الأربعاء، ٢٩ تموز ٢٠٠٩

دينيّــــات

دينيّــــات

أنسي الحاج
بين الشدياق وعفلق
لا شبه يُذكَر بين ظروف اعتناق فارس الشدياق الإسلام وما قيل عن اعتناق ميشال عفلق له. الأول معروفة الظروف الشخصية لنقمته على الإكليروس بعد ما حصل لشقيقه أسعد على يد البطريرك حبيش، والآخر أسلم ـــــ إذا ثبت أنه أسلم ـــــ إيماناً منه، على الأرجح، بأن البرهان الأكبر على الاتحاد بالعروبة هو الخلاص ممّا قد يرمي الريبة لدى الأكثرية في صاحب «البعث». وهل من ريبة أوضح من تلك التي عبّر عنها زعيم الجماهيرية الليبية يوم نُسِب إليه القول: أميشال وقائد مسيرة البعث العربي؟
خارج دوائر الحسابات السياسيّة، وما قيل أيضاً (دون إثبات) عن الصلة بين بادرة عفلق والنظام العراقي آنذاك، يُحرّك إسلام عفلق الافتراضي مشكلة وجدانيّة في نفس المسيحي العربي حين يضعه في مواجهة سؤال: هل تكون مجاراة الأكثريّة المسلمة في إسلامها هي الصورة الفضلى لممارسة المسيحيّة اليوم في العالم العربي؟ وإذا كانت هذه «التضحية» هي حقّاً واجب المسيحي العربي على أساس إمكان اعتبارها تجسيداً لدعوة المسيح إلى الانفتاح والمحبّة، فأين يصبح حقّ الإنسان بالمحافظة على تميّزه، أي حريّته، وماذا يكون من أمر الأقليّات؟ بل أيُّ فضلٍ أخلاقيّ يعود للأكثريّات عندما تنتهي بابتلاع الأقليّات عَبْر عزلها أو إشعارها بالعزلة ولو من غير قهر بل بمجرد «النظرة الثانية»؟
لا شكّ في تسامح المسلمين. ولا شكّ في حَرَج الأقليّات. ولا شكّ في أن التسامح غير كافٍ وفي أن الحَرَج تربة خصبة للمتاعب.
لم يتوقّف أحد الوقت الكافي عند مسألة عفلق. إنها قضيّة تستحقّ برمزيّتها أن تشغل كلّ عربي، فما فيها من معاناة يختصر عصوراً، وبلاغة الصمت الذي أحاطها برهان آخر على خطورتها.

السابق واللاحق
الدين اللاحق تنتابه حيال الدين السابق شهوة إلغائه، خصوصاً إذا كان متفرّعاً منه، ولو تظاهر بوفاءٍ له. الدين السابق يشعر، حيال الأديان اللاحقة المتفرعة منه قليلاً أو كثيراً، بأنه الأصيل المسروق. وعندما تكون الأديان اللاحقة أكثريّة عدديّة والدين السابق أقليّة، وأقليّة متعصّبة وعنصريّة، ينتابها حيال أديان الأكثريّة وأكثريّات تلك الأديان شعور الاستعلاء، تغذّيه ذكريات الاضطهاد.
فلنتخيّل تسلسل التاريخ بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام.

تمييز
أُعطي إله التوحيد، بالإضافة إلى خصائصه المفردة، جميع الصفات الحسنة التي كانت لآلهة الوثنيّة بما فيها بعض صفات الآلهات، كالجمال. لذلك كان من واجب الإنسان أن يبتكر له اسماً يَجْمع بين الذَّكَر والأنثى، بدل أن يرسّخ بتذكيره الله ـــــ كما حصل في كلّ اللغات ـــــ التمييز ضد المرأة. فهذا التمييز ليس محض دينيّ ولا محض لغويّ، بل نراه منعكساً على دور المرأة في كل جوانب الحياة والحضارة، إذ اعتُبرت تابعة أو هامشيّة، وأقلّ شأناً في نظر الرجل من السود في نظر البيض. فما ميّز الأبيض من الأسود هو اللون، في حين أن ما ميّز الرجل من المرأة هو الجنس. والمساواة في اللون حصلت ولكن لم تحصل مساواة الجنس لأن ما يباعد هنا (وهو نفسه ما يُقرّب) ينتمي إلى طبيعة أقوى من السياسة والاجتماع والنظريّات.
يبقى الخلاف على الخَلْق: لماذا يعتقد الرجل أنَّ فعل الخَلْق بكل معاني الكلمة امتياز ذَكَريّ؟ ولو صحّ اعتقاده انطلاقاً من مبدأ الخصب، فهل خَصْبه يَخْلق النسل دون الحاجة إلى التلاقي بتربة المرأة؟ وهل من المستحيل توقّع وقت تستغني فيه المرأة عن «تلقيح» الرجل لا بفضل بنوك الاستيداع فحسب بل ربما ـــــ مَن يدري؟ ـــــ بعد اكتشاف إمكان إخصاب المرأة نفسها بنفسها؟

الله في الغياب
قيل إن الله لا يمكن أن يكون حاضراً في الخليقة إلاّ في شكل الغياب (سيمون فايل 1947). الغياب لا ذَكَر ولا أُنثى، إنما يتلوّن حَسَب ظروفه وحسب اللغة التي تقوله.
أغلب الظنّ أن الله كائن قبل الأجناس، فوق الأجناس، ما ـــــ بين ـــــ الأجناس، وما وراء الأجناس. ليس محازباً لجنس ضد جنس ولا يحقّ لجنس أن يدّعيه ويحتكر أبوّته أو بنوّته. وتشنيعة بودلير أنه لم يَفهم كيف يُسمح للنساء بالدخول إلى الكنائس، إذ أيّة محادثة يمكنهن إقامتها مع الله؟ هذه التشنيعة تقع في سياق آخر، خارج هذا الموضوع. وهو أساساً يعتبر المرأة نوعاً من آلهة، ولكنّه هو مؤمن ـــــ مشكّك ـــــ كافر غيور على غرار إله التوراة لا يريد شريكاً له في مخاطبة الله كما أن الله لا يريد شريكاً له في الانعباد. ومهما يكن رأي شعراء وفلاسفة سلبيّاً في عقل المرأة وقدراتها الميتافيزيكيّة، فهذا يعزّز رأينا: التمييز ضد المرأة وقمعها واضطهادها عبر القرون ـــــ هذه المسيرة التي تتوّجت بخلع جميع عروش الآلهات بعد التوحيد ـــــ هو الذي أسهم في تكبيل قدرات المرأة، ممّا أتاح للأدباء والمفكّرين السخرية منها وتصنيفها آلة للإنجاب أو خادمة أو شيئاً للزينة أو بنتَ هوى. السبب هو الذي خَلَقَ النتيجة وليس العكس.
... ثم، مَن يعرف إلى أيّ مناجاة يرتاح الله: مناجاة المرأة أم الرجل أم الولد؟ مناجاة الفهيم أم الجاهل؟ مناجاة العظيم أم الوضيع؟ وهل ينظر الله إلى التمييز الجنسي وعلى أساسه يُرتّب اهتماماته؟ يبدو هذا من إرث التوراة، بل من قبل، منذ صادر الرجل العالم ووجّهه ورتبه على قياسه. وعلى قياسه رتّب إلهاً وسماءً وأرضاً.

نيتشه أيضاً
استطاع نيتشه أن يكتب في أواخر القرن التاسع عشر: «أعظم إنجاز ندين به للبشريّة التي سَبَقتْنا هو أننا لم نعد مكرهين على العيش في خوف مقيم من الوحوش الضارية، والبرابرة، والأشباح، ومن أحلامنا نفسها». مَن ذا يستطيع الزعم اليوم أنّه يعيش، على أيّ صعيد كان، في منجاة من واحد أو أكثر من هذه الأشباح؟
تفاؤل المفكّر والرائي يشبه علاقة الطفل بدميته، يرى ما يُسْكِر ويَسْكَرُ بما يرى. وقد يُسْكِر.
ما عليه. ولكن أين نحن اليوم، وعلى مدى الحِقَب التي تتالت منذ أواخر التاسع عشر من هذا اليقين المظفّر؟ كيف استطاع نيتشه أن يطمئن إلى اندحار تلك الظلمات وانعتاق الإنسان من أَسْرها، أو فلنقلْ، على الأقلّ، من مطاردتها إيّاه؟ ألعلّ عدم الشعور بها كافٍ للخلاص منها؟ ولكن نيتشه ذاته لم يلفحه نسيم هذه اللامبالاة. فكيف؟ أبقياس التطورات السياسيّة والاجتماعيّة من ثورات ومؤلفات ومنجزات علميّة؟ إنّ في ما حصل من مجازر وحروب في العقود الماضية وإلى اليوم دليلاً على نقيض ما رآه نيتشه في تلك النبوءة. والوحوش والبرابرة والآلهة والأحلام الضارية لا تزال تتعاقب علينا وتعمل نهشاً. ولم يتغلّب عليها إلاّ مَن خُلِقَ وفيه غريزة اللامبالاة بها، ناهيك بنخبة اهتدت إلى هذه الدرع المضادة للشعور بعد مسيرة في مآسي الشعور، وعقب صدمة أو رؤيا، فتغيّرت حياتها لأنها أصبحت تستطيع التمييز بين قَدَرين.
أين في هذا كلّه أفضال البشريّات؟ وأين الفرق الجوهري بين سابق ولاحق؟
إذا أنا قتلتُ مسيحيَ، فهل قتلتُ ضميري؟ وإذا لم أقتل ضميري ـــــ أو «ضميرهم» مزروعاً فيّ ـــــ فممَّ أتحرّر؟
وإذا قتلتُ ضميري فأين أَمثالي؟
ما أيسر العثور بضحايا ولكنَّ اكتشاف الشركاء في الحريّة أو التحرّر هو أشبه بالسراب.
وأنّى لي الاستغناء فلا يكون فوقيَ آلهة؟
والآلة محلّ الدماغ فلا يكون لي أحلام؟
وكيف لا أخاف ـــــ وحشاً أو فراشة ـــــ وليس هنالك ما لا يُخيفني غيرُ فكرةِ ما قبل ولادتي؟
لو وَضَع نيتشه خاطرته على صيغةِ أُمنية لحال دون هذا التشاؤم القاهر، بذلك التفاؤل البريء.

لعلّ نيتشه قَصَد نفسه. صحيح أنّه لم يحظَ بسعادة اللامبالاة ولكنّه غنّى وتغنّى بحريّةٍ للإنسان تُعتقه من جميع التقاليد ولا تعود ترْهنه إلاّ بإرادة ذاته. وقد رأى تلك الحريّة في مواضع عديدة من التاريخ ومن الأعمال. وربّما بل لا بدّ أن يكون قد تلمّسها أو تمنّاها بالأحرى في نفسه، وحلم بأن يغدو نحوها قبل أن يبتلعه بحر الجنون. ولعلّ في هذا تَوازُنَ تلك، كما كان السجن «عقابَ» الماركي دوساد، وعلى حريّته أيضاً.

ومَنْ هناك لم «يُعاقَب»؟
لنراجع التاريخ والأساطير والوقائع.
أهو خرافة هذا الوحش، وأضغاث تَطيُّر، كما يقال؟ أيكون جهادنا هو ضد خرافات وأضغاث تطيّر ولا نَقْدِر عليها؟
نَقْدر على المادة بأسرها، ولا نَقْدر على أشباح!؟

«الزمن فكرة»
«ـــ صرتَ الآن تعتقد بوجود الحياة الأبديّة في ما بعد؟
ـــ لا، ليس بوجود الحياة الأبديّة، بل بالحياة الأبديّة ههنا. ثمّة لحظات... إنّك تصل إلى لحظات، وفجأةً يتوقّف الزمن لكي يَثْبُت إلى الأبد.
ـــــ وأنت تأمل في بلوغ مثل هذه اللحظة؟
ـــ نعم.
ـــ أشكّ أن يتحقّق ذلك على عهدنا (...) في سفر الرؤيا، يُقسم الملاك إن الزمن سيضمحلّ.
ـــ أعرف. الأمر في الرؤيا حقيقيّ جداً، واضح ومحدّد. عندما يبلغ سموّ الإنسان حدود السعادة، سينعدم الزمن لأنّه يغدو بلا فائدة. إنّها لفكرة صائبة جدّاً.
ـــ وأين عندئذٍ سيخبّئون الزمن؟
ـــ لن يُخبّئوه ولا في مكان. الزمن ليس شيئاً بل فكرة. وسوف ينطفئ في العقل».
(«الممسوسون» ـــــ دوستيوفسكي)


عدد السبت ٢٥ تموز ٢٠٠٩

الأعجوبة اللبنانية!

الأعجوبة اللبنانية!

كي تكون مواطنا في هذه البقعة الصغيرة التي تُسمّى لبنان، عليك ان تنظر الى الأمور التي تحاصر حياتك في وصفها كوميديا. اي عليك ان تقبل ان تتفرج على نفسك وانت تتبهدل في كل يوم. المسألة لا علاقة لها بالسياسة، اي بمسرحية تشكيل الحكومة التي لن تنتهي قبل اتفاق السين سين، كمقدمة لاتفاق السين شين! بعدما اتضح ان الانتخابات النيابية كانت احدى ادوات الحرب الطائفية النائمة. السياسة اللبنانية "يوك". كلمة "يوك" التي كانت جزءا من المرحلة العثمانية، هي الكلمة الوحيدة الملائمة لهذا الوطن الصغير المصلوب على خشبة طوائفه المحترمة.


البهدلة آتية من مكان آخر، وصارت عصية على التحديد، لأن هناك طائفة وحيدة من اللبنانيين واللبنانيات تتعرض لها، هي طائفة من لا طائفة له. في الماضي، قبل ان يتم استكمال البنى الطائفية، بحيث صارت تهيمن على جميع مرافق الحياة، من التعليم الى الطبابة الى السكن الى آخره... كان في امكان هذه الطائفة دعوة اللبنانيين واللبنانيات الى الالتحاق بها، حفاظا على مصالحهم. كانت المدرسة العامة تشكل املا للفقراء بالتعليم، وكانت الجامعة اللبنانية تسعى الى ان تكون جامعة حقيقية لأبناء الطبقات الوسطى والفقيرة، وكان الضمان الصحي وسيلة للتغلب على فحش المستشفيات، وتحول الشفاء الى ميزة لا يحصل عليها الا الأغنياء.
اما اليوم فلا. صار التعليم في عهدة الطوائف والمذاهب، وصار التطبيب المجاني بالواسطة، ونجحت الطوائف في تحويل اللبنانيين الى متسولين سعداء بالتسول. ومن لا يعجبه الوضع يستطيع ان يهاجر، او يدقّ رأسه بالحائط. ندفع فاتورتي كهرباء وفاتورتي مياه، والغلاء يكوينا، والأجور ثابتة لا تتزحزح، ومن يريد حلا، عليه بالهجرة الى منابع النفط او العمل في احد فروع مؤسسة الدعارة!
الأجمل من ذلك كلّه، ان عليك ان تزبّط حالك، لأن هناك ما يشبه الاجماع في الوسط السياسي الطائفي، على ان هذا النظام الوحشي هو الأنسب. الشعب راض، فالشعب لم ينتخب برنامجا سياسيا او اجتماعيا، بل انتخب ممثليه الطائفيين. واذا دققت في الفرق بين البرنامج الاقتصادي الاجتماعي لحزب ليبيرالي اسمه "المستقبل"، وبرنامج حزب المقاومة فإنك لن تجد فرقا. واذا سألت "حزب الله" كيف يدعونا الى المقاومة وقد تحولنا الى ما يشبه الشحاذين، قدّم اليك جواب جميع الحركات الأصولية التي انتظم برنامجها الاقتصادي حول مشروع الليبيرالية الجديدة!
لا يحق لك ان تسأل لماذا هذه العجقة حول تأليف الحكومة، لأن الجواب الجاهز هو الشراكة. وحين تسأل لماذا الخلاف على الشراكة، طالما ان القوى التي سوف تضمها حكومة الوحدة الوطنية، تمتلك البرنامج الاقتصادي الاجتماعي نفسه، تفهم ان الشراكة تعني نفوذ الطوائف، وان الكلمة الملائمة يجب ان تكون الشركة لا الشراكة. وان هذا النفوذ لا يتأمن الا حين تتأكد حصص حماتها الاقليميين في السلطة اللبنانية.
تسأل: ولكن كيف يحاربون الفساد؟ فيجيبونك: بالوحدة الوطنية.
ولكن من يتحد مع من؟
فيكون الجواب ان اتحاد الفاسدين يصنع الخلاص من الفساد!
اين نحن؟ تسأل.
من انتم؟ يجيبونك.
نحن من لا طائفة لنا، تقول.
انتم لا مكان لكم، فلبنان بلد التسامح، وانتم لا تحتاجون الى تسامح.
تقول ولا جواب، ثم تتذكر ان ازالة خانة الطائفة من الهوية ليست سوى فعل رمزي. اذ انها لا تساوي شيئا، لأن كل شيء مطيّف، فأنت لا تستطيع ان تنتخب الا في مركز اقتراع طائفي، ولا تستطيع ان تتزوج الا دينيا، ولا ترث الا بحسب قانون الاحوال الشخصية المفصّل على قياس الطوائف...
المشكلة انك لا تملك مدرسة ولا جامعة ولا شيء. حتى المقابر مصنوعة على المثال الطائفي، بحيث تجد نفسك هامشيا، او عليك ان تخالف القانون مواربة او في شكل صريح.
كي تتزوج تذهب الى قبرص، وكي تحترم نفسك ترسل ابناءك الى مدارس علمانية اجنبية، اما اذا كنت طفرانا، فليس لك من خيار سوى ان تستزلم او تجد من يتوسط لك كي لا تتبهدل.
كوميديا سوداء، تثير الضحك والغضب في آن واحد. لا حقوق للمرأة، وحين يجرؤ قاض مستنير على السماح للبنانية متزوجة من اجنبي بأن تعطي أبناءها الجنسية اللبنانية، تقوم الدنيا ولا تقعد، وتتولى النيابة العامة استئناف الحكم الذي اصدرته محكمة جديدة المتن بتاريخ 16 حزيران 2009. وحين تتكلم منطقا بسيطا، عن حقك في التمتع بالشاطئ والسباحة من دون ان تتعرض للغرق، تكتشف ان لا شاطئ، وان المخالفات البحرية التهمت كل شيء، وان السباحة تكلّف في حدّها الأدنى عشرين الف ليرة، كرسم دخول الى مسبح صخري ملوّث كي تسبح في بركة!
الموضوع الوحيد الذي يحتل الأخبار هو لعبة الطوائف، والقضايا الكبرى. لا يحق لنا ان ندرس او نسبح او يكون لنا نقابة حقيقية تحمي مصالحنا الا بعد تحرير مزارع شبعا! وحتى اذا تحررت، من يدري، ربما يكون علينا ان نبقى في سيرك الطوائف، لأنهم سيكتشفون مثلا ان العلاقات المميزة مع الشقيقة سوريا ضرورية من اجل استئصال الفساد تمهيدا للاصلاح، والى آخره...
المسألة ان اللبناني او اللبنانية الذي ليس جزءا من لعبة الطوائف، اي ليس مستزلما لزعيم او ما شابه، لا مكان له. لأن لا سياسة في لبنان ولا مجتمع الا من هذا الثقب الذي يتسع لكل هذه القطعان.
لكن المثير، هو الصفة الكوميدية التي تتخذها المآسي في هذا الوطن الأعجوبة. بدل ان يغضب اللبنانيون ويثورون، تراهم مستسلمين ضاحكين. حتى الموت اليومي صار اشبه بنكتة.
البلاهة التي ترتسم على وجوه الجميع هي المعادل الموضوعي لليأس. لكنه يأس المتفرجين. قمة الابداع اللبناني تكمن في تحويل الضحية متفرجا والمأساة ملهاة.
وهذا ما يمكن ان يندرج في اطار ما يطلقون عليه اسم: الاعجوبة اللبنانية.

الياس خوري
ملحق النهار - 26- 7- 2009

الأحد، ٢٦ تموز ٢٠٠٩

إلــى أيــن تذهــب الجرائــم؟


إلــى أيــن تذهــب الجرائــم؟


عباس بيضون

كنت خائفاً من 29 عاماً مضت. وحين كنت اصعد الهضبة التي صعدتها آخر مرة منذ 28 عاماً لم يكن عندي سوى الشعور بأنني لست في أي زمن. كنت متنازعاً بين زمنين محصوراً ومتوتراً. بات بعيداً ذلك الوقت الذي استدعيت فيه من مصطافي في بلدة أمي على نبأ يقول ان عبد اللطيف اغتيل. كنا متلازمين ويستحضر احدنا الآخر ونذكر مقترنين، لكني لم أكن أخاً وقريباً وكان علي ان اتلقى ذلك الجزء الحر وغير المرسوم في المأساة. لم يكن الأمر مع ذلك شاقا فقد وقع جل المأساة على اشخاص وعلى مواضع لم تكن كلها في البلدة ولا من العائلة. فضلاً عن التباس ضخم كان يحيط بالمسألة في هذين المكانين. كان عبد اللطيف في المجلس السياسي للحركة الوطنية المتحالفة يومئذ مع المنظمات الفلسطينية، ولم يكن هذا مزاج البلدة الذي احتقن مع الوقت ضد السلاح الفلسطيني. حضر الجنازة كثيرون من المدينة مع الاقرباء القريبين وحين كان النعش محمولاً على الهضبة المؤدية الى بيت عبد اللطيف الذي لم ينته عماره والذي تقرر دفنه فيه، سقط الرصاص على المشيعين فسقط النعش أرضاً وقتل اثنان أحدهما فتى والثاني طفل على ذراعي أبيه. استؤنفت الجنازة ودفن عبد اللطيف في داره ولم أعد الى المكان إلا مرة. عدت وحيداً في ذكراه الثانية. تراخت 29 عاماً على الجريمة، وها هناك من يستذكرها، وها هي دعوة الى احتفال بذكرى عبد اللطيف في داره وفي بلدته.
ترددت ثم وجدتني غير قادر على الجزم فحملت نفسي بدون قرار الى المدينة ثم الى البلدة. وصلت الى الهضبة وأنا لا اصدق انني وصلت، وجلست في الاحتفال وأنا لا استوعب اني جلست. رأيت أمامي صورة عبد اللطيف بنظارتيه ووجهه الرائق الأنيس والى جانبيها علمان: العربي واللبناني. وجاء في الدعوة انها في ذكرى «المناضل الوطني الكبير». أما الخطب فكانت تسترجع عبد اللطيف ثم تنتقل به الى يوم يفترق عنه بـ29 عاماً. لقد كان كل شيء في هذه المنطقة الغائمة بين زمانين. ولم تكن منطقة ضيقة ولا محصورة فهي قرابة ثلاثة عقود وقد لعبت بها ظروف واحداث عنيفة ودراماتيكية وتغيرات في كل مجال، ولا بد من ان الانتقال بين الضفتين كان أشبه بالقفز او كان بحد ذاته ضياعاً بحتاً. بل كان في الأغلب خادعاً وظاهرياً فالطيران بين الحدين يتم فوق أودية ومنحدرات وهضاب ومن الصعب بل من المستحيل ان تجمعهما في واحد او ان تجد لحمة من أي نوع بين الأول والآخر، او ان تنقل الشخص نفسه على مدى ثلاثين عاماً، وان تمدد حياته السياسية طوال هذا الوقت او ان تقفز على التباس اغتياله وتوكل للزمن تخريجاً لا جواباً على كل ما زال سؤالاً او فقد مع الوقت حقه في ان يبقى كسؤال.
كنا في نوع من زمن افتراضي نتحرك بقوة الاسماء والصور، لم نكن في زمننا ولا مكاننا وعلى الأغلب لم نكن شيئاّ مذكوراً.
لم تكن الهضبة كما عرفتها او بالأحرى كما نسيتها. لقد قامت دار عبد اللطيف وعلت فوق قبره لكن الهضبة امتلأت بالعمار واكتست خضرة واشجاراً. تمهدت أرضها وكان من الصعب ان اعثر فيها على الرمل الذي رقدت فيه شاخصاً الى الدار التي حوت جثمان عبد اللطيف قبل دفنه. كنت آنذاك وحيدا مع نفسي لكني كنت في حيرة أخرى، هي كيف اكون في دوري ومكاني من هذه المأساة. كيف اكون الجناح الآخر لهذا الغياب، وكيف أقف بنبل مرفوع الرأس تحت أجنحة الملحمة. كانت نفسي آنذاك فرغت فجأة إذ لم يكن هناك مخيلة ولا استعداد ولا ذاكرة لدور كهذا. تركني الخبر هامد النفس والحس وكنت على الرمل الذي رقدت عليه أجاهد لأسترجع حسي وتواصلي. الآن وجدتني تقريباً في هذه الليلة، التي كانت هي نفسها تقريباً خارج الزمن. ليلة ليس لها ما قبلها وما بعدها. أمضيتها يومذاك بعيداً عن نفسي وعن شخصي وعن محيطي ضائعاً مختلطاً في كل ذلك وها أنا اليوم وأنا على كرسي في الاحتفال أمام الدار في الحيرة نفسها. لست في يومي ولا في نفسي ولا في أي مكان ولا أي يوم، لذا ورحت اسأل نفسي اذا لم يكن هذا شأني طوال هذه الأيام. إذا لم يكن هذا الكسوف الزماني هو شعوري الدائم بالزمن. إذا لم تكن هذه الصور غير المؤرخة هي ما أراه واعيشه كل يوم. بل رحت اسأل نفسي متى خرجت حقاً من الزمن، متى لم أعد أحس انني مشدود الى ظرف والى تاريخ والى عام والى مرحلة. ألست في مجمل ايامي احوم فوق الاوقات وبين الاوقات. بل تساءلت إذا لم تكن هذه حالنا كلنا. إذا لم نكن جميعاً في هذا الكسوف وفي تلك الحيرة. إذا لم نكن جميعاً في هذا التحويم الزمني. إذا لم يكن الحاضر هو هذا او شبهه.
وصلت متوتراً وجلست متوتراً. لكن هذا لم يطل. إذا كنت عند نفسي محصورا بين حدين فإن المسافة بينهما لم تكن قابضة ولا مشدودة. كانت رحبة ومترامية. بل كانت فوق ذلك مغطاة بالضباب وبالغبار. ولم تكن مسالكها واضحة او مضاءة ثم انها متآكلة في بعضها، ممحوة في بعضها. بل يمكن القول ان ما تبقى منها لم يعد هياكلها ومعالمها الكبيرة. كانت شبه منسية. فما بدا لنا زمناً لم يكن سوى تظاهر النسيان، لم يكن سوى غياب فارغ او فراغ. لماذا لا نقول اننا حين اكتشفنا انها 29 عاماً لم ننتبه الى انها لم تعد شيئاً. اننا لم نجد شيئاً، وان محاولة الوصل بين ضفتين على حد تعبير وديع سعادة لم تكن سوى لعبة خيال ان لم تكن لعبة الفاظ.
كان شعوري بأنني محصور بين زمنين من تهيؤاتي وربما كان، من رغبة مني، بأن املك تاريخاً وان يكون لي زمن ما. في الحقيقة كان الأمر أهون من ذلك، كنت اسبح في الفراغ. لقد زال كل شيء تقريباً بل بهت في داخلي. لم أكن لاعرف الوجوه. وبصعوبة تميزت الأمكنة التي لم تكن على حالها بانتظاري. لم يكن هناك شيء باق لذا زال توتري وغرقت في خفة غامرة. كان هذا مرعباً بحد ذاته، إن اكن نسيت كل ذلك او اشبهت ان انسى فلأنني نسيت نفسي. لقد غاب عبد اللطيف لكنني لم اكن اقل غياباً. ها هي الـ 29 عاماً التي كانت غيابه هي أيضاً غيابي. الجريمة. نعم الجريمة. الجريمة المثلثة. الجريمة بكل معنى الكلمة. زالت بكل الدم الذي سال منها، وها هي بدون حضور. عاد عبد اللطيف (المناضل الوطني الكبير) كنيةً من هذه الأيام ومن احتفالات هذه الأيام. أما جراحه فقد امحت. أما العسف الذي وقع على الجنازة فقد زال. أما الطفل الذي قتل على ذراعي والده فلم يعد موجوداً.
يتكلمون عن صبر الصينيين على المكاره وكيف سكت المهانون المظلومون في الثورة الثقافية وسواها عما اصابهم واكتفوا بالنجاة. هل هو الصبر أم ضياع الزمن. هل هو الصبر أم الانكار. هل هو انتصار الظلم وانتصار الجريمة. لا اعرف إذا كان النسيان هرب التاريخ من المسؤولية ام انه فقدانه. هل يمكن ان نتكلم عن تسامح لاإرادي أم مجرد تسليم.

الأعجوبة اللبنانية!

على الأقل
الأعجوبة اللبنانية!

كي تكون مواطنا في هذه البقعة الصغيرة التي تُسمّى لبنان، عليك ان تنظر الى الأمور التي تحاصر حياتك في وصفها كوميديا. اي عليك ان تقبل ان تتفرج على نفسك وانت تتبهدل في كل يوم. المسألة لا علاقة لها بالسياسة، اي بمسرحية تشكيل الحكومة التي لن تنتهي قبل اتفاق السين سين، كمقدمة لاتفاق السين شين! بعدما اتضح ان الانتخابات النيابية كانت احدى ادوات الحرب الطائفية النائمة. السياسة اللبنانية "يوك". كلمة "يوك" التي كانت جزءا من المرحلة العثمانية، هي الكلمة الوحيدة الملائمة لهذا الوطن الصغير المصلوب على خشبة طوائفه المحترمة.
البهدلة آتية من مكان آخر، وصارت عصية على التحديد، لأن هناك طائفة وحيدة من اللبنانيين واللبنانيات تتعرض لها، هي طائفة من لا طائفة له. في الماضي، قبل ان يتم استكمال البنى الطائفية، بحيث صارت تهيمن على جميع مرافق الحياة، من التعليم الى الطبابة الى السكن الى آخره... كان في امكان هذه الطائفة دعوة اللبنانيين واللبنانيات الى الالتحاق بها، حفاظا على مصالحهم. كانت المدرسة العامة تشكل املا للفقراء بالتعليم، وكانت الجامعة اللبنانية تسعى الى ان تكون جامعة حقيقية لأبناء الطبقات الوسطى والفقيرة، وكان الضمان الصحي وسيلة للتغلب على فحش المستشفيات، وتحول الشفاء الى ميزة لا يحصل عليها الا الأغنياء.
اما اليوم فلا. صار التعليم في عهدة الطوائف والمذاهب، وصار التطبيب المجاني بالواسطة، ونجحت الطوائف في تحويل اللبنانيين الى متسولين سعداء بالتسول. ومن لا يعجبه الوضع يستطيع ان يهاجر، او يدقّ رأسه بالحائط. ندفع فاتورتي كهرباء وفاتورتي مياه، والغلاء يكوينا، والأجور ثابتة لا تتزحزح، ومن يريد حلا، عليه بالهجرة الى منابع النفط او العمل في احد فروع مؤسسة الدعارة!
الأجمل من ذلك كلّه، ان عليك ان تزبّط حالك، لأن هناك ما يشبه الاجماع في الوسط السياسي الطائفي، على ان هذا النظام الوحشي هو الأنسب. الشعب راض، فالشعب لم ينتخب برنامجا سياسيا او اجتماعيا، بل انتخب ممثليه الطائفيين. واذا دققت في الفرق بين البرنامج الاقتصادي الاجتماعي لحزب ليبيرالي اسمه "المستقبل"، وبرنامج حزب المقاومة فإنك لن تجد فرقا. واذا سألت "حزب الله" كيف يدعونا الى المقاومة وقد تحولنا الى ما يشبه الشحاذين، قدّم اليك جواب جميع الحركات الأصولية التي انتظم برنامجها الاقتصادي حول مشروع الليبيرالية الجديدة!
لا يحق لك ان تسأل لماذا هذه العجقة حول تأليف الحكومة، لأن الجواب الجاهز هو الشراكة. وحين تسأل لماذا الخلاف على الشراكة، طالما ان القوى التي سوف تضمها حكومة الوحدة الوطنية، تمتلك البرنامج الاقتصادي الاجتماعي نفسه، تفهم ان الشراكة تعني نفوذ الطوائف، وان الكلمة الملائمة يجب ان تكون الشركة لا الشراكة. وان هذا النفوذ لا يتأمن الا حين تتأكد حصص حماتها الاقليميين في السلطة اللبنانية.
تسأل: ولكن كيف يحاربون الفساد؟ فيجيبونك: بالوحدة الوطنية.
ولكن من يتحد مع من؟
فيكون الجواب ان اتحاد الفاسدين يصنع الخلاص من الفساد!
اين نحن؟ تسأل.
من انتم؟ يجيبونك.
نحن من لا طائفة لنا، تقول.
انتم لا مكان لكم، فلبنان بلد التسامح، وانتم لا تحتاجون الى تسامح.
تقول ولا جواب، ثم تتذكر ان ازالة خانة الطائفة من الهوية ليست سوى فعل رمزي. اذ انها لا تساوي شيئا، لأن كل شيء مطيّف، فأنت لا تستطيع ان تنتخب الا في مركز اقتراع طائفي، ولا تستطيع ان تتزوج الا دينيا، ولا ترث الا بحسب قانون الاحوال الشخصية المفصّل على قياس الطوائف...
المشكلة انك لا تملك مدرسة ولا جامعة ولا شيء. حتى المقابر مصنوعة على المثال الطائفي، بحيث تجد نفسك هامشيا، او عليك ان تخالف القانون مواربة او في شكل صريح.
كي تتزوج تذهب الى قبرص، وكي تحترم نفسك ترسل ابناءك الى مدارس علمانية اجنبية، اما اذا كنت طفرانا، فليس لك من خيار سوى ان تستزلم او تجد من يتوسط لك كي لا تتبهدل.
كوميديا سوداء، تثير الضحك والغضب في آن واحد. لا حقوق للمرأة، وحين يجرؤ قاض مستنير على السماح للبنانية متزوجة من اجنبي بأن تعطي أبناءها الجنسية اللبنانية، تقوم الدنيا ولا تقعد، وتتولى النيابة العامة استئناف الحكم الذي اصدرته محكمة جديدة المتن بتاريخ 16 حزيران 2009. وحين تتكلم منطقا بسيطا، عن حقك في التمتع بالشاطئ والسباحة من دون ان تتعرض للغرق، تكتشف ان لا شاطئ، وان المخالفات البحرية التهمت كل شيء، وان السباحة تكلّف في حدّها الأدنى عشرين الف ليرة، كرسم دخول الى مسبح صخري ملوّث كي تسبح في بركة!
الموضوع الوحيد الذي يحتل الأخبار هو لعبة الطوائف، والقضايا الكبرى. لا يحق لنا ان ندرس او نسبح او يكون لنا نقابة حقيقية تحمي مصالحنا الا بعد تحرير مزارع شبعا! وحتى اذا تحررت، من يدري، ربما يكون علينا ان نبقى في سيرك الطوائف، لأنهم سيكتشفون مثلا ان العلاقات المميزة مع الشقيقة سوريا ضرورية من اجل استئصال الفساد تمهيدا للاصلاح، والى آخره...
المسألة ان اللبناني او اللبنانية الذي ليس جزءا من لعبة الطوائف، اي ليس مستزلما لزعيم او ما شابه، لا مكان له. لأن لا سياسة في لبنان ولا مجتمع الا من هذا الثقب الذي يتسع لكل هذه القطعان.
لكن المثير، هو الصفة الكوميدية التي تتخذها المآسي في هذا الوطن الأعجوبة. بدل ان يغضب اللبنانيون ويثورون، تراهم مستسلمين ضاحكين. حتى الموت اليومي صار اشبه بنكتة.
البلاهة التي ترتسم على وجوه الجميع هي المعادل الموضوعي لليأس. لكنه يأس المتفرجين. قمة الابداع اللبناني تكمن في تحويل الضحية متفرجا والمأساة ملهاة.
وهذا ما يمكن ان يندرج في اطار ما يطلقون عليه اسم: الاعجوبة اللبنانية.
الياس خوري
الأحد 26 تموز 2009 - السنة 76 - العدد 23766

ماذا أفعل هنا على الأرض؟ سأل رائد الفضاء نفسه



ماذا أفعل هنا على الأرض؟ سأل رائد الفضاء نفسه

المستقبل - الاحد 26 تموز 2009 - العدد 3374 - نوافذ - صفحة 9


حسن داوود

انظر إلى هذه، قال لي نيل بلتون مشيرا بإصبعه إلى تلك الحجرة المخروطيّة الشكل والتي تحتل تلك الصدارة من المتحف العلمي البريطاني. كان قد سبق لي أن شاهدتها من قبل، لكنني كنت أحسب أنّه لا يمكن لها أن تكون بهذا الصغر. قلت لنيل إنني لن أطيق الجلوس فيها من هنا إلى بيروت. ضحك، ثم قال إنّه لن يطيق الركوب فيها حتى حيّ سوهو، الذي لم يكن يبعد عنا إلاّ كيلومترات قليلة. كانت الحكومة الأميركيّة قد أهدتها إلى بريطانيا، على نحو ما يهدي الأخ الأكبر بعضا من إنجازه لأخيه الأصغر، خصوصا وأن هذا الصغير لا تسعفه قدراته على الخوض في نزاع ذلك الإنجاز الفضائي المحموم آنذاك بين الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفياتي. لكن كيف يهدونكم شيئا كهذا، قلت لنيل بلتون، وهذا على الرغم من أنّني لم أجدها متقنة الصناعة. كانت صفائحها ذات الأطراف غير المنعّمة موصولة بالبراغي، وقد بدت بمجملها كما لو أنّها لم تخضع لما يسمّى الـ« فينيشينغ«. وهذا ما جعلها كثيرة الشبه، بل مطابقة، لعربات الصعود إلى الفضاء التي كنا نشاهدها في سينما الخمسينات، بالأبيض والأسود، المقتبسة عن روايات إدغار ألان بو وجول فيرن..
هذه الحجرة، التي انفصلت عما كان يحملها في الفضاء، اتسعت لثلاثة روّاد،على الأقل، أقاموا فيها فترة تراوحت بين أسبوع وعشرة أيّام (بحسب ما ذكر عن المدد التي قضتها كل من مركبات أبولو في الفضاء)، ولم يخرجوا منها إلا ليخطوا على سطح القمر. تلك الخطوة الأولى التي قام بها نيل أرمسترونغ، أوّلا، حقّقت السبق الحاسم على برامج الإتّحاد السوفياتي الفضائيّة ما أدّى، ليس إلى توقّف هذا الأخير عن إستكمال ما كان قد بدأ به، متفوّقاً، بل أدّى أيضاً إلى طيّ صفحة الفضاء بعد رحلات خمس أو ست أميركيّة. أي أنّ »غزو القمر« كان نهاية وليس بداية حيث، بعد ثلاث سنوات على رحلة أبولو 11، أي في العام 1972، » لم يعد أحد إلى الإرتفاع فوق جاذبيّة الأرض«، كما كتب جيوفاني ف. بغنامي الرئيس السابق لوكالة الفضاء الإيطالية (صحيفة هيرالد تريبيون 18- 19 تموز الجاري).
ذاك لأنّ النزاع في هذا المجال قد حطّ رحاله، لكن أيضا كان ينبغي التوقّف خلال هذه العقود لكي لاتكون تلك اللحظة عمليّة في سياق. ذاك لأنّ ما تحقّق فيها ليس إنجازا علميّا تمثّل في دراسة تربة القمر وحرارته وقوانينه البيئيّة، بل، وربما كان هذا هو الأهم، تحقيق نقلة في الظَفَرَ البشري قوامها بلوغ ما يتعدّى نطاق الأرض. ربّما كان اختراع الكهرباء أكثر إفادة للبشريّة من خطوة الصعود إلى القمر، لكن الفارق بين الإثنين هو في العمق التاريخي للحلم المتصل باستكناه القمر واستعصاء إمكان الوصول إليه على التصديق. في لحظة ما كانت تبثّ وقائع ذلك »النزول«، مباشرة، كان هناك من كتب أنّ ذلك لا يعدو كونه اختلاقاً وكذباً (كما أن ّ ثمة الآن، بعد أربعين سنة على الحدث، من يكذّب واقعته بالقول إنّ الرواد نزلوا صحراء نيفادا وليس سطح القمر كما زعموا)، ثم إنّ ذلك الحدث بدا كما لو أنّه حصل مفاجئاً، تاماً كاملاً من أوّله، فيما احتاج ضوء الكهرباء إلى نحو قرنين ليصل إلى ضيعتنا النميرية، قاطعاً تلك الرحلة المنهكة من إضاءته الأولى في تلك الغرفة التي تحقّق فيها اختراعه.
لحظة النزول إلى القمر كان ينبغي لها أن تبقي الزمن خالياً من بعدها لأربعين سنة أو خمسين (احتساباً لقول الأميركيين الآن إلى أنهّم سيعودون لزيارة القمر في العام 2020)، وذلك بما يشبه ترك مساحة ممتدّة من الأرض أمام أثر معماري تاريخي. ولنضف إلى ذلك الحاجة إلى الاستراحة التي ينبغي أن يكون وقتها أكثر طولاً كلما كان الإنجاز الذي سبقها مهمّاً. وأيضاً، من ناحية أخرى، يحتاج ذلك الذي تحقّق إلى ما يزيد عن أربعين سنة إلى هضمه، أقصد إلى دراسته، بل إلى تأمّله حيث لا عدّ للكتب التي صدرت متناولة كلّ ما يتعلّق بتلك الرحلة. ذلك تعدّى بالطبع الكتابات العلميّة والفلكيّة والسياسيّة إلى الأدب والتاريخ والخرافة وصورة القمر، أو صوره التي تحوّل القمر إلى أن يكونها بعد اكتشافه، ثم دراسة ذلك الصنف الجديد من الأشخاص النجوم الذين هم روّاد الفضاء، هؤلاء الذين رأت مجلّة تايم الأميركيّة أن تكتفي بإجراء تحقيق تفصيليّ عنهم في المناسبة الأربعينيّة هذه.
وقد أوكلت لرجال الفضاء هؤلاء مهمّة الوصف والتأمّل إضافة إلى مهمّات العلم والاكتشاف. كان كلام نيل أرمسترونغ في وصف الأرض مرئيّة من القمر، ذلك الذي نقلته الصحف ووسائل الإعلام جميعها آنذاك، أشبه بنوع جديد من الشعر طالع من نوع جديد من الرؤيا، وداحض، لمجرد صدوره عن شخص رأى، جميع ما كان قد جرى تصوّره عن القمر منذ ما قبل القرن الثاني بعد الميلاد حين كتب لوسيان ساموزاتا أوّل رحلة متخيّلة إليه، واصفاً إياها بأنّها »رحلة حقيقية« وسيلتها مركبة قذفتها إلى هناك نافورة هائلة جبّارة القوّة. أما الكائنات الموصوفة في ما كتبه فرجال يمتطون ظهور نسور برؤوس ثلاثة وبراغيث عملاقة. (في صفحتها الثقافية للأسبوع الفائت نشرت الهيرالد تريبيون تحقيقاً أرّخت فيه للرحلات المتخيّلة إلى القمر، منذ بدايتها مع ساموزاتا وصولا إلى وقت غير بعيد عن تقافز نيل أرمستونغ على تربته. كان هؤلاء الخياليون قد »سبقوا قفزته العملاقة في الأدب والرواية والسينما. وهم صعدوا إلى القمر مستقلّين سفنا طائرة وعربات مجنّحة ومقذوفات أطلقتها مدافع ضخمة. وقد التقوا هناك بعمالقة ورجال حشرات ونازيين ونساء عاريات الصدور« هذا بالإضافة إلى ما لاحصر له من المخلوقات التي تصنعها المخيّلات).
طالما أن لا هواء هناك في القمر، سيبقى أثر الحذاء الفضائي الذي كان يرتديه باظ ألدرين مطبوعا في مكانه، تماما مثلما ظهر في الصورة التي التقطت قبل أربعين عاما. تلك »الدعسة« الخالدة، قولاً وفعلاً، ربما تذكّر ألدرين نفسه بأن لا شيء في حياته يدانيها أهمّية. هو الآن، بعد انقضاء تلك السنوات الأربعين، لا يستطيع مغادرة رحلته تلك. الساعات الإحدى والعشرين والدقائق الست والثلاثين التي قضاها هناك، شكّلت كلّ ما تبعها من سنيّ حياته. تكفي تلك الجردة القليلة التي فصلت فيها مجلة تايم حياة الرواد بين لحظات مجدهم وبين ما هم عليه الآن حتى نعرف أن الضوء الذي ما زال مسلّطا عليهم لا يكفي لإبقائهم متوازنين. ومع أنّهم، الآن، يعملون في مهن إستشاريّة وهندسية وتعليميّة، كما في رئاسة هيئات وجمعيّات، إلاّ أنهم لا ينفكّون عن التفكير في أنهم أنجزوا كلّ شيء قبل تلك العقود الأربعة ولم يعد هناك شيء مهمّ يقومون به. أحدهم ذكر كيف أنّه، بعد هبوطه بنحو شهر، راح يسائل نفسه: لكن ماذا أفعل هنا؟ حيث كان بين آخرين دُعوا إلى حفل عشاء.

السعوديّة وإسرائيل الحلف غير المُعلن


السعوديّة وإسرائيل الحلف غير المُعلن

أسعد أبو خليل *
نشرت «صنداي تايمز» أخيراً خبراً عن تقرير للموساد يفيد بأن السعوديّة ستسمح بعبور الطائرات الإسرائيلية فوق أراضيها إذا ما قرّرت ضرب إيران. وأضافت الصحيفة أن الموساد تعمل بجهد لتطوير العلاقة السريّة مع المملكة السعوديّة. طبعاً، السعوديّة نفت الخبر. والإعلام العربي يتجاهل كعادته أية أخبار تسيء إلى سمعة المملكة التي يتقاطر إليها ليبراليّو العالم للثناء على طقوسها في قطع الرؤوس ورجم العشّاق
الحديث عن علاقة بين السعوديّة وإسرائيل ليس ابن عصر بوش. فمن المعروف أن السعوديّة اختارت أن تكون بمنأى عن الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي منذ البداية. لم تكن في وارد النظر في أمر مساعدة شعب فلسطين لصدّ العدوان الصهيوني. طبعاً، كان الملك بن عبد العزيز ينظر بعين الريبة إلى كل ما يفعله الهاشميّون. لكن رغم نصائح مستشاريه من أهل الشام ومن الرحالة «فيلبي»، لم ينظر في أمر تدخل سعودي جدّي لنصرة شعب فلسطين. على العكس: كان عبد العزيز يمثّل الجناح الأكثر تآلفاً مع الصهيونيّة منذ الثلاثينيات. ولنتذكّر أن الموقف السعودي (كما نتبيّنه من وثائق الأرشيف البريطاني ومراسلات حافظ وهبة، مستشاره البولاقي) كان مهادناً لقرار لجنة «بيل» في 1937 بتقسيم فلسطين (وكان القرار يتضمّن طرد عشرات الآلاف من العرب من المواقع الخصيبة التي خُصِّصت لدولة يهوديّة). كذلك نصح بريطانيا بجعله أكثر قبولاً من العرب فيما كان العرب (وحتى بعض الحكومات) يرفضون القرار بالقاطع. لكن الحكومة السعوديّة خافت من أن تجاهر بموقف صريح من القرار المذكور، واختارت أن تلحق بالركب العربي في رفض القرار (علناً).

أراد الملك فهد أن يثبت لواشنطن أنّ خدمات السعوديّة لا تنحصر بالنفط ومعاداة الشيوعيّة

وكان موقف الملك عبد العزيز تتحكّم به أهواء متناقضة: فهو كان كريهاً جداً في خطابه العنصري تجاه اليهود (كيهود) وتجاه ما كان يسمّيه «المرض اليهودي». وكان يخشى أن يؤثّر أي موقف مُعلن بمهادنة الصهيونيّة على الوضع الداخلي في المملكة، وخصوصاً أنّ النقمة على الحكم كانت تتنامى من جانب «الإخوان» المتشدّدين. كذلك كان الملك طامعاً بلقب خليفة المسلمين أو حاكم العرب المطلق، مع أن الملك المصري كان ينازعه في هذا الطموح. وإذا كان هناك من أي ترسّب لمعارضة سعوديّة للصهاينة، فإنها لم تكن تتعلّق بشعب فلسطين: كان الملك يخشى فقط توسّع الدولة اليهوديّة المُزمعة وإلحاق أراضٍ سعوديّة بها. لكن الارتباط السعودي بالحكم البريطاني (بالرغم من تودّد سعودي نحو الحكم النازي في أواخر عام 1937، لكن عبد العزيز عاد وثبّت تحالفه الذيلي مع بريطانيا بعد تمنّع هتلر عن بيعه السلاح ـــــ ويحتفظ الملك السعودي الحالي في مكتبه الخاص بخنجر نازي ممهور بالصليب المعقوف مُهدى من هتلر إلى عبد العزيز، كما أخبرني سفير أميركي سابق في السعوديّة).
لكن الأبرز في الموقف السعودي من القضيّة الفلسطينيّة والموقف من الصهيونيّة كان في تلك المبادرة السريّة للرحالة «فيلبي» (وهو أبو الجاسوس المعروف فيلبي). مبادرة فيلبي لا تزال سرّ الأسرار (خصوصاً في العالم العربي) والوثائق البريطانيّة لا تعلم عنها الكثير. ما نعلمه أن الرحالة «فيلبي» جال في بريطانيا في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات مُروِّجاً لفكرة بيع فلسطين لليهود مقابل 20 مليون جنيه إسترليني تُدفع نقداً للملك عبد العزيز، بالإضافة إلى تبنٍّ بريطاني (وصهيوني ضمني) لجعل عبد العزيز ملكاً على كلّ العرب. لم يتحدّث «فيلبي» يوماً عن تفاصيل المبادرة وخلفيّتها، والسعوديّة كعادتها تلعب السياسة بالسرّ، وغالباً ما تأتي التصاريح العلنيّة إما لستر فضيحة وإما لإخفاء مؤامرة شنيعة. لكن الحكومة البريطانيّة أخذتها على محمل الجدّ وبحثتها رسميّاً مع حاييم وايزمان في عام 1942، كذلك فإنّ الرئيس الأميركي، روزفلت، كان على علم مسبق بها. ولا ندري إذا كان الدبلوماسيّون السعوديّون الذين كانوا يلتقون دوريّاً بالمسؤولين الصهاينة (كما روى بن غوريون في كتابه عن لقاءاته مع العرب) قد بحثوا في شأن تلك المبادرة. والمؤرخة القديرة إليزبث مونرو (التي كتبت تاريخاً مرجعيّاً عن أفول السياسة البريطانيّة في الشرق الأوسط) أدرجت قسماً في سيرتها عن «فيلبي» لتحليل القليل المعروف عن المبادرة. فقد ذكرت أن الملك السعودي كان مضطرّاً للنأي بنفسه عن المبادرة بسبب الخوف من ردّة الفعل لأنها تسرّبت إلى دول لم يُفترض أن تعلم بها. وافترضت مونرو أنها أتت من «فيلبي» أصلاً مع أنها لم تقدّم دليلاً. النفي السعودي الرسمي لا يبدِّد الشك، بل يزيده. ما علينا. ماتت تلك المبادرة، وإن كنّا نعلم من خلالها أن آل سعود كان يمكنهم أن يبيعوا فلسطين وشعبها بنحو عشرين مليون جنيه. لم تُبَع فلسطين، والملك السعودي لم يتّسع ملكُه.
لكن الدور السعودي الرسمي خفت بعد إنشاء دولة فلسطين. الصراع بين أخوة آل سعود في الخمسينيات وأوائل الستينيات (حتى تثبيت دعائم حكم فيصل) ساد في تلك الفترة، وكانت السياسة الخارجيّة مهووسة بالصراع مع عبد الناصر، كما يروي «مالكولم كرّ» في كتابه عن «الحرب العربيّة الباردة». لكن الملاحظ أن آل سعود شاركوا العداء الإسرائيلي لعبد الناصر، ومثّلوا جزءاً من التحالف الأميركي الغربي ضد الشيوعيّة، الذي كانت إسرائيل جزءاً منه. وهنا المهم. لا نستطيع اليوم التحدّث بملء الثقة عن معلومات أو أسانيد لعلاقات رسميّة بين السعوديّة وإسرائيل في تلك الحقبة أو ما تلاها. قد ننتظر سنوات وعقوداً طويلة قبل نشر الوثائق المتعلّقة بذلك. والحكم السعوديّ أكثر تكتّماً من كلّ الأنظمة العربيّة بسبب الهوّة بين السياسة المُعلنة والسياسة الحقيقيّة. العقيدة الوهابيّة والزعم بحماية الحرميْن لا يسمحان بالصراحة من سلالة لم تحد عن طاعة الراعي البريطاني والأميركي. لكن ليس من الصدفة أن السعوديّة كانت جزءاً من أحلاف متعاقبة على مرّ التاريخ العربي الحديث إلى جانب الولايات المتحدة و... إسرائيل. كل الأحلاف المعادية لأميركا وإسرائيل في المنطقة العربيّة كانت في الخندق المقابل للحكم السعودي. صدفة؟
والملك فيصل عزّز من أواصر الحلف مع المعسكر الرجعي المحلّي والعالمي بعدما استولى على كلّ السلطة. كان الخطاب السعودي الكريه تجاه اليهود (لكونهم يهوداً) لا يمثّل سياسة سعوديّة رسميّة تجاه إسرائيل: على العكس. كان الخطاب العنصري يمثّل غطاءً لسياسة مهادنة نحو إسرائيل على مرّ العقود. كان فيصل يجهر بكراهية تجاه اليهود والشيوعيّة، ولا يميّز بيْن الاثنيْن. لكن هذا لم يمنعه من تعليق عدائه المُعلن لليهود (لكونهم يهوداً) في لقاءاته العديدة مع من تنتدبهم واشنطن للقائه مثل هنري كيسنجر الذي كان عزيزاً جداً على قلب الملك الذي كان يجد صعوبة في ردّ طلباته. ووقف الحظر النفطي (الشكلي، لأن بيع النفط السعودي في السوق الفوريّة استمرّ من دون توقّف) في 1973 أتى تلبية لطلب من «العزيز هنري». وخطاب فيصل ضد اليهود كان شكليّاً بالنسبة إليه لأنه لم يكن يتورّع عن ترداده حتى في لقاءاته مع اليهود الصهاينة. لكن طبيعة التحالف أو التعاون مع إسرائيل في عهده كانت سريّة للغاية، ولا نملك إلا التهكّن والملاحظة هنا. أعداء إسرائيل كانوا هم أعداء السعوديّة، وكان الملك السعودي ينطق بكلام عام لا معنى له عن النيّة بالصلاة في القدس (سبقه إلى ذلك أنور السادات). لكن المملكة كانت تموّل خطاب الإخوان والسلفيّة الجهادي لأسباب تتعلّق باستجداء المشروعيّة السياسيّة في عهد عبد الناصر، كذلك فإنّ التيّاريْن كانا مهادنيْن لإسرائيل. شغلهما الصراع مع الأنظمة الاشتراكيّة على ما يبدو.

لا نستطيع في عهد
الملك عبد الله التحدّث عن سياسة خارجيّة سعوديّة، بل عن سياسات خارجيّة للأمراء السعوديّين

أما ما نُشر من وثائق من تلك الفترة في أميركا، فيبرز الدور السعودي في الضغط على حركة فتح لإسعاد الحكومة الأميركيّة. وقد نصل في تأريخ رصين لحركة فتح لدور سعودي خفي في الصعود المفاجئ أواخر الستينيات لياسر عرفات وجناح خالد الحسن في حركة فتح، وكان عامل المال مقرّراً. هناك من يشير ـــــ دفاعاً عن آل سعود، والدفاع عن آل سعود مهنة مثلها مثل المهن الأخرى في العالم العربي، وإن درّت أرباحاً أكبر ـــــ إلى العطاءات والتمويل السعودي لحركات فلسطينيّة. أولاً، إن المال السعودي كان في أكثره مالاً فلسطينياً مُقتطعاً من ضرائب تُجبى من الحكومة السعودية وتُعلن (في الماضي لأنها توقّفت) لغايات دعائيّة فقط. ثانياً، أما بعض الأموال السريّة والعلنيّة التي دفعتها بعض الأنظمة الخليجيّة لمنظمات فلسطينيّة، فهي كانت أقرب إلى خوّات أو دفعات ضمانة: كانت المنظمات المَحظيّة تتكفّل بحماية الأنظمة من أي نوع من الاعتداءات على أراضيها. قصة أبو أياد مع حكومة الإمارات معروفة: كيف وشى أبو أياد بمجموعة بقيادة أبو العبّاس كانت تنوي سرقة بنك في الإمارات. لم تعلم حكومة الإمارات أن أبو العباس حصل على جوازات السفر المُزوّرة من أبو أياد نفسه. وحصل أبو أياد على مبلغ كبير (لمصلحة جهازه) لوشايته. ولا ننسى أن بعض قيادات حركة فتح كانت تقوم بخدمات قذرة بالنيابة عن الاستخبارات السعودية، كما حصل مع المعارض السعودي، ناصر السعيد، الذي تعرّض للخطف من واحد من أسوأ الفاسدين في الثورة الفلسطينيّة في لبنان، أبو الزعيم (الذي انتفض في عام 1986 على ياسر عرفات بإيعاز أردني)، على ما يعتقد كثيرون.
أما حكم الملك فهد (والإخوة السديري)، فقد بدأ في عهد الملك خالد، لأن الأخير انصرف ـــــ على غير عادة أمراء آل سعود ـــــ للتقوى والورع، فيما انصرف الملك فهد لشؤون الحكم وشؤون ابتكار اللذّات، وخصوصاً المحرّمة. والملك فهد ارتقى بالعلاقات مع واشنطن إلى درجة التعاون في الأعمال الاستخباريّة السريّة في مناطق بعيدة جدّاً عن الشرق الأوسط. أراد فهد (الذي لا يزال رضوان السيّد يتفجّع عليه على الأقنية السعوديّة) أن يُثبت لواشنطن أن خدمات السعوديّة لا تنحصر بالنفط ومعاداة الشيوعيّة. أراد فهد إثبات الجدوى الاستراتيجيّة. الدور السعودي انتشر إلى أفريقيا وحتى إلى أميركا اللاتينيّة في عصر ريغان. لكن تظهير التحالف السعودي ـــــ الإسرائيلي برز بعد أحداث 11 أيلول.
نستطيع أن نحلّل مختلف أبعاد السياسة الخارجيّة السعوديّة ومنطلقاتها ومُقرِّراتها من جوانب مختلفة. لكن عنصر ما سمّاه المعارض السعودي فهد القحطاني في كتابه القيّم عنه «صراع الأجنحة» برز بعد 11 أيلول. لا نستطيع في عهد الملك عبد الله أن نتحدّث عن سياسة خارجيّة سعوديّة. نستطيع فقط أن نتحدّث عن سياسات خارجيّة للأمراء السعوديّين: لكل أمير سياسة خارجيّة خاصة به وجهاز استخباري خاص به. فالصلح السعودي ـــــ القطري مثلاً، لم يعبّر عن توجّهات الأمير سلمان (الساعي بجهد وراء المُلك، الذي تلقّى صفعة قويّة بإبعاده عن ولاية العهد عبر تعيين شقيقه، نايف، خليفة لسلطان، وخصوصاً أن نايف هو الأمير الأقل شعبيّة بين الأمراء ربما بسبب تمرّسه بالتعذيب في وزارته وفي بثّ الذعر من خلال شرطة الأخلاق السلفيّة، مع أنه يحظى بتأييد شديد من سمير عطا الله الذي ينفي ـــــ إيه يا محسنين ومحسنات ـــــ عن نفسه تهمة التملّق لأمراء آل سعود، أي إن مديحته للأمير مقرن كانت خالصة وصافية في عواطفها). وإعلام الأمير سلمان (في جريدة الشرق الأوسط) يسير في نهج مستقل عن سياسات الملك عبد الله ونياته (والأمير سلمان، مثله مثل الأمير سلطان، يلازم قصره في المغرب منذ أشهر طويلة سعياً وراء الراحة، وهي غير «راحة الحلقوم»). والأمير بندر كان يتمتّع بدرجة عالية من السلطة في أمور الاستخبارات والسياسة الخارجيّة، وذلك بسبب قربه من عمّه فهد، لا من أبيه سلطان (يمكن مراجعة سيرة بندر لويليام سمبسون ـــــ غير النقديّة ـــــ التي يتطرّق فيها إلى نشاطات السعوديّة في آسيا وأفريقيا دعماً لحركات مناهضة للشيوعيّة، كذلك فإنه يتعرّض للعلاقة الباردة بين بندر وأبيه).
لكن موت الأمير فهد فتح الباب واسعاً أمام صراعات الأجنحة: لم يتآلف من بقي من الأخوة السديريّين مع فكرة الملك عبد الله ملكاً، وخصوصاً أنّه برز ضعيفاً أمامهم لأنه لا أخوة أشقاء له. وجناح أبناء الملك فيصل لم يتقبّل فكرة استمرار بندر في إدارة العلاقات مع واشنطن: وهذا ما دفع الأمير تركي إلى الاستقالة من منصب السفير بعدما تبيّن له أن بندر لا يزال يقوم بزيارات سريّة من وراء ظهره إلى واشنطن لغايات لا علم له بها. كان تركي كالسفير المخدوع. لكنّ الأكيد أن بناء العلاقة بين إسرائيل والسعوديّة وتوثّقها بدآ (أو كبُرا) بعد 11 أيلول. علم الحكم السعودي أن تدهور العلاقات مع أميركا لا يمكن إلا أن يمرّ عبر إسرائيل: وهذا السرّ مكنوه من كل الحكّام العرب. بدأت السعوديّة عبر أكثر من صلة الاتصال المباشر مع الحكومة الإسرائيليّة كما ذكرت تقارير صحافيّة. هناك من يقول إن بندر كان مُبادراً، لكن العلائم كانت بادية. سعوديّون يتقاطرون للحديث عن الخطر الإيراني أمام الذراع الفكرية للوبي الصهويني في واشنطن (الذي استضاف أيضاً وليد جنبلاط ـــــ في مرحلة الغشاوة الثانية التي انقشعت بعد 7 أيار ـــــ ونهاد المشنوق ومصباح الأحدب، السلفي المُتنوِّر). لكن جوانب التقارب مع، أو قُل التملّق السعودي نحو، إسرائيل تبلورت في مبادرة توماس فريدمان. حلم الملك السعودي بموافقة إسرائيليّة تكفل له الخروج العلني بحلفه مع إسرائيل. لكن كان عليه أن يقبل أكثر (ويزهو مروان المعشر في كتابه عن «الوسطيّة العربيّة» بدوره في محاربة حق العودة في المبادرة «العربيّة») ما يسبّب إحراجاً له في صراع الأجنحة وفي محاولته البروز كملك السنّة العرب غير المُتوّج.
لكن جوانب الاتفاق مع إسرائيل كانت على أكثر من صعيد: توقفت السعوديّة على الفور عن دعم أي فصيل فلسطيني يدعو إلى الكفاح المسلّح ضد إسرائيل. حتى التبرّعات السعوديّة الخاصة والشعبيّة (والشعب السعودي على خلاف حكّامه متعاطف بقوة مع شعب فلسطين) تعرّضت للتحريم الرسمي. انحصر الدعم السعودي بعصابات الدحلان التي تتلقّى الدعم الأميركي والإسرائيلي. أي إن الدور السعودي في القضيّة الفلسطينيّة يمرّ اليوم بما هو مُجاز إسرائيليّاً. وفي حرب تموز، توضّحت الصورة أكثر بعدما أدّى اغتيال رفيق الحريري إلى عداء قوي للنظام السوري وإلى رسم حدود الفريقيْن في لبنان، وكانت السعودية إلى جانب الفريق الذي يعارض مقاومة إسرائيل. والإعلان السعودي المُبكِّر في دعم إسرائيل في عدوان تمّوز كان سابقاً لأوانه ومثّل (ولا يزال يمثّل بالمقياس التاريخي، وإن تمنّع حزب الله عن انتقاد السعوديّة ربما تلبيةً لطلب إيراني بالمهادنة) إحراجاً لموقف المملكة من الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. لكن البيان صدر عن «مصدر مسؤول»، والإشارة يمكن أن تخفي صراع الأجنحة على السياسة الخارجيّة، وهزيمة حزب الله التي كان يمكن أن تخرج بالحلف الإسرائيلي ـــــ السعودي إلى العلن، لم تتحقّق. سارعت المملكة كعادتها لمحاولة إنقاذ نفسها عبر إعلان برنامج مساعدات سخيّ للبنان (وصل بعض هذه الإعلانات فقط وبعضها الآخر أسهم في إنجاح فريق «الأمير مقرن أولاً» في الانتخابات النيابيّة) للتغطية على الموقف المُبكِّر. ساعدت إسرائيل السعودية عندما سمحت فقط لأعوانها من الأنظمة العربيّة بالهبوط في مطار بيروت لتقديم المساعدة للبنان أثناء العدوان. العداء لحماس بعد انهيار اتفاق مكة أسهم في تعزيز أواصر الصداقة الوهابيّة ـــــ الصهيونيّة، وسارع الملك عبد الله إلى الترويج لمبادرة أخرى: الحوار بين الأديان.
وهناك بعض الأسئلة البريئة: هل يفترض الحوار بين الأديان اختصارها بالإسلام ممثلاً بالملك السعودي واليهوديّة ممثّلة بشمعون بيريز (حتى حليف السعوديّة في لبنان، بطريرك الموارنة ـــــ العروبي ليوم واحد فقط ـــــ لم يُدعَ إلى الحوار بين الأديان، مع أن البطريركيّة المارونيّة حاورت الصهيونيّة قبل توقيع الاتفاق السرّي بين البطريركيّة والحركة الصهيونيّة في عام 1946)؟ هل الصدفة وحدها وراء الترويج لمعلّقين غربيّين (وعرب) من عتاة الصهاينة في الغرب؟ هل الاستفادة من حكمة البريطاني عادل درويش في كل الإعلام السعودي تدخل في باب الصدفة، مع أنه ليكودي عريق، وقد أسّس في لندن منظمة لمناصرة إسرائيل في الإعلام البريطاني؟ هل الصدفة هي في التخفيف من وتصغير تغطية حجم المعاناة الفلسطينيّة في الإعلام؟ هل هذا التركيز على الرياضة والتسلية والمنوّعات المبتذلة (التي تروّج لتسليع المرأة وإهانتها) في الثقافة المُموّلة سعودياً على حساب أخبار السياسة هو أيضاً صدفة؟ هل الحماسة الإسرائيليّة للفتنة السنيّة ـــــ الشيعيّة وتنصيب شمعون بيريز مفتياً في شؤون المسلمين في الإعلام الغربي والسعودي صدفة؟ هل المسارعة السعوديّة للترويج للخطر الإيراني عندما تكون إسرائيل تخوض غمار عدوانها على لبنان وفلسطين هي صدفة أيضاً؟ هل المؤامرة لاحتلال العراق والتلاقي السعودي ـــــ الإسرائيلي جريا من دون تنسيق وتوزيع أدوار؟ هل إعلان النظام العربي الأمني بقيادة الأمير نايف «الحرب على الإرهاب» والاستعارة من مصطلحات إسرائيل ووسائلها (من يلاحظ في لبنان مثلاً أن إعلان «الحرب على الإرهاب» هناك تزامن مع تدمير مخيم فلسطيني آهل بالسكّان؟) هل كان انسحاب السعوديّة من المقاطعة العربيّة لإسرائيل هكذا أمراً عفوياً لا سابق ولا لاحق له؟ وهل التناغم والغزل بين الإعلام الإسرائيلي والصهيوني عامةً والإعلام السعودي هو أيضاً محض صدفة؟ ولماذا اضمحلّت وزالت بعض الأصوات الليبراليّة في الغرب التي كانت تندّد باستمرار بخرق حقوق الإنسان في السعوديّة؟
إذا كان «فيلبي» قد عرض مشروعاً سعودياً لبيع فلسطين للصهاينة مقابل 20 مليون جنيه، فإن خادم الحرميْن الحالي قد يعرض في يومٍ ما بيع الحرميْن مقابل أقلّ من ثلاثين من الفضة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)


عدد السبت ٢٥ تموز ٢٠٠٩

السبت، ١٨ تموز ٢٠٠٩

ليــت العــرب ظاهــرة صوتيّــة


ليــت العــرب ظاهــرة صوتيّــة

أنسي الحاج

ليت العرب ظاهرة صوتيّة

الموسيقى: ما يسكّن الضجيج ـــــ بما فيه ضجيج «هذه» الموسيقى المزعومة ـــــ ويوقظ فجر الأشياء. ما يَغْسل حيث لا يصل مَطْهر. الوعي الآخر. موسيقى تستنهض الماء في الصحراء وتمدّ الأعناق خارج الأسر، فوق العناصر.
الصوت المغنّي: أجمل من الوجه الجميل. جمال يلغي شعورك بالحَذَر أمامه. يمحو كلّ سبب للقرف.
نشهد اليوم فتنة ضدّ هذا المفهوم للموسيقى والصوت. مؤسسات ضخمة تعمل لتسييد المواء والغباء ودكّ أسس الذوق. عندما نقول موسيقى وغناء، قطعاً لا نقصد الهبوط المسوَّق، بل الاستثناءات التي فرضت وتفرض نفسها رغم انتشار الضحالة. (الشيء نفسه ينطبق على الشعر والرواية والرسم والمسرح إلخ...).
حتّى لا نظلم الحاضر يجب التذكير بأن لكل مرحلة إسفافها، لكن الخطر في إسفاف الحاضر كونه اجتياحيّاً مجهّزاً بأسلحة فتّاكة، من الخطة إلى المال، فضلاً عن الجهل كأساس «عقائدي» لدى بعض الوكلاء العرب خاصة، وفي أحسن الافتراضات ظنّاً.

كان عبد الله القصيمي يقول إن العرب ظاهرة صوتيّة. ليتهم كانوا كذلك. ليتهم كانوا للصوت بمعناه الأصفى، المناقض للحسّ الغوغائي. الألمان ظاهرة صوتيّة أدنى ما فيها الانخطاف بهتلر ولكن وتيرتها العظمى والطاغية هي الانخطاف بباخ وموزار وبيتهوفن. الصوت هو صدى ما في داخلك من صوت، في صميم داخلك، تحت غطاء الضباب الكثيف. هو ما نحبّه كلّ الوقت وما يقدر أن يُطْلع كل شيء آخر منّا. هو أنفاسنا رُدّت إلينا. هو خَلْق الحنين الساعي في حلمه. إنه الجزء اللطيف المُحبّ من لغة الآلهة المخيفة، إنه اللغة الفوق بشريّة الأكثر إنسانية من الإنسان، واللغة الملائكيّة الأشد قرباً إلينا من أي ملائكة، إنه اللغة الإلهيّة التي عندما تُخاطب البشر لا تحمل لهم غير العافية والسموّ والقوّة والحبّ وأذكى عطور الحقول.

الأذن والعين

ثمّة مَن يجد رضىً خاصّاً في العطاء، بل في أن يؤخذ منه. عندما ننقل الموضوع إلى صعيد التأليف الفني والأدبي لا يعود هناك أرقى ولا أقوى ممّن يُعطيك، ولا يأخذ منك غير إعجابك. تغمرنا هذه النعمة في الموسيقى والغناء ونستمتع بهما أكثر ممّا نستمتع لدى مطالعتنا أدباً مُنعماً عليه، لأن لغة الصوت والموسيقى أكثر إعجازاً ولأن الأذن أكثر عمقاً من العين، وبالأخص لأننا نغرق في الغربة الساحرة أعمق ممّا نذهب مع الألفة الساحرة. سطوة الغربة تُقلّص مساحة التساوي وتفرض الاستسلام.
هذا الكلام من كاتب كان يقابله دوماً اعتراضٌ من الملحّنين وإصرار على تعظيم شأن الكلمة ووضعها في المقام الأول. دوّامة تجامُل، أو هو وَهْم الجاهلين بعضهم بعضاً. علاقة ملتبسة وخصبة أكثر ما نصادفها بين موسيقي وكاتب. وكم من موسيقي كَتَب أو تَطَلّع إلى الكتابة وكم من كاتب كتب على خلفيّة خيال غنائي أو سمفوني وانطوى على حنين مُحْبَط إلى الاشتغال بالموسيقى.
... ويُعتدى على الأذن مثلما يعتدى على العين. ولم يكن بدّ في الماضي ولن يكون بد في المستقبل من سطوة إرهابٍ معنوي مستحَقّ يفرض المعايير والقيم ضدّ الفوضى.

تحت وطأة لحظة

الزعل، فجأةً، مع شخص عزيز، يرمي بكَ وحيداً وسط أقيانوس تكتنفه الظلمات وتعلوه قبّة أعظم هولاً منه.
في هنيهة يتمزّق غلاف الأمان. الصدر يغدو مَرْمَدة والصوت يختنق. الجبين الذي كان يغلي بالمشاريع يخلو فجأةً إلا من الهَلَع. «ما أضعفني!» تقول، وتودّ لو تصرخ «النجدة!». النجدة ممَّ؟ ممّن؟ ربّما من إحساسك بزوال قانون الجاذبيّة الذي كان يربط وجودك إلى الشخص العزيز ويؤمّن توازنك. فقد أمسيت الآن، تحت وطأة الزعل، متروكاً بلا كفيل، بلا فضول، لا رفيق لك غير كبرياء تأبى الالتفات إليك ما لم تطعمها قلبك.
لحظة زعل مع شخص عزيز حكْم بالانفصال إلى العزلة المهزومة، تستيقظ فيها الذنوب كالأفاعي، وعِقَد النقص كالدبابير، إلى الأمام الرماد وتحت القدمين الفراغ وفوق الرأس جيوش من النجوم تبدو لك، في أنانيتك النازفة، ذروة الغباء، تُنافسها جحافل الموج الهاجمة إلى الأبد على طواحين الرمال.

الاحتجاج على الظلم

رَفْعُ الحنان إلى مستوى الألوهة. التضامن البشري عن طريق الشعور لا عن طريق الروابط الدينيّة والعرقية. الإلحاد ليس شرطاً للتحرّر والانفتاح بل الشرط هو الإحساس. الإلحاد، بالعكس، قد يكون تغطية للتحجّر واللامبالاة. التعصّب كذلك. كلاهما غياب إلهيّ وكلاهما جفاف روحي.
الاحتجاج على الظلم (في الطبيعة أو المجتمع) غالباً ما يتحوّل إلى ظلم من نوع آخر، ذروته استباحة الحياة، أو القتل باسم الثورة، باسم المَثَل الأعلى، باسم الثأر من انعدام المعنى.
انظرْ إلى النتائج: أكثر ما يُخفّف القهر ليس الصراخ والغضب بل الرقّة.

ضميره نظره

لا ينظر إليك وهو يؤذيك. هكذا يتخلّص من ضميره، فضميره ذاكرته وذاكرته نظره ونظره مفصول عن باقيه.

إعادة تكوين

من علامات انقلاب الأشياء أن الصحافة الأدبيّة اعتمدت أسلوب الصحافة السياسيّة (بما فيها من طمس الأساسي تحت الهامشي) عوضَ أن تتأثّر الصحافة السياسيّة بالأدب وتتلقّح بقيمه. هبوطٌ يشمل اللغة، إذ تدهورت لغة الثقافة نحو الكليشيهات والاستثارات الرخيصة، ولم يعد يلمع إلا ما تُحفّزه المصالح والنرجسيّات.
الأخطر، وهذه وقَبْلها ظاهرة عالميّة، تراجُع الصحافة الأدبيّة عن النقد. بات التهرّب من الصرامة براعة. ليس دائماً بضغط العلاقات بل أحياناً خشية الخطأ. منذ الظلم الذي أُلحق ببودلير ورمبو ثم إعادة الاعتبار المدوّية لهما أصيب عالم النقد الفرنسي، وبعده العالمي، بعقدة الخطأ، وأصبحت القسوة استثنائية والشدّة غائبة لحساب التحليل الذي لا يستوجب موقفاً ناصعاً، أو تضييع الموضوع بخلط أوراق صبياني. ولم تلبث الصحافة الثقافية بدورها أن خضعت بالكامل لمقاييس الاستهلاك التجاري، وحلَّ الترويج محلّ التقييم.
إن ما يجب إعادة تكوينه الآن ليس الشعر ولا الرواية ولا الموسيقى ولا التصوير ولا الحبّ ولا الرغبة، بل النقد.

الخبر اليقين

أنتَ مَن يحمل النور إلى عينيكَ لا النور ولا عيناك. أنتَ مَن يكسو ويُعرّي لا الثياب. وهذا الهواء في يديك، واليد في هوائك، والسماء حول العنق. وأمّا التعب فليس تعبك.
اعطِ ثقتك للسراب.



من نيتشه

«سوء فهم بخصوص الحنان. هناك حنانٌ خادميّ يُذعن وينحطّ، يَرْفع إلى الصعيد المثالي ويخطئ. وهناك حنانٌ إلهي يَحْتقر ويُحبّ، يُغيّر ويسمو بمَن يُحبّ».
(نيتشه)
□ □ □
«ما إن تصير وسائل القوّة غير كافية حتّى تبدأ في الظهور أساليب التخويف والإرهاب. بهذا المعنى، يمكن القول إن أي نوعٍ من أنواع العقاب النموذجي هو دليل ضعف في تلك الفضيلة المُشعّة التي ينبغي صدورها عن الأقوياء. إنه دليلٌ على كونهم قد أخذوا يشكّون في قوّتهم».
(نيتشه)
□ □ □
«أودّ لو أطرد من دولتي المثالية الأشخاص «المثقفين، كما طرد أفلاطون الشعراء. ذلك هو إرهابي أنا».
(نيتشه)
□ □ □
«ضد نزعة «الثقافة العامة»: فلنبحث بالأحرى عن الثقافة الحقيقيّة، النادرة والعميقة. لنقلّص حجم الثقافة ونكثّفها، كردّة فعل على الصحافة...».
(نيتشه)
□ □ □
«يا صديقي، «الخطيئة الأصليّة» هي بالتأكيد البرهان على فضيلتك الأصليّة».
(نيتشه)


عدد السبت ١٨ تموز ٢٠٠٩

سليل الرسول (وظهـير إسرائيل)


سليل الرسول (وظهـير إسرائيل)

طفلة فلسطينيّة أنهكها التعب على جسر الملك حسين بين الأردن والضفّة الغربيّة (أرشيف ــ رويترز)طفلة فلسطينيّة أنهكها التعب على جسر الملك حسين بين الأردن والضفّة الغربيّة (أرشيف ــ رويترز)ذكرت الصحافة الأردنيّة أخيراً ان اختيار العاهل الأردني وقع ــ حسماً للجدال والتكهّنات ــ على ابنه ذي الخمسة عشر عاماً ليكون وليّاً للعهد. ولا شك أن الاختيار جاء نتيجة لبحث معمّق اعتمد فقط على المؤهّلات والمواهب والاختصاصات. ولا يلومَنّ أحدٌ الملكَ الأردني إذا وجد كل صفات الكمال مجتمعة في ابنه البكر، الحسين

أسعد أبو خليل *
أبناء الزعماء العرب ليسوا نجباء بالسليقة فقط، لكن المواهب والكفاءات تظهر في سيمائِهم في سن الرضاعة. والأمة الأردنيّة ـــــ أو ما اتُّفق اعتباطاً على تشكيله اعتباطيّاً كـ«أمة» ذات صفات مشتركة (مع أن ونستون تشرشل الذي، وفق روايات الدبلوماسيّة البريطانيّة، رسم خريطة الأردن بعد وجبة غداء في مطعم في القدس، اقترح أن يُشار إلى من يقطن في المملكة الجديدة كـ«فلسطينيّين أردنيّين»، لكن الاستعمار عاد وغيّر فكره في هذا الصدد)، أو مُتخيّلة لأن المُستعمر البريطاني جهد ليخلق من عدم هويّة وثقافة لفصل شعب عن محيطه خدمة للمشروع الصهيوني الذي تبنّته الإمبراطوريّة التي غابت عنها الشمس في وعد بلفور عام 1917.
ويفرد الصديق جوزف مسعد في كتابه المرجعي، «آثار استعماريّة»، عن تشكيل الوطن الأردني، فصلاً خاصاً لتحليل كيفيّة تشكيل الثقافة الوطنيّة الأردنيّة والمواطنيّة المُصطنعة على يد الاستعمار البريطاني والتي أنتجت ما سمّاه مسعد «مقلّدي المُستعمِر» المُحترفين. الإنشاء العسكري كان نموذجاً ودليلاً للإنشاء الوطني، والبريطاني ملمّ بشؤون الرعيّة أكثر من الرعيّة ومن وكلائه. ولا يمكن الفصل بين خلق الكيان الصهيوني وخلق كيانيْن مصطنعيْن لتسوير إسرائيل دفاعاً عنها مستقبلاً. ولا شك أن لبنان والأردن كانا خير معينيْن لإسرائيل في كل المراحل التاريخيّة، حتى في تلك المراحل التي تصنّع فيها الأردن الحرب على إسرائيل. ولا شك أن الكيان الأردني حمى إسرائيل في محطّات تاريخيّة مفصليّة، لا بل إن النصر الصهيوني عام 1948 يعود في الدرجة الأولى إلى التواطؤ الهاشمي الذي أدّى إلى تولّي الأردن (بإصرار بريطاني) «قيادة» العمل الحربي العسكري (الكوميدي) ضد إسرائيل وذلك لا لمنع

الروايات العربية عن حرب 1967 تخفي دور النظام الأردني في دفع مصر نحو التهلكة

قيام إسرائيل وإنما من أجل قيامها ومن أجل منعِ منعِها. تذكر المراجع التاريخيّة (مثل كتاب «جذور الوصاية الأردنيّة» لسليمان بشير وكتاب ماري ولسن عن «الملك عبد الله وإنشاء الأردن») كم كان الملك عبد الله حريصاً على تلقّي الرشى الصهيونيّة. وكانت الأموال التي ضَمَنت دعمه للصهيونيّة زهيدة جداً: بضع مئات من الجنيهات هنا وهناك وهنالك، وكان أحياناً يطلب المزيد في المواسم والأعياد لأنه ـــــ كما قال في رسالة ـــــ يريد أن يؤثّر على الصحافيّين والكتّاب الذين يناهضون الصهيونيّة. لكن الرشى تقليد لم يحدْ عنه العرش الهاشمي منذ إنشاء الكيان.
والعودة إلى عام الفصل في 1948 ودور الملك عبد الله مهمة للغاية ليس فقط لتمحيص درجة التواطؤ العربي على أكثر من جبهة، بل لتلمّس الدور المرسوم للأردن منذ بداية الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. فماذا فعل وقال سليلُ الرسول القادم من مكة؟ قال ما يلي ردّاً على الغضبة العربيّة العارمة بعد مجزرة دير ياسين: «لقد تلقيت برقيّة من الوكالة اليهوديّة تستنكر فيها مذبحة دير ياسين وتعلن سخطَها على الإرهابيّين الذين اقترفوا الجريمة». خاف حضرته أن تعمّ الغضبة وتؤثّر على اتفاقاته مع الصهاينة (والتي تناقضت مع ما كان يتّفق مع العرب عليه). وعندما كان العرب مُجمعين على ضرورة التصدّي للخطر الصهيوني، كان عبد الله هذا يُولول ويرغي ويزبد محذِّراً من الخطر الشيوعي: «إني والله أحب السلام... ولكن إذا ازداد الموقف سوءاً فإني أشدّ الناس مراساً في العمل، وخاصة إذا شممت رائحة الشيوعيّة هناك». (نص تصريحات عبد الله مُدرَج في كتاب عبد الله التل القيّم، «كارثة فلسطين»). وعندما كان شعب فلسطين يستنجد بالجيوش العربيّة، وَعدهم بـ«ذئاب العرب» لكن فقط إذا تعرّضت المُقدّسات للخطر. (ص. 63 من المرجع المذكور). ولا داعي لفتح جروح شعب فلسطين بسرد تفاصيل التدخل العربي المسرحي، وخصوصاً أن القائد العربي، الملك عبد الله، كان مُرتَهناً للمستعمِر البريطاني والوكالة اليهوديّة في آن واحد. حرص غلوب باشا أن لا يحيد دور الجيش الأردني عن الاتفاق السرّي. وسرعان ما اجتمع عبد الله مع وفد إسرائيلي بعد انتهاء المعارك وقال له: «وأنت تعلم يا ساسون ـــــ والأخير باني علاقة مُبكّرة مع حزب الكتائب اللبنانيّة رغم اختلاق جوزف أبو خليل لرواية الإبحار العفوي إلى إسرائيل عام 1976 ـــــ أننا لم نحاربكم ولم نعتدِ على ما خُصِّص لكم (في الاتفاق الأردني ـــــ الإسرائيلي السرِّي)». وسارع بن غوريون إلى تقديم هديّة ثمينة للملك عبد الله الذي، للأمانة، كان يُفضِّل الهدايا النقديّة من الصهاينة لا الخرائط القديمة والجلود المزركشة. ما علينا. عرف شعب فلسطين بسرعة ما فعله بهم عبد الله، وكان ما كان.
لا شك أن دور الملك حسين كان مؤثِّراً. لم يحد الوطن الأردني (المسخ مثله مثل لبنان) عن دور الظهير لإسرائيل الذي بدأه جدّ الحسين من قبل، وفق الإرادة البريطانيّة السامية منذ الإنشاء. والحديث عن الحسين واجبٌ هذه الأيام وخصوصاً أن كتابيْن صدرا حديثاً هنا لسرد سيرة رجل وَقع كتّاب الغرب في هيامِه ـــــ لا لإقامته مملكة فاضلة وإنما لسهولة إذعانِه ولتقديمه خدمات جلّى للعدو الإسرائيلي على مرّ العقود. يمكن التعميم بالقول إن الحكومة الهاشميّة كانت إلى جانب إسرائيل في كل مراحل الحروب العربيّة ـــــ الإسرائيليّة وفي كل مسار ما يُسمّى «الحل السلمي». أي إن الملك الأردني ناصر إسرائيل سلماً وحرباً. لكن اغتيال الملك عبد الله أمام ناظريْ حسين ضمن ألا يكون الأردن الدولة العربيّة الأولى التي توقّع اتفاق سلام مع إسرائيل (سبقهم أمين الجميّل إلى ذلك، والأخير قال بصفاقة أخيراً إن لا أحد يزايد عليه في ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة). آفي شلايم أصدر كتاباً ضخماً عن الملك حسين ضمنه تفاصيل من لقاءات خَصّه بها الملك، بالإضافة إلى حثّه خلصائِه للتحدّث لشلايم. وشلايم مؤرّخ من فريق ما يُسمّى «المؤرخين الجدد»، وهو من منتقدي إسرائيل في احتلالها الضفة الغربيّة وغزة. وقد استطاع أن يحصل على ثقة الطلاب العرب في جامعة أوكسفورد حيث يُعلّم. قال لي بعض تلاميذه هذه السنة إنه يقول لهم إنه خدم في الجيش الإسرائيلي لكن في حرس الحدود فقط. ذكّرتُ الطلاب العرب بأن حرس الحدود هو الذي قتل «الآلاف» ـــــ وفق تعداد المؤرخ اليميني بني موريس في كتابه «ضحايا مؤمنون بأحقيّتهم» ـــــ من الفلسطينيّين العزّل بين 1948 وأوائل الستينيات. وكان هؤلاء يحاولون التسلّل إلى فلسطين المحتلّة لتفقّد ممتلكاتهم.
وسيرة شلايم (تحت اسم «أسد الأردن» ـــــ يكفي الاسم للتيقّن من ولاء شلايم للهاشميّين) عبارة عن 700 صفحة من الدعاية المجّانية للهاشميّين. فهو لا يخالف الملك في رأي ولا ينتقد ممارسات لا بل مجازر الملك في أيلول الأسود. وفي مخالفة لمعايير البحث العلمي، لا يحاول شلايم حتى مراجعة المصادر المخالِفة للملك: فروايات الفلسطينيّين لأيلول الأسود (والمراجع العربيّة) لا تهمّ: يعتمد شلايم فقط على الرواية الهاشميّة وكتب إسرائيليّة. ويضفي في روايته مسحة عاطفيّة رومنسيّة على وصفي التلّ (مثلما يحاول بعض مدّعي اليساريّة في الأردن من الذين يؤمنون بديكتاتورية قائد الاستخبارات السابق عوضاً عن ديكتاتوريّة العمّال)، ويعتمد في روايته عنه (والزعم أنه كان يمتلك خطة لتحرير فلسطين (ص. 189) على... أفراد عائلته، لا على ثوّار فلسطين الذين تدلّوا كالفراريج في أقبية تعذيب النظام. لكن شلايم يوضّح منطلقاته في مقدمة الكتاب عندما يصف الملك بأنه يجمع بين «الإنسانيّة والتواضع». لا يمتنع حتى عن تسويغ المواقف الشخصيّة للملك، مثل منعه مطلّقته الأولى من رؤية ابنتها (ص. 98 من الكتاب). لكن الأمر يُثير تساؤلات: ما الذي يجعل من ملك لم يحكم طيلة حياته إلا عبر الجمع بين القمع والتدخّل الخارجي (الغربي والإسرائيلي) لإنقاذ نظامه مثارَ إعجاب من ليبراليّين غربيّين؟ الجواب طبعاً يكمن في خدماته لإسرائيل، وكان شلايم أول من صارحه الملك برواية أخبار كل لقاءاته مع الإسرائيليّين عبر طبيبه البريطاني الصهيوني (وإن فات شلايم أن الملك تمتّع بأكثر من صلة بأصدقائه في إسرائيل، ولم تمرّ دائماً لقاءاته بهم عبر الوسيط اللندني). ونذكر أن الملك كان حريصاً على نفي ما يصدر في كل مطبوعة ملك الأردن عبد اللّه الثاني... (أرشيف ــ رويترز)ملك الأردن عبد اللّه الثاني... (أرشيف ــ رويترز)غربيّة تذكر خبراً عابراً عن لقاءاته بالإسرائيليّين عبر السنين.
وينسى من يحاول من الغربيّين إضفاء مسحة من التهذيب وحسن الخلق على الملك أنه كان من أصدح الشتامين بين الحكام العرب في الستينيات. هذا الذي لا يخاطب الغرب إلا بأقصى مظاهر التهذيب وعبارات الترحيب احتراماً منه للرجل الأبيض، كان قبل أشهر فقط من حرب 1967 يصبّ جام غضبه على جيرانه العرب فيقول عنهم ـــــ لا عن الصهاينة: «دكاكين الشرّ التي نصبها أولئك السفاحون وكهوف الانتهازيّة التي أقامها أولئك المجرمون...» (جريدة «القدس»، 24 أيار، 1967). ويخفى في الروايات العربيّة عن حرب 1967 أن النظام الأردني أدّى دوراً غير بريء في دفع النظام المصري (والذي يتحمّل مسؤوليّة تاريخيّة في الهزيمة) نحو التهلكة. إن المؤتمر الصحافي الذي عقده وصفي التل في 7 كانون الثاني 1967 لم يكتم النوايا: الهدف كان الضغط على النظام المصري لسحب قوات الطوارئ الدوليّة. لقد «ألقى عبد الناصر سلاحه»، ظل التل (الذي وردت معلومات مهمّة عن دوره وعن مقتله في مذكرات إبراهيم سلامة) يُكرّر، ودعا النظام الأردني عبد الناصر إلى سحب قوات الطوارئ الدولية إذا كان حقاً ينوي قتال إسرائيل. وفي حرب 1973، القصة معروفة: اشتمّ الحسين (من خلال جاسوس أردني في الجيش السوري كما كشف كتاب أشتون المذكور أدناه) رائحة التخطيط لحرب مصريّة ـــــ سوريّة فطار إلى إسرائيل على عجل ليحذّر صديقة العائلة الهاشميّة، غولدا مائير. الحميميّة بين الحسين وإسرائيل بلغت درجة جعلت من سليل الرسول قابلاً بِـ (ومُتقبِّلاً لِـ) الغارات التي كانت تشنّها إسرائيل على قوات الشرطة... الأردنيّة نفسها، كما ورد في وثيقة أميركية أُفرج عنها وتعود إلى 18 تشرين الثاني 1966. لكن إنشاء الأردن ـــــ مثل إنشاء لبنان ـــــ اشترط القبول بالتنازل عن السيادة، وإلى الأبد.
... ووليّ عهده حسين (أرشيف ــ أ ف ب)... ووليّ عهده حسين (أرشيف ــ أ ف ب)هناك معلومات إضافيّة عن الملك في كتاب آخر صدر حديثاً عن دار نشر جامعة ييل لنايجل أشتون. وليس ما نُشر في الكتابيْن جديداً لمن كان دائماً يُشكّك في الدور الأردني في الشرق الأوسط. التفاصيل والروايات وحدها جديدة. كتاب أشتون يُظهر المدى الذي كان فيه الملك أسيراً لمديري الاستخبارات التي كان يثق بها: في الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل. مدير محطة الاستخبارات الأميركيّة في عمان، جاك أوكنيل، كان حاكماً بأمره، وهو الذي تولّى بنفسه دفع المخصّصات السريّة التي رصدتها الوكالة للملك (كما روى بن برادلي، رئيس تحرير «الواشنطن بوست» في مذكّراته) من أجل تعزيز أجهزة استخباراته، وإن كان يستعين بها لغايات اللهو والمرح والحماية الشخصيّة. وعلاقاته بقادة الموساد كانت تاريخيّة، وكانوا يمدّونه بما يحتاج إليه من معلومات لم تتوافر لأجهزته. ويكشف الكتاب سرّاً: أن الملك دعم وبقوة ترشيح بنيامين نتنياهو عام 1996 وروّج له بين الزعماء العرب، وإن شعر بالخذلان بعد ذلك.
لكن كتاب أشتون كان أكثر صراحة في الحديث عن التحالف الوثيق بين الملك حسين وصدام حسين. كانا صديقيْن حميميْن (كما كان الملك عبد الله الأردني صديقاً شخصيّاً لعدي صدّام حسين وإن أرادنا أن ننسى ذلك اليوم). ومن المعروف أن صدّام سمح للحسين بمساهمة رمزيّة في القصف في الحرب العراقيّة ـــــ الإيرانيّة. كتاب أشتون يتحدّث عن وساطة بين نظام صدّام وإسرائيل (ليكفّ أيتام صدّام من القوميّين العرب عن اختلاق صورة صدّام الذي كان ـــــ وفقاً لمخيّلاتهم ـــــ على وشك تحرير فلسطين لو لم «يتورّط» وكأنه قاصر ـــــ في غزو الكويت). تلك الأيام من الاحتلال العراقي للكويت، أطلق الحسين لحيته وتذكّر أنه سليل أشراف مكة. أصابته نوبة الدين مرّة أخرى. قد يكون حلم بالعودة إلى الحجاز. عاد ووجد صعوبة في كسب ودّ الأميركيّين. قدّم سلسلة من الاعتذارات للراعي الأميركي وانتظر بضع سنوات للحصول على صك الغفران مقابل مزيد

حظي الملك عبد الله الثاني بشرف أوّل إعلان لمخطّط إذكاء الفتنة المذهبيّة

من التنازلات ومزيد من الإذعان وتنفيذ الأوامر بحذافيرها.
ولكنْ كلا الكتابيْن لم يصلا إلى حقيقة ما جرى بالنسبة إلى تعيين عبد الله خليفة لوالده. اعتمد شلايم على روايات أفراد في العائلة المالكة غير أن الرواية ناقصة. نحن نعلم اليوم عن الصراع بين الأمين والمأمون وخلافة هارون الرشيد أكثر مما نعلم عن الصراع بين الحسن وزوجة شقيقه أثناء مرض الحسين في أميركا. وتعيين عبد الله بكره أخيراً وليّاً للعهد زاد الغموضَ غموضاً بالنسبة إلى الصراع داخل العائلة.
سيرة الملك عبد الله لم تُكتب بعد، لكن هناك الكثير عنه في كتاب رون سسكند «أسلوب العالم» الذي صدر في العام الماضي. يروي سسكند أن الملك حسين، الذي لم يكن مقرَّباً يوماً من ابنه (ويعترف الابن بذلك في مقابلاته مع شلايم)، سلّم أمر تربية ابنه السياسيّة، وحتى الشخصيّة، في الثمانينيات إلى بوب ريشر، مدير محطة الاستخبارات الأميركيّة في عمّان. وعبد الله ،الذي يحتاج إلى جولة سنويّة في ولاية كاليفورنيا للتنزه في شوارعها البحريّة على درّاجته الناريّة، يصطحب ريشر (الذي اتُّهم في كتاب سسكند بتزوير رسالة من مدير استخبارات صدّام من أجل الترويج لعلاقة بين صدام والقاعدة، والذي تبوأ بعد تقاعده من الوكالة منصب نائب الرئيس في شركة «بلاك ووتر» التي تركت بصماتها الدامية في العراق) حتى في رحلات الدرّاجة الناريّة. واعتمد الابن، شأن الأب، على شركات إعلان وعلاقات عامّة أميركيّة لتحسين الصورة والتأثير على الرأي العام. وشركة «ساتشي وساتشي» التي ساعدت (بعقود باهظة) الاحتلال الأميركي على الترويج لنفسه باللغة العربيّة ـــــ وجهود اللبنانيّين في الشركة كانت حثيثة ـــــ قامت بالواجب واجترحت له شعار «الأردن أولاً» والذي تحوّل إلى بداية إطلاق حملة عنصريّة ضد الشعب الفلسطيني في الأردن، مثلما كان شعار «لبنان أولاً» لسعد الدين الحنيف الحريري مناسبة لإطلاق حملة عنصريّة ضد الشعبيْن السوري والفلسطيني.
ويتميّز حكم عبد الله بتسليم الأمر للمحتل الأميركي في العراق وللحليف الإسرائيلي. لم يعد الحكم الهاشمي ولا الراعي الأميركي يحلم بتسليم أمر القيادة الفلسطينيّة إلى الهاشميّين كما حلم الصهاينة منذ الثلاثينيات. تبيّن للجميع مدى كراهية الشعب الفلسطيني للحكم الهاشمي على مرّ السنين، كما أن القيادة الفلسطينيّة الحاليّة تماثل في طواعيّتها للأميركي والإسرائيلي الحكومات العربيّة المعروفة بمعسكر الاعتدال، رغم ابتكارها لوسائل تعذيب فظيعة. والاستخبارات الأردنيّة سبّاقة في هذا المضمار. يروي صديق عانى من سطوة الاستخبارات كيف أن أجهزة التعذيب والتحقيق كانت متخصّصة إلى درجة أن هناك من تولّى أمر حركة فتح، وهناك من تولّى أمر الجبهة الشعبيّة وهلّم جرّا. ولو لم يكن الأردن يأوي اليوم عدداً وافراً من الثوار الفلسطينيّين المتقاعدين الممنوعين من البوح، لكنا قرأنا مذكرات حافلة بالتفاصيل في هذا المضمار (كان أبو داود مقتّراً جدّاً في هذا القسم من مذكّراته). ويشكو دبلوماسيّون غربيّون في الأردن من انصراف الملك عن شؤون الحكم وقضاء الوقت في ألعاب الفيديو (وهذا يشبه هوس سعد الحريري بلعبة «إكس. بوكس» كما روت مجلة «فوربز»). الملكة متحالفة مع قطاع من رجال الأعمال الذين لا يؤرقهم الاحتلال الإسرائيلي وعدوانه ويتشاركان في الحكم بالاتفاق مع الراعي الأميركي. لكن الملك ينصرف بالتوافق مع بهاء الحريري، على ما يروي أهل عمّان، إلى الاستفادة من تملّك العقارات القسري لبناء ثروة شخصيّة خاصة به (يبدو أن ثروة الحسين انتقلت إلى زوجته).
كان القوميّون العرب في الخمسينيات والستينيات يصفون الكيان الأردني بـ«صنيعة الاستعمار». كانت التوقّعات بالثورة على الحكم الملكي على كل شفة ولسان والمنظمات الفلسطينيّة تؤلف الأناشيد عن حتميّة سقوط النظام. أيلول الأسود كانت المرحلة التي وثّقت من الدعم الغربي والإسرائيلي للهاشميّين (يروي كتاب أشتون أن الملك الأردني حدّد موعد بدء مجازر أيلول بناءً على مشورة مُنجّمة). تعاونت إسرائيل وأميركا في الحرص على حماية الحكم الهاشمي. والتوقيع على اتفاق وادي عربة سهّل للحسين ولابنه من بعده التعاون العلني مع إسرائيل في كل شؤون المنطقة. والمراجع الأميركيّة أشارت إلى أن الأردن كان عضواً سريّاً في التحالف الذي أقامته الولايات المتحدة في غزوها للعراق (لم يجرؤ النظام المغربي على إرسال جنود لدعم المحتل الأميركي فتطوّع بإرسال سعادين مدرّبة على كشف الألغام، ربما عبر التطوّع بالتضحية بأطرافها من دون علمِها. سعادين المغرب لك يا بوش، هديّة من أمير المؤمنين في الرباط).
حظي الملك الهاشمي بشرف أول إعلان للمخطط الأميركي من أجل إذكاء الفتنة المذهبية (والذي يحظى بحماسة شديدة من شمعون بيريز الذي يكاد أن يُدعى لإلقاء خطبة في جامع الأزهر) عندما بكّر في التحذير من الهلال الشيعي. لكن الدور الهاشمي تقلّص بعد ذلك: تسلم الحكم السعودي الملف. فقد الحكم الأردني بريقه الذي كان يحظى به في الستينيات والسبعينيات: كان أكثر مجاهرة من غيره من الأنظمة العربيّة بقربه من حكومات الغرب المُستعمِر. السعوديّة والإمارات ومصر ساهمت في تهميش الدور الأردني. لم يعد يُمسِك بأي من الملفّات العالقة. حكومة الإمارات تدعم بإشراف أميركي عصابات دحلان، مثلاً (هؤلاء الذين هربوا بالسراويل الداخليّة من غزة). لم يعد هناك حديث عن تهديد للأردن على يد الثورة الفلسطينيّة. إن وجود أمثال دحلان وسلام فيّاض ومحمود عباس ينفي الحاجة إلى دور معيّن للنظام الأردني الذي كان يتطوّع لفعل ما لا يجرؤ أي فلسطيني على فعله. الكل في سلطة أوسلو بات اليوم ـــــ كما قال مظفر النواب ـــــ «لا يشرب إلا بجماجم أطفال البقعة».

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)


عدد السبت ١٨ تموز ٢٠٠٩

الاثنين، ١٣ تموز ٢٠٠٩

تحت أشجار الجوز


2008-07-29

ربيع جابر

القرى تتباعد تحت شمس حارقة. الطريق تتعرج سوداء. الهضاب تتلون بالأخضر والأصفر. الشعاع يحرق ساعة الظهيرة. لا يتحرك شيء كأن القرى مهجورة. على الطريق بين قريتين يتماوج السراب على الإسفلت، يرتفع ويهبط. من هنا تنحدر طريق قدم، ترابية. الى أين تهبط؟ تترك الشارع المعبّد وتنزل بين الأشواك والوزال وأشجار اللوز. الثمار يبست وتخشبت وتفتحت. تقطف حبّة وتأكل اللب الأبيض الطري. تحت شجرة توت شامي ترى عصافير. هذه أشجار قديمة، باتت هنا شبه نادرة. تقطف ثمرة وتُحاذر لئلا يقطر على ثيابك السائل الأحمر. هذه بقع لا تزول عن القماش. عندما تخرج من تحت الشجرة تجد نعلاً يلتصق بنعلك: طبقة سميكة من القش والأوراق وصمغ التوت. هل تعثر على سبيل ماء وتقعد على درجات حجر وتنظف ما علق بالصندل؟
في قعر الوادي جنّة من أشجار الجوز. لم تتوقع ذلك. المفاجأة تخطف الأنفاس. خرير الماء والظلّ الأخضر المترامي. كأنك بلغت هذه النقطة من قبل. لكن متى؟ «نزلت الى جنّة الجوز لأنظر الى خضر الوادي ولأنظر هل أقعل الكرم هل نوَّر الرمان» (نشيد الانشاد). ضفادع تتقافز الى الماء، تجفل من دعساتك.
تحت أشجار الجوز يخيم هدوء لا نهائي. المياه تكرج في القناة والنحل يرعى الزهور. قبل قرنين أو أقل أتى رجل من القاطع المقابل وحفر هذه القناة وجرّ المياه من ينابيع بعيدة. أراد أن يسقي بيته وحقوله، وعلى الطريق سقى قرى تنتشر على سفح الوادي. تكاثرت البيوت بعد ذلك والناس ركضوا وراء الماء وعمروا الجلول ونصبوا أشجار الفاكهة. تقطع الغيوم السماء وتلقي ظلالها على الأشجار: تعتم تحت الأغصان ويخرج من الماء ضوء ويملأ النسيم ثيابك.
موسيقى الهواء في أوراق الشجرة. أين العالم الآن وماذا يصنع؟ قرأ في الجريدة عن رئيسٍ مطلوبٍ ورآه بعد يوم يخطب في الرعية: يرفع عصاه عالياً ويستقبل المحبة مفتوح الذراعين. في «القاضي يُحاكم» لإيفان كليما يكتشف آدم بعد خيبات لا تُعد أنه عاش الحياة يخرج من حبس الى حبس. ماذا يفعل كليما في هذه الساعة؟ هل الحياة مظلمة؟ هل الأدب مظلم؟ وشكسبير، هل كان مظلماً؟ على الأرجح لا. صديقة آدم قالت له إنها طالما رأت ضوءاً يخرج من أعماق البشر. كانت قاعدة على حافة الطريق، محطمة الروح مكسورة الجسد، ورأت ملاكاً. الملاك يجيء من الخارج أم من الداخل؟ كليما يكتب عن آدم متمهلاً. كأنه يسير وراء ظل ويخشى أن يفزع الظل ويذهب. تهبّ الريح في الطبقات العالية وينتشر النور تحت أغصان الجوز. سحلاة تتحرك على صخرة. سمع رجل على الراديو أن شخصاً مطلوباً للعدالة بتهمة إبادة، عاش فاراً 11 سنة وهو يظهر على التلفزيون متنكراً بلحية بيضاء طويلة. لم يعرف متى حدث ذلك. في هذه الأيام أم قبل عقود مديدة.
جده أخبره أن الرجل الذي جلب هذه المياه من النبع البعيد كان طاغية: سمل عيوناً وقطع آذاناً وذبح رقاباً. المياه تكرّ والسنوات تتطاير كقطرات ماء وتقع على الصندل. ماذا يبقى؟ يقف أمام «خربة»، أمام بيت عقد تداعى وغطّته النباتات، ويرى عشّاً. العش فيه قشور بيض مكسرة. ينظر الى النقط على القشرة: القشرة بيضاء والنقط سمراء وبنيّة، تشبه رسماً. من رسم هذه النقط؟ في كبد السماء يدور طير جارح، يبحث عن طريدة. يجمد في الأعالي. الهواء يرفع الجناحين والطائر يرتفع جامداً في النقطة ذاتها: ماذا يرى؟
*
صباح الأحد، قبل ان يستيقظ عمال التنظيفات، تتغطى الشوارع بأكياس الزبالة. المدينة سهرت أمس حتى أنهكها السهر. الآن تنام. شخير يخرج من نوافذ مواربة. على الأسرة، في غرفٍ مكيفة وموصدة، يتقلب المتعبون. الماشي في المدينة هذا الصباح تُجفل دعساته الحمائم.

البعيد

2008-12-23

ربيع جابر

البعيد يدنو. يكون بعيداً وعلى مسافة وغريباً ثم – في رمشة عين – يصير هنا. كيف هذا؟ ما هي إلا سبعة أيام أو ثمانية – لعلك تقرأ هذه الجريدة بعد غد وأنت تنتظر دورك في صالون الحلاقة – وتنتهي 2008. يكاد الواحد أن يكتب 2007 أو 2005. هل مرّت حقاً ثماني سنوات على ذلك الصباح البعيد، حين عبرنا أمام هذه المكاتب ذاتها ونحن نتضاحك بينما أميركا تحتار مَنْ ربح في الانتخابات بوش أم آل غور؟ ما قيمة ذلك الآن؟ هل كان أحدنا يتوقع في ذلك الصباح – ونحن نقارن عناوين الصحف المحلية – ما سيأتي؟ كم حرباً هجمت على الكوكب في ثماني سنوات؟ كم ولداً صغيراً قصّت رقبته شظية ساخنة وهو يقطع الطريق؟ الصديق الذي أحرقت وجهه حرب تموز ينام وراء الأطلسي الآن، وضع بينه وبين الوطن أكثر من محيط. ترك في القبو لوحات تتسرب إليها الرطوبة وغداً – الشتاء يدنو، يُقال إنه بدأ – يكسو العفن وجوهها. كان يحبّ أن يرسم الوجوه. الآن يرسم وجوهاً جديدة؟ يرسم الوجوه التي تتغير بين ساعة وأخرى، في وجهك وظهرك، عند الصباح وعند المساء؟ القريب يبتعد أيضاً. الأجسام وكذلك النفوس. المرأة دخلت الى المستشفى ثم دخلت في «كوما». هل تخرج من غيبوبتها؟ يعرفها منذ سنوات طويلة، طالما رآها وألقى عليها التحية وابتسمت له. غابت فتبدل الشارع. مثل عمارة بقرميد كانت هنا ثم أُزيلت. عمارة غريبة، ثلاث طبقات، وأبوابها من خشب الجوز الثقيل. باعوا الأبواب قبل وقوعها؟ يتغير المشهد بلا توقف. تظن أنك تعرف الناس لكن من يعرف ماذا؟ كيف تصدق ما تصدق؟ أفضل أن تُعلق أحكامك الى ما لا نهاية. في هذه الأثناء تنتظر البعيد. تراه يدنو. وبينما تنتظر الآتي تُبدّد حياتك. كل الوقت تخسر؟ ألا يربح الإنسان أيضاً وهو ينكسر، وهو يرى الوهج يشتعل في كومة البارود ويشعر بلسعة النار على الأصابع؟ كوى اللهب الغادر يده كلها. وضعوا له مراهم. لكن ماذا يُبعد الألم؟ الزيت على يده وملامح وجهه تتبدل. الحرق فظيع. وعليه أن يتحمل. قالت له المرأة عليك أن تكون أقوى. كيف هذا؟ لو امتلك القوة هل كان يعبس، هل كان يرتعد في البرد وهو عائد في الليل الى بيت تغمره الثلوج؟
ماذا يتذكر الواحد وماذا يتخيل؟ أين يتقاطع الدربان (الذاكرة والمخيلة)، في أي غابة؟ وبعد الغابة الملتفّة الأغصان، تحت سماء داكنة سوداء ثم زرقاء ساطعة، بعد الأشجار والرطوبة والحشرات، ماذا يجد؟ ماذا ينتظرك في الجانب الآخر؟ أي وجوه؟
البعيد يدنو. كل شيء يختلط في الذاكرة. أعدموا صدام حسين. لكن متى قبضوا عليه؟ ألم يفرّ من السجن؟ القوات الحليفة طاردته، عثروا عليه في «حفرة»، ردّوه الى الحبس. هذا غير دقيق. يجانب الواقع. لكن بعد سنوات طويلة، بعد ربع قرن، وأنت – عزيزي القارئ – تروي الخبر لأحفادك، هل ستتذكر ترتيب الحكاية؟ متى وقع برجا نيويورك؟ حرب أفغانستان سبقت ذلك؟ بالتأكيد تعرف الأجوبة. أو تظن أنك تعرفها. أحفادك يجتمعون حولك، تدلّهم الى أسماء على خريطة. فتاة سألت أستاذها المشرف على التقاعد هل كان موجوداً (مولوداً) عندما وقعت الحرب الأهلية في لبنان؟ هذا جرى في مدرسة في بيروت. والأستاذ – بعد الدهشة الأولى – رسم على اللوح أرقاماً وتواريخ وكلمات. ظن أنه هكذا يشرح العالم للتلاميذ.
ماذا تشرح وكيف؟ تقرأ التقارير وتسأل نفسك كيف هذا: كأننا ندور في حلقات. كأننا نعيش مرة أخرى سنة قديمة. الوقت مسحور. يلعب بعقل الإنسان. هذه السنة غير التي سبقتها؟ هذا الشتاء غير الشتاء الماضي؟ نتحرك الى أمام. أو نتجمد والوقت يجري، نهر يندفع ونحن ننظر اليه ونظن أننا نتحرك. الشوارع تتغير، الوجوه أيضاً. قال الرجل صرت عجوزاً، عندي سبع سنوات بعد ثم أغادر. الكواكب أخبرته، قال الرجل. كان حزيناً. لكنه بينما يمشي الى بيته، واسع الخطى، يسترد نفسه. من جديد يضحك. يضحك بينما البعيد يدنو.
يكون بعيداً وعلى مسافة وغريباً ثم – في رمشة عين – يصير هنا. والقريب؟ يكون هنا وأقرب إليك من حبل الوريد وفيك روحٌ منه وفيه روحٌ منك ثم – في رمشة عين – تراه هناك، على بعد أميال، ملامح الوجه تضيع في الضباب وأنت تنظر. الى أين تنظر؟
تقطع الغابة. عصافير تطير عن الأغصان. رائحة الصنوبر ثم رائحة الزيتون. الغيوم تظهر من بين الأوراق. يهبّ الهواء، طيباً، عطراً. جلول الزيتون بعيدة، في القاطع المقابل. لكن الهواء يحمل رائحتها الى هذه الغابة. الأسلاف زرعوا هذه الأشجار أم الطيور العابرة؟ تقطع الغابة. ترى بنايات مضاءة بالكهرباء. ترى زحمة الأعياد والكهرباء مرة أخرى. أرض الكهرباء. مدن هذا الكوكب. تقطع الغابة. الأرض طرية، والورق الإبري اليابس يغوص في الوحل. تصل الى تقاطع طرق. ثم الى تقاطع آخر. لا تتذكر ماذا كان قبل لحظة خيارك: كيف ذهبت، يميناً أم يساراً؟ كيف أخذك مزاجك؟ تقطع الغابة ومرات تبالي ومرات لا تبالي.كل ما عليك أن تتحرك، القدم اليسرى ثم اليمنى. بينما العالم يتحول، في كل لحظة يتغير المشهد، القريب يبتعد، والبعيد يدنو.
سكن الهواء وسكتت الغابة.

الثلاثاء، ٧ تموز ٢٠٠٩

أين هم الآن ساكنو منطقة الصنائع وروّاد حديقتها؟

أين هم الآن ساكنو منطقة الصنائع وروّاد حديقتها؟

المستقبل - الاحد 5 تموز 2009 - العدد 3354 -



حسن داوود
أبو يوسف، العجوز المقبل على ثمانيناته، اختصر حياته بحادثتين اثنتين: مقتله لعروسه، أيّام كان شابا، بعدما وجدها في غرفة النوم، بل في سريره الزوجي، مع عشيقها، عاريين. أما الحادثة الثانية فتلك التي كلّفته قضاء سبع سنوات في سجن إسرائيلي، من دون أن نعرف، نحن سامعوه، ما هي هذه الحادثة وكيف حدثت، ومتى؟
أما مهاراته التي اكتسبها في حياته فلا تتعدّى الإثنتين أيضا: إدخال الخيوط الملوّنة بعضها ببعض وتشكيلها ليصنع منها سلالا تكاد تحتويها، لصغرها، قبضة اليد، وها هو يعتاش من صنعها وبيعها في حديقة الصنائع، بعد أن منعته الشرطة من التردّد على كورنيش البحر ليبيعها هناك أيضا. صنعُ السلال مهارة أتقنها أثناء فترة سجنه في إسرائيل، كما قال، وليس في السجن اللبناني الذي قضى فيه مدّة نافت قليلا عن السنوات السبع. أمّا المهارة الثانية فإجادته التكلّم بالعبريّة إلى حدّ أنّه، إن تطوّع الآن للقيام بعمليّة انتحاريّة في إسرائيل، كما قال، سيصل إلى هناك، حاملا حقيبة المتفجّرات، من دون أن يشتبهوا به: أكلّمهم بلغتهم، بالعبري، قال فيما هو ينظر، مبتسما ومتفاخرا، للصوت الذي يسائله بجانب الكاميرا.
وهو شكا من عدم إقبال مرتادي الحديقة على بضاعته: "نهار الأحد الماضي كانت الجنينة ملآنة، حتى إنّ الناس جلسوا على داير مدار حافة البركة.. وما بعت سلّة واحدة". ذاك لأنهم يستكثرون الألفي ليرة. إحداهنّ قالت له إنّها تشتري ثلاث سلل بالألفين.." حلّي يا عمّي" قال لها فيما هو يعود للتحديق بالخيطان البلاستيكيّة الملوّنة التي بين يديه.
أبو يوسف إستحقّ لوحده فيلماً كاملاً من الأفلام المستقلّ أحدها عن الآخر لكن التي تنقل جميعها الحياة الجارية في حديقة الصنائع ومحيطها. ليس فقط لأنّ لديه ما يرويه (وهو حادث حياته الأوّل الذي يختلط فيه الأسى والندم بالزهو وبادّعاء القبضنة)، بل أيضا لما في كلامه ونظراته من عبث وملاعبة. بين مرتادي حديقة الصنائع في يوم ما التقته الكاميرا، كان هو الوحيد بين من مرّوا من أمامها الذي حظي برواية تستحقّ أن تسمع، رغم عدم التصديق الذي يلازم إصغاء سامعها. وعلى الرغم من أنّه أكبر سنّا من جميع الآخرين هناك، إذ هو مقبل على الثمانين فيما هم في خمسيناتهم أو ستّيناتهم، إلاّ أنه ما زال باقيا في ما كان عليه مزاجه في أيّام شبابه. كأنّه لم يكبر إلا بالعمر وحده. أما مشاهدو الفيلم ممّن كانوا روّاد الحديقة في طفولتهم ويفاعتهم من بعد، ومنهم كاتب هذه السطور، فقد أعادهم أبو يوسف إلى كلام ذلك الزمن. هكذا كان الناس يتكلّمون آنذاك، قبل أن يمرّ الكلام في مجاري الأزمات والحروب وتبدّل الزمن.
أبو يوسف أبقى نفسه على حالها لم يغيّر فيها شيئا، شأنه في ذلك شأن الحديقة التي، باستثناء تلك الألعاب البلاستيكيّة التي وضعوها في طرفها الغربي ليتزحلق عليها الأولاد، لا يبدو أن شيئا تغيّر عن أيام الخمسينات. ربّما باتت العناية بسقاية الزهور أقلّ ممّا كانت، لكنّ الأحواض المستديرة ما زالت مستديرة. البركة أيضا ما زالت تعيّن وسط الحديقة، وإن كانت اليوم فارغة من الماء الذي كان يملأها حتّى حافّتها ويتزيّن مرتفعا من النافورة من السادسة صباحا حتى حلول المساء. أمّا زوّارها فباتوا قليلين، باستثناء يوم الأحد ذاك، الذي وصف أبو يوسف زحمته، وهم كلّهم، كما رأينا في شريطه، كبار لازموا الحديقة، ربما، منذ ماضي أيّامهم. وقد بدوا لنا روّادا يوميين إذ جعلوا يكلّمون بعضهم بعضا عارفين في أيّ الآذان يقع كلامهم وكيف سيُستقبل وقعه. بائعة القهوة الجوّالة تعرفهم، وهي تقدّم القهوة بالمجان لأبي يوسف لأنّها تعطف على الفقراء، الذين هي منهم. في ركن من أركان الحديقة نصبت بائعة القهوة موقدتها لغلي القهوة، كما اقتطعت منها مساحة صغيرة لتحفظ بها باقي العدّة التي لن تحملها معها في طوافها بين الأحواض وأمكنة جلوس الزائرين.
لقد تغيّر وجه الحديقة على رغم تجديد بوّابتها منذ عشر سنوات أو أكثر ربّما، فأقيم مبنى حجريّ صغير بجانبها لزوم إدارتها وتنظيم حراستها. لكن أولئك القائمين عليها من الحرّاس لن يتعرّضوا لمشاكسة الأولاد ولا هم سيقومون باختبار سلطتهم عليهم. لقد تغيّر الزمن الذي كان يُرى حارس الحديقة فيه قريبا من سلك العسكريّة وإن لم تكن له وهرتهم كلّها. كان نصف عسكري نصف حارس، وهذا ما كان يوقعه في سخطه، يوقعه هو، فيروح يحنق وينرفز لأن ّالأولاد يكايدونه ؤيستفزّونه.
في أوقات من السنة، بل في شهور منها، كانت الحديقة تشذّ عن دوامها فتعاود سهرا ليليّا يبدأ المدعوّون إليه بالقدوم في حوالى التاسعة. تلك سهرات كانت تقيمها الدولة، وزارة الخارجيّة مثلا، أو تقيمها إحدى السفارات. من الطوابق العليا للبنايات التي تحيط بها، كان يمكن للساكنين أن يشاهدوا الزينة الكثيرة التي تطلّبها اتساع المكان. في بعض السهرات كانت الموسيقى التي تُعزف حيّة تنتشر حتى إلى ما بعد بناية الأونيون من ناحية وحتى إلى بداية حيّ الملاّ من الناحية الأخرى. وفي أكثر طوابق البنايات لم يكن الساكنون يقفون طويلا على الشرفات، إذ سبق لهم أن دُعوا إلى حفلات مماثلة، إن لم يكن في حديقة الصنائع ففي مكان آخر سواها. في البنايتين اللتين كانتا تطلان عليها من الجهة الجنوبيّة كان فرنسيّون وروس وأرمن ومسيحيون ومسلمون يتوزّعون البيوت، وكذا كان الحال في البنايات التي تحدّ الحديقة من ناحيتي الشرق والغرب.. أمّا من جهة الشمال فلم يتغيّر شيء كثير منذ أن بُنيت الإذاعة اللبنانيّة بالقرب من كلّية الحقوق. آنذاك، في تلك السنوات القديمة، كان الجيران، في حال اتّصالهم بعضهم ببعض، وهو اتّصال قليل ومتقطّع، يبدون كأنّهم يؤسّسون لعيش لم يكن معتادا من قبل، لكأنّهم كانوا يغامرون بتجريب شيء لا يعرفه أولئك الساكنون في بيوت حيّ الملاّ المزدحم الكثير الدكاكين.
ذلك الذي كانوا يؤسّسونه، أو يحاولونه، لم يتأسّس إلاّ قليلا. في الأشرطة التي صوّرتها باسكال فغالي بدت الحديقة ومحيطها مذكّرتين بما سبق لنا أن عرفناه من انقلاب الأمكنة على أحوالها. باستثناء الشريط عن أبي يوسف الذي يجري في داخل الحديقة، وإلى حدّ ما على الأرصفة الملاصقة لها، وهو أوّل الأشرطة لجهة التتابع في المشاهد، بدت منطقة الصنائع وقد تغيّرت تغيّرا تامّا عمّا كانته. من السهل أن نسرع إلى القول، كما بات يقال على سبيل التعميم، إنّ حيّ الملاّ قد غزا منطقة الصنائع المحاذية له، لكن ذلك ليس صحيحا على التمام لأنّ منطقة الملاّ، حتى في تلك الأيّام، كانت تنظر بمزيج من الإعجاب والإستغراب إلى عيش جيرانهم القريبين.
كما أنّنا نكون نتسرّع أيضا إن قلنا إنّ عائلة واحدة من بين العائلات المقيمة في البنايات، عائلة تنتسب إلى واحدة من طوائف هؤلاء الساكنين، قد تكاثرت في الحيّ الذي هجره جميع الآخرين، ذاك لأنّ هؤلاء الساكنين كانوا قد تغيّروا جميعهم عن الحال الذي ينقله فيلم باسكال فغالي عن سكان الحيّ اليوم ( وإن امتدّ هذا اليوم، بحسب تواريخ تصوير الأشرطة، من 2002 حتى الآن، 2009).
يُذكر أنّ أشرطة الفيلم التي تناولت منطقة ما حول الحديقة صوّرت، على طريقة الفقرات المعنونة بعبارة No comment، نساء متجمّعات في قاعة مسجد يحيين ليلة القدر، وفي شريط ثان شاهدنا دورة الطبّال على البيوت لتجميع إكراميّته في أول أيّام عيد الفطر، ثمّ الشريط الرابع الذي يصوّر، بالتفصيل، نحر الخراف وتقطيع لحومها قطعا توزّع على فقراء الحيّ...
[ وقّعت باسكال فغالي مساء الإثنين 29 حزيران، بمكتبة البرج، كتابها الصادر باللغة الفرنسيّة، " حي الصنائع في بيروت_ رحلة إكتشاف بصريّة مصوّرة". مرفق بالكتاب عمل سينمائي، وكلاهما من إصدارات المعهد الفرنسي للشرق الأوسط.

تاريخ قصير لظواهر نعرف أين بدأت ونجهل متى تنتهي

الحياة--الثلاثاء, 07 يوليو 2009
جرذ مربّى (صورة)
ربيع جابر

< التحولات التي تطرأ على حياتنا في الفترة الأخيرة تحتاج الى تدوين، ولعل في ذلك إفادة للأجيال الآتية من بعدنا، إذا أتت. الظواهر التي يصعب عدّها تثير اسئلة: كيف حدث هذا؟ أين بدأت سلسلة التبدلات؟ وكيف تكون النهاية؟ الوصول الى أجوبة في حر هذا الصيف (حلّ القيظ باكراً والأشجار ذبلت في الشارع الطويل) ليس غرض هذه السطور. لا بد من ان نكتفي بوصف ما حدث وربما لاحقاً يتاح لنا التأمل والتحليل.

بين الظواهر الأولى التي تسترعي الانتباه («تسترعي» كلمة غريبة) ظاهرة تربية الجرذان. جرذان مستوردة من وراء البحر، مع شهادات ميلاد ووثائق طبية لازمة، إضافة الى «دليل التربية» المطبوع بالألوان على ورق صقيل. يُقال أنها هُجنت في أستراليا والبرازيل وأوروبا. معظمها يأتي من ألمانيا الآن، بالبحر والجو، وأصنافها كثيرة، وكذلك أسعارها.

صحيح أن مدينتنا البحرية مشهورة بحبها للجديد وبسرعة استيرادها للعادات الأجنبية، ومع هذا لا بد من السؤال: كيف انتشرت هذه العادة الجديدة بهذه السرعة؟ صار صعباً ان تقطع طريقاً قصيرة من بيتك الى المتجر من دون ان تعترضك سبعة جرذان: حيوانات أليفة كبيرة الحجم ملونة العيون ناعمة الفراء - بعضها صغير كالكلب - تُربط بالرسن وتتراقص امام السيدة أو خادمة السيدة. هناك خدم يأتون من أقصى آسيا خصيصاً للاعتناء بها. يُقال ان مهارتهم في تربيتها غير طبيعية. ثمة شاعر نشر قصيدة هجائية في هذه الجرذان البيضاء كالثلج. في بلد من العالم الثالث تشكو فيه فئات الجوع وفقر الدم، لا يجوز استيراد الجرذان (بحسب الشاعر المذكور) من وراء الحدود. لا تُطعم إلا من علب لحم معدنية مختومة. وأدويتها باهظة السعر. لا بد من تحميمها بالمياه الفاترة ثلاث مرات كل يوم، ودائماً ضروري ضروري، إضافة سائل مطهر الى مياه الغسل، لحماية الجرذان من آفة الحشرات: للأسف الحشرات موجودة في الطريق، وكذلك في الهواء. التلوث فظيع. الغازات السامة في هواء المدينة قد تؤذي هذه الجرذان. ضمّن الشاعر قصيدته بعضاً من هذه الملاحظات ساخراً، فشن آخر هجوماً عليه وبيّن له في قصيدة أطول، ومستخدماً استعارات بليغة، اهمية الحيوان الأليف في الحضارة الحديثة: إنه مفتاح التمدن ومن دونه يفقد الإنسان صلته بالجانب الروحاني فيه وعلاقته بالطبيعة الأم.

لم ينته النقاش عند هذا الحد. كتبت صحيفة افتتاحية عنوانها: «الإنسان أولاً». واستدعى تكاثر الردود تدخل الحكومة خصوصاً بعد انتشار شائعة عن وجود مجموعة تدس السم في المساحات الترابية حول أشجار الشوارع للتخلص من هذه الحيوانات. البوليس تنصت على اتصالات وأحبط في اللحظة الأخيرة تفجير وكالة لاستيراد الجرذان من النمسا. ما نُشر بخصوص ذلك آنئذ يكفي ولا حاجة للإطالة هنا. فقط هذه الملاحظة: لماذا سُمح أصلاً بنشر تلك القصائد العالية اللهجة؟

لكن في المقابل كيف تُبنى الدول بلا حرية؟ اذا أراد شاعر ان يهجو شاعراً - أو جماعته - كيف نمنعه؟ المسألة محيرة ولا بد تبعاً لهوبز من قوانين ضابطة. في حقبة سابقة - متخلفة؟ - من تاريخ مدينتنا شاعت تربية القطط السيامية، وتربية الأحصنة القزمة، وفي فترة أخرى الكلاب والببغاوات وفئران الـ «همستر» التي تركض على العجلة الصغيرة حتى يفقع قلبها. لكن هذه الجرذان العجيبة ظاهرة غير مسبوقة! حتى في بلد المنشأ لم تعرف هذا الانتشار. هل يعكس الأمر حقيقة نفسية أعمق فينا؟ لماذا نُقبل على اقتنائها الى هذا الحد؟ في بيت واحد مكون من رجل وامرأة وثلاثة أولاد، إضافة الى خادمتين (الأولى خادمة، الأخرى مربية للأولاد، ومن قبل كانت «الطباخة» تسكن الغرفة جنب المطبخ لكن مرضاً باغتها واضطرت للرجوع الى الوطن)، في بيت كهذا تجد احياناً ثلاثة جرذان من ثلاثة أنواع مختلفة (أبهاها الآن «الجرذ الإنكليزي»، ويسمى هكذا مع انه يُستورد من بلاد الغال)، ما يسبب إزعاجات تكون «البناية» بغنى عنها، ولكن ما العمل؟ «دليل التربية» مطبوع بالفرنسية في باريس، وهناك نسخ أخرى منه مترجمة الى الإنكليزية توزع مجاناً على باب الجامعة، مع جريدة الجامعة، هدية. تقعد السيدة وتشرب الشاي مع البسكويت ساعة العصر وتشرح للخادمة ما كُتب فيه. هذه الحيوانات لينة الطبع ولا تعض، مع ان أسنانها تثير خوف الأطفال (لكن لماذا نتكبر على خوفنا؟ تثير خشية الكبار ايضاً. بعضها بحجم حمار صغير وإذا اعترض طريقك امام الدكان، في مكان الظل، وجب ان تهرع الى الجهة الأخرى، حيث الشمس حارقة). لا تعض ولا تنبح كالكلاب، وفي الكونسرفتوار يعلمونها الغناء. أذنها موسيقية وتفضل البيانو على اي آلة أخرى. صوتها غير مرتفع (يُقال ان جرذاً «سوبرانو» أدهش جمهوراً غفيراً في برلين سنة 1919، لكن هذه حال نادرة) وحركة رأسها تثير الدهشة. وكذلك حركة ذيلها. بهذه الحركة البسيطة للرأس أو للذيل تتفاهم مع الأقران. عند اللقاء في الشارع، عند تقاطع طرق، يحدث تفاهم سريع بين الجنسين أو - بالعكس - تظهر عدائية مفاجئة. على المارين أخذ الحيطة والحذر في هذه الحالة.

تربية الجرذان ليست إلا ظاهرة واحدة مثيرة للحيرة. ولعلها بدأت تنتهي إذ يلاحظ ان انتشارها انتقل من الأحياء الميسورة الى الأحياء الفقيرة. للوهلة الأولى قد يظن مراقب أجنبي أن هذا دليل على تفاقم الظاهرة لا على قرب زوالها. لكنه واهم ولا يعرف مدينتنا. كثر بدأوا يتخلصون من حيواناتهم الأليفة! يبيعونها بأسعار بخسة. أو يتركونها في الطريق!

طبعاً، لا يمكن تأكيد هذا إلا بمرور السنوات والعقود. التاريخ بطيء، أبطأ من قطار بلا وقود. غيبون لاحظ وهو يدوّن «انحدار الامبراطورية الرومانية وسقوطها» وجود علامات تدل الى النهايات، أو دنوها. حتى الساعة هذه العلامات غير ظاهرة بخصوص ما نتكلم عنه هنا: الأرصفة متسخة. وحتى تتضاءل الأوساخ على الرصيف علينا ان نتحمل.

هذا يأخذنا الى ظاهرة أخرى: الحياة الليلية. صحيح ان مدينتنا معروفة بانفتاحها على الليل ومباهج الليل لكن ما يحدث غريب: فجأة باتت لحظة الغروب لحظة لتحول المدينة كاملة من عالم الى عالم آخر. أولاً مظهرها الخارجي يتبدل. هذا مفهوم في جميع مدن العالم الثالث: الظلام يخفي التشوهات في بدن المدينة، وحتى أمراضها الجلدية تتلاشى إذا حلت العتمة. لكن ما يُلاحظ الآن، إضافة الى تبدل الملابس وهذا طبيعي، وتبدل الأمزجة وهذا ايضاً طبيعي، ما يُلاحظ الآن هو ظهور علامات مرض غامض في العيون والأصابع. علينا ان ننتبه هنا الى عبارة «مرض غامض» فهي عبارة غير دقيقة. كلمة «مرض» تومئ الى تعب وألم ومعاناة، وهذا غير مقصود هنا. ما نقصده ابسط، لكنه أشد تعقيداً ايضاً. كيف؟ ألا يوقعنا هذا الكلام في مفارقة؟ هذا بالضبط ما نبحث عنه: الحياة الليلية استعارة لهذه المفارقة التي تحكم حياة مدينتنا («التناقض» كلمة أخرى، لكنها لا تعبر كفاية). ستيفنسون كتب عن رجل يتحول الى آخر وهو يعبر تقاطع طرق في متاهة لندن الحمراء المضاءة بمصابيح. لم يكتب عن مدينة يتحول سكانها جميعاً الى «غيرهم» عند غروب القرص الناري الأحمر.

في البدء كان ذلك صعباً بالنسبة الى كثر: هؤلاء طالما فضّلوا الجلوس في البيت على الكنبات امام التلفزيون. المدن الشرقية تحب الحياة العائلية. لكن ما حدث - بمرور الأيام والأعوام وتكاثر المقاهي والمراقص - ان التلفزيونات كفت عن الإرسال ليلاً. اي جهة (محلية؟ دولية؟) اتخذت هذا القرار الغريب بإيقاف الإرسال الليلي للتلفزيونات، لا نعلم. التحليل العلمي يفضي الى خلاصة وحيدة: السوق تُقرر. لم تتخذ اي جهة القرار المذكور. ما حدث ببساطة ان الناس تركوا مشاهدة التلفزيون ذات ليلة وبعد ذلك ماتت سوق الإعلانات التلفزيونية، ما افضى الى موت التلفزيون الليلي. بقيت تلفزيونات النهار طبعاً، لكن هذه موزعة على مداخل البنايات والمجمعات التجارية لمراقبة الداخل والخارج. تلفزيونات مراقبة أمنية ولا تبث إعلانات وليست فعلاً مهمة (حتى الحراس لا يشاهدون برامجها).

موت التلفزيون ظاهرة غير مفهومة: ماذا أخرج كل هؤلاء البشر من بيوتهم الى شوارع المساء؟ ناس في ثياب وناس بلا ثياب يعجون في هيجان على أرصفة المقاهي وفي مراقص مربعة ومستطيلة ودائرية. مع ان بعضهم لا يملك في جيبه ثمن تنكة وقود سيارته القديمة. يُقال اشياء كثيرة في تفسير هذه الظاهرة. وبعضهم يربطها بوضع معامل الكهرباء، وكذلك مصلحة النقل المشترك. هذا غير منطقي. لكن ما هو «غير منطقي» منتشر ايضاً في بلادنا، وبكثرة.

اقترحت إحدى الحكومات الأخيرة (هذه تتبدل بسرعة لنقل السلطة من يد الى أخرى ما يعزز المشاركة والتلاحم والوحدة) تنظيم الحياة الليلية وتوسيعها، أولاً لحب المواطن للسلوى والضحك، ثانياً لكونها تجذب السياحة من أقطار العالم الى هذا القطر الصغير. وُضعت الخطة بعد استشارة مكاتب هندسية كبرى في اهم مدن العالم. جرى تصميم سقف جلدي أسود للمدينة، يُشد على أعمدة شاهقة العلو تنصّب في أطرافها، ما يمنع أشعة الشمس من بلوغ الشوارع في ساعة الصباح. نُفّذ الأمر وصار الليل أطول وبالفعل اكتملت حجوزات الفنادق وبُنيت فنادق جديدة وارتفع الدخل الفردي للمواطن وعمت البحبوحة. لم يبق شخص بيننا لم يفتح مطعماً أو فرناً للمناقيش أو دكاناً للشاورما والفلافل. محلات الثياب صارت قفران نحل. المسابح ازدهرت على نحو غير مسبوق: صار مستحيلاً أن ترى ذرة رمل على الشاطئ الرملي بسبب الأقدام التي لا تُعد. هذه الزحمة الخانقة، أضف إليها وجود السقف الجلدي الأسود الذي يمتص اشعة الشمس، سبّبا ضيقاً للبعض يشبه ما يشعر به أهالي فينيسيا (البندقية) صيفاً. لكن حتى هؤلاء (الذين تضايقوا) لم يحتجوا. بالنسبة إليهم كل شيء يهون امام مراحل سابقة كانت البلاد فيها غارقة في الحروب والدم.

تمكن السقف المصمم في نيويورك من إطالة الحياة الليلية وأعطى البلد ازدهاراً فعلياً. من إيجابياته ايضاً انه حسّن الحياة الفنية: الفنانون تنافسوا على رسم لوحاتهم «فوق»، على القماشة السوداء. رسموا قمراً ونجوماً وغيوماً بيضاً. يصعدون على سلالم عالية كبهلوان السيرك وفي الأعلى يبدعون لوحات زيتية. وكل شخص يشتري اللوحة التي يريدها وتسجل باسمه ويعطى «وثيقة ملكية». لاحقاً، عند فك هذا السقف (ذات يوم يعتق ويكون علينا تبديله)، سيجري تقطيعه، وكل واحد يأخذ لوحته.

الشركات التي تبيع المكيفات هي الرابح الأكبر. السقف رفع حرارة المدينة. وهناك خطة لتكييف المدينة كاملة، بشوارعها وساحاتها ومواقف سياراتها وملاعبها. يمكن إذا نُفذ هذا المشروع الطموح تحويل جزء من المدينة الى «مساحة قطبية»، بجليد وفقمة وبطريق وبيوت صغيرة للأسكيمو. وزارة السياحة وضعت الخطط اللازمة. حتى اللحظة يبدو الأمر خيالياً. ولعله لن يُنفذ ابداً.

هذا يأخذنا الى الظاهرة الثالثة (هل هي الثالثة؟): التنافس على التخطيط. بينما تقطع الطريق تسمع الناس يخططون طوال الوقت. مع ان المجلات الأجنبية تذكر بوضوح ان مفتاح السعادة هو «الإقامة في اللحظة الحاضرة» وبلا خطط كثيرة. المستقبل يهتم بنفسه وليس عليك إلا عيش هذه الدقيقة. لكن ما يلاحظ الآن هو عكس ذلك: حيثما ذهبت ترى الناس يتجمعون، في ظل شجرة يابسة، امام دكان فواكه وخضر، في مدخل المجمع التجاري، وراء موقف السيارات، جماعات جماعات، وكلهم منهمكون بالتخطيط. وكلهم يقترحون خططاً شاملة. وكلهم عندهم حجج ورؤيا. وكلهم يبحثون عن المصلحة العامة للمدينة والبلاد وهذا العالم. إن اصرارهم على تجاوز الذات صاعق ويُصيب المرء العادي بالدهشة. لا أحد منهم يهتم بنفسه. هذا الذوبان للفرد في الجماعة ظاهرة أخرى مرتبطة بظاهرة «التنافس على التخطيط».

حتى الفرد الفنان الذي يتسلق سلم السيرك العجيب الى السقف الأسود كي يرسم لوحة صغيرة أو يخط حروفاً تشبه اللوحات، حتى هذا الفرد لا يبدو حقيقياً، لا يبدو مستقلاً، لا يبدو كياناً قائماً بذاته. تراه «فوق»، معلقاً مع أدواته وألوانه، وتخشى عليه من السقوط ومن فك الرقبة إذا لم ينزل بسرعة من مكانه العالي. الجاذبية لا ترحم. كيف نقيس سرعة سقوطه إذا سقط من فوق؟ نيوتن ما زال يُدرّس في مدارسنا. بسبب الاحتفالات القائمة هذه السنة، بالتنسيق مع اليونيسكو، قام نحات ذائع الصيت بنحت ثلاثة تماثيل في مركز المدينة، بينها تمثال للفيزيائي المذكور وآخر لكاتب روسي من القرن التاسع عشر (النحات درس في بلاد الروس زمناً وتأثر بتلك الفترة من شبابه) والثالث لرجل لا أحد يعرف من يكون! ترك الوجه ضبابي الملامح، والغريب ان كل من ينظر الى التمثال يحسب انه تمثاله هو! هذه ليست خدعة بصرية. النحات صقل الوجه حتى صار املس كسطح مرآة. (التمثال مرمر، قطعة واحدة ضخمة جُلبت على الباخرة من صقلية).

لم نتكلم بعد عن ظاهرة المرض الغامض في العيون والأصابع. أوشكنا على ذلك ولم نفعل. ماذا يحدث في عيون الناس؟ وهل تبدلت ايماءات الأصابع والأيدي حقاً في الفترة الأخيرة، أم ان هذه أوهام فرد مراقب يتعب من المراقبة؟ لعل المرض فيه لا في الناس! لكن إذا كان هذا صحيحاً فلماذا يتكاثر زبائن الصيدليات، ولماذا تتكاثر عيادات الطب النفسي ولماذا تتكاثر المستشفيات؟ تستطيع ان تحصي 11 مستشفى في شارع واحد! هل هذا طبيعي؟ أليست هذه ظاهرة أيضاً؟

لكن الأهم من هذه الظواهر هو التغير الجغرافي الذي أصاب المدينة. هناك تلال تختفي وأخرى تظهر في هذا الشريط الضيق الممتد على طول الساحل. في فترة سابقة توسعت المدينة وأكلت قسماً من بطن الجبل القريب. لكن ما يحدث الآن أعجب: هناك أودية تظهر فجأة حيث كانت الطريق! يُقال إن هذه حفر عملاقة وهنا ستوضع أعمدة وأساسات لأبنية عملاقة لن تكتمل إلا بعد خمس سنوات! هذا قد يُفهم. لكن ماذا عن الجبال؟ فجأة يظهر جبل حيث كان مرفأ صغير لصيادي السمك. يُقال ان هذه أتربة رُفعت من ذلك الوادي الذي وقفت أمامه قبل لحظة مستغرباً ما ترى! يُقال ردم. يُقال هذه زبالة المدينة. في الوقت نفسه تتكاثر الطرقات الزجاج. طرقات لا تُعبّد بالإسفلت لأنها معمولة من زجاج. تنظر نزولاً وترى الناس يسعون تحت قدميك في مدينة أخرى تنتشر تحت المدينة. في البداية كان المكان تحت الطريق والحديقة مخصصاً للسيارات: بعد ذلك فتح أحدهم مطعماً في مدخل الموقف، وآخر فتح صالة سينما، وهكذا تدريجياً انتشرت الحياة تحت. والآن توجد خطة لبناء مساكن خفيفة من القطن فوق السقف الأسود الجلد الذي يحجب الشمس عن الطرقات.

مدينة بثلاث طبقات، مع مصاعد للحركة عمودياً، وأحسن ان تكون المصاعد زجاجاً ايضاً، شفافة، ويحيا الواحد في الضوء. ضوء الكهرباء. النيون الأبيض يطن في أذنيك وأنت تقطع الممر الطويل الأبيض وعندما تخرج الى الهواء العليل تعرف انه الليل الطيب وأن كل شيء يهون إذا دام هذا الهدوء ولم تنكسر المدينة قطعتين.

الاثنين، ٦ تموز ٢٠٠٩

الثورة تشيخ: إيران تواجه نفسَها

الثورة تشيخ: إيران تواجه نفسَها

سويسريّتان من أصل إيراني خلال إحدى التظاهرات المناهضة للنظام الإيراني في زوريخ (أرشيف ــ أ ب)سويسريّتان من أصل إيراني خلال إحدى التظاهرات المناهضة للنظام الإيراني في زوريخ (أرشيف ــ أ ب)متابعة الحدث الإيراني كانت شائقة، في وسائل الإعلام العربيّة والغربيّة على حدّ سواء. الإعلام السعودي كان يصلح للإدراج في خانة البرامج الكوميديّة: ترى المذيع (اللبناني غالباً ــــ ما حكاية الولاء اللبناني لنفط آل سعود؟ هي المبدئيّة، أم أنها عروبة اليوم الواحد التي عبّر عنها بطريرك أنطاكية؟) يصرخ في وجه الضيف الإيراني أو من ينتدبه: ولماذا لا تقوم إيران بإعادة الانتخاب وفق شروط حرّة وعادلة؟ آل سعود يصرّون على انتخابات حرّة وعادلة... لكن في إيران فقط

أسعد أبو خليل*
استضاف برنامج «كلام (بعض) الناس» غسان سلامة (الذي اعتبر خطاب نتنياهو «خطوة إلى الأمام») للحديث عن إيران (ومواضيع أخرى متفرّقة، بما فيها نصائحه لسعد الدين الحنيف الحريري في مونتي كارلو). وسلامة عليم بشؤون إيران لكنه حرّف تصريحاً لمحمد البرادعي. فالبرادعي قال بالإنكليزيّة إن لديه «حدساً» يقول إن إيران تسعى للحصول على سلاح نووي، إلا أن سلامة جعل من الكلمة الإنكليزيّة التي استعملها البرادعي «قناعة عميقة». ما علينا. خطأ في الترجمة بريء. وهوّن سلامة (الذي ساهم في إسباغ الشرعيّة الدوليّة على الاحتلال الأميركي للعراق) من شأن التدخّل الأميركي في شؤون إيران عبر القول إن الكلّ يتدخّل في شؤون الكلّ: أي أن معادلة التدخّل تلغي التدخل المضاد. وعليه، فإن مقدار التدخّل العراقي في الشؤون الأميركيّة يوازي مقدار التدخّل الأميركي في الشؤون العراقيّة. وإعلام آل سعود يتعامل مع الحدث على أساس أن الشعب الإيراني لن يستكين قبل أن يلقي الأمير نايف بظلاله في إيران.
وروبرت فيسك انتقل إلى إيران. لا ندري لماذا لا يزال البعض في العالم العربي يعوّل على فسك في تقاريره: فمنذ اغتيال الحريري تحوّل الرجل إلى جهاز دعاية لآل الحريري ولجنبلاط، لا يختلف في توجهاته عن أصوات نشرة قريطم. والرجل قضى سنوات في الشرق الأوسط من دون أن يتعلّم لغاته أو يحتكّ بغير النخبة: يستعين بمترجمين ومُساعدين وسائقه «عبد» في لبنان. يهلّل فيسك لثورات يعطف عليها حتى لو لم تستحق لقب «الثورة». وهو خلافاً لرصانة مراسلي «الإيكونومست»، مثلاً، يستعين بالشائعات والخبريّات إذا توافقت مع أهوائه. لكن فيسك حزم أمره: فرفيق الحريري الذي عرض عليه نقله بطائرته الخاصة بعد تعرّضه لاعتداء في باكستان قبل سنوات يستحقّ الوفاء.
إن تحليل الوضع الإيراني المُلتهب يتطلّب بعض التمعّن في نظريّات الثورة: كيف تحدث الثورات ولماذا، ومتى تستنفد الثورة أغراضَها؟ ومتى يكتشف الناس زيف شعارات الثورة ومتى يهجر المثقفون الثورة (الثورة الصينيّة عزلت هذا العامل عبر استباقِه في «الثورة الثقافيّة»)؟ الثورة الإيرانيّة كانت واحدة من ثورات قليلة في العالم النامي (كوبا، المكسيك، الصين، ونيكاراغوا)، وخصوصاً في العالم العربي (وهي لفحت بـ«ريحـ»ها عدداً كبيراً من المثقفين العرب). يمكن الحديث عن ثورات مناهضة للاستعمار أو عن ثورات فاشلة أو مضادة، لكن في العالم العربي عَوّضَ الاستسهال اللفظي لكلمة ثورة (وهي محبّة، كما أخبرنا ميشال عفلق في مؤلفه الوحيد، مع أن المواطن يجهد لتلمّس المحبّة في الأنظمة البعثيّة التي رعاها «الأستاذ») عن الثورة الحقيقيّة، وربما عن قصد لحماية الأنظمة من الثورات. ما معنى الثورة في العالم العربي عندما تصبح الهمروجة الطائفيّة في لبنان «ثورة الأرز»؟ يحاول جون فوران في كتابه عن «تنظير الثورات»، وهو لم يترجم إلى العربيّة، أن ينسّق أصناف الثورات في العالم ويصل إلى خلاصة لا مناص منها: صعوبة الثورات في العالم النامي، وهو يعزو ذلك إلى عوامل مختلفة بما فيها التبعيّة التنمويّة والتدخّل الخارجي وتشتّت المعارضة. والثورات تؤرّخ لمرحلة جديدة، أو لفصل قاطع مع النظام البائد، كما حلّل «كرين برنتون» في كتابه المرجعي عن «تشريح الثورات»، مع أنه ركّز على ثورات أربع لا غير: الأميركيّة والبريطانيّة والفرنسيّة والروسيّة. المفكرّ الفرنسي ألكسي دو توكفيل لا يأخذ بنظريّة القطع الفاصل: لقد رأى في الثورة الفرنسيّة إكمالاً لتراث ملكي في تفعيل مركزيّة الدولة في عمادها. لكن الثورة الإيرانيّة حظيت باهتمام بالغ ليس فقط لتأثيرها الهائل على السياسة الدوليّة بل لندرة الثورة «الإسلاميّة»، مما يفسّر الإفراط في التحليل الثقافي ــــ الديني للثورة على حساب الأسباب السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. هناك من السمات ما تشاطر به الثورة الإسلاميّة ثورات عالميّة أخرى وهناك ما تختصّ به هي. ولعلّ سماتها الثوريّة الخاصة هي التي أوقعتها في المأزق.
الثورة الإيرانيّة وعدت بقطع فاصل مع ماض لم تقطع معه بالكامل. لعلّ الأزمة العميقة التي يعانيها النظام في إيران اليوم تنبع من مشاهد قمع التظاهرات السلميّة: ذكّرت بالتظاهرات ضد الشاه التي تراكمت لتحيله عاجزاً أمام تنامي الحركة الشعبيّة. والمعضلة التي تواجه النظام تكمن في حاجته للدفاع عن بقائه: كلما لجأ إلى القوة لفرض نفسه، تناقصت شرعيّته الثوريّة وأضعفت قدرته التاريخيّة على الاستمرار في الحكم. طبعاً، يستطيع النظام أن يفرض نفسه بالقوّة المفرطة وسفك الدماء المتزايد، لكنه يعجز عندها في الاعتماد على غير القوّة للبقاء: أي أنه يفقد السلطة الحقيقيّة كلّما استعان بالعنف، كما نظّرت حنة أرندت من قبل. لهذا، فإن النظام أصيب بالارتباك. لم يعتد معارضة شعبيّة بهذا الحجم. واتهام الغرب بالتدخّل ــــ والغرب يتدخّل في كل شؤون العالم الثالث، وحتى في تأليف اللوائح في المتن ــــ لا يفي بالغرض. النظام لا يستطيع أن يخفي حقيقة المعارضة وحقيقة تناقص الشرعيّة الثوريّة. فالثورة دخلت في مرحلة ترهّل وتكلّس نابعة من شعارات الثورة نفسها.
أولاً، لم تنجح شعارات الثورة في السياسة الخارجيّة في إعطاء المواطن أملاً أو سبباً بتأييدها في الأعوام الأخيرة. والذين يصدّقون مزاعم النظام عن عمق فكرة التضامن الإسلامي في إيران هم في سذاجة (أو غباء) من صدّق مزاعم الأنظمة الشيوعيّة عن عمق فكرة التضامن الأممي في دول أوروبا الشرقيّة. ما إن سقطت تلك الأنظمة حتى زالت تلك الأفكار، والشعب الروسي اليوم لا علاقة له البتة في أكثره بنضال شعوب العالم الثالث. ويخطئ من يظن أن صعود الجمهوريّة الإسلاميّة قضى على فكرة القوميّة الإيرانيّة: المؤرّخ ريشتارد كوتام درس التاريخ الإيراني من زاوية تاريخ الفكرة القوميّة الإيرانيّة، مثل الذين درسوا الاتحاد السوفياتي من منظار التاريخ الروسي (لا الشيوعي). القوميّة الإيرانيّة تزاوجت مع الهويّة الإسلاميّة للثورة، لكن العزلة التي عانتها إيران، بالإضافة إلى العقوبات المتزايدة (التي أثرت على مبيعات ملك الفستق الإيراني، هاشمي رفسنجاني، رمز الفساد في الثورة، وهو أغنى إيراني على الإطلاق، كما أنه كان بطل فضيحة إيران ــــ كونترا التي شهدت غزلاً إسرائيليّاً إيرانيّاً) التي تزامنت مع هبوط حاد في أسعار النفط. لا يمكن الركون إلى نظريّات تعمد إلى ترويج شعبيّة الدور الإيراني في دعم حركات المقاومة (أو دعم حركات المقاومة الإسلاميّة فقط لأن إيران لم تدعم حركات مقاومة يساريّة مثلاً). قد يكون المشروع النووي الإيراني (كمثيله في الهند وباكستان) فوق الصراعات الإيديولوجيّة، لأنه عنوان للفخر القومي الإيراني مع أنه يحمي النظام الحالي، لكن ثمنه السياسي والاقتصادي فاق توقّعات النظام ومؤيّديه.
المرشّح الخاسر مير حسين موسوي (أرشيف ــ رويترز)المرشّح الخاسر مير حسين موسوي (أرشيف ــ رويترز)ثانياً، يمكن الخوض في تفاصيل عمليّة الانتخاب وتحليل سمات الاقتراع في مختلف المناطق، مع أن النظام اعترف بعدد من ملايين الأصوات الفائضة بناءً على تفحص نحو 10% من الأصوات فقط، لكن من الأكيد أن هناك انقساماً ليس فقط في أوساط العامّة في إيران بل في أوساط النخبة الحاكمة. والانتخابات الرئاسيّة في إيران تعبير عن خلافات ليس على شرعيّة النظام بل على وجهة النظام الاقتصاديّة والسياسيّة. فمير حسين موسوي مثّل نمطاً أكثر اشتراكيّة في الاقتصاد منذ الثمانينيات، فيما مثّل أحمدي نجاد نمطاً محافظاً أو يمينيّاً في الاقتصاد (وقد فاخر بالخصخصة أثناء المناظرات الانتخابيّة). الانتخابات المحليّة عام 2007 عبّرت عن امتعاض شعبي من سياسات الرئيس الإيراني. ولكن في المقابل، القول بتعميمات عن حتميّة التزوير في كل مكان لا تزال تحتاج إلى إثباتات. فالقول بعدم إمكان إحراز أحمدي نجاد نجاحاً في مناطق آذريّة لأن موسوي من أصل آذري يحتاج إلى دليل إضافي، لأن أحمدي نجاد زاد من شعبيّته عند الآذريّين عبر برامج تربويّة جامعيّة أعطتهم مزيداً من الحقوق. والقول بفصل طبقي أو مناطقي بين المرشّحيْن يحتاج لإثبات هو الآخر، مع أن الخبير الإيراني، حميد دباشي، ينفي الأمر من أساسه. الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (أرشيف ــ أ ف ب)الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (أرشيف ــ أ ف ب)والتصويت في طهران كان متقارباً بفارق يقلّ عن خمسة في المئة من الأصوات، مما يعني أن هناك سمات مناطقيّة أو شبه طبقيّة في الاقتراع.
ثالثاً، تمرّ الثورة الإيرانيّة في أزمة اختبار الشرعيّة، وليس من المؤكّد أنها ستجتازها بنجاح. نظريّة ولاية الفقيه لم تكن يوماً محلّ إجماع فقهي عند أئمّة الشيعة، مما دفع الخميني إلى وضع عدد من آيات الله الذين يفوقونه مرتبة في الإقامة الجبريّة. ونظريّة ولاية الفقيه المطلقة ملتبسة على أكثر من صعيد، وخاصة أنها تفترض تواصلاً مع الإمام... الغائب. أما قول حسن نصر الله إن ولاية الفقيه هي جزء من العقيدة الدينيّة فهذا صحيح في ما يعني حزب الله فقط، لا في ما يعني الشيعة عامةً، مما يعني أنها جزء من أيديولوجيا الحزب، وهذا حقّه. وتتناقض النظريّة في قبولها بتعيين الفقيه (الخميني لنفسه، وخامنئي من جانب الخميني) مع التراث الشيعي في صعود الفقيه ــــ المرجع عفويّاً وديموقراطياً في وسط العامّة من دون تعيين أو تأثير من الدولة أو حتى من المؤسّسات الدينيّة. وكم حاول صدّام وكم حاول الاحتلال الأميركي أن يؤثّر على صعود الفقيه لكن حسّ العامة كان منيعاً في هذا الشأن. وصعود خامنئي إلى مركز المُرشد الأعلى لم يتماشَ مع الاختيار الشعبي العفوي للمرجعيّة. والنقاش الطويل بين المدرسة الأصوليّة والمدرسة الإخباريّة في القرن الثامن عشر في إيران والذي أدّى إلى انتصار الأصوليّة (والكلمة هنا هي بغير معناها المتدوال عن الأصوليّة كترجمة لمصطلح سُكّ في بداية القرن العشرين للإشارة إلى فرقة بروتستانتيّة أميركيّة) أنتج تنوّعاً في اختيار المجتهدين الشيعة.
رابعاً، إن حسم الصراع بين الفريقيْن المُتنازعيْن في إيران لن يكون على قضايا تهمنا نحن العرب، بل على قضايا محض إيرانيّة. والتخفيف التحليلي من تأثير النزعة القوميّة الإيرانيّة يتجاهل تاريخاً طويلاً في تلك البلاد. وموقع أحمدي نجاد سيزداد ضعفاً، وقد يؤدّي إلى نسق إسلامي لشعار ستالين عن «الاشتراكيّة في بلد واحد». وهذا التقوقع سيزداد حدّة إذا انهارت أسعار النفط مرّة أخرى. والشعب الإيراني ــــ مثله مثل شعب لبنان غير العظيم في الانتخابات الأخيرة ــــ يتأثّر بالتهديد والوعيد والحصار والتوبيخ من الخارج، وخاصة أن الغرب يتعامل مع الانتخابات في الدول النامية كفرصة للتأثير.
خامساً، وقع النظام الإيراني في الورطة نفسها التي وقع فيها النظام الشيوعي السوفياتي في عهد غورباتشوف. النظام الإيراني ليس ديموقراطياً ولكنه ليس منغلقاً إلى درجة الأنظمة التسلّطيّة العربيّة التي لا تسمح باختيار القادة بصورة جديّة وإن مقيّدة. النظام الإيراني نظام تسلّطي ديني، لكنه يسمح بدرجة من الاختيار المُقيّد لبعض المناصب، بما فيها منصب الرئاسة. غير أن التناقض يقع بين تقييد الاختيار ونزوع الناس نحو المزيد من حريّة الاختيار. أي أن قدرة النظام، أي نظام، على كسب شرعيّة انتخابيّة تتناقص مع ازدياد التوقع الشعبي لحريّات اختياريّة أكبر. لا يستطيع النظام التمتّع بشرعيّة، وإن محدودة، من العمليّة الانتخابيّة، إذا لم يطوِّر هذا النظام حريّات التعبير والاختيار الشعبيِّيْن، وخصوصاً أن عائدات النفط لم تسمح بكسب شرعيّة اقتصاديّة أو نفعيّة ــــ تكسّبيّة على طريقة أنظمة الخليج.
سادساً، لا شك بأن هناك عاملاً شخصيّاً في الصراع بين أحمدي نجاد وموسوي، وبين الأخير والمُرشد الأعلى. فموسوي وخامنئي تنازعا في الثمانينيات عهد الخميني، وكان الأخير كثيراً ما يناصر الموسوي في النزاع. لهذا، فإن محاولة الإعلام الغربي الليبرالي تصوير موسوي مناضلاً ديموقراطياً (أو تصوير رمز الفساد، رفسنجاني، إصلاحياً) تجافي تاريخ الرجل وحاضره. وشعاراته الانتخابيّة كانت تشدِّد على ضرورة العودة إلى تعاليم الخميني نفسه، كما أنه اختار شعار «الله أكبر» عنواناً لاحتجاجاتِه ووعد بأن معارضته تهدف إلى إعلاء شأن الإسلام في العالم. كما أن تاريخ موسوي لا ينبئ بالديموقراطيّة أو الليبراليّة على الإطلاق، إذ إن عهده شهد عمليّة تطهير فظيعة في الجامعات على أسس دينيّة وسياسيّة (وساهم فيها المفكر الإيراني الفوكوي حديثاً، عبد الكريم سروش). طبعاً، تدين عمليّة الانفتاح النسبي في إيران لا إلى موسوي ولا إلى أحمدي نجاد بل إلى الشعب الإيراني الذي يعطي شعوب الجوار دروساً في الشجاعة والديناميكيّة والزخم السياسي. وقد تكون الأزمة الحالية عمليّة تسديد حساب من المرشد الأعلى ضد موسوي لما حصل بينهما قبل عقديْن من الزمن. ولا يمكن التشديد على عنصر الصراع الطبقي (عبر القول إن مصالح الفقراء تتمثّل بأحمدي نجاد)، إذ إن الأخير بطل التخصيص الاقتصادي بينما تنزع سياسات موسوي الاقتصاديّة نحو نمط أقل رأسماليّة.
سابعاً، لعبت المناظرات السياسيّة الحرّة دوراً كبيراً في تحديد المسار السياسي الإيراني. المشهد لا يمكن أن يمرّ على شاشات الدول العربيّة الخاضعة لرقابة مزدوجة: من الحكومات ومن عربسات ونايلسات، حتى لا نعدّ الحظر الغربي على ما يضرّ بمصلحة إسرائيل. وتعامل أحمدي نجاد بخفّة وثقة زائدة بالنفس مع الخصوم أثناء الحملة الانتخابيّة: قبل بعدد من المناظرات التي سمحت لخصمه اللّدود بنقد ليس فقط سياساته الاقتصاديّة بل أيضاً مصداقيّته. اتهمه مير حسين موسوي بالكذب من دون أن يستعمل الكلمة. بدا أحمدي نجاد في المناظرة الأخيرة مشدوهاً بقدرة خصمه على تناوله بتلك الجرأة والفعاليّة. وقد تكون الثقة بالنفس دفعت النظام إلى طبخ نتائج الانتخابات وإعلان نتائجها قبل أن يكتمل العدّ.
ثامناً، لا يستطيع النظام أن يعزو بسهولة ما يجري داخل إيران إلى مؤامرة خارجيّة. طبعاً، من حق الشعب الإيراني الذي عانى عبر تاريخه مؤامرات خارجيّة متشعّبة أن يحذر من نوايا الخارج ومؤامراته. ولا شك بأن إسرائيل وأعوانها من العرب والغرب تعمل على إثارة القلاقل في إيران منذ أعوام عدّة. وكتاب «كل رجال الشاه» الذي اعتمد على وثائق نُشرت من محفوظات الحكومة الأميركيّة، يصف بدقّة كيف دبّرت الاستخبارات الأميركيّة الانقلاب على مصدّق وكيف رتّبت التظاهرات وكيف عزّزت الفوضى ورسمت ملامح تحرّك أرادته أن يبدو عفويّاً. يستطيع كاتب على موقع «المنار» الإلكتروني أن يرى في ما جرى في إيران مؤامرة خارجيّة خبيثة فقط، ويستطيع المرشد الأعلى أن يصبّ جام غضبه على بريطانيا (وهي تستحق التنديد لتاريخها وحاضرها الاستعماري الذي لم تنكفئ عنه رغم غياب الشمس والقمر عنها)، لكن الواقع أن أسباب أحداث إيران هي داخليّة أساساً وحتى لو تعرّضت للاستغلال من الخارج، حكوماتٍ ووسائل إعلام وأمماً متحدة (والأخيرة جهاز في يد الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة، وخصوصاً في عهدة الأمين العام الحالي، وله من سحر الشخصيّة ما لنجيب ميقاتي). والتعامل مع أحداث إيران على أنها من صنع الخارج سيزيد بسرعة من شيخوخة الثورة، لأن الثورة تموت عندما تفقد الرؤية وعندما تقلّد النظام البائد (الشاه رأى في ما حصل له مؤامرة ما بعدها مؤامرة، مع أن نظامه الظالم تمتّع بتأييد غربي وإسرائيلي وخليجي منقطع النظير). إن القول بعدم وجود مؤامرة خارجيّة ضد النظام في إيران هو بمثل جهل القول بأن لا أسباب داخليّة للأزمة في إيران.
تاسعاً، لا يجوز التعميم على الحركة الشعبيّة في إيران: فهي تراوح بين من يريد العودة إلى «نقاء» الثورة وبين من يريد أن يربط إيران بالغرب وبين فرق من اليسار ومن الليبراليّة ومن الأصوليّة والنفعيّة الخ. هناك من يختبئ وراء الشعارات لغايات خبيثة أو لغايات نبيلة أو لغايات مبهمة.
الثورات تشيخ وتذبل وتتعرّض للسقوط. المسألة مسألة وقت فقط. والثورات تليها ثورات مضادة، والإرث الثوري إما يدفع نحو بريق ثوري في أنظمة حكم متوالية كما حصل في فرنسا، أو يؤدّي إلى جمود دستوري كما حصل في أميركا، أو إلى طلاق مع الثورة كما حصل في روسيا. الثورة الصينيّة لم تحزم أمرها بعد: تطلّق الماضي في خطوة وتحتفظ به في خطوة أخرى، مع أن المسار يبدو شبيهاً بالمسار الروسي، مع قرار بالحفاظ على سيطرة الحزب (مقابل سيطرة الاحتكارات الماليّة المتحالفة مع بوتين في روسيا). هناك معالم واضحة للشيخوخة في الثورة الإيرانيّة: التفكّك أو الانقسام حتى لا نقول الخلاف التام في أوساط طبقة الملالي واضح للعيان: لم يتقدّم واحد من آيات الله العظمى التسعة عشر في إيران بدعم فوري وعلني للانتخابات المشكوك بصحّتها.
لكن الحكومات العربيّة تراوح بين التهليل العلني والقلق الباطني. إعلام آل سعود (وخصوصاً في محطة صهر الملك فهد «العربيّة» وفي جريدة الأمير سلمان «الشرق الأوسط») يهلّل ويتصرّف كأنه أم العروس. إعلام الدولة التي لا تسمح حتى بالانتخابات الشكليّة الفارغة على طريقة مصر والأردن وسوريا، يطالب بانتخابات حرّة ونزيهة في إيران. ينعدم حسّ المفارقة عند آل سعود. لكن لا يمكن إلا أن تُصاب الأنظمة العربيّة بالقلق والهلع في السرّ من المشاهد الإيرانيّة. يخشى هؤلاء من امتداد ديناميكيّة الشارع إلى عواصمهم التي تعاني ظلماً وتسلّطاً يفوقان ما يعانيه الإيرانيّون والإيرانيّات. وحمّى التظاهرات الشعبيّة يمكن أن تصيب شعوب المنطقة كلّها: وهي تخيف الأنظمة أكثر من حمّى الخنازير. وحكامنا يفضّلون أن يصابوا بحمّى الخنازير ألف مرّة على أن تصاب شعوبهم بحمّى الثورات مرّة واحدة.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)


عدد السبت ٤ تموز ٢٠٠٩