكِّلون جماعةً قوميّةً. هذا الموضوعُ يحتاجُ إلى وقت إضافيّ لشرحه لأنّني أعتقدُ أنّ تشويهًا للمفاهيم قد حصلَ منذ أن دخلَ العربُ في مفاوضاتٍ مع إسرائيل؛ فقد طُرحَ في كامب ديفيد المصريّةِ الحكمُ الذاتيُّ للشعب تحت الاحتلال كبديلٍ من المواطَنة ومن حقِّ تقرير المصير في آن. كما تشوّهتِ المفاهيمُ حولنا، نحن في الداخل: فما دُمنا سنعترف بإسرائيل كدولةٍ، فذلك يعني أنّ العربَ فيها صاروا "عربَ إسرائيل،" وعليهم من ثم "تدبيرُ أمورِهم" وحدهم مع دولتهم؛ ومن هنا لا مانع لدى بعض القيادات العربيّة والفلسطينيّة في أنْ يكونَ العربيُّ الإسرائيليُّ مع حزب العمل أو الليكود، المهمّ أنْ يكونَ مع السلام! وطبعًا بهذا المعنى هنالك فعلاً "عربُ إسرائيل" موقِفًا، لا بحُكمِ موقِعهم الجغرافيّ.

سماح: ما موقفك اليوم إزاء الحلول المطروحة: دولة فلسطينيّة على الضفّة والقطاع، دولة ثنائيّة القوميّة، دولة واحدة ديمقراطيّة علمانيّة،...؟
لقد تطوّرَ توجُّهُ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة إلى قيام دولة فلسطينيّة في الضفّة. ولكن لو افترضْنا قيامَ مثل هذه الدولة، فماذا نفعل نحن؟ أنا لا أتحدّث [هنا] عن حلٍّ شاملٍ للقضيّة الفلسطينيّة، لكنّ دولةً في الضفّة لا تعني لنا شيئًا. وأستشعرُ منذ سنوات أنّ الهدف هو أنْ تكونَ الدولةُ المذكورة مقابلَ كلِّ شيء، وأن تكون "دولةَ الفلسطينيين" لا "دولةً فلسطينيّة"... أيْ أنْ "تُحلَّ" برزمةٍ واحدةٍ مشاكلُ كلِّ الفلسطينيين، بدلاً من حقِّ العودة، ونيلِ الحقوق في الدول التي يقيمون فيها (بحيث يتحوّلون من لاجئين إلى مهاجرين، أيْ إلى رعايا سفارةٍ فلسطينيّةٍ في تلك الدول).
من هنا نطرحُ التحدّيين التاليين: 1) إننا نريدُ أنْ تكون الدولةُ لجميع المواطنين، وهذا مطروحٌ للإسرائيليين لا للفلسطينيين. وهو يعني، بالتحديد، تفكيكَ الصهيونيّة. وذلك ما لن يَحدثَ في الإطار القائم، لكنّه برنامجٌ نضاليٌّ يواصل تحدّي الصهيونيّة وتوجيهَ النضال من أجل الحقوق في إطار المواطَنةِ نحوَ الأفضل. 2) إنّنا نرفض الاندماج، ونُصِرّ على هويّتنا القوميّة، وعلى مواصلة علاقاتنا العربيّة. وهذا يرتّبُ امتناعَ الدولة الإسرائيليّة عن تحديد برامجنا الدراسيّة وتخطيط حياتنا في القُرى والمدن العربيّة، وأن يُترك للعرب في الداخل انتخابُ قيادتهم. وليس بعيدًا أنْ نطالبَ لاحقًا بعضويّةِ "مُراقب" في الجامعة العربيّة، كعربٍ (ولمََ لا؟!). لكنّ ذلك كلّه مرتبطٌ بقيام دولةٍ فلسطينيّةٍ في الضفّة بناءً على اختيار حركة التحرّر الفلسطينيّ (وهو ليس حلاً للقضيّة الفلسطينيّة بالمناسبة). وإذا لم تختَرْ حركةُ التحرّر مبدأَ الدولةِ في الضفّة والقطاع، المنفصلةِ عن مُجمَل قضيّةِ فلسطين، فسنكونُ حينها جزءًا من حركةٍ أكبر.

سماح: ولكنك في محاضرتك الأخيرة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، قلت إنّك لا تريد تقديمَ حلٍّ للمحتلّ لأنّ الشعب الواقع تحت الاحتلال ليس من وظيفته أنْ يقدِّم حلولاً...
ـ أعتقد أنّ على الشعبَ المناضل تحت الاحتلال، وفي الشتات، أنْ يقدّمَ برنامجًا استراتيجيّاً ديمقراطيّا هو: الدولة الديمقراطيّة العلمانيّة الفلسطينيّة. وهذا ليس حلاً تفاوضيّا، أيْ لن يتمَّ التوصّلُ إليه من خلال التفاوض مع إسرائيل. ذلك لأنّ فرضَ البرنامج الإستراتيجيّ على الطرف الآخر يسْبق التفاوض، وإلاّ كان التفاوضُ طرحًا لحلولٍ في إطار موازين القوى القائمة، ولتسوياتٍ غير عادلةٍ، ويمنح العرب "شرعيّةَ" التهرّب من قضيّة فلسطين بجعلِها قضيّةَ الفلسطينيين لكونهم "أصحابَ القضيّة" و"الممثِّلَ الشرعيّ والوحيد."
الحلّ الوحيد هو أنْ يقتنعَ الطرفُ الآخر بأيّ برنامج إستراتيجيّ عندك، ويمكنُ حينها التفاوضُ على آليّة تطبيقه. أما ما يجري الآن فمحاولاتٌ فلسطينيّةٌ مستمرّةٌ لإرضاءِ الإسرائيليين، لأنّهم يفاوضون طرفًا يَعتبر نفسَه الأقوى والمنتصِر. لذا تحوّلت المفاوضاتُ من مفاوضاتٍ من أجل تحقيقِ الحقوق، إلى مفاوضاتٍ على الحقوق. ومن هنا لم أؤيِّدْ، في كلّ تجربة المفاوضات، طرحَ "الحلول" بهذا المعنى. ولكنّي أؤيدُ طبعًا طرحَ هدفِ الشعب الفلسطينيّ، الذي من أجله يناضل، وذلك على شكلِ برنامجٍ مشتَقٍّ من العدالة. وإذا كان هذا الأمرُ غيرَ واقعيّ، بمعنى أنّه يلزَمُه نضالٌ على المستويين العربيّ والعالميّ، فإنّ أيَّ طرحٍ آخر غيرُ واقعيّ هو أيضًا. فما لم يقتنعُ الآخرَ بطرحك، فلن يكون برنامجُك واقعيّاً بالفعل، وسيكون الأمر أشبه بالتحاور مع الذات. وحتى إذا تنازلتُ في طروحاتي إلى مستوى "دولةٍ في الضفّةِ والقطاعِ وحقّ العودة،" فلن يكونَ ذلك واقعيّاً إذا رفضتْه إسرائيل؛ فهي تنتظرُ تنازلاتٍ أخرى في مسألة السيادة والتسلّح والحدود والقدس، إذ لا توجدُ حدودٌ لمنطقِها الغريب هذا. ومن هنا يجبُ التمسّكُ بالبرنامج الإستراتيجيّ والنضالُ من أجله لكيْ لا يسودَ المنطق الإسرائيليّ.
نحن طبعًا لا نريدُ أنْ نصطدِم مع "فتح" أو "حماس،" ولا نملكُ الأدواتَ لذلك في الأساس. فنحن نعيش في الداخل، ونصفُ شعبنا هناك كان حتّى فترةٍ قريبةٍ يصوّتُ لأحزابٍ صهيونيّة، وكانتْ لدينا همومُ الحفاظِ على الهويّة الفلسطينيّة والعربيّة، وأنْ نصوغَ المطالبَ اليوميّة بحيث لا تأخذُ الناسَ إلى المؤسّسة الإسرائيليّة بمساعدة قوًى عربيّةٍ في الداخل. ما نريدُه هو توجيهُ الناس في الداخل نحوَ الموقف الوطنيّ بحدودنا المُتواضِعة، فنسألُهم ونسألُ أنفسَنا عن مساهمتنا في الصراع العربيّ ـ الصهيونيّ، ونشدّدُ على أنّنا سكّانُ البلاد الأصليون، وأنّ هذه الدولةَ عاجزةٌ عن تطبيق المساواة، وأنه لتطبيقِ المساواة ينبغي على الدولة أن تكونَ ديمقراطيّةً، وأنّ الصهيونيّة حركةٌ عنصريّةٌ وإنْ كان العالم اليوم يتراجعُ عن هذا الاعتبار. كما نطالبُ بالاعتراف بنا كشعب، ونحثُّ الناسَ والقياداتِ على التصرِّف كشعب، لأنَّ هذا أهمُّ من أيِّ اعتراف، بل هو الذي يفرض الاعتراف. كما نصرّ على عدم تراجع الفلسطينيّون العرب عن هويّتهم القوميّة، وعلى ألاّ نسلِّمَ ـ حتى في حالِ قيام دولة فلسطينيّة ـ بيهوديّة الدولة.
إذنْ، قُمنا بطرح نموذجٍ فقط لِما يمكنُ أنْ يُجسِّدَ نهجَ التفكير هذا في حالتنا وظروفنا. فكان طرحُ "الدولة الديمقراطيّة" طرحًا محلّيّاً بصيغة "دولة المواطنين." وقد طرحْناها في البرنامج عام 1995، مع فكرة تنظيم الفلسطينيين العرب قوميّاً كشعب، وكتبْنا حولَها قبل ذلك مقالاتٍ فكريّةً كان لها الصدى الذي تحدّثنا عنه أعلاه. ولقد عارضْنا، كمثقفين، اتفاقيّاتِ أوسلو في حينه (قبل أنْ نُقيم حركةً سياسيّةً)، وكانت تلك مساهمتَنا في مقابل التدهور الذي أصاب الحركةَ الوطنيّةَ الفلسطينيّةَ، ومحاولتَنا لإنقاذِ ما يُمكن إنقاذه. ولا أعتقدُ أنّه كانتْ هناك طريقةٌ أفضلُ من ذلك.
أمّا إذا قامت حركةٌ عامّةٌ فلسطينيّةٌ تسعى إلى أكثر من دولةٍ في الضفّة والقطاع، ولديها طرحٌ ديمقراطيّ، فمن الواضح أنّني سأنسجم معها. وقد كتبتُ عن فكرة "الدولة الواحدة" منذ أكثر من عشرين عامًا. لكنْ هل نُبادر إلى قيامِ مثل هذه الحركة، كما تطلب منّا بسؤالكَ هذا؟ لا أدري! هذا قيد الدرس والتفكير. شخصيّاً، لنْ أصرفَ طاقةً في العمل السياسيّ المباشر في الظرف العربيّ الحاليّ.

سماح: حتّى على صعيد المواطَنة؟
- في دولةٍ ديمقراطيّةٍ علمانيّة، ستكون المواطَنة شاملةً. حاليّاً، "التجمّع" لا يَطرحُ نفسَه حزبًا للفلسطينيّين، ولا يظهر ذلك في برنامجه. ما يظهرُ في برنامجه هو مشروعُه المحلّيّ الخاصّ، الذي يَطرحُ صيغةً لاستمرارِ الصراع مع الصهيونيّة كما ذكرْنا. أمّا على المستوى الفلسطينيّ العامّ، فـ "التجمّع" يلتزم ببرنامج الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة الرسميّ (لا بتنازلاتِها طبعًا). لكنْ، في مقالاتي الشخصيّة، يظهرُ الطرحُ الذي تتفضّل به، كصيغةٍ وكاجتهادٍ يطرحُهما مثقّفٌ عربيٌّ فلسطينيّ. أما طرْحُه كبرنامجٍ سياسيٍّ، أيْ كأكثر من مجرّد فكرة، فيتطلّب إمّا إقامةَ حركةٍ سياسيّةٍ جديدة، وإمّا توسيعَ "التجمّع" إلى حركةٍ فلسطينيّةٍ تشمل كلَّ مناطقِ وجود الشعب الفلسطينيّ بالتعاون مع قوًى أخرى.
إنّ تنظيمنا حاليّاً لا يستطيع أنْ يدّعي دورًا أكبرَ منه. ولقد ناقشنا حركتَيْ "فتح" و"حماس" في اتّفاقيّة أوسلو، والسلطة الوطنيّة، والممارسات في الضفّة والقطاع؛ لكنّ الصِّدام معهما ليس على أجنداتنا. نحن لا نهدف إلى خوض الصراع هذا، ولا الادّعاء أنّنا ممثّلو الشعب الفلسطينيّ؛ فساحةُ عمل "التجمّع" معروفةٌ، ونضالُه وأهدافُه معروفةٌ. وكلُّ تغيير يتطلّب تفكيرًا مجِّددًا وبحثًا مطوّلاً. والمشكلة أنّ ما يعتبرُه بعضُ المثقّفين برنامجًا، أعتبره، بتواضُعٍ، مجرّدَ طرح أفكارٍ ومحاضرات؛ فبرأيي، مثلاً، أنّ فكرةَ "الدولة الواحدة" تصبح برنامجًا إذا تبنّتها حركةٌ سياسيّةٌ وازِنة. لكنْ إذا كان قصدُك بالبرنامج طرحَ أفكار، فإني لم أتوقّفْ عن الكتابة وطرحِ الأفكار المؤثّرة باستمرار. وإذا عدْتَ إلى كتاباتي فسوف تجدُ الكثير من نقاط حوارك الآن. وفي كتابي الأخير أن تكون عربيّاً في أيامنا (صدرَ حديثًا) هناك دراسةٌ طويلةٌ بعنوان: "فلسطين، هل من أفق؟" وأحدّد فيها الوضعَ كالتالي: إسرائيل اختارَت نموذجَ الدولة الصليبيّة. لا توجد تسويةٌ عادلةٌ ومقبولةٌ قريبًا. لا بدَّ من التمسّك بالحلّ العادل، وهو "الدولة الديمقراطيّة" كشعارٍ، وعدمُ طرح حلولٍ وتسوياتٍ ومبادرات. ولقد كتبتُ هذا بناءً على تحليلٍ فكريٍّ نظريٍّ، لكنْ هل أستطيع أنْ أطرحَه كبرنامج لحزبٍ؟ هذا طموحٌ كبيرٌ. وعندما يُقرأ من النُخبِ الفلسطينيّة يُفهمُ ما عندي من أفكار. وعلى المدى البعيد، هل يمكنُ أنْ تكون هذه الأفكارُ موضِعَ قبولٍ فلسطينيٍّ يصلُح أساسًا لإعادة صياغة المشروع الوطنيّ بعد فشل طريق أوسلو؟ هذا هو التحدّي برأيي.

5 ـ مهامّ قادمة؟

يسري: البرنامج الذي تطرحُه كان بصفتك فلسطينيّاً من عرب الداخل. هل يجب أنْ تصلَ إلى حدود اليأس من العودة، وتتحوّلَ إلى فلسطينيّ من الشتات، حتّى تصِل إلى طرح برنامجٍ آخرَ يتوافق مع مصالح الفلسطينيين في الخارج؟
ـ أفهمُ من أسئلتكما، أنت وسماح، أّنكما تآمرتما لتوريطي في مغامرةٍ حركيّةٍ حزبيّةٍ جديدة، وتحاولان إقناعي بأنّ "واقعي الجديد" يسمح بذلك، وتدفعانني في هذا الاتجاه بلا كللٍ، في وقتٍ لا يُسْعدني فيه إلاّ القراءةُ والإنتاجُ الفكريّ والأدبيّ وتمضيةُ وقتٍ أكثر مع أبنائي! والحقيقةُ أنّه منذ خروجي تعرّضتُ لاستنزافٍ مثلّث: الخروج المفاجئ (في هذا العمر)، والملاحقة القضائيّة، والحفاظ على "التجمّع" ما بعد خروجي. وفي الوقت نفسه، أنا متورّطٌ في عدّة مشاريع فكريّة: فهناك كتابُ المسألة العربيّة، وقد أنهيتُه في العامّ الأوّل من وجودي في المنفى؛ وكتابُ نشيد الأنشاد الذي لنا؛ وأصدرتُ مؤخَّرًا أن تكون عربيّاً في أيّامنا، وكتابًا أدبيّاً جديدًا هو فصول. وهناك كتابٌ آخرُ، كنتُ قد بدأتُ فيه ويحتاج إلى سنواتٍ لإتمامه، وهو حوْلَ أنماط التديّن وعلاقتها بالديمقراطيّة. ثم وقعتْ حربُ غزّة.
هذا من ناحية. ولكنْ، من ناحيةٍ ثانيةٍ، أعتقد أنّ كلّ مَن هو مثلي تراودُه فكرةُ تحرُّكٍ عربيٍّ جديدٍ يُعيد إنتاجَ "الفكرة العربيّة" بأدواتٍ ديمقراطيّة، وعلى أساس العدالة الاجتماعيّة، وبعلاقةٍ أكثر وثوقًا وثقةً بالحضارة الإسلاميّة، ولو كان هذا التحرّكُ نخبويّاً في بادئ الأمر. لقد حان الوقتُ لإعادة إنتاج حراكٍ فكريّ سياسيّ، يبدأ من الأساسيّات التي ضاعت في التفاصيل وفي تشوُّه السياسة العربيّة القُطْريّة التي لم تعُدْ لها بنيةٌ، إلى درجةِ أنّ المصطلحاتِ الأساسيّةَ باتت غامضة. لكنّني أسأل: أين يمْكن الإنسانَ أن ينظِّم طاقتَه بنجاعةٍ أكبرَ في الظروف المعطاة؟ في ظلّ وجود مشروعٍ عربيٍّ في نهاية الخمسينيّات ونهاية الستينيّات، وبغضِّ النظرِ عن تقييمنا الحاليّ له ولنتائجه، لم يكن الفصلُ بين البُعدين الفلسطينيّ والعربيّ طبيعيّاً أو مقبولاً. الآن اختلفت الأمورُ أيضًا من ناحية هموم المثقّفين وتجاربهم المريرة السابقة والقُطْرِيّة المخيفة السائدة. الارتباكُ في جوابي ناجمٌ عن كونِي أفكّر بصوتٍ مرتفع. غير أنّ "السطرَ الأخير" هو: نعم! لقد آنَ الأوانُ لشيءٍ أو نشاطٍ أو حركةٍ ما، وتنفيذُه في الخارج ضرورةٌ، والمؤهَّلون كُثر. والساحة العربيّة مفتوحة لإعادة طرحِ مفهوم القوميّة العربيّة ديمقراطيّاً بأدواتٍ جديدة، ولا سيّما مع إفلاس منظومة الدول القُطريّة.
وهناك مهمّةٌ أخرى، وتتعلّق بالشأن الفلسطينيّ. وهنا أعترف بأنّني في حيرة، علمًا بأنّني لا أعتبرُ أنّ الناس في انتظاري وانتظار ما سأقوم به. الصورةُ هنا أكثرُ تعقيدًا: فهناك حركة حماس وحركة الجهاد اللتان، وبشكلٍ ما، تحملان رايةَ المقاومة. وهناك حركةُ فتح. وفي المساحة اليساريّة ما زالت قوى اليسار تحاول الحفاظَ على موقعها من دون طرح أفكارٍ جديدة، ولذلك تتدهورُ مكانتُها باستمرار. في مثل هذا الوضع، عندما تحاول تشكيلَ تنظيمٍ فلسطينيِّ جديد، ألنْ يصادف خطرَ التحوّل إلى "دكّان" صغيرٍ جديدٍ، ناهيك بالتحريض وردود الفعل؟

في محاضرتك الأخيرة في بيروت ذكرتَ دورَ اللاجئين في مخيّمات الشتات، ودعوْتَهم إلى إعادة الانتظام في حركات وتنظيمات لِلَعب دورٍ وللتأثيرِ في مصيرِهم...
- الدعوةُ كانت واضحةً، نعم.

سماح: ومن الناحية الثانية، فالاستقطابُ الحادّ بين "فتح" و"حماس" واضح. كما أنّ ما يسمّى "اليسار" يعملُ في معظمه على تغطِية "فتح" والسلطة، فيما تخفُتُ عنده الدعوةُ إلى الدولة المدنيّة العَلمانيّة. في هذا الوضع، ومع صعوبة مواصلة كفاحٍ مسلّحٍ فعّال، برزتْ دعواتٌ متفرّقة إلى إعادة إحياء مفهوم الانتفاضة الأولى، وإلى دعم "حملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها" على المستوى العالميّ... هذا من دون أن ننسى موضوع مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل، الذي كان لـ الآداب شرفُ الإسهام في إطلاقِها في لبنان. فأين أنت من هذه الدعوات؟
- مواقفي في الشؤون المطروحةِ أعلاه معروفةٌ، بما فيها المقاطعة الأكاديمية العالميّة لإسرائيل؛ فقد شاركتُ في الاجتماع التأسيسيّ للحملة قبل سنواتٍ في رام الله، وكتبتُ عدّة مرّات مؤيِّدًا لهذا الجهد. كما اشتركتُ أثناء وجودي في الخارج بالكثير من هذه الفعّاليات، وفي إعداد الذكرى الستّين للنكبة، وفي محاضراتٍ ولقاءاتٍ في الكثير من المخيّمات، وفي الأسبوع العالميّ ضدّ الأبارتهايد في فلسطين... الخ. حتّى الآن أعملُ على طرح الأفكار، ويمْكنُ اعتبارُ ذلك مرحلةً تحضيريّةً تتمّ عبر اللقاءات والمحاضرات وعبر الوسائل الإعلاميّة المُتاحة أيضًا. لكنّ الصراعَ الفلسطينيّ ـ الفلسطينيّ، وهو تشعّبٌ عن القضيّة ذاتها، يستنزفُنا أيضًا. كما أنّ الأدواتِ التي تحت تصرّفنا متواضِعةٌ؛ فنحن لم نملكْ فصيلاً في الخارج، ولا حركةً، أو ناشطين (هل تعّلم مثلاً أنّني أعمل حاليّاً من دون مكتبٍ ومُساعِدين؟). هنالك جمهورٌ مؤيّدٌ لهذه الأفكار، لكنْ لا وجود لمؤسّسة، بأيٍّ مِن أشكالها، في الخارج، كي أعملَ من خلالها. منذ خروجي انخرطتُ في حركةِ تضامنٍ مع حركات التحرّر، في لبنان وفلسطين، لأنّها كانت تتعرّضُ لعُدوانٍ إسرائيليّ ولتآمرٍ عربيّ. وقد فضّلتُ هذا التضامنَ المباشرَ على أيّ أمرٍ آخر في هذه المرحلة، ولا أعرفُ إنْ كان الوقتُ سيتيحُ لي البدءَ بشيءٍ جديد.
أنا أقدّرُ وأطرَحُ ضرورةَ التطوّر التنظيميّ في المخيّمات، وعندي ثقةٌ بوجود أُناسٍ يتولّوْن هذه المسألةَ من دون أن أكون أنا شخصيّاً موجودًا فيها. هناك فراغٌ في مهمّةٍ موجودة موضوعيّاً، وهي دَورُ الشتاتِ الفلسطينيّ وتنظيمه؛ وإذا كان هناك "وكيلٌ تاريخيّ،" فسيتولّى هذا الموضوع، ولا أعرف مدى ارتباطه بهذا الشخص أو ذاك. وفي كلّ الأحوال، لا أودُّ العودةَ إلى التفرّغ للعمل السياسيّ... هذا أكيد.

يسري: لم أفهم الفصلَ بين العمل على الساحة العربيّة والعمل على الساحة الفلسطينيّة.
ـ طبعًا معك حقّ. انتقَدْتُ أعْلاه الفصلَ بينهما، وهذا هو الجاري حاليّاً عبر التنظيمات القائمة وطريقة عملها. ولكنّني، إضافةً إلى ذلك، كنتُ أتحدّث عن طاقة الإنسان المحدودة على العمل في الساحتين. ولا شكّ عندي في أنّ قضيّةَ فلسطين ليست مرتبطةً بالضرورة بتغيير النظام الرسميّ العربيّ، بل بتغيير الأجواء العربيّة. أحيانًا، ليس من الضروريّ أن تسقُطَ الأنظمة (وهي إن سقطتْ، فلفشلِها في التعامل مع قضايا دولِها، لا بسبب فلسطين)، لكنْ من الضروريّ أنْ تصير القضيّةُ الفلسطينيّة ماثلةً في الوجدان العامّ لتقيّدَ الأنظمةَ على الأقلّ. وقد قطعنا شوطًا كبيرًا في الموضوع العربيّ خلال السنتين الأخيرتين؛ فانظرْ إلى كلّ النشاطاتِ التي تمّت في الذكرى الستّين للنكبة، وإلى التعبئةِ التي حدثتْ في موضوع غزّة. وفي اعتقادي أنّ هناك صدمةً لدى القِوى التي ظنّت أنّه يمْكن تهميشُ القضيّة الفلسطينيّة؛ فهناك بضعةُ عشراتٍ من المثقّفين العرب كانت أصواتُهم عاليةً جدّا في هذه الفترات، وربّما استنفرَهم وجودُ رؤساءَ عربٍ يهنّئون إسرائيل بذكرى النكبة! كما أنّ "الفكرة العربيّة" في وضعٍ أفضلَ اليومَ ممّا كانت فيه منذ عشر سنوات، ولا سيّما إزاءَ التمزُّق في الدولة القطْريّة. طبعًا الوضعُ سيِّءٌ جدّاً، وهنالك تعدٍّ يوميٍّ على أمورٍ كانت تُعتَبرُ مسلّماتٍ، وهنالك محاولةٌ لتحويل قضيّة فلسطين إلى قضيّة الفلسطينيين، ثم إلى قضيّة السلطة الفلسطينيّة فحسب، كما أنّ الترويج للتطبيع جارٍ على أشدِّه. لكنّ الوضع كان في السابق من السوء بحيثِ إنّ ما قُمنا به أظهرَ فرقًا ما بينَ ردّ فعلِ الناس في الحرب على لبنان وبعده في الحرب على غزّة. وأعتقد أنّنا أحرجْنا جماعة التسوية، مع العلم أنّ الغطرسةِ عادت لاحقًا لأنّ النتائج في غزّة لم تكنْ واضحةً كما كانت في لبنان. إلاّ أنّ اضطرارَ جماعة التسوية إلى السير عاجزين عن الخروج أمام الرأي العامّ بمواقفهم الحقيقيّة إبّان العدوان [على غزّة] كانَ تقدّمًا عظيمًا.
أعتقدُ أنّ التنسيق بين الأصوات العربيّة المعارضة للتسوية غير العادلة سيُعطي نتيجةً أكبرَ وأهمَّ، كما نرى في التنسيق الواضح بين المثقفين الذين استوعَبَهم إعلامُ "أنظمة الاعتدال،" بالإمكانيّات السعوديّة على وجْهِ الخصوص، إذ تراهم يتحدّثون على الموجة نفسها. وقد استطاعَ هؤلاء المثقّفون، منذ ما بعد احتلال العراق، خَلْقَ موجةٍ منسَّقة، وإحداثَ تشويهاتٍ فعليّةٍ في وعي الناس. وما زالت الموجةُ المضادةُ أقلّ من المطلوب، وتكتنِفُها المزاوداتُ والغيبيّاتُ التي لا تنتهي،ويشوبُها انعدامُ التنسيق.

يسري: ربّما ينجم ذلك عن وجود قرارٍ مركزيٍّ يُديرُ مثقّفي "الاعتدال"...
ـ أعتقدُ أنّهم يملكون أُطُرَ تنسيقٍ كثيرةً ناجمةً عن قوّة هذا المعسكر وغِنى دُوَلِه، وعبر المنظومة الدوَليّة التي تدعمُه وتفرز المشاريعَ والمؤتمراتِ والمؤسّساتِ الإعلاميّةَ والهيئاتِ وتوزيعَ الجوائز والاحتفالاتِ ومزايا ماليّةً ولجانًا معيّنةً تخلق لهم فرصَ اجتماعٍ لم تكن موجودةً في السابق (إلاّ عند التيّار القوميّ السابق وبدرجةٍ أقلّ). فنراهم اليوم في مجالس أمناء بعضهم البعض، وفي هيئاتٍ لتوزيع جوائزَ عجيبةٍ غريبة، وكلّ ذلك برعايةٍ وتمويلٍ خليجيّ وغربيّ يشكّل مرجعًا لهم جميعًا.
في مقابل ذلك نعتمد نحن على الجهود الذاتيّة، وعلى قدرات الأفراد، كلٍّ في موقعه، وعلى القليل من الدعم. ولا ننكِرُ أنّ بعضَ المواقع الفرديّة مؤثّرٌ طبعًا، لكنْ في فترة غياب المشروع وانحساره تبرز في المعسكر المعارض للتسوية نزعاتٌ سلبيّةٌ وفرديّة، فينشغل البعضُ بالخلافات الشخصيّة على مناصبَ وهميّة، تُضافُ إليها نزعاتُ زعامةٍ قديمةٍ بقيَتْ بلا جمهور، ونرجسيّاتٌ أخرى، ومزاوداتٌ وترّهاتٌ وتهجّماتٌ شخصيّةٌ لا ضابطَ لها، وبقايا من تراثِ خطاب الخمسينيّات تمنعُ الناسَ من تشكيل حالةٍ عامّةٍ جدّيّة. فإلى واجب تجاوز هذه العيوب، يجب الإسراعُ في وضع قواعد التعامل بلا حساسيّات بين التيّارين الدينيّ والعلمانيّ، من دون أنْ يذوبَ هذا في ذاك، ولا أنْ يهيمِنَ هذا على ذاك. وهذا مصدرُ تعقيدٍ حاليّاًً للقوى القوميّة الديمقراطيّة والدينيّة المعارضة في المنطقة. وأعتقد أنّ المثقّفين العربَ الجذريِّي المواقف، الذين استفادوا من أخطاء الماضي، وعقلَنوا مواقفَهم وانسجموا مع الفكر الديمقراطيّ، لو تواضعوا وتواصلوا، فسيكتشفون كثرتهم وقوّتهم. وهذا يحتاج إلى حدّ أدنى من التنظيم، وليس بالضرورة أنْ يكونَ حزبيّا. ربّما يحتاج الموضوع إلى مجموعةٍ من المبادئ العامّة المتّفق عليها، وإلى آليّاتٍ للتواصل.

سماح: ماذا عن المؤتمر القوميّ العربيّ؟ فما تقوله من حيث المبدأ كان من مهامّه!
ـ لا أريد الاستفاضة في الحديث عن "المؤتمر." سأكتفي بالقول إنّه وقَعَ بين خِيارَين: بين أنّه مجموعةُ مثقّفين تُقدِّم ذلك النوعَ من التنسيق والتوجيه الذي أتحدّث عنه، وبين أنّه حركةٌ جماهيريّة. فانتهى بألاّ يكون أيّاً من الأمرين: فلم يكنْ صغيرًا كفايةً ليكونَ حركة مثقّفين نخبويّةً توجيهيّةَ الطابع بالبيان والموقف والاتّصالات بين المؤثّرين في الرأي العامّ؛ ولا كبيرًا بما يكفي لاعتباره حركةً جماهيريّة. وعلى الصعيد الداخليّ تحوّل أحيانًا إلى ميدان صراعٍ يعكس ما يوجد على الساحة العربيّة وكأنّه حركةٌ جماهيريّةٌ واسعةٌ.
لقد لعبَ "المؤتمر" دورًا مهمًّا، وحافَظَ على الصوت والتواصل في فترة الأزمة. لكنّ هذا لم يعدْ كافيًا للمرحلة الجديدة، ويجب تطويرُه، وأتركُ قضيّة تطويره إلى مناقشاته الداخليّة.

بيروت

الأربعاء، ١٦ أيلول ٢٠٠٩

ذلك الأسبوع من أيلول


فواز طرابلسي
لعل الأسبوع الممتد بين الاثنين في 13 والسبت في 18 أيلول 1982 يكاد ينفرد في أنه الأسبوع الأكثر كثافة ودرامية في الحروب اللبنانية. احتشدت فيه أربعة أحداث، أقل ما يُقال فيها أنها تاريخية: اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل؛ احتلال القوات الإسرائيلية لأول عاصمة عربية؛ انطلاقة «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» ضد الاحتلال؛ ومجزرة صبرا ـ شاتيلا.
ولا حاجة لتفكّر كبير ليكتشف المرء الحلقات المتصلة التي تربط هذه الأحداث بعضها ببعض. ولا مبالغة في القول أيضاً إنه بقدر ما أدت أحداث ذلك الأسبوع إلى تحوّلات جذرية في مسار الحروب اللبنانية وتوازنات القوى الداخلية والإقليمية والدولية المرتبطة بها، بذاك القدر تشكّل الأحداث الأكثر استعصاءً على الذاكرة وبالتالي الأكثر استدعاءً للقمع والتغييب في الخطاب السياسي والسلطوي السائد.
يوم اغتيال بشير الجميّل كتبتُ النبذة التالية في يومياتي (المنشورة بعنوان «عن أمل لا شفاء منه»): «كان بشير الجميّل يجسّد كل ما لا أتمناه لهذا البلد، لكن الاغتيال آذن بأفدح الكوارث (...) اليوم عيد الصليب. لبنان على الصليب مجدداً».
أستعيد هذه الكلمات الآن للتأكيد على أن كل اغتيال سياسي جريمة نكراء لا يبرّرها شيء وتستحق الإدانة الصريحة غير المشروطة.
يبقى أن «الرئيس المنتخب» كان زعيم ميليشيا وصل إلى الرئاسة الأولى للبلاد في انقلاب اختمر عبر سنوات، تواطأ عليه الرئيس الياس سركيس، وأسهم في الإعداد له جوني عبده، ذراعه الأمني الضارب. وجاء بشير الجميّل إلى السلطة محمولاً على الدبابات الإسرائيلية المحتلة والدعم الأميركي غير المحدود. أما الوجه «الدستوري» لانقلابه فتمّ عن طريق تجميع نصاب وأكثرية برلمانية بالإرهاب والرشوة ومنع النواب من مغادرة بيروت الشرقية واستجلاب النواب المرضى من باريس على المحامل وصولاً إلى محاولة اغتيال أحد النواب لتخفيض النصاب القانوني. ولم يكن غريباً أن يرى الرئيس المنتخب إلى نفسه، في خطاب القسم، على أنه خارج ممّا أسماه «المقاومة» أكثر منه معبّراً عن الإرادة الشعبية، ويزعم أنه تتوحّد في شخصه «الأمة» والدولة.
منذ ذلك الحين، لم يقتصر الماشون «على دعسات» بشير الجميّل على ورثته المباشرين بين الأهل والسلالات الكتائبية. حذا حذوه، في ابتناء «الكانتونات» ومحاولات الانقلاب لفرض حكم اللون الواحد والاستقواء بالأطراف الخارجية على الخصوم المحليين، عدد من الزعماء والأحزاب من أطياف مختلفة.
يمكن أن يُقال الكثير عن احتلال الجيش الإسرائيلي لأول عاصمة عربية (وقد كان العذر فيها اغتيال الجميّل). ولعل ما لم يُقل بوضوح أكبر وبحدة أشد هو أن احتلال بيروت كان بمثابة تصعيد حاسم للتدجين الإسرائيلي للأوضاع العربية لتقبّل جرعات متزايدة من فرض «الأمر الواقع» عليها. فكأن كل شيء صار بعد بيروت 1982 أكثر طواعية، وقد تجلى ذلك في حرب تموز 2006 وحرب غزة الأخيرة.
لم يجرِ التذكير بما فيه الكفاية بأن الجيش الإسرائيلي قد غزا لبنان واحتل عاصمته في ظل قرار من السلطة السياسية مَنَع الجيش اللبناني من ممارسة دوره الأكثر بديهية في صد العدوان والدفاع بالقتال عن الوطن من الناقورة إلى النهر الشمالي الكبير وجسر القمر. وان هذا الحَجْر على مؤسسة الدفاع الوطني هو الذي دفع فئات من المجتمع والشعب، متنوعة الانتماءات المناطقية والمذهبية والعقائدية والسياسية، إلى أن تتولى مهمة المقاومة بنفسها. وهذا الذي يفسّر الآن لماذا يوجد سلاح خارج عن مؤسسة الدفاع الوطني.
مهما يكن، فقد استقبلت بيروت أيلول 1982 الاحتلال بالقتال وأخرجته بالقتال بعد أقل من أسبوعين. شهد روبرت فيسك على ذلك بقوله («التايمز» اللندنية، 27 أيلول 1982): «لعل الإسرائيليين غادروا القطاع المسلم (كذا) من المدينة في الوقت المناسب... كانت عمليات الاغتيال ضد أفراد القوات الإسرائيلية في بيروت الغربية تتوالى بمعدل واحدة كل خمس ساعات. وكان الجنود الإسرائيليون قد بدأوا يتورطون في حرب عصابات ضدهم».
وبيروت هذه لم يكن لها من هوية آنذاك غير دماء أبنائها.
لم يجرِ التذكير بما فيه الكفاية بأن مجزرة صبرا ـ شاتيلا، وإن احتكرت مجازر الحروب اللبنانية بسبب ما أثارته في الرأي العام العالمي، لم تكن المجزرة الوحيدة في الحروب اللبنانية. كانت قبلها مجازر في الدامور والعيشية والكرنتينا وتل الزعتر وسواها من مجازر لم تنل حقها من الإدانة أو نصيبها من الإعلام والإنتاج الأدبي والفني.
ولم يجرِ التذكير بما فيه الكفاية بأن تحميل الذنب عن المجزرة للطرف الإسرائيلي وحده أو إلقاء وزرها على إيلي حبيقة بمفرده يجب ألا يعفي من المسؤولية القيادات اللبنانية التي اتخذت قرار القتل ولا العشرات، بل المئات من مسلحيها الذين دخلوا المخيمين من حملة الرشاشات والخناجر والفؤوس.
وقد يسأل سائل: وما وظيفة التذكير بكل هذا؟
أولاً، وظيفة التذكير هي أن تملي علينا التساؤل عمّا تعلّمناه؟ ثانياً، نذكّر ونتذكّر من أجل أن ننسى. أن ننسى ولكن بعد تصفية الحساب والمحاسبة السياسية والمعنوية والأخلاقية. إذ ليس ينسى المرء إلا ما يعرفه ويتذكّره. وهو ليس ينسى ما قد غيّبه عن ذاكرته أو استبدله بذاكرة مخترعة بديلة. ثالثاً، نتذكّر حتى لا يتكرّر الخطأ.
أخيراً، لم يجرِ التذكير بما فيه الكفاية بأن مجزرة صبرا ـ شاتيلا كانت التطبيق العملي لشعار «رفض التوطين» عن طريق التهجير القسري للمدنيين الفلسطينيين بواسطة المجازر والإرهاب. هذا ما شهدت عليه صحيفة «سكيرا هوديتشيت»، الناطقة باسم وزارة الحرب الإسرائيلية، عندما عرّفت الغرض من المجزرة على أنه «استثارة هجرة شاملة للسكان الفلسطينيين أولاً من بيروت، ومن ثم من سائر أنحاء لبنان» من أجل «خلق توازن سكاني جديد في لبنان».
أما أن يحذرنا التيار الوطني الحر ـ ومعه حليفه النائب السابق إيلي سكاف ـ من «عودة التوطين» عشية ذكرى مجزرة صبرا ـ شاتيلا فأمر يثير أشد الاستغراب، خصوصاً أن أحد مسؤولي التيار يريد إقناعنا بمعادلة دائرية من منوّعات «حرب الآخرين» تقول: اندلعت الحرب الأهلية بسبب «التوطين»؟ فإذا تكرّرت الحرب الأهلية يقع... «التوطين»! والشاطر يفهم. والساذج يسأل: «التوطين» الذي يُقال لنا إنه ضار باللبنانيين عموماً ـ ولم يفدنا أحد بعد كيف ـ هل كان وراء حربَي «التحرير» و«الإلغاء»، أكبر حربَيْن «أهليتين» مدمّرتين أوصلتا المسيحيين منهكين خاسرين إلى اتفاق الطائف وبئس المصير؟
يصعب تبيّن الصلة بين «عودة التوطين» والأزمة الوزارية، أو عقد الرابط بين تلك «العودة» والعودة إلى تكليف النائب سعد الحريري بتشكيل الوزارة المنتظرة. اللهم إلا إذا نظرنا إلى «التوطين» على أنه «شيفرة» مثلها مثل سائر الشيفرات ـ فلسطين والعروبة، المحكمة الدولية، «عودة» سوريا، إلخ... إلخ. ـ يتداولها زعماء عاجزون ليس فقط عن استخلاص الدروس من الماضي الفاجع، بل حتى عن تشكيل وزارة.

الأحد، ٦ أيلول ٢٠٠٩

انتقـــــام الضحيّـــــة

logo

انتقـــــام الضحيّـــــة

أنسي الحاج
الماغوط بين الدمعة والقهقهة
قال محمد الماغوط عن نفسه في هزله ما خجل ويخجل كل منّا بقوله سواء في هزله أو جدّه. وقال في محيطه وفي الأشياء ما لا نعرف أن نقول بمثل ابتكاره وصدقه. من شعره إلى هزئه تأرجَحَ بين الدمعة والقهقهة، تارةً تأخذ الرغبة واللوعة مداهما بألوان الشروق والغروب وجوع الحياة إلى نفسها، وطوراً يخلع الخوف عن نفسه كمّامته فتمتلئ السطور بصُورِ الثأر والقتل، ثأراً من القمع وقتلاً للكوابيس بتحويلها أقزاماً مضحكة.
«محمد الماغوط وصوبيا الحزب القومي» كتاب جديد جمع نصوصه الأستاذ جان دايه من مقالات وقصائد للماغوط نُشرت في الصحف ابتداءً من منتصف خمسينات القرن الماضي، بالإضافة إلى رواية «غرام في سنّ الفيل». يعود بنا الباحث إلى البواكير الجبرانيّة والعقائديّة للماغوط، ملقياً الضوء على كثير من الغوامض والمجاهل في مسيرته، مبرهناً، إن كان من حاجة إلى برهان، على الحاجة الأكيدة إلى درس حياة الأدباء العرب على ضوء آثارهم وآثارهم على ضوء أدبهم وتتبُّع خطاهم وتطوراتهم تتبّعاً يساعد في فهمهم وتقييمهم دون الاكتفاء بالأحكام السريعة النهائية.
ما إن نضجت كتابة الماغوط حتى أصبحت تعويذة للانعتاق، شعراً وهزلاً، تُحيّي قارئها تحيّة البلسم أو العاصفة. كتابةٌ شقراء بعينين زرقاوين في محيطٍ من العسر وغابةٍ من البوم. يقال إن السخرية هي أسلوب اليأس في إظهار تهذيبه. تعريفٌ ينطبق إلى حدّ بعيد على الماغوط، ولو مازج اليأسَ لديه (وهو هنا يأسٌ راسب في القاع لا يتحرّش بك كيفما تحرّكتَ) ذلك الروح المعنوي الذي يبثّه الإيمان العقائدي في صاحبه. وقد نجدنا أقرب إلى الصواب مع الماغوط إذا تبنّينا تعريفاً آخر للسخرية مفاده أنها الشكل الأوحد المسموح به للجريمة العاطفيّة. وأحياناً، لشدّة ما ينكّل الماغوط بأهدافه، تخرج من قراءته مُفْرَغاً كأنك صرت في حاجة بعد هذا التحرير إلى جرعةٍ من القمع.
تعرف العامة نموذجاً من فكاهة الماغوط عبر ما كتبه للممثّل دريد لحّام، وقَلَّ مَن عرف سخريته الصحافيّة، ولعلّها الأمضى. يصعب الربط بين هزء الماغوط وسخريات غيره، فلا هو من سلالة إسكندر الرياشي ولا من فخذ الشدياق، وقد تجمعه قربى سياسيّة بسعيد تقي الدين، غير أنها لا تبلغ مناطق أقرب. تبسيطاً، المزاج الانفعالي يُنتج سخرية ساخطة والمزاج البارد سخرية لاذعة، غير أن النبع الأكثر غزارة للسخرية هو الشعور كلّما تَرهَّفَ ازدادت السخرية حدّةً. فكيف بها إذا اجتمع لها الشعور المرهف والخيال المتدفّق. إحساس الماغوط، وهو الشاعر الخلاّق كيفما رمى، إحساس يَبري الهواء من فرط غريزته. إحساسٌ يعادي خصمين بالتحديد: السماجة والسلطة. والسماجة قد تتلبَّسُ الغباء أحياناً لا الغلظة وحدها، أمّا السلطة فبديهي أن وجودها لا يقتصر على الدول والحكومات.
رغم كتاباته للمسرح ليس هزء الماغوط في المقال والقصّة من النوع الذي «ينتظر» ضحكة الجمهور، فهو أبعد ما يكون عن النكتة أو الظرف. إنه صادر عن انفلاق. هَزْلُ طفلٍ مقهور ينتقم بتنفيس بالون النفاق وتعليق الشارات المضحكة على ظهور الجبابرة وتمريغ الشعارات المتورّمة بتراب التسخيف. ليس الماغوط من النوع الذي يَضْحك وهو يُضحِك، إنه الشاعر حين يسخر. سخريته هي الوجه الآخر لحزنه، لقمره، والقمر هذا، العارم بالعواصف، ليس انعكاساً لشمس، بل هو الشمس المتسلّلة من وراء الجبال، كفارسٍ ينقضّ على الأشرار في لحظةِ الأملِ الأخيرة.
كتب مرّة: «إنّي أكره الأغنياء». وأضاف إليها فوراً: «والفقراء أيضاً». صراخُ وجعٍ يتمرّد على أنينه ويرفض أيّة قولبة. الماغوط سيّدُ مَن بَقَر بطنَ شعاراتِ جيله الكاذبة والمتسلّطة. مَن يقرأ هذا الكتاب يعرف أيّة ألفاظٍ كانت تحكم «الجماهير»، وتستفزّ شاعراً حرّاً كالماغوط للفتك بها.
سخرية الماغوط أكبر ضحكة من قلب الضحيّة.

اختناقات بنّاءة
على مَن يكتب اختناقاته أن يرجو لها وهو يكتبها مساعدة مَن قد يقرأها، في الانعتاق، كما ساعدت كاتبها. أن يتجنّب تحوّل تحرّره هو إلى تكبيل للآخرين.
ليس فقط أن تسيطر على القوى التي تُفلّتها، بل أن يكون في أساس هذه القوى عناصر من القوّة لمَن يتلقّاها. الهدم في هذه الحالة بناء.

حوار سيوران وميشو
روى أحدهم عن حوارٍ قيل إنه جرى بين سيوران وهنري ميشو. قال الأول:
ـــ الإنسانُ سيزول.
فأجابه الثاني:
ـــ على كلّ حال، كان شخصيّة مهمّة.

الانقطاع
أوّل خصائصِ العبقريّة الكرم، وبعض العباقرة قُدّر لهم أن يعطوا أكبر العطاء في أقصر وقت، فأودى بهم سخاؤهم الفائض إلى نهاياتٍ فاجعة: الانقطاع فجأة كرمبو، الموت كموزار، الموت كبودلير، الموت كعاصي الرحباني. ولعلّ الأشدّ قسوة بينها هو الانقطاع، لأن صاحبه لا يعرف كيف يحمل بعده جثّة الشاب الذي كانه.

خدعةُ القاعدة
«القاعدة هي أكبر خدعةٍ انطلت على العالم اليوم... القاعدة ما هي إلاّ غطاءٌ لحربٍ بالوكالة في منطقتنا، فلا يوجد في الشرق الأوسط سوى لاعب واحد وهو الدولة تليها القبيلة والطائفة. ما عدا ذلك من عصبيات ليس من طبيعة المنطقة ولا من تاريخها».
بهذا يستهلّ الأستاذ مأمون فندي مقالته في «الشرق الأوسط» يوم الاثنين الفائت، متوسّعاً في شرح وجهة نظره، قائلاً، ونشاركه الرأي، إن الإرهاب صنيعة دولٍ وأجهزةِ استخبارات لا صنيعة حركات ومراهقين، «ولو كانت القاعدة مجرد منظمة جهادية تحارب الدول المعادية لمصالح المسلمين لقامت بعملية ضد العدو المعلن لكلّ الحركات الجهاديّة، وهو إسرائيل».
ويضيف: «هناك تفسيرات مختلفة لعدم قيام القاعدة بمهاجمة إسرائيل. فإمّا لأن القاعدة تعرف أن لدى إسرائيل من الأجهزة ما يكشف العنوان الرئيسي للكفيل، أو أن هناك تفسيرات أخرى تتعلّق باستخدام إسرائيل لذلك الغطاء الوهمي المعروف بـ«القاعدة» في عالمٍ تسوده الحروب بالوكالة وتُقيَّدُ فيه القضايا ضد مجهول».
يثير هذا المقال موضوعاً في غايةِ الأهميّة. وقد مضى الكاتب في طريقه دون تردّد وليته مضى إلى النهاية، بل إلى البداية. لا شكّ أن القاعدة واجهة. وكثيرٌ غيرها واجهات. وبأسماء أشدّ بعثاً على الضحك. ولكن واجهة لمَن؟ فقط لإيران وقبلها ليبيا كما أشارت أصابع اتهام اليمن في حرب الحوثيين؟ أهذان هما البعبع العظيم والدهاء الاستراتيجي الأعظم؟
منذ سقوط الاتحاد السوفياتي سقط السلاح التخويفي الأمثل وباتت السياسة الأميركيّة في حاجة داهمة إلى بديل. واختراقُ مبنى التجارة العالمية في نيويورك يوم 11 أيلول 2001 هو تاريخ إعلان الحرب العالمية الثالثة. وأحياناً ـــــ وعذراً لما سيبدو من علامات البارانويا، وربما يكون كذلك، ولا ضير ـــــ قد يبدأ المحارِب الحرب بإعلانها على نفسه، أو بتسهيل إعلانها، تحت أسماء «أعداء».
وقد نسينا العزيزة إسرائيل، وهي المستفيدة الإقليمية الأولى من نفخ الشبح الإسلاموي وتوسيع رقعة انتشاره. ولا لزومَ لذكر الأسباب.
حين نتّهم السياسة الأميركيّة وإسرائيل لا نبرّئ أنظمة المنطقة، بل نختصر الرؤية والتعبير.

نسيانٌ بإرادةٍ خارجيّة
كلّما أقنعتُ نفسي بأنّي لا أذكر شيئاً من طفولتي تراءى لي مقطع منها، فجأةً، بوضوح. يحصل هذا كلّ بضع سنوات. كم يحتاج المرء لتعود إليه ذكرى طفولته كاملة؟ بعضهم طفولته جاهزة دائماً بين يديه. آخرون مثلي يحتاجون إلى عصور. ليس المقصود النسيان الإرادي. هذا موضوع آخر. المقصود ستارٌ كثيفٌ أصمّ يَعْزل عزلاً تامّاً. ثم ارتفاعه لحظة، كرؤيا، بين سنة وسنة، أو من جيل إلى جيل. هذا العمى نسيانٌ بإرادةٍ خارجة عن إرادةِ المعنيّ. كأنّ قوّة غامضة تتحكّم في الستار، رحمةً أو تحذيراً.



عابـــــرات

مفتاحُ الامتلاكِ هو في يد المملوك أكثر من المالك. الضحيّة تحسّ بوضعها أكثر ممّا يحسّ الجلّاد بوضعه. الموت هو الميت لا الموت. الموت تجريدي، الميّت تجسيده.
بين الرجل والمرأة، في الوصال، أنتِ الأساس. لأنّكِ في نظره مملوكة ولأنه في نظر نفسه الغازي، بينما هو، بقدر ما تشتدّ قبضة ملكه، يزداد استسلاماً لكِ، وبقدر انتصاره تربحين.
■ ■ ■
هناك حقائق أو جمالات مخفيّة في نقيضها. فلسفاتٌ بأسرها حِكْمتُها في عكسها.
■ ■ ■
الجمالُ قَلْبٌ مؤجَّل.
■ ■ ■
قد يكون التمزّق الداخلي علامةَ سقوط، لكنّه أحياناً سقوطٌ من الأعلى إلى الأعمق.


عدد السبت ٥ أيلول ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/155202

تشكيل الحكومة؟ مفارقات في الــسياسة اللبنانيّة

logo
المصدر: جريدة الأخبار (http://www.al-akhbar.com)

تشكيل الحكومة؟ مفارقات في الــسياسة اللبنانيّة

السيّد محمد حسين فضل اللّه (أرشيف ــ بلال جاويش)السيّد محمد حسين فضل اللّه (أرشيف ــ بلال جاويش)ليس سهلاً أن ترصد السياسة اللبنانيّة بالاعتماد على الصحافة اللبنانيّة. فما سمّاه توماس هوبس «الخطاب الهامشي» (أي الخطاب الذي لا يعني شيئاً) يسود. وقد بدأت الليالي الرمضانيّة في قريطم. وسعد يتحدّث من دون «المُقرئ الآلي». وإعلام لبنان (الممسوكة رقبته من آل الحريري وآل سعود) يشذِّب كلام الحريري في اليوم التالي، ويفصّحه، كما كانت جريدة «النهار» تشذّب كلام بيار الجميّل وتزيل منه ما يثير الفتن الطائفيّة

أسعد أبو خليل *
مارسيل غانم (الذي ناجى تمثالاً لرفيق الحريري من شمع أو من كبّة ـــــ لم أستطع التيقّن) اعترف بأنه تحاشى دعوة وئام وهاب (الذي لا يفوِّت فرصة إلا يبدي إعجابه بسامي الجميّل) على امتداد الأعوام الماضية كي لا «يستفزّ» جمهور برنامجه. لا يدرك مارسيل مدى انحيازه السياسي (حتى لا نقول الطائفي) مع تأكيده لنفسه أنه غير منحاز. وهل يظن أن الاستفزاز هو من جهة واحدة فقط؟ أم يظن أن معايير فريقه السياسي هي معيار كل لبنان؟ لم يعرف غانم أنه بذلك يؤكد أن برنامجه ينقل فقط «كلام بعض الناس»؟ وعندما استضاف عملاء جيش لحد وصوّر قضيّتهم بـ«الإنسانيّة» (يتحمّل عملاء جيش لحد مسؤوليّة معاناة عائلاتهم، وهذه هي العقوبة العادلة الأخفّ لعملاء العدو الإسرائيلي، وخصوصاً أن البطريرك العروبي ـــــ ليوم واحد فقط ـــــ أرسل مبعوثاً ليصلّي على نفس القاتل عقل الهاشم) لم يلاحظ أنه يستفزّ جزءاً كبيراً من الشعب اللبناني. ويقول مارسيل الحريص على السيادة إنه لا يريد أن يدير برنامجاً من دمشق، مع أنه لم يجد غضاضة في إدارة برامج من واشنطن ومن باريس وحتى من يخت الأمير الوليد بن طلال. أم أن مارسيل يلتزم معايير السيادة الانتقائيّة المعمول بها في الديمان وبكركي؟
السيادة الانتقائيّة هي في رفض التدخّل المصري في شؤون لبنان ـــــ كما صاح الثنائي شمعون ومالك عام 1958 ـــــ وفي تنظيم وفد نسائي لبناني لتقديم الحلوى للجيش الأميركي المُحتلّ في بيروت (راجع «النهار»، 6 أيلول 1958)، أو هي في رفض صفير لزيارة سوريا وفي الهبوط بطوّافة عسكريّة أميركيّة أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006. السيادة الانتقائيّة هي في السماح لمبعوث الاتحاد الأوروبي بالإدلاء بدلوه في موضوع الحكومة وفي نقل جريدة «النهار» تصريحاً لمسؤول أميركي يعترض فيه على تدخّل سياسيّين لبنانيّين موالين لسوريا في... موضوع لبنان. يحقّ للتدخّل الأميركي ما لا يحقّ لغيره، مثلما يصرّ الاحتلال الأميركي في العراق على إطلاق صفة «المقاتلين الأجانب» على عرب، ممّا يعني أن جنود الاحتلال الأميركي هم من أهل البيت ـــــ وبتزكية من آل الحكيم في العراق.
والطريف أن إعلام آل سعود وآل الحريري يحاول أن يظهره مظهر الإعلام المستقل. كان ذلك مثلما أكد جهاد الخازن أن جريدة «الحياة» مستقلة ولا تخضع إلا... لتوجيه خالد بن سلطان وإدارته. أو أن يسخر عقاب صقر من تمويل جريدة «الأخبار» وكأن إعلام الحريري مستقلّ التمويل. قد يكون عقاب صقر صدّق تلك الكذبة على موقع «ناو حريري» (حيث يعمل) الذي عرّف عن نفسه بالآتي: «يستقي موقع ناو ليبانون تمويله الكامل من القطاع الخاص والهبات الفرديّة». تصلح العبارة مادّة للتندّر والهزل على البرامج الكوميديّة. كان على عقاب صقر أن يضيف أن لائحة «كسّارات فتوش بالقلب» تلقّت تمويلها من المحسنين والمحسنات، وأن تلفزيون «المستقبل» يعتمد على كرم الأجاويد في تمويله، وأن صور رفيق الحريري وتماثيله التي تملأ العاصمة هي هديّة من الشعب الأميركي. لماذا تشعر في لبنان أنهم يكذبون ويعلمون أننا نعلم أنهم يكذبون. لماذا؟

الموقف الأبرز صدر عن فارس بويز حين اعتبر أن توزير الصهر منافٍ للديموقراطيّة

لكن هذا إعلام يندّد بشدّة بـ«اعتداء آثم» على دواليب سيّارة لمراسلة جريدة الأمير سلمان في بيروت ويصمت عن التهديدات الإسرائيليّة المتواصلة ضد لبنان. وجميل السيّد (الذي يظنّ أن الظلم الذي لحق به لا ظلم قبله ولا بعده، وأن الظلم لم يقع في عهده، والذي لم يعلم بعد أنه فقد كل سلطاته) يخاطب سعد الحريري وكأن الأخير قد غُرِّر به. صحيح أن الحريري الصغير (سمّاه محمد عبد الحميد بيضون ذو السجلّ الناصع في الوزارة والنيابة «الصخرة الصلبة»، وبيضون هو زعيم الشيعة الأوحد وفق أحكام بيار الضاهر) قليل المواهب والكفاءة لكن الخطة السعوديّة المرسومة (والمُتفق عليها مع إسرائيل وأميركا) باتت واضحة. الإصرار على مقاومة مقاومة إسرائيل هو المطلب الإسرائيلي، وإن ارتدى لباساً طائفيّاً في لبنان (والطريف أن البعض يزعم أنه ضد سلاح المقاومة لأنه استُعمل في 7 أيار، وكأن البطريرك الماروني وسمير جعجع وأمين الجميل وأحمد فتفت وسعد الحريري وأنطوان لحد كانوا مع مقاومة إسرائيل قبل 7 أيار).
انشغل الوسط السياسي بقضيّة ما يُسمّى توزير الصهر. وأصدر الحزب التقدمي الاشتراكي بياناً عنيف اللهجة استنكر فيه توزير الأقارب وكاد أن يذكّر بأن البيت الجنبلاطي ابتعد دوماً عن التوريث السياسي، وقد يرسل وليد جنبلاط ابنه تيمور لتذكير الأطراف السياسيين بابتعاد الحزب التقدمي الاشتراكي عن تنصيب الأقارب. وصهر غسان تويني استنكر بدوره توزير الصهر، ويمكن نايلة تويني (صاحبة نظريّة محاربة إسرائيل بـ«الرخاء» والسياحة والازدهار) أن تندّد هي أيضاً بتوزير الأقارب. كما أن ابن تلك اللبنانيّة التي كانت تعدّ الأطعمة لأرييل شارون انضمّ إلى جوقة عمّه وابن عمّه لاستنكار توزير الأقارب. أما موقف سعد الحريري (الذي وصل إلى الزعامة بعرق الجبين لا بالوراثة) فكان حاسماً. فلقد أرسل ابن عمّته (مستشاره السياسي) ليؤكّد لمن يسأل أن التوزير يجب أن يكون على أساس الكفاءة فقط، والكفاءة تتجسّد في عمّته وفي ابن عمّته الآخر الذي أوكل إليه تنظيم تيّاره الطائفي ـــــ المُستقبلي. وتيّار المستقبل يصرّ على توزير سمير الجسر أو صهره محمّد كبّارة. ولكنْ هناك صهر وصهر، سند الظهر، على قول المثل. وميشال المرّ رفض توزير الصهر هو الآخر، لكنه أصرّ على توزير الابن. أما كارلوس إدّه، فقد سخر من توزير الصهر وأضاف أنه يقود حزبه (الذي يمكن جمع كل أعضائه في غرفة صغيرة أو «عليّة» وإن كان أكثر عدداً بعضو أو عضويْن من حركة اليسار الحريري الديموقراطي) بسبب نضاله في البرازيل وليس بسب حمله لدم العائلة. لكن الموقف الأبرز صدر عن فارس بويز: فهو يعتبر أن توزير الصهر منافٍ للديموقراطيّة (يذكرُ بويز في روايته عن مرحلة عزّه أن حافظ الأسد وليس إلياس الهراوي هو الذي أصرّ على توزيره، فيكون توزيره عندئذ ليس توزير الأقارب).
وجنبلاط وجد متسعاً من الوقت في شهر الصيام عن الكلام المُباح لتعزية عائلة كنيدي بوفاة السناتور تيد: وهناك مطبوعة صهيونيّة أجرت دراسة وجدت فيها أن كنيدي هذا حاز معدّل 100% في نسبة الموافقة على مواقف منظمة «إيباك» (اللوبي الصهيوني). وكنيدي هذا أخذ معه تراباً من قبر جون كنيدي وبوب كنيدي لينثره على قبر إسحق رابين. لعل جنبلاط خلط بين جورج حبش وتيد كنيدي، وخصوصاً أن جنبلاط يذكر فلسطين هذه الأيّام قبل الأكل وبعده، مقرونةً باسم خادم الحرميْن.
لكن متى يعرف سكان مسخ الوطن حجم مسخ ـــــ وطنهم؟ هل من يتصوّر أن عائلة كنيدي ستعلم أن زعيم 80% من 5% من سكان البلد الصغير بعث بتعزية إليهم؟ لماذا لا يوفّرون ورق البرقيّات الطائرة إذا كانوا حقاً من أنصار البيئة ـــــ ولا يحمي البيئة في لبنان إلا كسّارات فتوش وشال ثورة الأرز المعقود على عنق أكرم شهيّب. لكن برقيّة وليد جنبلاط لخادم الحرميْن ـــــ كما يسمّي نفسه ـــــ في مناسبة الاعتداء على الأمير محمد بن نايف كانت أظرف، إذ قال فيها (من دون أن ينسى ولو للحظة اليسار والعروبة وفلسطين): «إن التسامح الكبير الذي عبّر عنه سموّ الأمير نايف إنما يعكس الروحيّة الإنسانيّة العالية التي طالما تعمّق بها جميع قيادات المملكة العربيّة السعوديّة عبر تاريخها، والتي تعبّر عنها بصورة دائمة من خلال دورها الإيجابي إلى جانب القضايا العربيّة والإسلاميّة». نسي جنبلاط أن يذكر أن منظمة العفو الدوليّة أصدرت لتوّها تقريراً قاسياً ينتقد الخروق الفظيعة لحقوق الإنسان على يد وزارة الأمير نايف وابنه باسم «محاربة الإرهاب». ويحتلّ جنبلاط هذه الأيام موقعاً طريفاً في الحلبة السياسيّة: فهو لم يغادر يوماً موقعه المحفوظ في فريق الأمير مقرن لكنه خدع المعارضة (يستطيع الرضيع أن يخدع المعارضة في لبنان) ببعض الكلام ضد حلفائه المسيحيّين في 14 آذار. واختارت كل الصحافة في لبنان تجاهل مقابلة مع مجلّة «سليت» الأميركيّة مع إليوت أبرامز سخر فيها من مزاعم تحوّل جنبلاط وقال إن جنبلاط ليس مقتنعاً بما يقوله أخيراً بدليل أنه لم يتوقّف عن إرسال صناديق نبيذ كفريّا هدايا لهذا الصهيوني المتطرّف.
وكانت متابعة مواقف جنبلاط الطارئة طريفة في إعلام آل سعود وإعلام آل الحريري: والذين هلّلوا لتكويعة جنبلاط عام 2005 هم أنفسهم اليوم الذين اكتشفوا فجأة أن جنبلاط متقلِّب وطائفي وغير مبدئي. لم يلاحظوا ذلك من قبل. لكن كتّاب آل سعود وآل الحريري يهجون في أمر ويمدحون في أمر (ألم نلاحظ كيف توقّف هجاء حازم صاغيّة وغيره لسوريا مباشرة بعد شبه الصلحة السوريّة ـــــ السعوديّة)؟ هؤلاء يسيرون على خطى سمير عطا الله وفؤاد مطر في الصحافة. ومحمد علي الجوزو توقف ولو لفترة عن التحريض المذهبي على الشيعة ليصدر كلاماً عنيفاً ضد جنبلاط والدروز، ولكن وحدها جريدة «المستقبل» السلفي نشرت التصريح، أما الباقي فتستّرَ كالعادة.
والبرقيّات بالبرقيّات تذكر، وكان هناك برقيّة مزعجة جداً وثقيلة على الأعصاب والمبادئ من حسن نصر الله إلى آل الحكيم. فقد وجد حسن نصر الله أنه من الضروري أن يحيّي «جهاد ونضال (عبد العزيز الحكيم)... من أجل إنقاذ الشعب العراقي المظلوم وإعزازه ورفع شأنه». هذه البرقيّة تستحق تحليلاً عميقاً عن حقيقة هذا الثناء من حزب الله بحق أبشع نموذج لأدوات الاحتلال الأميركي. لكلّ احتلال أجنبي دحلانُه، وعبد العزيز الحكيم هو دحلان الاحتلال الأميركي للعراق ـــــ أو واحد من الدحلانيّين الكثر هناك. وسجلّ ميليشيا بدر حافل بترهيب الشعب الفلسطيني في العراق وطرده إلى خيم حدوديّة مقفرة. كما أنه كان سبّاقاً في طلب تقسيم العراق كانتونات طائفيّة وعرقيّة، بالإضافة إلى العداء لحقوق المرأة الذي عبّر عنه الحكيم أثناء مناقشة قانون الأحوال الشخصيّة والدستور. ويتناقل الشعب العراقي أخبار الإثراء المفاجئ والهائل لعائلة الحكيم ولكن قد يكون مصدر الثروة «القطاع الخاص والهبات الفرديّة» على طريقة موقع «ناو حريري». وهل يمكن تفسير تأييد حزب يتصدّر مقاومة إسرائيل لأداة من أدوات الاحتلال في العراق بغير نظريّة التعاضد الطائفي المذهبي؟ هل هناك تفسير آخر فاتنا؟ كيف يمكن أن يتحدّث حسن نصر الله عن «نضال» عبد العزيز الحكيم هذا الذي أتى مع دبّابات الغزو وتصدّر السلطة بأمر من بريمر؟
يبني حزب الله من طائفيّته (المقصودة أو غير المقصودة ـــــ لا فرق) سجناً له «فيؤتسرُ» (بالإذن من قصيدة «المواكب» لجبران). كيف يوفّق حزب الله بين معارضة (أصبحت خجولة) للاحتلال الأميركي في العراق، وبين هذا التعظيم لواحدة من أدوات الاحتلال التي نفّذت وبحماسة شديدة مخطّط التفتيت الطائفي والاستيلاء على ثروة الشعب العراقي بحماية الاحتلال؟ وموقف الحزب من الاحتلال الأميركي للعراق كان ملتبساً منذ البداية، ولم تزدْه الأيّام إلا التباساً. هذا الموقف، في ظل حماسة سعودية للنفخ في نار الفتنة المذهبيّة وفي ظل سياسة إسرائيليّة ـــــ عربيّة ـــــ أميركيّة لعزو مقاومة احتلال إسرائيل إلى موقف مذهبي، يعزّز دون قصد منه تقويض موقف المقاومة العام في منطقتنا. إن تفجّع المثقفين الموالين لقريطم، مثل سعود المولى، على الحكيم مفهوم تماماً، بعكس برقيّة حسن نصر الله إذا قيست بمنظار مقاومة الاحتلال.
والحكومة اللبنانيّة سلّمت ببساطة متسلّلاً إسرائيليّاً في وقت تنشط فيه عمليّات التجسّس الإسرائيليّة. قرّر «خبراء» من الحكومة أن المتسلّل مختلّ عقليّاً، وكأن لا مجال لتصنّع الاختلال. والصحف الإسرائيليّة زعمت أنه تسلّل عبر الحدود، مع أن جيش العدوّ (الذي يشتاق أمين الجميل إلى التفاوض معه ـــــ «ما أحلى الرجوع إليه») يرصد حتى حركة الرعاة والماعز على الحدود. لم ينتظر الجيش اللبناني إلا أياماً معدودة ليقرّر أن المتسلّل بريء. من قال إن الغباء ليس صفة ملاصقة للحكومة اللبنانيّة؟ لكن في المقابل لم يعترض أحد في المعارضة على هذا التسليم المتسرّع للمتسلّل البريء.
والسجال بين محمد حسين فضل الله والبطريرك صفير كان مسلّياً. أنا، على عكس اللبنانيّين واللبنانيّات، أشجّع رجال الدين على الخصام وعلى السجال وحتى على ممارسة رياضة الملاكمة، لأن القانون اللبناني يمنع العامّة من التعرّض إلى ما يُسمّى «المقامات الدينيّة الرفيعة». حبّذا لو ننقل رجال الدين في لبنان إلى جزيرة أرواد ليتخاصموا ويتقاتلوا بعيداً عنّا. ويجب أن نخرق هذا القانون وأن نعوّد رجال الدين (قيادة معابد الدين ممنوعة على النساء من كل الطوائف، مع أن بعض الرهبانيّات المارونيّة سمحت للراهبات أثناء الحرب بإعداد لفائف طعام لمقاتلي القوّات اللبنانيّة كما روى أسوأ لبناني على الإطلاق ـــــ النازي اللبناني الصغير، بشير الجميل ـــــ في آخر خطاب له) على النقد والسخرية والتعرّض والتقليد، إلخ، ومن كلّ الطوائف. لينزل رجال الدين في لبنان من عليائهم وليتواضعوا قليلاً، وخصوصاً أن عدداً منهم يبيع الفتاوى والمواقف (الإسلاميّة والمسيحيّة) بالدولار. مملكة هؤلاء من هذا العالم: من مصارف لبنانيّة وأجنبيّة. لو كان الأمر بيدي لكلّفت نضال الأحمديّة، التي تبرع في إثارة الخلاف بين الفنانّين والفنانات، مهمة إثارة الخلاف بين رجال الدين، على أمل الاستعانة بتجارب الثورة الفرنسيّة والمكسيكيّة ضد الإكليروس. لكن ورع سعد الحريري يعوّض عن كل فقيه وعلاّمة، وخاصة عندما يجاور حسن السبع في الصلاة.
على أن هالة مزعجة تحيط بالبطريرك الماروني. لا ندري لماذا. وحسناً فعل فضل الله عندما سخر من شعار «مجد لبنان أُعطي له». أولاً، لنتفق أن لا مجد للبنان، لا ماضياً ولا حاضراً ولا مستقبلاً. لم يُعرف لبنان حول العالم ولم ينتشر اسمه إلا بسب وحشيّة حربه الأهليّة. قد يكسب لبنان مجداً ما من صحن الكبّة العملاق في إهدن، أما غير ذلك فهراء. ثانياً، إن القول بأن مجد لبنان «أُعطي له» يفضح أصل القول. من الذي أعطى؟ المستعمر الفرنسي طبعاً. المستعمر لا يعطي أمجاداً لوكلائه وحلفائه، بل يحمّلهم خزياً وعاراً أبديّاً. وهذا «المجد» الفرنسي أُعطي لبكركي بسبب الولاء للمستعمر وللرجل الأبيض. وفرنسا كانت جد ممتنة للولاء المهذّب الذي صدر عن الكنيسة نحو فرنسا مثلما جاء في تلك الرسالة التي حملها المطران نقولا مراد إلى الحكومة الفرنسيّة عام 1844 والتي استهلّها بالقول لملك فرنسا: «نحن عبيد جلالتكم» (فيليب وفريد الخازن، المحرّرات السياسيّة والمفاوضات الدوليّة عن سوريا ولبنان، ج 1، ص. 128). ولقب المجد قليل على من يعرض أن يُستعبَد. وعندما انتقد أمين الريحاني المستعمِر الفرنسي في زيارة مصالحة نادرة له إلى بكركي، نهره البطريرك عريضة قائلاً: «ثم إني فهمت مما ورد في خطابكم من إشارة إلى الأجنبي أنكم تقصدون الفرنسيّين، بيد أن الفرنسيّين كانوا ولا يزالون أصحابنا وقد خدموا لبنان خدمات جليلة ونفعونا نفعاَ جزيلاً...». («المعرض»، كانون الثاني 1932).
طبعاً، يعتبر بعض اللبنانيّين الكلام عن «المجد» البطريركي نتاجاً لزمن أسبغ فيه المُستعمر علامات تمييز على الأديان والمذاهب في لبنان، وجعل من تلك التراتبيّة أساساً للنظام السياسي وتوزيع المغانم، على طريقة جنوب أفريقيا وإسرائيل. أما كلام فضل الله (وهو من الناحية الليبرالية والحريّات الفرديّة أكثر تقدّماً من معظم رجال الدين في لبنان) عن العدد فهو اعتداد من باب التفاخر الطائفي، وإن كانت المناصفة لا تستقيم مع الزعم الديموقراطي للنظام اللبناني. لا يمكن نظاماً طائفياً أن يتزاوج مع الطائفيّة: إما الطائفيّة وإما الديموقراطيّة. وفي انتظار ذلك يجب العمل على فصل رجال الدين عن أجهزة الدولة وجعل تمويل الإكليروس خاصاً. غير أن مواجهة الطائفيّة لا تكون بطائفيّة مضادة، والزهو النخبوي ـــــ الطائفي لا يُواجه بزهو نخبوي ـــــ طائفي مضاد. والمجد ليس صفة ملازمة لأي من الفئات، إلا إذا آمن فرد ما بالعقيدة النازيّة أو الصهيونيّة أو الكتائبيّة. لكن رد فضل الله حمل تحدّياً عدديّاً لا يتوافق والتعامل الضروري مع «المشكلة المسيحيّة» كما سمّاها الرفيق فواز طرابلسي في إشارة إلى قلق من تنامي الأصوليّات وتناقص العدد.
بدلاً من النقد والشكوى لنذكر بعض الإيجابيّات. فنواف سلام ألقى خطاباً جيداً ردّ فيه على خطاب كريه للسفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة (ليتعلّم من الخطاب طارق متري). وإهدن نجحت في دخول «سجل غينيس» (لماذا يظن اللبنانيّون أن الدخول إلى سجلّ «غينيس» هو شرف ما بعده شرف؟ لا يكترث أحد هنا لهذا السجلّ إلا الأطفال. أهذا جزء من الهوس اللبناني بالأكبر والأفضل والأجمل والأصغر والأهضم والأشهر والأغنى والأعظم؟ وهل هذا إلا دليل آخر على ضحالة الثقافة في لبنان؟) ومحمد شطح يبحث عن الكنز المرصود ولا يحظى هذا الأمر بالسخرية المناسبة إلا في هذه الجريدة. لو حصل الأمر في بلد آخر لتعرّض الوزير لفحص طبّي. لكن الوزير باسيل (الذي يحتاج إلى دروس خصوصيّة في تاريخ القضيّة الفلسطينيّة) والوزير (غير الظريف) إيلي ماروني اتفقا حول ضرورة تفعيل التصويت على الإنترنت لتحظى مغارة جعيتا بشرف الفوز بتصويت الإنترنت. إلى الإنترنت أيّها الشعب (غير) العظيم.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com [1])


عدد السبت ٥ أيلول ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/155307

لمناسبة السفر الأوّل بالطائرة: أيّام ما كانت المتعة مساوية للخطر

لمناسبة السفر الأوّل بالطائرة: أيّام ما كانت المتعة مساوية للخطر

المستقبل - الاحد 6 أيلول 2009 - العدد 3415 - نوافذ - صفحة 9

حسن داوود
لم أكن أعلم، في أوّل ركوب لي بالطائرة، أنّه لم يكن قد مضى وقت طويل على إتاحة الطيران لمن هم مثلي. وكالة البي.بي.سي، في تغطيتها، بالصور، التي أرسلها لي صديقي حازم على الانترنيت، لمناسبة الإعداد للذكرى التسعين لأوّل رحلة طيران تجاريّة، ذكرت أنّه فقط في مطلع الستينات بات ممكنا ركوب الطائرة لغير الأثرياء، حيث، منذ ذلك التاريخ، صار الكلام عن السفر بالسفن يُقرأ في الكتب فقط، أو يُروى شفاها مشدّدا على ما تكبّده المهاجرون السابقون من مخاطر وأهوال. كانت شركات الطيران آنذاك قد صنّفت مقاعدها مسميّة ما نقدر عليه باسم الدرجة السياحيّة، أو الإقتصاديّة. سنة 1969 صعدت إلى طائرة "طيران الشرق الأوسط- الخطوط الجوّية اللبنانيّة" من الخلف، أي من الذيل أو من أسفل البطن. على الدرجات كنت متهيّبا خائفا لظنّي أنّ الطائرة، بالنظر إلى تحليقها المرتفع وغير المفهوم عن الأرض، سيشغلها الخطر الأكيد عن أن ترتّب داخلها وتزيّنه. أقرب صورة توقّعتها لما ستكون عليه هي الصورة الثانية (التي تعود إلى العام 1920) في سلسلة الصور الثماني التي قدّمت فيها الوكالة التاريخ الموجز للطيران المدني. وهي بالأسود والأبيض، اللون المناسب آنذاك لمخيّلتي الخائفة. كما ظننت ذلك الداخل كالحا وضيّقا فوق ذلك، وتغلب على محتوياته أدوات النجاة مثل المظلاّت وإطارات الإنقاذ والحبال، بل وربما الخوَذ التي كنت أشاهدها في الأفلام على رؤوس طيّاري الحرب العالميّة الثانية.
وكان مفاجئا أن أرى المضيفة هناك، عند المدخل، ترحبّ بالركاب هادئة ومبتسمة. كانت إنكليزيّة، وبلغتها راحت تحيّي الداخلين واحدا بعد واحد، ترافقها في ذلك موسيقى مطَمْئنة كانت تنبعث خفيفة من أمكنة بثّ غير مرئيّة. وإذ توقّفت الموسيقى بعد ذلك، ظلّت المضيفة الإنكليزيّة على ابتسامها. قالت لي فيما هي تقترب مني إلى درجة الإنحناء بأن أربط الحزام، مشيرة إليه بنظرها وإصبعها معا. وبإنكليزيّتي التي ربما كنت قد أدخلتها لأوّل مرّة حيّز الإستعمال (خارج الدرس والمدرسة أقصد) إنّي أريد علبة مارلبورو. "الآن"، قالت، وكانت الطائرة ما زالت رابضة في مكانها لم تُقلع. وكانت تلك فرصة ثانية لأستعمل إنكليزيّتي في ذلك العمر المبكّر (كنت آنذاك في التاسعة عشرة)، قلت: لأنّ أبي ظلّ معي في المطار وأنا لا أدخّن أمامه.
ذلك الإبتسام الفائض والتكلم من ذلك القرب الموحي بوشك الملامسة لم يشمل ثمن علبة التبغ التي دفعتها للمضيفة نقدا. وقد ظلّت المضيفة على ابتسامها الجميل فيما هي تقبض تلك النقود التي كان أحرى بأصحاب الطائرة أن يغفلوا عنها لقلّتها. لكنّني قلت إنهم ربما كانوا يقصدون شيئا من وراء ذلك، وهو إشعار المسافرين بالطمأنينة حيث أنّ الأمور تجري هنا مثلما تجري في الدكاكين، وهذه علامة أخرى على أنّ سقوط الطائرة بعيد الإحتمال.
وأحسب الآن، بعد انقضاء كلّ هذه السنوات، أن كلّ ما تقوم به شركات الطيران في إعلاناتها مصدره التأكيد على طمأنة المسافرين بأنّ الطائرة لن تقع. من ذلك الإعلان الذي يصوّر المضيفة حاملة صينيّة مملوءة بالأطايب المزيّنة، ومنه أيضا تصوير المسافر نائما ومبتسما في غفوته، ومنه تلك الشبكة العريضة، المتسمة بالفخامة والأناقة كلّها، ابتداء من ألبسة المضيفات والطيّارين وصولا إلى المكاتب التي تقصد الشركات أن تجعلها في أكثر البنايات جِدّة وحداثة. (لم يكن الحال كذلك في سنة 1920، يوم أقلعت أولّ طائرة حاملة ركابا بالأجرة، إذ لم يكن هناك إعلانات ولا مكاتب سفر ولا مضيفات، فقط رجل واقف إلى جانب الطائرة يقبض النقود بالطريقة ذاتها التي لمعاون سائق البوسطة قبل سنوات قليلة من أيّامنا هذه... وهذا ما تُظهره الصورة الأولى في سلسلة الصور الثماني المذكور عنها أعلاه، جاعلة المسافرين الأُوَل أولئك مغامرين بحقّ، إذ لا شيء يطَمْئِن بأنّ الطائرة التي سترتفع إلى السماء هكذا، وسط قلّة التدبير هذه، لن تعود سريعا إلى الأرض لتتحطّم وتحطّم من هم فيها).
كانت تلك أوّل رحلة تحمل ركّابا. طبعا ليس هناك من مضيفة, ولا حتى مضيف (إذ سيكون على المسافرين أن ينتظروا حلول الحقبة الثانية، والتي تمثّلها الصورة الثانية في سلسلة الثماني، ليحصلوا على مضيف ذكر، وقصير القامة أيضا، بحسب ما يذكر التعليق المرفق بها)، ولا حتّى موسيقى خفيفة، ولا قناني ويسكي وسواها على ذلك الرفّ الذي تظهره الصور في مؤخّر الطائرة. فقط الطيّار، ذلك الذي، بسبب صغر الطائرة، سيكون قريبا من الركاب، هناك على المقعد الأمامي، مقدّما رأسه إلى الأمام فيما هو يسوق الطائرة، على نحو ما يكون حال من يسوق سيّارة بسرعة جنونيّة.
وفي رحلتي تلك في 1969، بل وفي رحلات لي تلتها، متقطّعة ومتباعدة، لم يحدث أن كان بين الركاب أطفال إذ لا أذكر أنّي رأيت ولدا يلهو في الممرّ الضيّق بين المقاعد أو ولدا يبكي من أمامي أو من خلفي. رجال فقط، قليلون قلما امتلأت بهم، وبالنساء الأكثر قلّة منهم، الطائرة عن آخرها. ذلك أنّ السفر، حتى سنة 1969 كان ما زال حكرا على من يقدرون عليه، ليس عندنا بل في البلاد التي اخترعت الطائرات، تلك التي سنتأخّر عن عاداتها بالطبع. أقصد أن السفر بالطائرة كان حلما لأولئك الكثيرين الذين، في تلك الأعوام، كانوا يحاولون الإقتراب من تحقيقه قدر المستطاع وذلك بالتنزّه في أيّام الآحاد، ذهابا وإيابا، على طريق المطار.
لم يكن هناك أولاد في الطائرة. في بريطانيا، وفي أميركا أيضا، كان على الأولاد أن ينتظروا أوّل سنوات السبعين حتّى يصعدوا، مع لعبهم، إلى الطائرات(بحسب الصورة المثبتة هنا، وهي الخامسة في سياق الصور الثماني) وذلك بعد أن تضخّمت الشركات إلى حدّ أن بدأت باختراع رحلات السياحة المنظّمة، للعائلات وسواها. وبلا ريب، كان من شأن هذه الخطوة أن تقلّل من "متعة السفر بالطائرة" ومن الإحساس بالتميّز الذي لم تتوقّف شركات الطيران، حتّى الآن من تسويقه وإشاعته.
أي أنّ السفر بات خليطا من الصبر على الإحتمال والرفاهيّة، بعدما كان خليطا من الأخيرة والخطر أو المجازفة. أمّا الآن، ومنذ أن ابتدأت جولة هجراتنا الثانية، التي أعقبت هجرتنا الأولى في أواخر القرن التاسع عشر، فلم يعد أحد يعتدّ أمام أحد بكونه عائدا من سفره أو متهيّئا له. أولئك الذين هم على متن الطائرة باتوا هم ذاتهم لا يختلفون في شيء عن أولئك الذين ينتظرونهم في المطار، مستقبلين أو مودّعين. وهؤلاء الأخيرون، بدورهم، لا يختلفون عن أولئك الذين في زحمة الشارع متسابقين، مشاةً، وسائقي سيّارات، وراكبي درّاجات لم تعرف الدولة ماذا تفعل بهم بعد.
وفي السفرة الأخيرة لي كان اعتيادهم على ركوب الطائرة قد بلغ أشدّه. كانوا جالسين على رؤوس الكراسي لا على قعداتها. وهم، من أماكنهم المتفرّقة صاروا يكلّمون بعضهم بعضا بأصوات عالية، بل ويتراسلون بالطعام، مبادلين ما لا يحبّونه منه بما يحبّونه، من فوق الكراسي. أما ذاك الذي أحضر معه قنّينته، بحجّة أنّ المضيفة لن تلبّي كلّ حاجته للشراب، فسكِر وجعل يشدّ القنّينة شدّا من يد المضيفة المغربيّة. " لحظة هبوطنا سأسلّمه إلى البوليس"، قالت بعد أن انتصر له أصحابه بالهرج والمرج.

السبت، ٥ أيلول ٢٠٠٩

القومي والشيوعــي ٢٠٠٩: الحياة وقفة بالصف!

logo

القومي والشيوعــي ٢٠٠٩: الحياة وقفة بالصف!

4 من أقطاب النظام السياسي اللبناني (هيثم الموسوي)4 من أقطاب النظام السياسي اللبناني (هيثم الموسوي)لم توفّر «لوثة النظام» أحداً في لبنان، حتى تلك الأحزاب العقائدية التي نشأت على شعار تغيير النظام. حزب بات منذ عقدين «بوقاً» لجوقة الممانعة في مقابل نيله حصته في النيابة والوزارة، وآخر، وهو شيخ الأحزاب اللبنانية، أصبح ينتظر النائب وليد جنبلاط لينقلب مجدداً على مواقفه، لكي يهلّل للحدث الكبير

رائد شرف *
يبدو جبروت النظام المهيمن شبه مطلَق في لبنان، حيث ما لبثت أن انتهت مرحلة تاريخية أُشرك فيها الناس بأمور السياسة إلى أقصى الحدود «الإحصائية»، حتى دخلت البلاد، على ما يبدو، في دوامة «انحدار» في الخطاب السياسي، على ما يذهب إليه بعض المعلقين، نجومه «الصهر» و«الصائم» و«المتقلب». وكيف لا يصح ذلك، بينما بعض أشدّ منتقدي النظام لا يعرف أن يميز بين الحجج الواهية المضيعة للوقت، في منطق النظام نفسه، وبين حججه المتينة، بالرغم من سطحية الأخيرة النسبية؟ إذ يبدو أن «معضلة توزير جبران باسيل» قد أغوت أغلب المعلقين، حيث باتت تحصل أقله على نكتة خاتمة أو مقدمة عندما لا تحصل على مقال كامل ذي نفحة تصحيحية (هذا لا يعفي عون من مسؤولية العائلية السياسية على صعيد حزبه). ولا يغفل على العين أنّ النظام اللبناني استطاع على صعيد الطبقة السياسية، على نحو شبه كامل، أن يفرض نظرة تبسيطية للسياسة وللمجتمع، لا تأخذ

أصبح القومي اليوم من أدوات «النظام»، يكسب مقاعده النيابية في إطار محادل القوى المهيمنة

بالتاريخ حسباناً، ولا حتى بأبسط قراءة أخلاقية للمجتمع في بعض الأحيان. باختصار، لا تأخذ بأي «ثابتة» منطقية يبني المجتمع عليها علاقة محاسبة. ولكن ذلك لا يعني أنه ليس للنظام ثوابت، ولا يعمل ضمن أطر قراءة ثابتة. فالنظام قبل كل شيء، يبدو لرجاله كساحة فيها من الإمكانيات، كما فيها من الممنوعات، ولهم على أساسها مواقعهم. أي في النظام كثيرٌ من الثوابت اللاأخلاقية والمنافية لطريقة تقديم نفسه للمجتمع، التي يعمل النظام على إخفائها عبر طمس قراءتها. وقد تكون المواقع الحزبية العقائدية أحد أبرز ساحات هذا «الطمس الرمزي» لقراءة منطق النظام: حيث إن اسم هذه الأحزاب مستوحى من اقتنائها قراءة للمجتمع على أسس ثوابت، بينما سلوكها يبدو الأكثر تواطؤاً مع النظام، وذلك لقاء أبخس سعر. وليس ترحيب قياداتها بعودة وجه النظام القبيح، مجرم الحرب المثقف، إلى «رشده» وإلى «العروبة وفلسطين» إلا حلقة صغيرة من مسيرة الأحزاب العقائدية الحالية نحو الفناء.

مقارنة تاريخية إن صحّت

يمكن التمعن في أوجه مأساة الأحزاب العقائدية الحالية في النظر إلى سلوك الحزب السوري القومي الاجتماعي مثلاً، في تجاوبه مع الظروف الحالية، مقارنةً مع تجاوبه مع ظروف أزمة ١٩٥٨.
أوجه الشبه بين الأزمة الحالية وأحداث ١٩٥٨ كثيرة. ما ينذر، ربما، بتطورات اجتماعية مماثلة كالتي حدثت سنة ١٩٧٥ مثلاً. في تلك المراحل، انقسمت الطبقة المهيمنة والتقليدية، أي الطبقة الحاكمة المهيأة للمساومات وذات التاريخ الزاخر بالصفقات والقارئة للسياسة من منظار المحاصصة، ثم ما لبثت أن اتفقت في تقاسم المهمات في ما بين أكثر أعضائها تناقضاً في مرحلة العنف، أي الموالين لحكم شمعون ومعارضيه. في تلك الظروف، كانت مسألة «الشرعية الشعبية»، في لعبتها الانتخابية، محوراً من محاور النزاع الأساسية، وهو ما كان عليه وضع «موقع لبنان في المنطقة».
وبغضّ النظر عن موقف الحزب السوري القومي المتحالف مع الكتائب في تلك الأيام، كانت المفارقة في تعاطيه مع الصفقة التي عقدت تحت راية قائد الجيش آنذاك فؤاد شهاب. صفقة كادت تجمع كل أعضاء الطبقة المهيمنة. لم يكن لبنان وسخافة لعبته السياسية ليسَعَ المناضلين القوميين الاجتماعيين: فالحزب كان يقف في موقع نقيض للمجتمع السياسي اللبناني، وذلك منذ تأسيسه. أما الآن، فقد أصبح من أدوات «النظام»، يكسب مقاعده النيابية في إطار محادل القوى المهيمنة عربون مشاركته لها في العمل الدعائي والتعبوي. والحزب السوري القومي الاجتماعي تخصص منذ التسعينيات، إن لم يكن من قبل عند بعض أجنحته المسلحة، في القمع «الوسخ» لمصلحة القوى المحافظة المهيمنة (لا نعني هنا صفحات البطولة عند مناضليه ضد الوجود الإسرائيلي في لبنان في بيروت وفي الجنوب). حصل ذلك في المهمات التي لم تكن القوى المهيمنة لترضى بها لنفسها، في منطق دعايتها الشعبية. طبعاً، هذه الوظيفة لم تكن حكراً على الحزب القومي. بيد أنها كانت وظيفة لها جذورها المختبرة وهي تعني ميليشيات الحرب بأول درجة، ولها مردودها في حصص النظام. وقد شاركت الكثير من الأحزاب في العمل التعبوي مثل الانتخابات (النيابية والنقابية) والتظاهرات، ليس لدعم برنامج خاص بالمناسبات التعبوية، بل للحصول على وزارة العمل، أو الزراعة، أو الشؤون الاجتماعية... حتى أنّ مرحلة الجمهورية الثانية امتازت بنفوذ رفيق الحريري السياسي، من دون أن يرى الأخير أنه من الضروري إنشاء حزب جماهيري يدعم هذا النفوذ، ربما لأنه لم يشعر بالضرورة في ذلك: فاللعبة السياسية تؤمن له ما هبّ ودبّ من القوى السياسية التجييرية المستعدة للنزول إلى الشارع لموازاة المظاهر المعترضة ولإسباغ حكم حكوماته «الثلاثينية» بالشرعية. وقد يكون نتج من تلك الممارسات السياسية، لبعض الأحزاب المكتفية بالانضواء تحت رايات سياسية لقوى خارجة عنها، تبسيطاً كبيراً للثقافة السياسية عند هذه الأحزاب. وما حلقات زياد نجيم ومارسيل غانم المستضيفة لممثلي «طلاب الأحزاب»، إلّا إثبات على نهج إنتاج هذه الأحزاب للأزلام، رجال النظام ولعبته السياسية والإعلامية، المحترمين لهرمية النظام، ودعمها الأزلام المقلدين للكبار بين طلابها، على حساب الطلاب الحزبيين الآخرين. فنرى الطلاب يكررون مجادلات كبار حزبهم على النغم نفسه الذي يدعي العفوية، إذ يفاجأ بعضهم بآراء بعضهم الآخر وكأنه لم يعاشر الآخر في الجامعات، مبيّنين ميل أغلبهم في إتقان اللعبة السياسية في شقها الكلامي المبسَّط، كما في شقها الدعائي التسويقي للذات... على حساب المنطق.
طبعاً نتج أيضاً من هذا التمحور الحزبي، في موضوع الأحزاب العقائدية، تسخيف لعقيدتها عند الجمهور العام وربما عند عناصر هذه الأحزاب، قد يكون أكثر مشاهده مأساويةً عندما يستشهد طلاب الحزب التقدمي الاشتراكي التلفزيونيين «بإرث المعلم» كمال جنبلاط.
هكذا ذهبت بعض مصداقية الحزب السوري القومي في راديكاليته ــــ الضرورية ــــ سداً، وذلك في إحدى أهم ساحات إنتاج الراديكالية وتمحورها، وحيث كانت تجري العادة بالاستفادة مما تبتكره الراديكالية: الجامعات. وهنا يطرح السؤال عن الظروف التي سمحت في لبنان ببروز تنظيم مثل «منظمة العمل الشيوعي» في مرحلة ما، وكان فيه الشباب «الدبيكة»، قيادي ومنظر وانشقاقي بفعالية إن أراد، مقارنةً بالظروف الحالية ذات الآفاق المغلقة، والتي جعلت مأساة طلاب بعض الأحزاب في تمسكهم بمجموعة خيم «الحرية» في ساحة الشهداء، وقد بدا مشهد الحزن على وجوههم على شاشات التلفزة يوم «رفع الخيم». وتجربة المخيم تكاد تكون من مظاهر العمل الطلابي «المستقل» القليلة ـــــ بعكس ما تذهب إليه بعض التحليلات الصحافية التبسيطية في «خندق الممانعة» ـــــ في السنين الماضية، ولو لمصلحة الطبقة السياسية المهيمنة.
طبعاً يجدر التنبيه في موضوع القومي الاجتماعي وغيره، ومنعاً للالتباس، أن هذه السير الاجتماعية لا تختصر معظم أوجه «الحياة الحزبية الطلابية». وأغلب الظن، في موضوع التزام الأفراد بأحزاب عقائدية في محيط اجتماعي لا يعطي العقيدة حقها وللأفراد العقائديين قيمتهم، أنّ صفات الجدية السياسية عند بعض هؤلاء تفوقها عند غيرهم... إلى حدود التضحية. أما تحوير مسار الحزب في الاتجاه التبسيطي للعقيدة ولقيمة العمل السياسي، فتتحمل القيادة الميليشيوية للحزب كامل المسؤولية عنه. ليس فقط في الشق الطلابي: فهل كان من المعقول أن يرحب القوميون الاجتماعيون «بعودة وليد جنبلاط إلى رشده» لو أن قيادة الحزب متجددة فعلاً ومنبعثة من تطور قاعدة الحزب الشعبية؟
كذلك الأمر بالنسبة للحزب الشيوعي اللبناني. فهو كالحزب القومي يلعب لعبة النظام، لعبة الطبقة السياسية المهيمنة، في تقسيماتها «شبه الوهمية» للشعارات السياسية التي تختار أن الأمين العام لـ «الشيوعي» خالد حدادة (أرشيف)الأمين العام لـ «الشيوعي» خالد حدادة (أرشيف)تناقشها وأن تبني مواقفها عليها على حساب غيرها من الشعارات. وهي شعارات شبه «وهمية»، بغير أغلب عادات العالم الاجتماعي، لتناقضاتها الداخلية كما لكثرة ابتذال استغلالها ولظهورها فجأةً وكأنها جاءت من عدم: كيف نفسر بغير ذلك «اعتراف» البطريركية المارونية المستجدي بأن «المصالحة في الجبل» لم تحصل؟ ما هي تلك «المصالحة في الجبل»، ذلك الشعار، الذي يستند إليه أركان النظام؟ ولا نتحدث عن «عروبة» البطريرك الانتخابية.
أما الحزب الشيوعي، فيسهل عليه وعلى الحزب القومي انتقاد «الانعزال» عند فريق «اليمين» في المنطقة الشرقية، والترحيب بجنبلاط، والتغاضي عن «قوة حزب الله المحافظة»، واحتواء حزب الله للفقراء في المسائل الداخلية تحت رايات الشرف والكرم و... «الطهر»، بينما لا يغفل على أحد أن جمهور حزب الله على استعداد لقلب تاريخ المجتمع السياسي اللبناني والعربي والإسرائيلي رأساً على عقب، نحو المزيد من العدالة الاجتماعية، إن تيسر له ذلك. كذلك الأمر بالنسبة لجمهوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي. لكنّ مسؤولاً قيادياً «توافقياً» في الحزب مشغول في التباهي، في حلقة تلفزيونية على قناة «الجديد»، بعلاقات الحزب رئيس «القومي» أسعد حردان (أرشيف)رئيس «القومي» أسعد حردان (أرشيف)الشيوعي الوثيقة بالحزب التقدمي الاشتراكي، وذلك، يصر المسؤول، منذ الستينيات! هذا ولا يتوانى بعض الأقلام اليسارية أن تقارن بين كمال جنبلاط ووليد جنبلاط، وكأن الوراثة السياسية استمرارية لشيء غير الامتيازات، على أسس تسطح تاريخ لبنان المعاصر على نحو شبه جوهري يرى ثبات الطوائف والعصبيات على مر السنين. وهنا ربما ينجلي صلب الموضوع: استواء المواقف اليسارية على نظرات محافظة للمجتمع اللبناني. محافظة لأنها تستر ما في المجتمع من «تحول» بما فيه تحول المواقف اليسارية من مواقف راديكالية إلى مواقف «مؤدَّبة»، متصالحة أو متسامحة مع بعض الأوجه المحافظة للنظام.

مجتمع سياسي مؤدب

يبرز المثل التلفزيوني عن المسؤول القيادي المنتفخ في صداقته مع جنبلاط، أحد أسباب العلاقة بين الحزب الشيوعي اللبناني والسياسة الجنبلاطية. هي علاقات تكاد تبدو «شخصية» لكاريكاتوريتها، لكنها من دون شك تعني القيادي وتشمله هو، ومن يحمل بعض صفات «شخصيته الاجتماعية». هذه الصفات تعني من عاشر كمال جنبلاط ووليد جنبلاط في أيام «الحركة الوطنية» أو أقله من عاش أيام الحركة «البطولية». لمنع الحصر، هو بعض من جيل عاش العمل السياسي في مرحلة الستينيات والسبعينيات. وأغلب أعضائه يحصدون جل مقومات نفوذهم الاجتماعي (سياسي، صحافي، أو ثقافي) من هذه المرحلة، حيث إنها المرحلة الأخيرة التي حملت إلى الساحة السياسية اللبنانية المهيمنة عدداً مهماً من العناصر الجديدة. يستثنى منهم فريق قيادة حزب الله وإعلامه، الذي يبدو لبعض عناصر هذه المجموعة كـ«مجتمع نقيض» ربما لمجرد أن أبناءه ليسوا «رفاق قياديين سابقين» (ولأسباب عنصرية طبقية أيضاً). هناك ديناميّات في المجتمع السياسي، ومنطق مرافق لهذه الديناميّات، لا تفهم من دون العودة إلى شبكة العلاقات السياسية التي نسجت في لبنان، وبالأخص في مجتمع بيروت الغربية «التعدّدي»، في تلك الأيام التي سبقت الحرب. ما الذي يفسّر على سبيل المثال، على الأرض الاجتماعية، التهليل الذي يلاقيه ترشيح جان عبيد لرئاسة الجمهورية من البعض وتسويقه الشغوف عندهم وهو ليس عنده ولو مدونة خاصة على الإنترنت؟
منطق العلاقات والمعاشرة يفسّر أيضاً ترشيح إميل رحمة في كتلة حزب الله، حيث لا يمكن أن يكون حصول رحمة على أكبر عدد من الأصوات دليل شعبية تفوق تلك التي لحزب الله في بعلبك الهرمل. والحالتان (عبيد ورحمة) تمثلان دينامية خاصة بالمجتمع السياسي المهيمن، ولو أن الحالة الثانية ليست خاصة بتاريخ «بيروت الغربية» (بل بتلاقي «الغربية والشرقية» تحت المظلة «العنجرية» الجامعة). دينامية جل توجهاتها هي فرض أمر واقع سياسي على الشعب من فوق، بمظاهر رمزية «مقبولة».
وهذه المجتمعات الخاصة بالطبقة السياسية اللبنانية هي من يصادر قيادة الأحزاب اللبنانية، بدعم وتشجيع من القيادة السورية في بدايات تمركزها على حساب غيرها من قيادات الأحزاب نفسها. وهي التي تمنع تحول أحزابها منصة صعود سياسي لفئات جديدة في المجتمع ذات المطالب المتجدّدة، أقله على الصعيد الحزبي. فعلى الصعيد الحزبي، تبدو جلياً المسافة بين ما تصرح به قيادة الحزبين، وعقيدتهم المسوقة عند نشطائهم، بما هي حقيقةً المسافة بين مواقع هذه القيادات الحالية مع مواقع أحزابها التاريخية التي عليها بُنيَت في الأصل قاعدتها الشعبية. كما هي حقيقة تُظهر الدور التجييري الخاص لهذه المواقع القيادية، بدل الدور الفاعل في السياسة على جميع الصعد، كما يتوقع البشر من أحزابهم أن تملأ حياتهم في مقابل ملئها بحياتهم. ولا تكتمل سيرة هذه المسافة بين القيادة والنشطاء من دون العودة إلى سيرة التحول الذي طرق عند هذه القيادات، ووليد جنبلاط منذ وفاة والد الأخير. وهي سيرة تأديب وتطويع. فمن الواضح مثلاً، على صعيد معياري إن صح التعبير، أنّ لبعض الأحزاب اللبنانية، إن لم يكن لجميعها، تناقضاً بين طموح قيادتها وطموح عناصرها ومؤيديها. والطموح هنا يعني سقف المطالب السياسية، بغض النظر عن كبر الإمكانات والإنجازات. فأنطون سعادة مثلاً، كتب ودعا ــــ بسهولة قد تفاجئ الآن ــــ لاستحصال روافد نهري دجلة والفرات، كما أنه أثبت روح تضحية في مناسبات عدة وجدية في الممارسة السياسية لا نظنها تتوافر عند قيادة القومي الحالية.
وكمال جنبلاط مثلاً، بمطالبته بلبنان اشتراكي ومقاوم، كان طموحه أكبر من السيد نصر الله، المكتفي بالمقاومة. وهذا لا ينتقص من جدية الأخير وصدقه، فمسألة الطموح ليست بالضرورة بالتجاوب مع «وعي» للظروف الموضوعية للشخص الطموح. غير أن الظروف الموضوعية هي، في معظم الأحيان، التي تفتح دروب الطموح وتبعث به عند الشخص. فأغلب الظن أن حزب الله، في الواقع الاجتماعي للبنان سنة ١٩٧٥، ما كان ليرتاح قبل إنشاء ظروف تأطير إسلامي لكل المجتمع على شكل الدولة الإسلامية في إيران (وهكذا كانت عقيدة الحزب في بداياته في الثمانينيات). أي ليكون، لنستعر كلماته، «حزباً ثورياً». أما أنطون سعاده، فهو ينتمي لزمن

القيادات الحزبية العقائدية مصادِرة لمراكز غيرها ممن لا يحسب نفسه معنياً بمسامحة مجرمي الحرب والمال

كانت فيه الساحة الثقافية والسياسية العربية، بالرغم من مساوئها، على استعداد أكبر لتلبية حاجات المجتمع العربي المعرض للاستعمار ولقضايا شعبه المضطهد. وها هو العراق الآن، يموت من العطش، وماذا يفعل حزب الله سوى إرسال التعازي إلى العملاء الطائفيين للاستعمار؟ طبعاً هناك دائماً من التطبيليين من يقول إن المقاومة تعمل في السر وأن «التنظير سهل» بينما الشعب يموت من الجوع ومن شر الأنظمة ورأس المال.
الزمان تغير، وحيث كانت الأيديولوجيات تكتب بغزارة ولو ليس بإتقان يوازي رديفتها الأوروبية، أصبح انتقاد الأمر الواقع بأبسط أشكال ظلمه من «التنظير» الذي يسهل قمعه ولو بالسخرية أو باللامبالاة. ويتساءلون كيف يلجأ بعض الشباب إلى الحركات الجهادية ويقطعون صلة الوصل مع مجتمع ليس مسموحاً أن ينجلي منه سوى بيانات التضامن مع القوى المهيمنة. وهنا لا يغفل على أحد أن التحول الذي حصل في عدد من قيادات الأحزاب العقائدية، أتى نتيجة منظومة سياسية تأديبية عملت على تثبيتها السعودية والنظام السوري. منظومة ذات منفعة على الصعيد الداخلي لقيادات الأمر الواقع خلال الحرب، ولرفيق الحريري، الذي أدّى الدور الأول في احتواء الرفض والنقد الشعبي والتحولات الاجتماعية الشعبية، أقله على المستويين الرمزي والاقتصادي، مع انتهاء الحرب، عبر صبغه ميليشيات الحرب بحلة «الإعمار». وقد لاقى نتيجة ذلك دعماً وتأييداً من قادة الميليشيات كافة، ومن النظام الفاسد في الشام... ومن قيادة «القومي». أما ارتخاء قيادة الحزب الشيوعي، وانكفاؤها وراء تناقضات النظام الرمزية، من معارضة ببغائية للطائفية، فلا يفسرها إلا التأديب الرمزي كما الجسدي الذي لحق بالحزب وبساحات الرأي في المجتمع عامةً، وصولاً إلى المنظومة السياسية الرمزية الحالية.
إذاً، المنظومة السياسية الرمزية الحالية، هي نتيجة تطور تاريخي ذهب ببعض قيادات الأحزاب السياسية القديمة والجديدة، نحو التصالح مع لعبة سياسية لها من الشعارات ولها من المضامين الفكرية والمنطقية ما يتماشى مع أمرها الواقع، أمر النظام. هي لها رجال، هم أصحاب الرأي، وباتوا مراجع تقليد لأجيال جديدة، تؤمّن للنظام استمراريته. رجال المنظومة الرمزية، رجال النظام، جاؤوا على حساب غيرهم، وبعضهم على ظهر غيرهم من القيادات. وجلهم على ظهر تطلعات نشطاء أحزابهم، كما تبرزه حالات الأحزاب العقائدية.
أما على المستوى الشعبي غير الحزبي، على مستوى التنشئة الاجتماعية التي تفرضها مؤسسات النظام عن طريق الإعلام، فقد تكون إحدى أخطر نتائج المنظومة الرمزية الحالية، هي عندما يذهب بعض الجدّي من المضمون الذي تجنده هدراً لمصلحة تثبيت المواقع السياسية. مضمون كان في الماضي من شعارات بعض أقطابها الجدّي، فما زال يتأتئ به عن عادة. فيجري تسخيف القضية الفلسطينية مثلاً عند سكان «المنطقة الشرقية» على حساب تناقض لبناني لفريق لبناني محض مع الأحزاب السياسية ذات الشعبية في المنطقة الشرقية. إذ يبدو عند بعض اليسار، وذلك منذ التسعينيات، أنّ أحزاب المنطقة الشرقية وحدها تستأهل التنديد القاسي والإلغائي بمواقفها. وكذلك الأمر للمنطق النقدي اليساري، بتفرّعاته الاقتصادية والاجتماعية، أو حتى للفكر القومي الاجتماعي، بما تحمله هذه المنطلقات الأيديولوجية من تسليط للأضواء على مسائل اجتماعية ملحة، تعني المواطنين أولاً من دون الطبقة السياسية. وربما في هذا المجال، تنجلي حقيقة مواقع القيادات الحزبية العقائدية بما هي مصادرة لمراكز غيرها ممن لا يحسب نفسه معنياً بمسامحة مجرمي الحرب والمال على جرائمهم... قبل الذهاب إلى الترحيب بعودتهم إلى رشدهم.
* باحث لبناني


عدد الخميس ٣ أيلول ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/154854