الخميس، ٢٢ تشرين الأول ٢٠٠٩

قوّة الأدب



الثلاثاء, 06 أكتوبر 2009
ربيع جابر

نوبل الآداب بعد غد. إذا شاء قارئ أن يختار من القائمة الطويلة (من 1901 الى 2008) عشرة أسماء، من يختار؟ هل يبدأ من هامسون (1920) أم من إليوت (1948) أم من فوكنر (1949)؟ قبل ذلك ربما ذكر كبلنغ. وبعد ذلك؟ أندريتش أو كاواباتا أو ماركيز. محفوظ لأسباب شخصية (كتب باللغة التي نسمعها في المنام). كسينغيان وكويتزي وباموك. مَنْ بعد؟ شولوخوف؟ هل أصبحوا عشرة؟ أكثر من مئة اسم ولا يهمك غير هؤلاء؟ حتى كويتزي قد تحذفه. يختار القارئ ما يريد. قدرته لا نهائية. لكنها قدرة عالقة في دائرة مقفلة. ان خياره عاجز عن امتلاك القوّة التي يملكها الأدب.

قوّة الأدب تكمن في قدرته على التواصل. الكتاب لا يأخذك الى عالمه فقط. بل يستولي عليك أيضاً: يجعلك (من دون أن تنتبه) راضخاً أمامه. رضوخ اختياري. لكن كيف يكون الرضوخ خياراً؟ ما الذي يردك الى رولفو مرة تلو أخرى؟ لماذا تفرض جمل «بيدرو بارامو» هذا السحر عليك؟ وكافكا؟ وبورخيس؟ ما الذي يجعل صوت كاتب مات قبل ربع قرن - أو قرن - صوتاً أقرب اليك من حبل الوريد؟ زخم الأسلوب السردي؟ التدفق التلقائي والإيقاع الممسوك داخلياً؟ تفتح الكتاب الأخضر الغلاف وتقرأ القصص للمرة المئة أو العشرين بعد المئة: بينما تقرأ قصة تيديو إيزيدورو كروز تسمع صوت بورخيس كأنه قاعد جنبك. أنت أيضاً أعمى. تغمض عينيك وفي الظلمة الكاملة ترى الصور: الرجل على الحصان أو الرجل جالساً على الأرض يشرب متّة في البرية غير عالم ان لحظة الحقيقة تقترب.

ماذا تكون هذه اللحظة؟ ماذا يكون سرّ الأدب؟ هل نعرف سرّ «مئة عام من العزلة»؟ سرّ «آنا كاريننا»؟ سرّ «موت إيفان إليتش»؟ لماذا أُعطيت الرواية قدرة لا يملكها فن آخر؟ لأنها مخزن الفنون جميعاً؟ لأنها - كالملحمة في عصر هوميروس - شاءت أن تحوي الكون؟ الشعوب تُقبل على الشعر في أطوارها البدائية، كتب بورخيس في احدى محاضراته، ومع تطورها تنتقل الى مرحلة أعلى: النثر. لكن ماذا نقول عن «الإلياذة»؟ «الإلياذة» رواية ولو كُتبت بأبيات شعرية. حكاية المدينة المحاصرة بالمحاربين الإغريق يقضون تحت الأسوار، أليست رواية؟ إذا قرأت «الأوذيسة» في ترجمة انكليزية حديثة (روبرت فايغلز مثلاً) شعرت أنك تقرأ رواية، لا أكثر ولا أقل.

لماذا أُعطي الفن الروائي هذه القدرة على التأثير في القراء؟ أين سرّه؟ في النظرة الروائية الى العالم؟ في المكر الطفولي والحكمة الخفية؟ هل يريد الروائي أن يكتب في كتاب واحد كل ما يعرفه، كل ما يتخيله، وكل ما لا يعرفه أيضاً؟ لا يريد الروائي الرواية وحسب؟ يطلب أكثر منها؟ ماذا يطلب؟ المفروض أنه يروي قصة بحبكة وشخصيات. عليه صناعة مناخ وعليه التحرك الى أمام بذكاء، بحذر، حافظاً التشويق، منفتحاً على الاحتمالات، ومخلصاً للشخصيات ورغباتها في آن معاً. ماذا يعرف الروائي؟ أليس إنساناً ضئيلاً ونقطة ضائعة في بحر؟ وإذا كان هشّاً (وهو هش) وعاجزاً عن تدبر حياته (عقصة برغشة تقضي عليه) ومحكوماً عليه بالعزلة (كي يكتب)، فكيف له أن ينظر الى العالم وأن يفهم العالم ثم يتمكن من الكتابة عنه؟ دانتي شاعر أم روائي؟ نادر ان تعثر في عصورنا الحديثة على شعراء من ذلك الصنف. نادر أن تعثر على هذا الطموح. دانتي قد يساعدنا على فهم الرواية وطموحها. ماذا صنع في حياته؟ بينما يسير وراء فيرجيل، تحت الأرض، ماذا رأى؟ رأى حياته ومدن حياته؟ رأى العالمين، الداخلي والخارجي؟ رأى الأرض (الواقع) أم السماء (المخيلة)؟ ينقسم العالم الى ثلاث مناطق: المنطقة الحقيقية، المنطقة الخيالية، ومنطقة الحدود. شعراء الملاحم روائيون أقاموا في منطقة الحدود، بين الحقيقي والخيالي، بين الأشياء والرغبة في الأشياء، بين ما نقدر عليه وما لا نقدر عليه، بين اليأس والأمل، بين الذاهب والباقي، بين لحظتين. هل تكمن هناك قوّة الأدب؟ على الحدود؟ حيث تحدث المعجزات لأن شيئاً لا يُدرى كنهه يتدخل ويُشرّع الأبواب أمام مخيلة الإنسان؟ ومن دون تلك المنطقة الغامضة هل يُكتب أدب؟ هل يبقى كتاب يستحق أن يُقرأ مرة تلو أخرى وإلى ما لا نهاية؟ الكتاب الكلاسيكي، كتب كالفينو، كتاب يُقرأ تكراراً، وفي كل مرة نجد فيه أشياء لم نرها من قبل. نقرأ والشعر يتغير لونه في الرأس، سنة بعد سنة، عقداً بعد عقد. صار الرمادي أبيض. تغيرنا والكتاب تغير. نغرق فيه ونرى العالم مصقولاً، منعكساً في مرآة، أصفى من العالم الحقيقي، أعمق، وأشد ترابطاً. في أحيان أخرى يحدث عكس ذلك!

أين تكمن قوّة الأدب؟ في أعماقنا أم خارج هذه الأعماق؟ كيف يُحدد الكاتب علاقته بالعالم؟ هل يَعتبر العالم طارداً له، كونه هو يطرد العالم على الدوام؟ إذا لم يطرده كيف يقعد الى الطاولة ويكتب؟ كيف يدعه العالم يكتب ما يشاء؟ لكن الناسك لا يكتب. رهبان الزنّ ينشدون شعراً في وصف القمر والشجرة والشتاء. لا يكتبون روايات. الكاتب يقعد خارج العالم وفي قلب العالم معاً؟ لكن كيف يقدر على ذلك؟ أليس شخصاً واحداً؟ ليس من الأولياء فينام ليلته في الصين بينما يسهر مع الساهرين في بغداد. ليس اثنين. أم هو كذلك؟ هل يكمن السرّ هناك؟ في أنه أكثر من واحد، وخلفه أكثر من ظلّ؟ هل هو مريض، منفصم الشخصية، ومهم أن يُصدم بالكهرباء؟ الكاتب يندثر من دون أن ينتبه. كالنملة على التراب. الكتاب مسألة أخرى. قوّة الأدب تكمن في قدرته على التواصل. ينسج الأدب شبكة. ونحن - إذا كنّا قراء - نعلق على الشبكة. لن يأتي العنكبوت ويبتلعنا. لا نخاف. وحتى إذا هجم علينا الخوف (المخيلة قد تكون مظلمة، مثيرة للفزع بين حينٍ وآخر) لا يقتلنا. العالم الخيالي لا يقتل القراء. إلا إذا كانت الأوراق مسمومة. أو تنام عليها - بين ورقتين قديمتين - جرثومة السلّ. هل قوّة الأدب هناك؟ في أننا ندمنه ونطلب ذلك؟ لماذا يشعر القارئ - إذا حجزته في زنزانة بلا كتب - أنه يختنق؟ بسبب الزنزانة ذاتها؟ هل العالم زنزانة؟ ماذا يطلب القارئ؟ يطلب الحياة مضاعفة الى ما لا نهاية. شهوته عارمة ورغباته لا تُحد؟ وبعد كل كتاب يطلب غيره، لا يشبع ولا يرتوي؟ هل القراءة مرض؟ هل الحياة مرض؟ هل الأدب مرض؟

أين تكمن قوّة الأدب؟

سرَّ الرسم الياباني... الحياة الساكنة في جمالها اللانهائي



الثلاثاء, 15 سبتمبر 2009
ربيع جابر

يتساقط المطر في لوحات هاسوي كاواسي على حياة تشبه حياتنا ولا تشبهها. شارع ومارة ومظلات. امرأتان في الزي التقليدي (الكيمونو). دائرة المظلة مخططة تتلقى حبال المطر. ثمة رجل (حارس الحانة؟) في معطف، ليس غامضاً لكنه يشير الى سرّ. هل هذا حقيقي أم خيالي؟ في لوحة صيفية لكيشيو كويزومي نرى حديقة وشجراً وناساً على مقاعد أو عابرين. هل ينظرون الى بركة الماء والى الصخور وسط البركة؟ على تقاطع طرق في لوحة ليوشينوبو ساكاموتو نرى الترامواي وعربة بمصابيح وهاجة ورجالاً ونساء أمام دكاكين وفي ظل أعمدة: هذه حياة طوكيو في مطلع القرن العشرين؟ «حياة جامدة في ضوء القمر» لسيميا ناوبومي تسحبنا الى جوٍ شعري (خيالي؟) سرّه ضوء القمر. كالفينو نقل عن شاعر قديم ان العالم يفقد ثقله، يصير خفيفاً، في ضوء القمر. «شتاء في انبانوما» لفوميو كيتاوكا تبعث برداً دافئاً في العظام. كيف يكون البرد دافئاً؟ ليس البرد، بل ذكراه. بينما تنظر الى القوارب على المياه البيضاء كالثلج، بينما تنظر الى السنابل الصفراء وسط الماء، يملأ قلبك الحنين. كأنك تتذكر حياة سابقة. ليس الطفولة فقط (أين الطفولة والأبيض يكلل رأسك؟) بل ما كان أنت قبل أن تغدو ما أنت عليه. هل هي لحظة صوفية؟ غاو كسينغيان (هذا صيني، كالفينو إيطالي، لكن الدم الياباني يجري في العروق) انتبه في نصف رحلته الى «جبل الروح» انه بينما يطلب الجمال الكامل (السلام الكامل) يخاطر بفقدان طبيعته البشرية: أنت لست إنساناً إلا بين البشر، وأنت تأكل معهم، تتكلم معهم، تشاطرهم الطيب والخبيث. كان ينظر الى شجرة قديمة تتفرع أغصانها الضخمة تحت سماء رمادية واكتشف أنه يخاف هذا الجمال اللانهائي. لماذا الخوف؟ ساسكند يخاف من عين الحمامة. كاواباتا يرى البزاق خارجاً من التراب بعد شتوة أولى فيرتعش. لماذا يخشى هذا المنظر: القواقع السوداء ملتصقة بأعلى حائط الجل؟ هنا الرائحة عارمة، التراب المبلول والصيف الذي انتهى في رمشة عين.

يطفو المركب كأنه في منام عندما يرسمه جوينشيرو سكينو. اللوحة صغيرة، بقالب خشب محفور تستطيع أن تطبعها الى ما لا نهاية على الكرتون أو الورق. المياه والمركب على البحيرة وما يشبه المعبد البوذي والدرج النازل من المعبد الى حافة الماء. ثمة مظلة على المركب، صفراء اللون بخطوط سوداء، وترى ظلها في البحيرة. لا نرى وجوهنا في هذه البحيرة: لماذا؟ «عزلة» لكيوشي سايتو عبارة عن طريق: مسافة لا تُقطع بين هذه اللوحة وتلك التي تحمل العنوان نفسه لإدوار هوبر. مع أن في اللوحتين ما يشبه الطريق. أين الفارق؟ كيف يستوعب القلب (العقل؟) الفارق بين لوحات الغرب واللوحة اليابانية؟ مثلثات الجبال في خلفية «البحيرة» ليوشيو كانوموري محطمة القمم. المطر صنع هذا؟ تعاقب الفصول؟ هل تكون براكين خامدة؟ في «ضجيج الجبل» لكاواباتا نرى عجوزاً يصغي الى الطبيعة ويسمع صوت الجبل في حديقته. في «ناراياما» لفوكازاوا عجوز يحملها ابنها كي تموت تحت الثلج، في الأعالي. كيف تتذكر العجوز عندئذٍ شبابها؟ هل كانت تشبه الفتاة في لوحة يوميجي تاكيشيا «ضوء الصباح»؟ أم تلك المرأة الحزينة في لوحة تسونتسومي كينانو «في الغرفة»؟ لكن العجوز في «ناراياما» (جبل السنديان) ولدت في قرية فقيرة وهناك عاشت الحياة كلها فكيف تملك الإيماءات (المكلفة؟) لبنات طوكيو؟ من تشبه إذاً؟ النساء الفلاّحات في لوحات الفلمنكي بروغل؟ أين نرسم الخط بين اللوحة اليابانية ولوحات الغرب؟ في «فصل الربيع» لهيروشي يوشيدا نرى أشجار الكرز، مزهرة، بيضاء، تتدلى أغصانها على جسر خشب في حديقة يابانية تقليدية.

زهور أشجار الكرز - وأشجار الخوخ - تملأ الروايات اليابانية. لا تشم رائحة العطر خارجة من «الجميلات النائمات» لكنك ترى اللون الأبيض الناصع. ماذا يحمل هذا اللون الى الأعماق، السكينة أم القلق؟ في «شيوبارا» لهاسوي كاواسي نرى بيوتاً غارقة في الثلج والظلمة، وبيتاً واحداً بمصابيح مضاءة. الضوء الأصفر الخارج من النوافذ يقول لنا شيئاً. «مصباح غيفو» لشينوي ايتو مصنوع من الورق، ترفعه الفتاة المعقودة الشعر، وتعلقه بخيط أمام العيون التي تنظر اليها. الفتاة لا ترى العيون المحدقة، لا تعرف أننا هنا، لسنا جزءاً من عالمها. عالمها هذا المصباح الذي تُعلقه: ونحن، هل لنا قيمة؟

«المعبد في كاتاتا» يتغطى بالثلوج رويداً رويداً. رقائق الثلج تتهادى في الفضاء، تتساقط متمهلة، خفيفة كفراشات الصيف، من سماء بلون البحيرة. المعبد يتعلق على الواح خشب بين الماء والسماء. ليس معبداً. لعله كوخ وحسب. يبدو فارغاً لكنه على الأرجح مسكون. من يعيش في قلب هذا الكوخ الساكن داخل العاصفة؟ في الزاوية أغصان شجرة والثلج يتراكم على الأغصان أيضاً. بعد قليل يكسر ثقل الثلج هذا الغصن الأخضر. تنظر الى الساعة ثم الى الغصن مجدداً. مرّت الساعات، مرّت الأيام، ذهبت سنة، ثم رجعت، ذهبت سنتين وعدت، والغصن لم ينكسر بعد، والكوخ على حاله، والثلج لم يتوقف عن التساقط لحظة. النساء في رسوم غويو هاشيفوشي ينظرن اليك. العيون اليابانية والفم الياباني. لون البشرة أبيض ساطع: أين اللون الأصفر؟ يختفي تحت هذا البياض؟

المطر يتساقط على وسط طوكيو القديم في لوحة تاكاشي هنمي: المرأة تعطينا ظهرها وتقف تحت مظلة غربية، سوداء اللون. ثمة غيرها في اللوحة لكن ثوبها الأزرق يميزها عن الجميع. مركزها أيضاً. والحزن في حركة جسمها. مع أنها جامدة، لا تتحرك. لماذا تحزن واقفة تحت المطر في وسط طوكيو؟ نحن في العقد الثاني أو الثالث من القرن العشرين، والحياة - كما يفترض - ساكنة. لم تقع القنابل على المدينة بعد. عاش الرجل الى الحرب العالمية الثانية: في الساعة السوداء نظر الى لوحته القديمة وشعر بالأمان. غادر الساعة الفظيعة الى عالم زال من الوجود. هل عرفت المرأة (في اللوحة) شيئاً كان يجهله؟ هل حدست بالمستقبل؟ تعطينا ظهرها، ولو رأينا وجهها لحظة (لو تستدير لحظة)، ربما كنا نعرف شيئاً. القطط تقوس ظهورها في رسوم تومو انغاكي. هذه عدائية؟ هل الطبيعة ضد الإنسان؟ أمواج هيروشيجي يمكن أن تقتلنا؟ ستيفنسون كتب في احدى رسائله عن رحلة نهرية: كان يتأمل الأشجار وروعة المياه والقصب عندما طرقه غصن وأسقطه من القارب. لم يغرق لكنه أوشك على ذلك. النهر الساحر الجمال كاد يقضي عليه: لو حدث ذلك ما قرأنا يوماً رواياته. كان في الثانية والعشرين. كافكا - في الأربعين - نظر الى نحلة ترشف رحيق زهرة في نافذته وشعر بعطش لانهائي. كان يحتضر في مصح مسلولين. هل رأى عندئذ - بينما العالم ينام والنحلة ترشف الرحيق في ساعة الفجر - هل رأى كافكا (الطفولي الوجه) الحياة الساكنة في جمالها اللانهائي؟ «زهور تموز (يوليو)» لكشيزو فوجيموري تميل أعناقها، وتتدلى. المزهرية تضم الباقة، وعلى المزهرية أزهار مرسومة أيضاً. أيها حقيقي أكثر؟ ثمة زهرة مختلفة عن الزهور الأخرى، شبه صفراء، شبه خفية. لونها يشبه الخلفية ولهذا لا ننتبه لها للوهلة الأولى. احدى الناجيات من هيروشيما كتبت قصة قصيرة عن زهرة تشبه هذه. لم يصف كافكا المزهرية في نافذة غرفته. كان متعباً، عاجزاً عن الحكي، يخط جملة على ورقة الدواء فيتعب. كان يتلاشى. ماذا رأى بينما يغيب؟ يتعالى جبل فوجي ملتفاً بضباب خفيف في رسوم هاسوي كاواسي. بساتين تترامى وقارب يقطع الماء، وفي الخلفية يتعالى جبل مسحور الى سماء عالية، زرقاء مبقعة بالأبيض.

تولستوي كتب في يومياته الأخيرة عن شجرة يغطي جذعها الفطر. كان يتنزه في جوار مزرعته ورفع عصاه وطرق الفطر القديم مرة، ثم أخرى. كان يتفتت ورأى الأبيض الناصع في قلب البنيّ القاتم وفي قلب المادة الضاربة الى الأسود. شهق أمام جمال الألوان. الزهور في الصفحة الأولى من «حاجي مراد» تبهر الأنفاس. كان يراها في المرج أم في رأسه؟ لفين الذي يقضي نهاراً يحصد العشب مع الحصادين عرف اللحظة اليابانية (الصوفية). كاواباتا وصف أمام أكاديمية في الغرب شعور رهبان الزنّ - البوذية أمام القمر، في ليلة باردة، وسط الجبال وصمت الجبال. هل عرفت آنا كاريننا هذا الشعور قبل أن يلطمها القطار؟ والرجل الذي أحبّته، هل عرف هذا الشعور قبل أن ينكسر (تحته) ظهر الفرس؟ أشجار الغابة تتباعد في «اوازو» لشينوي ايتو. قبل الغابة حقل يحرثه ثور. الثور 091508b.jpg جامد (مع أن الفلاح يسوطه) لكن الحقل يتبدل: كيف هذا؟ لم يكن محروثاً، وها هي أرضه مقلوبة، وبعد قليل يقع عليها المطر. هذه أمطار الخريف، والغيوم تدنو من وراء الغابة. عند الظهيرة تضيء الشمس المحتجبة حواف الغيوم. بطن الغيوم يبقى قاتماً. لأن مادتها سميكة هنا. يهبّ الهواء وتتحرك السماء. الطيور تعبر، والفراشات تذهب الى حيث تنام. السكينة عميقة، لا تُحد. ويُخيل اليك انك صرت تعرف شيئاً عن الرسم الياباني. لكنك تبقى غير متأكد.

مطر يتساقط على صفصافة عارية الأغصان، شبه سوداء، في لوحة كونن أويهارا. وراء الفروع المتدلية مثل خيوط المطر يظهر مبنى مضاء النوافذ. الوقت ليل، والنوافذ صفراء. الهدوء - مرة أخرى - لا نهائي. هل هو هدوء حقيقي؟ لا نعرف ماذا يجري داخل الغرف، لكن هذه النوافذ حياتنا أيضاً.

الأربعاء، ٧ تشرين الأول ٢٠٠٩

اليمن بين استمرار الحرب والوساطات لوقفها

فواز طرابلسي
«الحرب مصرفيٌ، يتعاطى عملة ذهبية هي اللحم البشري»
(إيسكليس، «الثلاثية الأوريستية»)
تدخل الحرب اليمنية في محافظتي صعدة وعمران شهرها الثاني حاملة ظاهرتين جديدتين ومفارقتين: الأولى، هي إعلان الرئيس علي عبد الله صالح المضي في القتال ولو اقتضى الأمر خمس أو ست سنوات إضافية.
والثانية، هي بدء الوساطات العربية ومطلعها زيارة الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى لصنعاء هذه الأيام.
للحروب وظائف كثيراً ما يجري التغاضي عنها عند التباكي على ضحاياها. فالحروب وسيلة فذة للحفاظ على الأنظمة القائمة بافتعال خطر خارجي أو فتنة داخلية تستوجب التعبئة حول السلطة والاستنفار ضد العدو وتصدير أزمات النظام وطمس القضايا التي يعجز عن معالجتها. والحروب فرص ذهبية للمقاولة الاقتصادية عالية الأرباح.
حروب الرئيس علي عبد الله صالح، الشبيهة إلى حد كبير بحروب صدام حسين، تجمع وظيفتي الحروب معاً. الوظيفة «الذهبية» ذكّرتنا بها صنعاء إذ نشرت قائمة لتجار أسلحة تتهمهم بتهريب الأسلحة للحركة الحوثية. ومن غرائب الإعلان أن في رأس قائمة تجار السلاح رئيس لجنة الوساطة مع الحركة الحوثية الذي هو في الوقت ذاته شقيق محافظ صعدة. في الأمر فضيحة مزدوجة: الأولى تغاضي سلطات صنعاء عن هؤلاء التجار إلى الآن... والثانية أن كشف تجار السلاح هؤلاء يغطي على التجار الذين يجنون الثروات الطائلة من خلال صفقات السلاح للقوات المسلحة الحكومية. ولا حاجة إلى كبير تفكّر للافتراض بأن هؤلاء من صميم العصبية الحاكمة في صنعاء.
وطالما نحن في مضمار الاقتصاد السياسي، لا يجوز أن ننسى أن الحروب مناسبات لاستدرار المساعدات المالية الخارجية. فـ«تغريب» الحرب وتصويرها أنها حرب ضد الدعم الإيراني للحركة الحوثية على حدود العربية السعودية شكّل المبرّر الرئيس لكي تغدق المملكة على تمويل الحرب، وهو أمر لم يعد سراً على أحد.
أما ظاهرة الوساطات العربية، فالمفاجأة فيها أن السلطة التي كانت ترفض أية وساطة بل أعلنت انتهاء الوساطة القطرية، كأنها تستدعي الوساطات استدعاءً هذه الأيام. وتخطو عملية تعريب الأزمة اليمنية خطوة إضافية من حيث التعقيد إذ تعلن قيادة الحراك الجنوبي سلسلة من التحركات في كافة المحافظات الجنوبية للمطالبة بانفصال الجنوب لمناسبة زيارة عمرو موسى.
من أجل استكمال الخطوط المتشابكة للأزمة اليمنية، لا بد من ملاحظة أن وساطة الأمين العام للجامعة العربية ترافقت مع الإعلان عن وساطة مصرية تدعمها أنظمة «الاعتدال» العربية وتباركها الولايات المتحدة الأميركية. هذا في حين لا يخفي «الوسيط» المصري انحيازه إلى نظام صنعاء على لسان الرئيس مبارك فيما وزير خارجيته يؤكد زعم صنعاء وجود تدخل خارجي إيراني في الحرب.
هل استدعاء الوساطة العربية إعلان عن العجز عن الحسم العسكري الذي وعدت به حكومة صنعاء منذ الأيام الأولى للحرب والسعي إلى أن تحرز بالسياسة ما عجزت عن تحقيقه بالحرب؟ أم هي مناورة تستجيب لضغوط عديدة من أجل وضع حد للحرب والكوارث الإنسانية الناجمة عنها؟
يصعب الحسم.
المؤكّد أن المطلوب إعلان وقف فوري للدوامة الدموية وفتح الطرقات والممرات لتمكين فرق الإغاثة من العناية باللاجئين وقد جاوز عددهم 150 ألف لاجئ.
والمؤكّد أن أي مبادرة لوقف النزف يجب أن تنطلق من مبدأ أن لا حل أمنياً وعسكرياً ممكناً للنزاعات الجارية في اليمن. وكم كان الأجدر أن تصرف الأموال الطائلة التي هدرت على السلاح والعتاد الحربي والقتل والحروب على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والثقافية في مناطق النزاع.
لا يكفي التذرّع بالقول إن الحرب استمرار للصراع السياسي ولكن بوسائل أخرى من أجل العودة إلى تغليب السياسة على العنف. لكي ينتقل الصراع من طوره السياسي إلى طور الوسائل الأخرى، أي العنف، كان لا بد أن يكون لذلك أسباب أكثر جذرية من أسباب النزاع السياسي.
فالمؤكّد أن اليمن يحتاج إلى تعاقد جديد بين مكوّناته الاجتماعية والسياسية وبين الشعب والحكّام. تعاقد جديد تفرضه إطاحة الحكم الفردي بإرهاصات الديموقراطية التي حملتها الوحدة عام 1990 وفي الوقت ذاته إطاحته بالوحدة بما هي شراكة بين شركاء أحرار ومتساوين. في صلب الأزمة اليمنية، شمالاً وجنوباً وفي البلاد كلها، يكمن الحكم الفردي، المتكل على عصبية ضيقة حاكمة، تطلق المعارضات العصبية المقابلة، وإلى التمييز بين المواطنين من حيث حقوق المعتقد والمواطنة والتهميش المتزايد الذي يغذي النزعات المناطقية الاستقلالية أو الانفصالية.
فعندما تكون الوحدة صنواً للمركزية والتمييز بين المواطنين، على أساس مناطقي وجهوي، تكون في معرض حفر قبرها بيدها وتشكيل التربة الخصبة لنمو وازدهار النزعات الانفصالية.
في المقابل، فلا حل للمسألة الجنوبية خارج اليمن الموحّد. ذلك أن البديل عن الوحدة لن يكون جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، التي اغتالها قادتها بأيديهم عام 1986، وإنما دويلات الجنوب اليمني المجزأة إلى الأربع والعشرين مشيخة وسلطنة. فلا بد من أجل تجديد الوحدة من الاعتراف بوجود مسألة جنوبية ناتجة عن مترتبات حرب العام 1994 وما تلاها من ممارسات التهميش والتمييز بين مواطني الدولة الواحدة. ولا بد من الشروع بمعالجتها ابتداءً من إعادة المفصولين والمتقاعدين قسراً إلى أعمالهم وإيفائهم جميع حقوقهم المادية؛ مروراً بالبت السريع بالنزاعات على الأراضي والعقارات بمقتضى توصيات اللجان الرسمية وإزالة أشكال التمييز الأخرى ذات الطابع المناطقي أو الجهوي.
من جهة ثانية، تزعم السلطات اليمنية الدفاع عن الجمهورية في وجه حركة حوثية متهمة بالعودة إلى الإمامة. ولكن، عندما يتحوّل رئيس الجمهورية ذاته إلى إمام مطلق الصلاحيات، وعندما تصير الجمهوريات «جملكات» تمارس هي ذاتها التوريث، كيف لها أن تحافظ على أية شرعية في وجه من يقوم تصوّرهم للنظام السياسي الإسلاموي على التوريث أصلاً، خصوصاً إذا كانوا يدّعون الانتساب إلى أهل البيت؟
من هنا المطلوب تعاقد جديد بين اليمنيين، عبر حوار وطني يشمل كافة الأطياف لإجراء تعديلات دستورية تمنع التوريث وتعيد التوازن بين النظام الرئاسي والنظام الانتخابي. ولا بد لتلك التعديلات وما يواكبها من ممارسات أن تؤدي إلى تعزيز التعددية السياسية والحزبية والصحافية، ومكافحة الفساد، وتأمين شفافية العلاقة بين المسؤولية الحكومية ومزاولة الأعمال، وتحقيق اللامركزية الإدارية الواسعة الصلاحيات والمرتكزة إلى مجالس المديريات والمحافظات المنتخبة، وتنفيذ مبدأ تداول السلطة من خلال تنظيم الانتخابات النيابية المؤجلة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية.

الاثنين، ٥ تشرين الأول ٢٠٠٩

الأمم المتحدة: مسرح العبثيّة الدولي

الأمم المتحدة: مسرح العبثيّة الدولي

الرئيس ميشال سليمان يلقي كلمته أمام الجمعية العموميّة للأمم المتّحدة (دايفيد كارب ــ أ ب)الرئيس ميشال سليمان يلقي كلمته أمام الجمعية العموميّة للأمم المتّحدة (دايفيد كارب ــ أ ب)
يتقاطر الرؤساء والملوك من كلّ حدب وصوب كلّ عام. يتزاحمون لالتقاط الصور مع إمبراطور الكون الأميركي. الكلّ يريد أن يظهر مبتسماً إلى جانب بوش أو أوباما. بعض الزعماء لا يتجشّم عناء السفر ويُرسل الابن أو الشقيق نيابةً. لكن طقس افتتاح الجمعيّة العمومية لم يتغيّر حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، التي أضفت نمطاً ديموقراطيّاً نسبيّاً على مداولات الجمعيّة العمومية وحتى على مجلس الأمن رغم بنيته غير الديموقراطيّة

أسعد أبو خليل *
يصرّ رئيس جمهوريّة لبنان الممتازة، على حضور الجمعية العمومية للأمم المتحدة كل سنة. هي جزء من محاولة اقتناص وهج فقده في جمهوريّة الطائف. يحاول أن يبدو رئيساً عن جدّ في محفل دولي لعلّ الصور في نيويورك تزيد من هيبة المنصب. لكن في عهد عصر النفقات وهي ذريعة السنيورة لإفقار الفقير ولمنع الإعمار عن الجنوب اللبناني، يتساءل المرء عن سبب ذهاب وفد لبناني عرمرمي (ضمّ الوزير نسيب لحّود، أي ليس هناك ما يمنع تسفير الراسبين في الانتخابات) إلى نيويورك. كم بدا لبنان صغيراً وهامشيّاً، على حقيقته. كان على كل الشعب اللبناني متابعة البرنامج الرسمي لرئيس الجمهوريّة ليتيقّن أن هذا البلد لم يكن يوماً إلا هامشيّاً ودونيّاً لا يحتّل موقعاً إلا تبعاً لأوامر تأتيه من هذا البلد العربي أو من ذاك البلد الغربي. وطارق متري الذي يجود في الخطب الحريريّة هذه الأيام، يتحدّث من دون تردّد عن دور ريادي للبنان. أي ريادة؟ لكن طارق متري اليوم بات كالمكتوب الذي يُقرأ من عنوان مقالات نصير الأسعد.
الرئيس الأميركي باراك أوباما (أ ب)الرئيس الأميركي باراك أوباما (أ ب)والإعلام اللبناني يعطي صورة مضلّلة عن تحركّات زعماء لبنان وزياراتهم حول العالم. ولكن يجب أن يذكر التاريخ أن سعد الحريري زار رئيس قبرص أثناء عدوان تموز طالباً مساعدته في طلب وقف للنار على ما ذكرت نشرة «المستقبل» على صفحتها الأولى آنذاك. هكذا تكون الدبلوماسيّة الفعّالة. وأذكر في عام 1982 ــــ 83 في بيروت قبل مجيئي إلى أميركا، أن صحافة لبنان كانت تتحدّث عن زيارات أمين الجميّل إلى الأمم المتحدة (عندما ألقى خطابه الشهير «أعطونا السلام وخذوا حروباً أهليّة ودماءً في الشوارع وقتلاً بالفؤوس في حرب الجبل وسرقات من خزينة الدولة واستسلاماً أمام إسرائيل») والبيت الأبيض. كان إعلام الدولة وجريدة «النهار» (المُروِّجة لاتفاق 17 أيار آنذاك لن ننسى) يتحدّثان عن اهتمام أميركي رسمي وإعلامي وشعبي بزيارات الجميّل إلى أميركا. وعندما جئت إلى أميركا اكتشفت أن الجميّل وزعماء لبنان يأتون ويروحون دون أن يدري بهم أحد باستثناء موظّفين في وزارة الخارجيّة وروّاد المطاعم اللبنانيّة في واشنطن. يأتي زعماء لبنان إلى الولايات المتحدّة من دون إشارة ولو عابرة في الصحف الأميركيّة، ويستحق لبنان هذا التجاهل بسب صغر حجمه ودوره. لكن مسخ الوطن نشأ على الادعاء الفارغ والأكاذيب. هذا عهدنا به منذ الولادة. ماذا تقول عن وطن يمارس الكذب على تلاميذ المدارس حول حكاية الاستقلال، فيما كانت أحزاب ومقامات دينيّة «رفيعة» ومجيدة تعارض الاستقلال وتطالب باستعمار فرنسي دائم على لبنان. ماذا تقول عن وطن يكلّف فيه الجيش وقوى الأمن الداخلي عناصرهم وببلاغ رسمي التصويت على الإنترنت لمغارة جعيتا؟ (أدعو اللبنانيّين واللبنانيّات للتصويت لأي مَعْلم آخر حتى لا يُصاب العقل اللبناني بخبل إضافي).
وقد التقى ميشال سليمان برؤساء ألبانيا والبوسنة والهرسك وقبرص والنمسا وغينيا، بالإضافة إلى لقاء عابر مع ساركوزي. وقد أنعم عليه الرئيس الإيراني بلقاء أيضاً. لكن صحافة لبنان ذكرت أن سليمان التقى أوباما «على هامش» العشاء الذي أقامه الرئيس الأميركي لرؤساء الدول. هل يدري شعب لبنان ماذا يعني اللقاء «على الهامش»؟ إنه يعني أن سليمان وقف بالصف مثل غيره من رؤساء الوفود وألقى التحيّة على أوباما وذكر له اسم لبنان، قبل أن يأتي مسؤول التشريفات ويقول ما يوازي «اللي بعدو»، كما كانت «أم كامل» تصيح في مسلسل «حمام الهنا» في أواخر الستينيات. أصبح السلام في صحافة لبنان «لقاءً على الهامش» وبحثاً معمّقاً في القضيّة اللبنانيّة.

إصرار نجاد على التشكيك بالمحرقة يساعد إسرائيل في حملتها على إيران

أما أحمدي نجاد، فيستمرّ في تزويد إسرائيل حججاً دعائيّة مجانيّة. أحمدي نجاد يجعلك تحنّ إلى خطب أحمد الشقيري في أيار 1967. لماذا يصرّ نجاد على إقحام المحرقة بالقضيّة الفلسطينيّة؟ هل يظن أن إقحامها يدخل في الرصيد الدعائي الفلسطيني؟ ألا يعلم ... ولكن من المُستبعد أنه يعلم لأن خطابه ينمّ عن تحجّر فكري وانغلاق ثقافي لا مثيل له إلا في أروقة مقرّ هيئة كبار العلماء في السعوديّة. في كل كلام له عن المحرقة يعطي نجاد لإسرائيل فرصة ذهبيّة ليس فقط لاستغلال الاستفظاع الغربي (المُحقّ) للمحرقة ولكنه يعطي أيضاً لإسرائيل فرصة إضافيّة لعزو المقاومة العربيّة لإسرائيل إلى أسباب نازيّة. بات نجاد تحقيقاً لأمنية إسرائيليّة. وأبواق الدعاية الصهيونيّة نفضت في الأشهر الماضية الكرّاسات الصهيونيّة عن العلاقة بين الحاج أمين الحسيني والحكم النازي (وتتناسى الصهيونيّة كما تناسى الحاج أمين الذي تلقّى من هتلر سيّارة مصفّحة شاهدتها بأم عيني في مرأب سيّارات في بيروت، أن النازيّة انطوت على نظرة عنصريّة بغيضة للعرب، مع أن هتلر رفع مرتبة العرب في تراتبيّة الكراهية النازيّة العنصرية بعد لقائه مع الحسيني لأنه كان فاتح اللون على غير ما كان هتلر ينتظر). كان خطاب نجاد في نيويورك مناسبة لإعطاء زخم دعائي لبنيامين نتنياهو كي يفتح ملف المحرقة بالصور والوثائق ويكسب عطفاً مجانياً... على عدوان إسرائيل وحروبها، هديّة من نجاد.
هل يشكّك أحمدي نجاد أيضاً بالمحرقة ضد غير اليهود؟ وماذا يرى في نظريّة داروين؟ هل يشاطر ابن باز نظرته إلى القمر وشكل الأرض؟ ولا يعلم نجاد أن إصراره على التشكيك بالمحرقة أو نفيها من أساسها يساعد إسرائيل في حملتها لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي، ويجعلها توازي بين السلاح الإيراني والسلاح النازي في الحرب العالميّة الثانيّة.
لهذا، فإن واجب مناصري القضيّة الفلسطينيّة أن ينتقدوا ليس فقط من هو في معسكر العدو والخصم، بل أيضاً من يعتبر نفسه أو دولته في منطق الدفاع عن الحق الفلسطيني، مثل أحمدي نجاد هذا. من واجب أنصار القضيّة الفلسطينيّة أن يتوجهوا إلى أحمدي نجاد بالتقريع والنقد. إذا كان هو غير قادر على التحدث عن قضيّة فلسطين من دون التشكيك بالمحرقة، حتى لو بأسلوب يظنه هو ذكيّاً، فعلى أنصار القضيّة مطالبته بتركها لأنصارها ولمن يستطيع أن يدافع عنها من دون إسداء خدمات للصهيونيّة.
أما الزعيم (لأن لا صفة رسميّة له، كونه يعيش في حكم الجماهيريّة حيث يمارس الشعب حكم نفسه بنفسه وقلع أظافره بنفسه وكهربة أعضائه التناسليّة بنفسه والضرب المبرّح لنفسه بنفسه ومراقبة بعضه بعضاً) الليبي فقد كان الحدث الهزلي بامتياز (مسموح للإعلام السعودي السخرية من القذافي، وخصوصاً أن أبواق الأمراء تمنع اليوم من السخرية من الرئيس السوري. كله بأمر أميري، ويُحسن المعلّقون اللبنانيّون تلقّي الأوامر وتلبيتها بسرعة). وقد برز في تغطية خطابه في نيويورك أمر مميّز في هذه البلاد: درجة الجهل بالسياسة الخارجيّة في أميركا وصلت إلى حد أن الإعلام والرأي العام سخرا من القذافي وقرّعاه وندّدا بحكمه دون أن يعلما أو يلاحظا أن العقيد أصبح واحداً من حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: أي إن العقيد دخل في نطاق «محور الاعتدال»، وهو خيّر أميركيّاً، فيما يظن الشعب الأميركي أن أميركا لا تزال تعادي القذافي. وكلام العقيد باطل حتى عندما يكون مُحقّاً في نقده للأمم المتحدة أو للولايات المتحدة، مع أنه خاف ذكر اسم الولايات المتحدة عندما تعرّض إلى ماضيها بالنقد.
كما أنه كال من المديح لأوباما ما لم يكله أي رئيس آخر. وما قيمة كلام القذّافي في الحريّة والاستقلال وهو الذي باع ليبيا مقابل اعتراف أميركي بسلالته، وقد أصبح سيف الإسلام والمعتصم سفيرين سريّين لأجهزة الإدارة الأميركيّة؟ لكن كلام القذافي، من الناحية الطبيّة العياديّة، يذكّر بالهذيان حتى لو حمل في بعضه صواباً، مع أن الشيخ محمد علي الجوزو أشاد بكلمة القذافي ووصفها بـ«المرافعة القيّمة»، وهو لم يفعل ذلك استفزازاً لشيعة لبنان لأن المفتي الجوزو أبعد ما يكون عن إثارة الفتنة المذهبيّة والطائفيّة، ولم يكن دوره في خليّة حمد إلا تكريساً لذلك. والحكومة الأميركيّة تعمد دوماً إلى وصف خصومها العرب والمسلمين بـ«الجنون». وهذا الوصف كان جزءاً من الإرث الاستعماري الأوروبي. والجنون هنا يحتاج إلى دراسة مثلما درس ميشيل فوكو «ولادة العيادة»، أي إن الوصيف «الطبي» هو جزء من منظومة السيطرة الاستعماريّة والسلطويّة.
الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (أرشيف ــ رويترز)الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (أرشيف ــ رويترز)كثيرون من الذين عارضوا الاستعمار وُصفوا بـ«الجنون»: من أحمد عرابي إلى جمال عبد الناصر إلى قادة المقاومة الفلسطينيّة. أما الولايات المتحدة فإنها تستعمل الوصف ضد خصومها وأعدائها، من نورييغا إلى القذافي والخميني وعرفات، إلخ. أي إن الجنون هو في معارضة الولايات المتحدة والعقلانيّة هي في الانصياع لإرادتها. وعليه، فإن أنور السادات تحوّل من معتوه يسخر منه حكّام أميركا في السرّ (راجع مذكرات بريجنسكي) إلى عاقل العقلاء عندما ارتمى في أحضان زعماء إسرائيل. وعليه، ملوك وأمراء مشكوك بصحتهم الجسديّة والعقليّة باتوا ذروة العقلانيّة والنباهة مكافأة لهم على طاعتهم للراعي الأميركي كما يسمّيه صائب عريقات. والتشكيك بسلامة العقيد العقليّة كان جزءاً من السياسية الخارجيّة الأميركيّة في الشرق الأوسط، وقد وصفه رونالد ريغان بـ«الكلب المسعور»، كما أن جورج شولتز تمنّى إصابته بمرض «الإيدز». لكن العقيد بات عقلانيّاً ومُحترماً في السياسة الأميركيّة. أي إنه شُفي من الجنون في اللحظة التي أذعن فيها.
الخطاب الأبرز كان طبعاً لمعبود الجماهير العربيّة والإسلاميّة: أوباما. ولولا خشيتي من جرح مشاعر هؤلاء لأخبرتهم كيف أن المرشّح أوباما فعل المستحيل لإقناع الجمهور الأميركي بأن لا علاقة له ولا صلة بالإسلام والمسلمين، ولا تعاطف البتة، كما أنه أخفى عنهم خبر رحلته إلى باكستان والهند عندما كان في الجامعة خشية إثارة قلق وهواجس لم تزل قائمة. لم يستعمل اسمه الثاني (حسين) في حملته الانتخابيّة، فيما يظنّ الإعلام العربي أن أوباما سليل أشراف قريش ويفخر بنسبه. لكن الترحيب العربي والإسلامي (السطحي) بأوباما مفهوم: كان يسود تعطشٌ في أوساط العامّة لأي رجل يأتي بعد بوش، حتى لو كان تشيني. لكن التعويل على بشرة أوباما (والرجل من أقل الرؤساء حديثاً عن عنصريّة البيض) أو على اسمه، هو بمثابة الضرب في الرمل. للرجل طموح سياسي وليس في تاريخه ما ينبئ بتعاطف مع قضايا العرب والمسلمين (وهي غير قضايا الشيوخ والأمراء الشخبوطيين). وهناك من يبدي خيبة خجولة بابتعاد أوباما عن خطاب القاهرة، وهنا الطامة.
خدع أوباما الشعوب العربية والإسلامية لأن هذه كانت في حاجة إلى إقناع أنفسها بأن عهد بوش ولّى إلى غير رجعة: نظرتهم إلى صنع السياسة الخارجيّة محكومة بتجاهل أخذ المُقرّرات والمؤثِّرات المتعدّدة في حسبان التحليل السياسي للسياسة الخارجيّة التي يلعب فيها اللوبي دوراً مهماً ولكن ليس حصريّاً. ينسى المتيّمون بأوباما في العالم العربي أن كل كلام أوباما المُعسّل عن الإسلام وعن إنشاء دولة فلسطينيّة جاء من قبل في خطب لجورج بوش، وبالحرف. الحكم لا يمكن أن يقوم على الكلام المعسول، بل على الأفعال. هل أوقف أوباما الحروب الأميركيّة؟ على العكس. يبدو أنه يُوسّع نطاق الحرب في أفغانستان فيما لا يزال عدد القوات الأميركيّة في العراق يقارب الثلاثمئة ألف (الجنود بالإضافة إلى ما يسمّى «المُتعاقدين» يجب ترجمة كتاب جيريمي سكيهيل عن «بلاك ووتر»). هل أقفل غوانتنامو؟ لا، وقد اعترف وزير الدفاع الأميركي بأن السجن سيبقى في الخدمة إلى ما بعد السنة المقبلة. هل تحيّة «السلام عليكم» من أوباما أو ابتساماته تمثّل انعطافة في السياسة الخارجيّة؟ على العكس، يمكن القول إن عقيدة أوباما أشدّ خطراً من عقيدة بوش لأن كلامه المعسول وابتساماته تُنسي البعض أن قنابله لا تزال تنهمر، وأن التعصّب الأميركي لإسرائيل وحروبها لم ينقص درجة واحدة.

أوباما أشدّ خطراً من بوش لأنَّ كلامه المعسول يُنسي البعض أن قنابله لا تزال تنهمر

يمكن تأريخ موت الأمم المتحدة عام 1991 عندما رضخت الجمعية العمومية للأمم المتحدة لمشيئة الإمبراطوريّة المُنتشية آنذاك. قرّرت أميركا بإصرار من الكونغرس (وبمبادرة من السناتور باتريك مونيهان الذي عمل سفيراً لبلاده في الأمم المتحدة عندما أصدرت قرار «الصهيونيّة هي العنصريّة» في عام 1975 وبموافقة 72 دولة) على مراجعة قرار ذم الصهيونيّة. وكان للولايات المتحدة ما أرادت. وقرار الرجوع عن القرار حاز 111 صوتاً. رسمت أميركا حدود المسموح به في حقبة السيادة الأميركيّة شبه المطلقة بعد انتهاء الحرب الباردة. أفرغت الجمعيّة العمومية من أي قوة، وتحوّل ليس فقط القرار بل المنبر إلى مجلس الأمن الذي عبّر عن ميزان قوى مختلف تماماً. كانت الجمعيّة العمومية، وبدرجة أقل مجلس الأمن، تعبيراً عن تطلعات شعوب العالم النامي أثناء الحرب الباردة، وكانت كتلة عدم الانحياز ــــ وهي غير كتلة «كسّارات فتوش بالقلب» أو كتلة ميشال المرّ ذات العضو الواحد ــــ يُحسب لها حساب.
أصبحت الأمم المتحدة باعتراف جورج بوش الأب في كتابه «عالم متغيّر» مجرّد وسيلة لخدمة أهداف الإمبراطوريّة الأميركيّة، تستخدمها حيناً وتتجاهلها كليّاً حيناً آخر. وبالنظر إلى الاستهتار بالأمم المتحدة في الحرب على العراق، نرى أن الأمم المتحدة عادت (بحماسة من الأخضر الإبراهيمي وغسان سلامة) إلى العراق بعدما أمعنت فيه إفقاراً وحصاراً وتجويعاً من خلال «النفط مقابل الغذاء» الظالم لتخدم الاحتلال وتساعده في نشر سلطانه. لكن تفجير مقرّ الأمم المتحدة في بغداد غيّر الحسابات، مع أن الأمم المتحدة في أفغانستان، وبإشراف خادم الإدارات الأميركيّة المطيع، الأخضر الإبراهيمي، لا تزال تحاول ما تستطيع لتوطيد دعائم الاحتلال الأميركي. وهي التي غطّت غزو أفغانستان الثأري.
قد يكون الحل العودة إلى عصبة الأمم التي لم تكن تضم في صفوف أعضائها الولايات المتحدة، لكن الأمم المتحدة تحتاج إلى دعم الولايات المتحدة المالي التي تصرّ على السيطرة الكليّة على مقدّرات المنظمة الدوليّة. أذكر عندما كنت أزور عام 1993 بول هير (نائب سابق لمساعد وزير الخارجيّة لشؤون الشرق الأدنى، وابن الدبلوماسي ريمون هير الذي عمل سفيراً في بيروت في الخمسينيات ثم خدم في مصر إبّان الحقبة الناصريّة وأحبّ عبد الناصر) في مكتبه بمؤسّسة الشرق الأوسط في واشنطن حيث كنت باحثاً مقيماً، دقّ جرس الهاتف. تحدّث لبضع دقائق، ثم نظر إليّ مستغرباً. قال: أتدري أنني عُيِّنت للتوّ في منصب ممثّل الأمين العام للأمم المتحدة في أنغولا، والذي هاتفني هو مسؤول في وزارة الخارجيّة الأميركيّة؟ قلت: يعني صدر تعيينك كممثل للأمين العام من دون علم الأمين العام؟ قال ضاحكاً: لا، سيتلقّى الخبر بعد قليل. الولايات المتحدّة هي التي تقرِّر السياسات والتعيينات وسبل الإنفاق والتدقيق المالي (وكأن الموازنة الأميركيّة العسكريّة لا تعاني إهداراً بالمليارات). بطرس غالي تحدّث بصراحة في الجزء الأول من مذكراته عن تجربته مع سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، مادلين أولبرايت، عندما صارحها مبكِّراً بأنه قد يضطرّ في منصبه الجديد لإصدار نقد غير عنيف لسياسات أميركا. توقّفت عن التحدّث إليه وبدأت مشاكله التي لم تنته، مع أنه كان من الساداتيّين المطيعين (ينسى بطرس غالي أن البعض لا يزال يتذكّر كتاباته الاشتراكيّة في الحقبة الناصريّة).
وهذه هي معضلة الأمم المتحدة اليوم: كيف تستطيع أن تخلق أو أن تطوّر منظمة دوليّة لتعكس العلاقات الديموقراطيّة بين الدول على أساس الاحترام المتبادل والإنسانيّة، فيما العلاقات الدوليّة قائمة على لغة القوّة («الفائقة» كما وصفها الوزير الفرنسي السابق، هوبير فيدرين في كتابه «فرنسا في عصر العولمة»). وحتى من ينصحون بين علماء السياسة، مثل جوزيف ناي، باللجوء إلى «القوة الليّنة» فإنهم لا يطالبون بنبذ القوة في سياسة أميركا الخارجيّة في المطلق. لكن عصر السيطرة الأحاديّة لا بدّ أن ينعكس على عمل الأمم المتحدة. أي إن التغيير في العلاقات الدوليّة لا بدّ أن ينعكس على الأمم المتحدة، وخصوصاً إذا قلّ تفرّد الولايات المتحدة بالقرارات الدوليّة. وفي انتظار ذلك، من الضروري رفض الشرعيّة الدوليّة متى تضاربت مصالحها مع مصالحنا: لأن «الشرعيّة الدولية» (أي الكساء الذي لا يستر المشيئة الأميركيّة ويروِّج لها على أنها إجماع دولي) تعبير عن مصالح تهدف إلى خدمة إسرائيل والسيطرة على العرب، سياسيّاً واقتصاديّاً. أي إن الشرعيّة الدوليّة لا تختلف اليوم عن شرعيّة عصبة الأمم التي فرضت وعد بلفور (وأدخلته في فذلكة مشروع العصبة) وباعتنا ما سمّته «الانتداب» ــــ اسم غير مهذب للاستعمار، وهو على أنواع ــــ والإصرار على المصالح الوطنيّة حتى لو تعارضت مع ما يُسمّى ظرفيّاً «الشرعيّة الدوليّة» (وهذا التعبير الدعائي لا يُستعمل في لغات المُستعمر الذي يستعيض عنها بعبارة «المُجتمع الدولي») هو الدرس البليغ الذي لجأت إليه دولة العدوّ، وبنجاح كبير. أصرّت إسرائيل لعقود على تجاهل القرارات الدوليّة حتى تيسّر لها التمتّع بعهد السيطرة الأميركيّة الكليّة. أي أمامنا عقود من التجاهل والرفض والإصرار والعزم، إلى أن تتغيّر بنية العلاقات الدوليّة، وعندها يمكن أن نطالب من جديد بتصويت للمرّة الثالثة على التوالي على قرار «الصهيونيّة هي عنصريّة» هذا إذا كانت إسرائيل باقية إلى حينه. عندما صدّر قرار «الصهيونيّة هي العنصريّة» للمرّة الأولى، قام المندوب الإسرائيلي، حاييم هرتزوغ، بتمزيقه أمام الجمع الدولي. فلنبدأ بالتمزيق، بدءاً بـ242 وصولاً إلى 1701.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)


عدد السبت ٣ تشرين الأول ٢٠٠٩

المواطنة والاستبداد في مواجهة الأزمة العالمية

05/10/2009


لن يكون الأمر تهويلياً خالصاً إن اعترفنا بالتفكك، أو التخلع أو الانفراط الذي يهِّدد الخارطة القطرية للواقع الدولاني العربي الراهن. فالنهضة الثانية المحكومة فلسفياً بالتقدم المتوازن بين مختلف عواملها الموضوعية، وخاصة منها السياسة والاقتصاد والثقافة، خسرت واقعياً، وعلى أرض التطور الحدثي العام، معركة التقدم السياسي الذي هو مفتاح الحركية النهضوية الشاملة.
تراكم الهزائم العسكرية أَفْقدَ السياسة العربية شرعيتها الانسانية، وليس الحقوقية فقط. وهكذا تحملت الدولة القطرية ما فوق طاقتها بعد أن تجردت من الغطاء القومي الذي كان يمنحها بعض الثقة من مجتمعها، باعتبارها مرحلية، سائرة على طريق الاستقلال القومي، ولا فكاك من ضرورتها، بشرط قيامها بأعباء هذا الاستحقاق المطلوب والمنتظر منها. ولكن عجز الكيان القطري عن تحقيق هذا الشرط البنيوي جعله مهدداً بالانفراط، والتقهقر إلى أهلويات ما قبل الدولة. لقد كان للنهضة أن تنعم بانضمام أكثر من عشرين كيان دولاني إلى ركب فعالياتها التاريخية، فيما لو لم تتحول الخارطة القطرية إلى مساحة صحراوية من السدود الخرسانية قبالة بعضها. فقد قُضي على كل قطر أن يقوم بمهمات النهضة الكلية لوحده، وبأقل إمكانيات الجزء المفرد من الكل الأعظم. فكانت المحصّلة مذهلة في نتائجها البائسة، بحيث لم يعد ثمة حديث عن 'النهضة' بقدر ما هو حديث الكارثة المطلقة التي تعمُّ الجميع. حتى أغنياء الوطن العربي أصبحوا من أيتام الأزمة العالمية. ليس ثمة كلام عن نهضة الفقراء. فهؤلاء إن لم يحصلوا على الحدود الدنيا لمعيشة الإنسان العادي، لن تعني لهم شيئاً نداءات المعاني المجردة. فالقهر المعيشي هو أبشع إذلال للروح الإنسانية المفتقرة في جسدها الجائع والمريض والمحروم، إلى أبسط حقوقه المادية حتى يتذكر حقّه المسلوب في الكرامة قبل التطلع إلى حقه في الحضارة.
هزائم السياسة أثمان باهظة تدفعها النهضة على أثر انكسارات السيادة الوطنية والشعبية بفعل الحروب الفاشلة مع العدو الإقليمي والداخلي، ثم الأجنبي الاستعماري المباشر؛فبعد تلك المعارك الخائبة بين الجيوش التي تنقلب إلى حروب أهلية وأشباهها المفكِّكة للكيانات القطرية تبدو 'الدولة' أخيراً هي العدو المشترك للأهلويات الغريزية المتخاصمة. فالنهضة العاجزة عن تنمية الاستقلال الوطني إلى التكامل المجتمعي القومي، تقف مهزومة مجدداً إزاء حركة تقهقر المجتمع القطري، إلى عصر مماليك الأقلويات من كل نوع إثني أو جهوي أو مذهبي. فليس هناك مجتمعٌ تجانسي كلياً في أية دولة عصرية. وقد اخترعت المدنية فلسفة المواطَنة التي تستبدل الكيان الغريزي الموروث للجماعات بالكيان الثقافي الحقوقي. لكن بين النموذجين هذين يجري تاريخ هائل من التصفيات الحدية التي يفخر الغرب وحده بإنجازها تحت طائلة عصر التنوير، الذي يصير رائداً لكل عبْر تلاه وذلك عبْر سيرورة الحداثة المستديمة. ومع ذلك فإن هذا الغرب نفسه يضطر للاعتراف بأنه لم ينجز عصر التصفيات الحدية تماماّ بعد، لم يواجه ربما تحديه الأكبر الذي أصبح يهدد مستقبل تجربته المدنية كلياً، بدءاً من اهتزاز نظامه الحياتي، كلياً.
هذه العاصفة الاقتصادية لن يتوقف تماديها عند انفجار الأزمة الاجتماعية الأخطر، بل إنها سائرة نحو إعادة طْرحٍ للصميم من كينونة المدنية الغربية عينها، كما تتداولها وسائل التربية العمومية السائدة حول تنميط نموذج معين عن الشخصية المفهومية التي تعزوها ثقافة الغرب لذاتها، كضمان لتفرده وهيمنته على التاريخ الإنساني المعاصر. فالغرب كعادته لا يفتخر بدلالات تقدمه الإيجابي وحده، بل يحتفل كذلك بكوارثه الكبرى المتواترة معها. ذلك هو الفارق النوعي الذي لا يزال يميز الغرب في فهم الكارثة وطريقة استقبالها، ومن ثَمَّ التعامل معها؛ ويفرّقه في ذلك عن سواه.. عن الأسلوب العربي الحافل ليس بالكوارث وحدها، ولكن بأسوأ فهم لها وتدبّر معاً؛ فالفكر الغربي اعتاد أن ينذر مجتمعاته، من منعطف حضاري إلى آخر، بأشباح الأفول.لكنه في الحالة الراهنة من معاناة حقائق الأفول وليس أشباحها، لا يلجأ إلى آليات التمويه، بانتقاله من إيديولوجيا مستهلكة، إلى أخرى جديدة مبهرة؛ إنه يواجه مسألة (الآخرية) من خلال الاعتراف بواقعيتها المباشرة، كما راحت تتبدى بصعود قارة آسيا إلى ذروة الاقتصاد العالمي. ما يدفع الغرب إلى انتظار الترجمة السياسية المحتومة لقوة إنتاجية ومالية هائلة، أصبحت خارج دورة هذا الاقتصاد العالمي التقليدي، وبالتالي لا سيطرة غربية أحادية على متغيراته، منذ الآن.
لا ننسى أن الغرب هو غَرْبان، أوروبي وأمريكي. قد تجمعهما مصالح تاريخية وحيوية متأصلة، ولكنهما متمايزان عن بعضهما، خاصة في نطاق المفاهيم الكلية والمثل العليا، ما يجعل لكل منهما ثمة استراتيجيا حضارية مستقلة، يحرص الغرب الأوروبي على إثبات فوارقها الفكرية والإنسانية عن توأمتها الأمريكية، تحديداً في منعرجات الأزمات المصيرية، التي تواجههما معاً. ورغم ذلك يبقى لكل منهما تقاليده الخاصة في التحليل والمعالجة. ليس هنا مجال التطرق إلى تفاصيلها. لكننا نستحضر هذه الخلفية التي لا بد منها لتأخذ مكانها من عمق اللوحة الراهنة لأهم أزمة تكوينية ذاتية ربما، تداهم الغرب المعاصر منذ الحرب العالمية الثانية. يبدأ الافتراق (الثقافي) بين ضفتي الأطلسي من هذه الأطروحة البسيطة التالية: الأوروبي لا يرى أن العمل (الربح) هو غاية الحياة، بينما يقضي الأمريكي حياته جرياً وراء عمله. من هنا ينطلق التباين في النظرة إلى الاقتصاد. فالأزمة تطرح بحدة مسألة القيادة بين المجتمع والاقتصاد. والأوروبي العادي يجد في عواقب الأزمة دليلاً مادياً على صحة رأيه في ضرورة انقياد الاقتصاد للمجتمع، وليس العكس. ذلك أن حفنة صغيرة من مدراء البنوك الأمريكية الكبرى وحواشيهم من المضاربين، استطاعت أن تسيّر اقتصاد العالم كله لمصلحة جيوبها. فهي التي أحدثت كل أسباب الأزمة، وهي التي لا تزال تفيد من مضاعفاتها. وقد يعود إليها كذلك الأمر بتوقيفها في الموعد الذي تختاره مصالحها عينها. يقول الفكر الأوروبي في اللحظة الحرجة الحالية من الصراع حول الحلول الجذرية بين ضفتي الأطلسي، أن الرأسمالية كنظام اقتصادي محض هي الآيلة إلى نهايتها. فالأزمة ليست مرحلية. لا يمكن تبرئة الرأسمالية من مرحلتها السابقة الموصوفة بالوحشية. لن تستطيع هذه المرة أن تتجاوزها إلا إذا تجاوزت ذاتها. ما يسمى بالاقتصاد الافتراضي القائم في صلبه على فن الخديعة للذات وللآخر في وقت واحد، لم يكن مجرد انحراف طارئ للاقتصاد الأصلي عن هويته الانتاجية، كان أعلى ذروة للرأسمالية بكل مكوناتها ومراحلها. وسقوطه أخيراً ليس سوى سقوط الرأسمالية عينها. تلك هي الواقعة المرَّة التي يُراد للعالم أن يتهرب من الاعتراف بها، وأن يتوهم انطلاقة جديدة بعدها مما صار يُصطلح عليه بصفة الانكماش، وليس حتى بصفة الركود. وكلها تعابير أيديولوجية عفت عليها عقابيل الأزمة، المستدامة بإنتاج كوارثها المالية والاجتماعية المتناسلة من بعضها؛ وهي المستديمة كذلك بإرادة المنتفعين بكوارثها، كقوى استثمار جديد.
ثمة فكر ٌغربيٌّ، صار يزعم أنه ليس يمينياً ولا يسارياً، يدعو إلى وضع الرأسمالية تحت طائلة الأخلاق. فهو لا يرى الاقتصاد إلا رأسمالياً، لكنه قد يقبل توأمته مع الاجتماع. هذه الدعوى، بصرف النظر عن البراهين معها أو ضدها، تتقدم اليوم تداول الحلول المقترحة ما بين ضفتي الأطلسي. لعلها تنشئ جسراً مفهومياً جديداً للنزعة الإصلاحية التي يثشبت بها الغرب مجتمعاً، كاختيار ثالث ما بين خياريْ الليبرالية المتطرفة، والثورية الاشتراكية. لكن أحداً من دعاة هذه الاصلاحية، لا يعثر على القوى السياسية المؤهلة للنهوض بأعبائها. فقد تخطت الأزمة أطروحات أحزاب اليمين واليسار الأوروبية. بل ربما راحت مجتمعاتها تجنح نحو أحزاب اليمين، وتتخلى عن أحزاب الخط الأوروبي الموصوف بالديمقراطي الاشتراكي كما حدث لانتخابات ألمانيا الأخيرة التي أسقطت صيغة تحالف الحكم بين كل من الحزبين الديمقراطي المسيحي، والديمقراطي الاشتراكي، بخسارة هذا الثاني لأصوات شعبيته السابقة. ويفسِّر البعض هذا الجنوح الشعبي نحو اليمين التقليدي، بالرغم من أزمة نظامه الرأسمالي، بالخوف من استعادة أوروبا لمرحلة الأيديولوجيات الشعبوية المتصاعدة ما بين الحربين العالميتين، على أثر الانهيار الأعظم (1929) لرأسمالية القرن التاسع عشر وامتدادها حتى عشرينيات القرن العشرين، كأنما اليمين الأوروبي المعاصر هو المنوط به وحده إصلاحُ رأسماليته، باستردادها تحت جناح أخلاقيته التقليدية المزعومة. من السهل القول أن دول الغرب الأوروبي لم تنجرف نحو سياسة السوق و الادعاء باستقلالية حركيته التلقائية. فلم يخرج اقتصاد السوق من تحت كنف الدولة الأوروبية أبداً، حتى في عز السيطرة شبه الكاملة لعولمة النيوليبرالية. هذا الوضع التاريخي المتأصل أعطى ثمة حماية تلقائية للمجتمع من مؤثرات الأزمة العالمية التي ضربت اقتصاد أمريكا، ولا تزال فاعلة مدمرة في بنية مجتمعها. قلنا في بداية هذا الحديث أن من تقاليد العقلانية الأوروبية أنها مثلما تحتفل بانتصارات مدنيتها، كذلك لا تُقعدها مآزق هذه المدنية عن اجتراح حلولها، بدءاً من تغيير نظامها المعرفي نفسه، الذي يتيح لها ابتكار منهجيات جديدة، مختلفة في فهم ومعالجة اختلاف المأزق الراهن المداهم. ذلك هو الفارق النوعي بين نموذجيْ الاجتماع التحرري والاستبدادي، الذي تنضح ظواهره أكثر خاصة في أوقات الأزمات، وتحت وطأة اتخاذ القرارات المصيرية. فأوروبا مدعوة من قبل أهم مفكريها إلى إعادة النظر جملة وتفصيلاً في نظام رأسماليتها. ولا سبيل لها في ذلك إلا تعزيز اتحادها الذي كادت تطيح به عواصف النيوليبرالية المتدافعة نحوها من ما وراء الأطلسي. هناك نزوع قوي إلى اعطاء هذا الاتحاد شكله السياسي المؤجّل دائماً خلال الظروف السابقة. فالقارة محتاجة أكثر من أي وقت مضى إلى شكل الدولة الاتحادية الكبرى، ودورها الرئيسي المطلوب في خضم التنافسات العالمية التي أخلَّت بالتوازنات الدولية السابقة، مع بروز صيغة التعددية في المراكز الإنتاجية العظمى التي سلبت الغرب مركزيته الأحادية، وحرمته من كل مزايا تفرّده الصناعي في الكم والكيف معاً.
في حين أن كوارث القارة العربية والاسلامية لا تزيدها إلا تفككاً، وانفراطاً لروابطها الجامعة. فالقطريات العربية لن تصمد طويلاً مع المزيد من انكشاف بناها الهشّة التي تعصف بها الأزمة العالمية، دونما أية مناعة أو حماية توفرها لها أجهزة الدولة القطرية المتهافتة والمتخلفة عن كل شيء، أصلاً، له صلة ما بدفاعات الدولة الحديثة عن كيانها وشعبها.
القطريات صائرة حتماً إلى فقاقيع فئوية. فليس ثمة كيان عربي أو إسلامي واحد إلا وهو مهدد بتخلّع مكوناته عن بعضها. فبعد انسداد مختلف التجارب الاصلاحية للمحافظة على الدولة المركزية، وإمدادها ببعض المشروعيات الشعبية المؤيدة لسيادتها، ينجلي الفشل الإصلاحي عن انحسار المركزية المشروعية للدولة إلى مجرد مركزية الفئة المسيطرة على السلطة. ما يدفع بقية الجسم الاجتماعي إلى الاستنجاد بمركزياته الفرعية، بالقبيلة والعشيرة، بالطائفة والمذهب، بالعِرق والجغرافية.
مجتمع المواطنة الحرة تدفعه الأزمات إلى اجتراح أنظمة الوحدة الأعظم لإنسانيته. مجتمع الفقاعة الاستبدادية المتمركزة، يتحول إلى مستنقع من الفقاقيع الفئوية المنتفخة، بانتظار لحظات انفجار فراغاتها المسمومة ضد بعضها.

' مفكر عربي مقيم في باريس

بــانـــــغ بــانـــــغ بــانــــــغ... وســقــطــــت الــنـــــازيــة!

كوانتن تارانتينو منتقماً من تاريخ ينزلق على قشرة موز

بــانـــــغ بــانـــــغ بــانــــــغ... وســقــطــــت الــنـــــازيــة!

سفلة مجهولون قبالة كاميرا تارانتينو.
ما كان يمكن أن يكون استعادة مجنونة لأفلام حربية عدة من المكتبة السينمائية الشخصية لكوانتن تارانتينو، اصبح في رعاية المخرج السينيفيلي فيلماً انتقامياً آخر على خلفية حرب عالمية ثانية ومحرقة ورجال أشرار و"سلسلة باء" بموازنة عالية. بيد أن بيل يُستبدل بأدولف، والسيارة المحصنة ضد الموت يحلّ مكانها الصليب المعكوف للجزار الالماني الشهير. كان غودار يقول انه لا يحتاج الى أكثر من امرأة وفي يدها مسدس لصنع فيلم. تارانتينو يحتاج الى أقل من هذا. الشرّ المطلق الذي يجسده الفوهرر يكفيه لحبك رواية خيالية من حوله. الأهم من هذا كله في هذا البرنامج الهزلي الذي يطول قرابة ثلاث ساعات هو الانتقام من التاريخ الذي ينزلق على قشرة موز مثيراً القهقهات العبثية في أرجاء الصالة. كتاب التاريخ الكبير يتصفحه أميركي من الطبقة الوسطى على سجيته ويتمنى لو يعيد كتابته. المشروع عبارة عن فانتاسمات لسينمائي زنديق لا يؤمن بشيء. انه ابن جيل كان مراهقاً عندما دخل الفيديو المنازل في آواخر السبعينات من القرن الفائت. كانت الأفكار الكبيرة بدأت تتهاوى واحدة تلو الاخرى في غياب البديل. السينما التي تربّى على قيمها في تلك الحقبة هي، أيضاً وأيضاً، اساس هذا الفيلم، لبّه، جسده ووعيه.
طبعاً تارانتينو، وقبله روبيرتو بينيني (في "الحياة حلوة") مشروطان بألا ينسيا ان الفصول الدموية للمرحلة النازية هي، في خاتمة الأمر، أكثر فظاعة مما نراه، اذ يذكّراننا مع كل انعطافة جديدة بأنه ما دام يستحيل تجسيد بعض الأشياء، فالأفضل أن نتخيل شيئاً قريباً لها. هذه مسألة أخلاقية لا تتحمل المناقشة. في فانتازيا كهذه، لا شي أكثر طبيعية من أن نخدّر عاطفتنا ونمشي في اللعبة حتى الأخير، نضحك منها وعليها، اذ هناك خلف الكاميرا من يمسك بكل مفاصلها واحتمالاتها. ليني رييفنشتال، المخرجة المناصرة لقضية الرايخ الثالث، هل هي أكثر تأثيراً في الزمن من هنري جورج كلوزو، السينمائي المقاوم للنازية الذي قبض المال من الالمان لصنع فيلمه "الغراب" ثم دان فيه احتلال بلاده؟ ها ان ردّ تارانتينو على هذا الهمّ المعلن والحاضر في ذهن الشريط، يصلنا عبر فيلم ينقلب على العنف بالسخرية والازدراء، بخفة دم قريبة الى اسلوب... دعونا نقول الى اسلوب لا أحد. لا شيء يعز على تارانتينو اكثر من تلميع صورة السينما، أكانت عميلة أم حليفة أم عدوة. تارانتينو كعادته مخلص لتقنياته في الهزء. هو دائماً في حاجة الى شخصيات يخيّل اليها أن اللجوء الى العنف أفضل الحلول. لكن هذا اللجوء لا يزيدها إلاّ بلاهة وغباء في عيون الآخرين. وما "سفلة مجهولون" الا تأكيد لتأكيد، خطاب جديد على خطاب قديم، تأثير فوق تأثير، وأحياناً تأثيرات متضاربة.


في البداية هناك رجل وأفراد عائلة يقيمون على تلة في قرية ابان الاحتلال النازي لفرنسا. لا يذكّرنا مشهد الافتتاحية هذا بأفلام الوسترن سباغيتي، اذ لا اشارة مباشرة منها واليها، لكن اذا اصررنا ان نراه من ذلك المنظار، فيمتزج حينذاك الاستيهام السينيفيلي بالواقع، ونبدأ برؤية أشباح وظلال من أفلام أخرى في كل وحدة تصويرية. انها مسألة ارادة ورغبة. الامتحان الاسلوبي يبدأ منذ اللقطة الاولى. لا يحتاج تارانتينو الى أكثر من بضع ثوان ليُمِرّ لنا السر الذي يتأسس عليه الفيلم برمته: نحن في كوكب سينمائي متكامل لا نحتاج فيه الى الواقع. هذا الواقع هو ليُستلهَم لا ليكون ديكتاتوراً على مخيلة فنان. أفلام تارانتينو كانت دائماً نموذجاً في قراءة الدال والمدلول في لغة السينما، لشدة زحمة المراجع والاستنادات والغمزات التي تتيه فيها السيرورة الدرامية. لكن في لقطة الافتتاحية، وهي بالتأكيد الأغرب في مساره، ثمة محاكاة حتى للمحاكاة. انها محاكاة فوق محاكاة ممتلئة بغمزات سينيفيلية مزروعة في كل مكان وفي اللامكان، والبصيرة لا تملك الوقت الكافي لالتقاطها واستيعابها، نتيجة الاشياء الكثيرة التي تحدث هنا وهناك.
في اولى هذه اللقطات اذاً، هناك غريب يأتي ليعكر صفاء عيش إحدى العائلات (في هذا الباب ربما نعثر على الاستعانة بأبجدية الوسترن). انه الكولونيل النازي هانس لاندا (كريستوف والتز، جائزة التمثيل عن جدارة في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ) المعروف لكونه صياداً ذائع الصيت لليهود. هوذا نموذج للكولونيل الشرير والسادي الذي، بعد 20 دقيقة من حوار متكلف وغريب بينه وبين رب عائلة فرنسي يخفي يهوداً في قبو منزله، يكتشف أخيراً اين يختبئ هؤلاء، فيأمر رجاله بقتلهم، فنراهم يرمونهم بالرصاص من خلف أرضية المنزل الخشبية. لا يرفّ له جفن، طبعاً لأنه نازي وخسيس! لكن ما يحصل في تلك اللحظة، وهذا ما يتيح للفيلم أن يكون، هو افلات فتاة من المجزرة الجماعية، لنراها اصبحت، بعد اختزال زمني، صاحبة سينما في احد الاحياء الباريسية.
لن ندخل في تفاصيل الحكاية لئلا نفسد عامل المفاجأة لدى المشاهد المحتمل، لكن القارئ الحذق يستطيع أن يكتشف أن لدى هذه الفتاة الفرنسية اليهودية التي تدعى شوشانا (ميلاني لوران)، صاحبة الصالة التي تعرض فيها مضطرة أفلاماً تغازل النازية (رييفينشتال نموذجاً، ولكن ليست وحدها)، رغبة جامحة في الانتقام من قتلة عائلتها. مذذاك ستتوافر امامها كل الظروف العبثية لتحقيق هذا الانتقام، ولا سيما عندما تدخل على الخطّ زمرة السفلة المجهولين (أميركيون يهود) الذين يأتون الى فرنسا ليقتلعوا فروات رؤوس النازيين، مستخدمين أساليب قتل أعنف بكثير من اساليب أعدائهم (الغمزة السياسية الجميلة لتارانتينو الى الحاضر)، الشيء الذي يتيح تصعيد حدّة العنف الى حدّ تحولها كارتونية في أماكن عدة، ولا سيما في الثلث الأخير من الفيلم.
هؤلاء اللقطاء (هكذا يدعوهم عنوان الفيلم الذي ينطوي على خطأ املائي مقصود، Basterds بدلاً من Bastards) الذين يتأكلهم احساس الضغينة والحقد، يترأسهم الضابط المخبول والغريب الأطوار الدو راين (براد بيت في دور هجين ولكنة ظريفة جداً). هؤلاء يقررون الانضمام الى ممثلة المانية اسمها بريدجيت فون هامرسمارك (ديان كروغير) وخصوصاً عندما يعلمون أن ثمة فيلماً بروباغانديا مستوحى من "بطولات" جندي نازي شجاع قتل وحده المئات، يغازل بدوره شوشانا، وأن هذا الفيلم سيُعرض في حفل تمهيدي في حضور أدولف هتلر (نعم هو!) وجوزف غوبلز وحشد من النازيين، مما يشكل مناسبة لا تفوّت لتصفيتهم. لكن ليس وحدهم السفلة من سيستغل هذه المناسبة التي ستشكل قمة الفيلم، لكونها ستجري داخل ظروف استثنائية تعجب خاطر تارانتينو وتعكس رؤيته لسلاح السينما الهدامة. وطبعاً تشبيه السينما بسلاح هو فكرة فضفاضة قائمة على المبالغة، اذ ان الفنّ لا يستطيع شيئاً أمام النار والرصاص. لكنها فكرة رومنطيقية يطلق من خلالها تارانتينو عنان مخيلته. وحسناً يفعل.
اذاً كل شيء معدّ سينمائياً: عملية تصفية هتلر تحمل اسم "كينو"، أي "سينما". مكان المجزرة هو صالة مظلمة. العميلة المزدوجة التي لها يد في انزال العقاب بالديكتاتور، هي ممثلة. الاداة التي ستستخدم في قتلهم هي بكرات أفلام سريعة الاشتعال. هذا كله يشعل عند تارانتينو، أولاً، رغبة لا تضاهى بالتسلية والتهكم، ويتيح له ثانياً، أن يرتّب لنفسه مكانة خاصة وسط هذه المعمعة التاريخية ومناقشة دوره فيها. غني عن القول أن الإقفال على نخبة من نازيين مبتهجين بمشاهدة فيلم يمجد انتصاراتهم في داخل صالة، وحرقهم، عملية كيدية ستتيح لتارانتينو أن يحلّق بنصه عالياً. العنف هو مفتاح العبقرية عند هذا المخرج، وهو كذلك عند بكينباه.
هذا الفصل من الفيلم الذي يعبره تارانتينو كجندي يعبر حقل ألغام لكن من دون أن يضع رجله على أيٍّ منها، ممسوك بقبضة حديد، إخراجاً وتوتراً مؤسلباً. صوت الرصاص المرافق للفيلم التمجيدي المعروض على الشاشة، لا يسكت: بانغ بانغ بانغ، بانغ بانغ بانغ، بانغ بانغ بانغ! الكونتراست اللعين يحضر من حيث لا نتوقعه، أي على يد الجندي النازي الذي تحولت أفعاله فيلماً. فعندما يترك الفيلم ويصعد الى غرفة الـ"بروجيكسيون" ليعلن ولعه بشوشانا، هي اليهودية، نرى من الجانب الآخر للزجاجة الفاصلة، تجسيده السينمائي مواصلاً قتل اليهود، فيما تتابع اصداء البانغ بانغ بانغ على الشاشة.


تارانتينو، مخرج نسائي الى الآن، يضع المرأة المصرة دائماً على ان تكون الاشياء على قاعدة العين بالعين والسن بالسن، أمام التضحية الكبرى والخيار الأصعب: الموت في سبيل الذاكرة. لكن شوشانا هي يهودية بالمصادفة. وما تقوله عن انتقامها الذي سيسكن ضمير العالم وضمير السينما، ليس سوى مزحة ولا يمكن تحميله معاني كبيرة. السبب بسيط: تارانتينو تعرّف الى الانتقام قبل أن يعرف شوشانا! لكن دعونا لا نغفل عن حقيقة أخرى. تارانتينو، وبأقل قدر من المعاداة للسامية، يقول إن السينما المتهمة دائماً بانحيازها الى اليهود (لأن نخبة صنّاعها هم يهود)، هي وحدها السينما التي تغيّر المعادلة. هل من معارض؟
على مستوى الشكل المعتمد، يبقى تارانتينو مخلصاً لثلاثة محاور على الاقل في هذا الفيلم حيث الكل يحكي لغته ولغة الآخر، وهي: حاجته الدائمة الى تحويل العالم شاشة مستطيلة اذ لا شيء خارجها له القيمة نفسها مما لو كان داخلها؛ الفيتيشية المرضية التي تتجسد بقدم الممثلة الالمانية التي اصيبت بالرصاص خلال المشهد الحواري المديد في المخمرة والذي ينتهي بجولة بانغ بانغ بانغ أخرى؛ اللجوء الدائم الى الحوار الموتور كبلورة درامية. مع ذلك كله، لنكن واقعيين. الخطاب لا أخلاقي ولا تربوي ولا ادانة للنازية او اعادة اعتبار الى ضحايا المحرقة، وان مَن يقف خلف الانتاج هو هارفي واينستين، اليهودي الأصل. المسألة هنا محض سينمائية. القضية الوحيدة في الفيلم هي السينما. صورة هتلر الكاريكاتورية تأتي من "الديكتاتور العظيم" (1940) لشابلن أكثر مما تستند الى أرشيف التلفزيون. وهذا ليس بجديد عند صاحب "جاكي براون". مَن يعتقد ان تارانتينو يأبه كثيراً لليهود ومصابهم، وللنازيين وشرّهم المطلق والبدائي، فليشاهد الفيلم مرة واثنتين وثلاثاً، الى أن يكتشف في الخاتمة ان الرجل ذو عقلية سينيفيلية ضيقة ومتعصبة، لكن خلاقة ومخربة، وان لا همّ عنده يعلو فوق همّ الفن السابع الذي انقذه من براثن الحياة الخانقة وشرورها، مثلما ابعده من الالتزامات الانسانية والاخلاقية التي لا دخل له فيها، طالما لا تراقَب من خلال بؤرة، بؤرة الكاميرا.
تارانتينو فقد الأمل بالانسانية الرعناء، لكنه لا يزال قادراً على جعل شرورها فعلاً كاريكاتورياً مبدعاً الى ابد الأبدين. هذه سينما "ماذا لو"، قائمة على الحوار الذي يعيد موضعة بعض المفاهيم، وقائمة أيضاً على الثرثرة الخلاقة واللقيات، اذ لا عجب أن نسمع في نهاية الفيلم وعلى لسان براد بيت عبارة "اعتقد ان هذه هي تحفتي الفنية"، بعد أن يكون قد حفر صليباً معكوفاً، من دم ولحم، على جبين الكولونيل النازي، قبل استرداده الى أميركا. هنا ثمة تماهٍ بين المخرج وبطله الدموي الضاحك. يختلفان في كل شي بدءاً من فاشية الاسلوب حتى الرعونة في تطبيقه، لكن يتفقان على تحويل الجريمة مادة، وليس أي مادة، بل مادة يُحتفى بها. معروف عن الدمّ انه يفسد معنى الأحلام. بينما في سينما تارانتينو (كما أيضاً لدى سكورسيزي) ما إن ينزف أحدهم حتى يتحرر الفيلم!



Inglorious Basterds ـــ يُعرض في "غراند سينما ـــ أ ب ث، كونكورد، لاس ساليناس".

هوفيك حبشيان
( hauvick.habechian@annahar.com.lb)

السبت، ٣ تشرين الأول ٢٠٠٩

من وقائع التاريخ غير الصحيح للحرب العالميّة الثانية

من وقائع التاريخ غير الصحيح للحرب العالميّة الثانية

المستقبل - الاحد 27 أيلول 2009 - العدد 3435 - نوافذ - صفحة 9


حسن داود

مُشاهد الفقرات الإعلانيّة عن فيلم inglorious bastards يُفاجأ حين يرى إسم كوينتن تارانتينو مبتعدا عن عالمه الراهن، الذي شاهدناه في «بالب فيكشن» و«أقتل بيل». في هذين الفيلمين بدا تارانتينو ملتصقا بعالمه ذاك إلى حدّ أنّنا رحنا نظنّ أنّ موهبته هي هناك، في تلك العلاقات المبالغة في عنفها وغرابتها. وهو كأنّه أراد لنا أن نقتنع أنّ هذا الميل الجارف إلى العنف، الذي منه مشهد قلع عين إحدى نساء فيلم أقتل بيل وانزلاقها على الأرض، ثمّ دوسها بقدم امرأة أخرى، لنراها تنفزر وتنبو عن غلافها الدهني، هو آخر ما توصّل إليه زمننا الراهن من اختراع العنف.
تارانتينو الراهن حمل مخيّلته الصاخبة والمتطرّفة إلى الحرب العالميّة الثانية، وهذا ما جعلنا نتساءل، قبل دخولنا إلى الصالة لمشاهدة الفيلم، إن كان سيفلح في تطبيق عنفه وغرابته على عالم الحرب الثانية، ذاك الذي هيكلتْه ونمّطته أفلام لا عدّ لها. وقد خفّف من وقع ذهاب تارانتينو إلى ذلك الزمن سبقُ مخرج آخر إلى تصوير نسخة أولى من الفيلم في عام 1978، الأمر الذي يجعل اندفاع تارانتينو أقلّ من اقتحام كامل لتلك التجربة.
ولم يصعب علينا التعرّف على مخرجنا في فيلمه الجديد هذا، وذلك منذ أن أرانا فرقة الجنود «الأوغاد» الذين سيحاربون النازيّة بقسوة تبزّ قسوتها. أوّل المشاهد كان سلخ جلدة الرأس لعدد من الجنود الألمان، وقد أتيحت لنا رؤية ذلك بالصور المقرّبة. في المشهد ذاته رأينا من لُقّب بالدبّ اليهودي، وهو أحد ثمانية من محترفي العنف يشكّلون فرقة الأوغاد، يحطّم رأس جندي ألماني بعصا كرة المضرب الغليظة ليهشّمه مثلما تهشّم جوزة. ذلك القرب في تمثيل العنف يضع صانعه في آخر فصول الجدّة والحداثة متخطّيا كلّ عاديّة وروتينيّة. دائما يسعى تارانتينو إلى اختبار مشاهديه ووضعهم أمام امتحان إبعاد النظر عن الشاشة هربا من قسوة يشاهدونها.
وغالبا ما تكون هذه القسوة فائضة عما يستدعيه الإنتقام أو العقاب. إنّه عنف فائض مقصود بذاته، لذلك نجد أنفسنا قاطعين إيّاه عن سياقه، وإذ يعاود حضوره في ذاكرتنا يكون متخلّصا من أسبابه ومّما سبقه أو أعقبه. ثم أنّه لا يخلو من الكاريكاتورّية التي يبدو فيها مخرجه مبتسماً أو ضاحكا، أو حتى منفجرا بالضحك، فيما هو يصوّر مشاهد القسوة الأثيرة لديه.
بل إنّ المزاح لا يتوقّف عن المخايلة حتّى في أكثر المشاهد خطرا وجدّية. أقصد المزاح الضمني، أو السخرية التي يبدو فيها الصانع المحترف يسخر ممّا يصنعه. مشهد حفلة العرض السينمائي النازي، وهو المشهد الذي تتشابك فيه عقد الفيلم جميعها، يقف عند حافّة الإضحاك. أولئك الذين جاؤوا إلى العرض ليفجّروا الصالة بمن فيها، بدوا كما لو أنّهم يؤدّون فصلاً كاريكاتورياً في فيلم لا يتوقّف لحظة عن دفع مشاهديه إلى أقصى لحظات التوتّر. هناك دائما جانب كاريكاتوري يتخلل الأحداث، على رغم فظاعتها، كما أنّه يدخل في رسم الشخصيّات على اختلافها. بطل الفيلم براد بيت، الذي يؤدّي دور زعيم عصابة الأوغاد، يظهر لنا في أحيان كأنّه يسخر من دور البطولة الذي يجسّده، على غرار ما يبدو المخرج تارانتينو ساخرا من صنائعه. في المشهد الطويل قبل عرض الفيلم النازي في تلك الصالة الفرنسيّة نرى براد بيت وقد ذهب إلى حدّ السخرية الأبعد وذلك في المناكفة بينه وبين رئيس الأمن النازي حول لفظ الكلمات باللغة الإيطاليّة (بما يذكّر بأستاذ اللغة المضحك في فيلم أماركورد لفيديريكو فيلليني). هذا وقد جرى هذا التناكف في وقت الخطر الأقصى حيث، في آخر المشهد نفسه، سيُعرف مصير الجميع، من سيموت منهم ومن لن يموت، من ينتصر منهم ومن سيهزم إلخ.. معظم شخصيّات الفيلم جمعت الكاريكاتورية، أو ظلّ الكاريكاتوريّة، إلى أدوارها. نسخة أدولف هتلر في هذا الفيلم هي أكثر نسخه، في الأفلام جميعها، كاريكاتورية. منذ ظهوره الأول، في بداية الفيلم، بدا أكثر توتّرا بكثير من كلّ ظهور سابق له، سواء في الأشرطة الوثائقيّة أو السينمائيّة. جمهور الصالة هنا ضحك من فوره، على رغم علمه، بل ومشاهدّته، لعصبيّة هتلر التي تبلغ حدّ المرض. غوبلز أيضا بدا مختلفا عن صورته في فيلم «الملجأ» الذي صوّر ما اعتقده الأيام الأخيرة من سقوط ألمانيا وانتحار هتلر وحاشيته. وبينما بدا غوبلز مواليا حتى الموت التراجيدي لقائده، ما دفع به إلى قتل زوجته وأولاده وليس فقط إلى قتل نفسه، نجده هنا، في فيلم تارانتينو، عصابيّا مضحكا وكوميديّ الإمتثال لقائده هتلر الجالس بقربه في صالة السينما. «أنا أحببت هذا الفيلم.. إنّه أفضل ما صنعت» قال له هتلر السكران من الضحك والإعجاب معا. وقد رأينا كيف تأثّر غوبلز بذلك المديح: جعل يبكي في مقعده بكاء طفل.
ولا أعرف كيف تأتّى لنقاد الفيلم أن يحكموا على وقائعه غافلين عن ميله إلى الدعابة. في مقال نشرته إحدى الصحف الأميركيّة إعترضت الكاتبة على ما اعتبرته إغفال المخرج تارانتينو مواجهة المشكلات الأخلاقية المعقدّة التي تثيرها القضايا المتناولة في الفيلم. في مقال آخر جرى اتّهام الفيلم ومخرجه بإيكال كلّ أمر للعنف، كأن مقابلة العنف بالعنف قادرة على تفسير نزاعات العالم.
كوينتين تارانتينو كان في مجال آخر لا يُناسب فيه هذا النوع من النقد. بل أنّه، في ما أحسب، لم يصنع فيلمه إلاّ ليراوغ هذا النوع من الأحكام ويحوّله، بدورها، إلى موضوع لسخريته. عند خروجنا من الصالة، مشدودين متوتّرين من تشابك الأحداث وتوتّرها إلى درجة حبس الأنفاس، راح الخارجون معنا يتساءلون إن كان هتلر وقيادته قد قضوا جميعهم هكذا، في حفلة السينما التي جمعهم بها تارانتينو، ليتخلّص منهم، وليوقف الحرب العالميّة الثانية، كما اقترح رئيس الأمن النازي الذي عرض أن يقايض إثنين من عصابة الأوغاد وهزيمة بلده ومقتل قادتها بقبول الولايات المتّحدة أن تعطيه جواز سفرها وتقبل بإقامته على أرضها.
لم يكن ما فعله تارانتينو إلا تحريضاً على العبث بالتاريخ وإتاحة اللعب به لمن يرغب. وهو، معتمدا على روايات متضاربة تألّفت عن موت هتلر، رأيناه يقول: أنظروا هذه رواية أخرى.. روايتي أنا، ولتكن لكلّ منكم روايته أيضا، إن رغب. وسيكون ذلك مشوّقا، ومسليّا أيضا، وأفضل تركيبا من الوقائع التي سبق أن رُويت لكم.