مقابلة مع جورج قرم
(أجراها: يسري الأمير)
د. قرم، ما هو مفهومك لتعبير "الإصلاح الدينيّ"؟
هذا المفهوم، بشكل عامّ، مستوردٌ من تاريخ أوروبا، أيْ من حركة الثورات ضدّ احتكار السلطة الكنسيّة لأمور العقيدة الدينيّة، ومن ادّعاء سلطة كنيسة روما الإشرافَ المتواصلَ على الممالك والإمارات الأوروبيّة. فلقد ورثنا، كمعظم ثقافات العالم، مفهومَ "الإصلاح الدينيّ" من الپروتستانتيّة، وما تولَّدَ عنها من كنائس عديدة ومختلفة في ما بينها. وفي اعتقادي أنّ تصوّر أنّ الپروتستانتيّة أَدخلتِ العقلَ والمنطقَ في فهم الدين والتعامل معه هو تصوّرٌ خياليّ وخاطئ.
وأذْكر أنّ محمد عبده دعا إلى ثورةٍ على النمط الپروتستانتيّ في الإسلام، وذلك (في رأيه) من أجل هجر عالم الغيبيّات والتقاليد الجامدة والموروثة التي لا تمتّ إلى عبقريّة الإسلام بصلة. غير أنّني، مع إعجابي الكبير بتفسير عبده، أعتقد أنّه وقع ضحيّةَ النظرة إلى الپروتستانتيّة على أنّها حركةٌ عقلانيّةٌ ومعتدلةٌ لا تمارس الغلوَّ في الدين، وأنّها كما ادّعى هيغل وفيبر أسّستْ للحداثة ولسيادة المنطق والرشد في أوروبا. أما أنا فأرى أنّ الپروتستانتيّة مصدرُ ثوراتٍ متعدّدة قضت على المؤسّسة الكنسيّة الجامعة، المتجسّدةِ في كنيسة روما الكاثوليكيّة (وريثةِ الإمبراطوريّة الرومانيّة)، ووضعتِ اليدََ على كلّ أملاك الكنيسة آنذاك، وقُضي على نمط حياة رجال الدين المنفصلة والمنعزلة عن المجتمع، وتمّ أيضًا إدخالُ الدين في صلب الحياة المجتمعيّة. يضاف إلى ذلك العودةُ إلى قراءة حرفيّة للنصوص التوراتيّة القديمة، لا القراءة الرمزيّة والصوفيّة الطابع. وقد أسّس لوثر لمفهوم "دين الدولة،" أيْ إجبار الرعيّة على اتّباع دين الملوك والأمراء الذين يَقْطنون ضمن أراضيهم. كما أنّ كالفان في جينيف أسّس لديكتاتوريّةٍ دينيّةٍ متوحّشةٍ قلّ نظيرُها في التاريخ. وإذا نظرنا إلى المجتمعات الدينيّة الإسلاميّة، حيث لا "كنيسةَ" بالمعنى المسيحيّ الكاثوليكيّ للكلمة، فإننا قد نستنتج أنّ المجتمعات الإسلاميّة تشْبه المجتمعَ الپروتستانتيّ؛ ذلك أنّ "رجالَ الدين" أناسٌ يعيشون داخل المجتمع، ويتزوّجون، والدين إجمالاً داخل المجتمع لا خارجه.
من هنا فإنّ مفهوم "الإصلاح الدينيّ" في الإسلام، بهذه النظرة، لا معنى له نظريّاً. وفي دراسةٍ سابقةٍ لي نُشرتْ في الآداب، سعيتُ إلى تحديد ما سميّتُه "إشكاليّة العلمانيّة،" بمعنى تحييد الدين في الحياة السياسيّة والحياة العامّة في أيّ مجتمع، بحيث لا يُستغلّ ولا يوظَّف في الصراع أو التنافس الطبيعيّ على السلطة، لا بالمعنى الأنغلوساكسونيّ الپروتستانتيّ (Secularism) الذي يعني إدخالَ الحياة الدينيّة والكنسيّة في صلب المجتمع. وهذه الإشكاليّة في الجوهر، بمعنًى إسلاميّ عميق، هي إعادةُ تأسيس حريّة الاجتهاد في النصّ المُنزَل، كما كانت موجودةً في القرون الأولى من تاريخ الدين والمجتمعات الإسلاميّة، حيث تعدّدتْ تأويلاتُ النصّ وطرقُ تطبيقه، وكانت هناك عشراتُ المِلل والنِّحَل كما ذكر الشهرستاني، وكلُّ واحدةٍ تعيش معتقدَها الدينيََّ بحريّة. ومن هذا المنطلق فإنّ المطلوب هو إصلاحُ الفكر العربيّ من ناحية تحرّره من القراءة الحرفيّة للنصّ، ومن الاجتهادات المتشدّدة التي أصبحتْ تسود الساحةَ العربيّة والإسلاميّة، وبشكل خاصّ تحت تأثير المذهب الوهّابيّ السعوديّ، مع تشعّباته الآسيويّة في باكستان وأفغانستان وإلى حدّ ما في أندونيسيا. ونحن نَعْلم أنّ ثمة معاركَ فكريّةً طاحنةً تدور في هذا الصدد، ويذهب بعضُ المثقّفين الكبار المؤمنين ضحيّةً للاضطهاد أو الاغتيال.
أضف إلى ذلك أنّ تراثَ الحركة التنويريّة العربيّة في عصر النهضة (الكواكبي، عبده، قاسم أمين، الطهطاوي، أحمد أمين...) طُمس طمسًا كاملاً لصالح أعمال سيّد قطب على سبيل المثال، ولصالح غيره من أتباع مدرسةٍ طوباويّةٍ تستلهم أيضًا من أدبيّات الغرب المسيحيّ حنينَ العودة إلى جذورٍ خياليّةِ الطابع، إلى "إسلامٍ أسطوريّ،" وبشكلٍ خاصّ إلى إسلام الخلفاء الراشدين، الذي جُعل نموذجًا نمطيّاً شكليّاً، لا مصدرَ إثراءٍ وتجدِّدٍ باستلهام المعاني السامية لتلك الفترة، ومن دون التطرّق إلى ما حلّ خلال القرون: من تكيّفٍ وتطوّرٍ في المؤسّسات الإسلاميّة الطابع، وفي التقاليد والاجتهادات التي نسمّيها "الشريعةَ الإسلاميّة." والحقيقة أنّ اطّلاعي القليلَ على الشريعة الإسلاميّة، ولاسيّما ما يختصّ بعلاقة المسلم بأهل الكتاب ـ وهو موضوعُ أطروحتي للدكتوراه (تعدّد الأديان وأنظمة الحكم، بيروت: دار النهار، 1977) ـ يُظهر أنّ التعدّد الرائع الموجود في الاجتهادات المختلفة في ذلك الشأن يدلّ على طرق مختلفة جدّاً ارتآها الفقهاءُ لإرشاد تصرّف المسلمين تجاه أهل الكتاب: من أقصى التشدّد إلى أروع المعاملة.
وهذا يدلّ أيضًا أنْ لا معنى للاختباء وراء الشريعة بشكلٍ جزئيّ أو انتقائيّ، حَسْبَ أهواء الذين يدّعون فهمَ الشريعة الإسلاميّة. وأضيف هنا أنّنا، من دون إعادة تأسيس حريّة الاجتهاد، فلن نتمكّن في العالم العربيّ من الولوج إلى الحريّات الأخرى (السياسيّة ـ الفرديّة ـ الإعلاميّة...) التي تتوق إليها الإنسانيّةُ. ولذلك أرى الحديثَ عن أنّ الإسلام لا يَفْصل بين الروحيّ والزمنيّ، وأنّه دينٌ ودولة، وأنّه ثقافة لا دينٌ وحسب، حديثًا مستورَدًا من الأدب الغزير المسيحيّ الغربيّ والرومنطيقيّ الطابع، الذي انقضّ على فلسفة الأنوار ومبادئ الثورة الفرنسيّة، ومجّد حياةَ القرون الوسطى الأوروبيّة، التي يُفترض أنها كانت كلُّها مبنيّةً على الدين والواجبات الدينيّة الشكليّة وممارسة الطقوس بحذافيرها والتضامن بين أبناء الدين الواحد.. وغير ذلك من التخيّلات، من دون النظر إلى ما كان يتعرَّض إليه الإنسانُ في تلك الأزمنة من الاضطهاد والموت في كثير من الأحيان في حال إظهاره أيَّ نوعٍ من الاختلاف في شؤون الاجتهاد الدينيّة مع العقيدة الرسميّة للكنيسة.
وربّما ما ينقصنا في المعرفة هو النظامُ القيميّ الذي تميّزتْ به الإمبراطوريّةُ البيزنطيّةُ التي حكمت المنطقةَ قرونًا طويلة، وأثّرتْ فيها. فالدراسات الأخيرة في الغرب حول النظام البيزنطيّ تَدْحض مقولةَ القيصريّة ـ البابويّة (Césaro-Papisme)، إذ كان يُفترض أنّ الإمبراطور يَجْمع بين وظائف الإمبراطور الدنيويّة ووظائفِ بابا كنيسة روما العقائديّة. وهذا مفهومٌ قديمٌ موروثٌ من أيّام الفراعنة في المنطقة، ولم ينوجد فعليّا في المسيحيّة الشرقيّة؛ فالحال أنّ الأمور العقائديّة جميعَها كانت تناقَش بالشورى في ما يسمّى "المجْمع،" وكان يُعقد مجْمعٌ كلّما باتت قضيّةٌ ما خلافيّةً، ولم يكن إمبراطورُ بيزنطيا هو الذي يحدِّد العقيدة. وفي المسيحيّة الغربيّة نفسها، كان انعقادُ المجمع ضروريّاً دائمًا لحلّ قضايا العقيدة الخلافيّة، وإنْ أصبحتْ لبابا روما الكلمةُ الفاصلةُ في أمور العقيدة وما يمكن أن يتفرّع عنها من أمورٍ دنيويّة.
ما أسبابُ استخدام هذا المصطلح في عالمنا العربيّ، برأيك؟ وما هي علاقتُه بالتحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة؟
هذه القضيّة تعود إلى الصدمة التي أصابت النخبَ العربيّةَ، بمن فيهم الفقهاءُ وأبناءُ الأزهر في مصر، عندما وُعي تخلّفُ العرب والمسلمين مقارنةً بالحضارة الأوروبيّة، سواء نُظر إليها كأنّها مسيحيّةُ الطابع أو ملحدةٌ ومادّيّة. هذه الصدمة فَتحتِ المجالَ لتفاعلٍ ثقافيّ كبيرٍ بين النخبة العربيّة والثقافة الأوروبيّة، وهو ما جعل النهضةَ العربيّةَ تنطلق في بدايات القرن التاسع عشر. وهذا القلق صار وجوديّاً أمام تقدّم الاستعمار الأوروبيّ، وأمام الوهن والتفكّك التدريجيّ للسلطنة العثمانيّة، فاستحوذ مفهومُ "التخلّف" على العقول، وتمّ السعيُ الحثيثُ لإزالته. ونحن ما نزال نتخبّط في هذه الإشكاليّة، ولا نتّفق إلى اليوم على أسباب التخلّف. والحقّ أنّ التخلّف مفهومٌ يشْمل الأوجهَ الاجتماعيّة والاقتصاديّة والعلميّة، وربّما أيضًا الأوجهَ العقيديّة الدينيّة الطابع. وموقفُنا في معظم الأحيان هو إمَّا التماهي مع تخيّلنا للغرب، وإمّا رفضُنا المطلقُ لنظام القيم الغربيّ وللعلمانيّة ولمفهوم الحريّات، مندّدين، وبشكلٍٍ ديماغوجيّ، بالأوجه البشعة للحرّية الجنسيّة، أو لحريّة المعتقد، من دون أن ننظر إلى الأوجه الأخرى، ومن دون أن نعي شدّةَ تأثّر فئةٍ من العرب الرافضين للغرب بجزءٍ من الثقافة الغربيّة: جزءٍ رََفَضَ الحداثة، ورَفَضَ فصْلََ الدين عن الدولة، ورَفَضَ إزالةَ التراتبيّات الاجتماعيّة التقليديّة، ورَفَضَ عدمَ سيطرة "الروحانيّات" لمصلحة حياةٍ مادّيّةٍ سخيفة.
وفي هذا السياق لا أرى فرقًا بين ما كتبه أديبٌ فرنسيّ شهيرٌ مثل شاتوبريان حول "عبقرية المسيحيّة،" وما كتبه سيّد قطب في مؤلّفه الشهير: في ظلال القرآن. فالحقيقة أنّ إدراكنا للتشعّبات المعقّدة للتفاعل الحضاريّ بيننا وبين المكوِّنات المختلفة للفكر الغربيّ يكوِّن قصورًا كبيرًا في نظام المعرفة عندنا.
أضفْ إلى ذلك النموذجَ الإسرائيليّ المزروعَ في قلب الوطن العربيّ، وهو نموذجٌ توراتيّ متجدّد ومطعَّم بالأوجه الأكثر تخلّفا ورجعيّة من الفكر الغربيّ. وفي إحدى دراساتي السابقة تحدّثتُ عن "صهينة العقل العربيّ،" أي النظرِ إلى أمورنا ـ عربًا ومسلمين ومذاهبَ مختلفةً ضمن الديانة الإسلاميّة أو المذاهب المسيحيّة الشرقيّة ـ من منظورٍ متأثّرٍ، بشكلٍ واعٍ أو لاواعٍ، بالانحياز المأساويّ الذي فرضتْه أوروبا في قلب المنطقة العربيّة للتكفير عن ذنوبها جرّاء اضطهادها لليهود؛ وهو ربّما التحدّي الأكبر بالنسبة إلى التعدّديّة الدينيّة التي يمتاز بها الشرقُ العربيّ والفارسيّ والتركيّ. فنحن ننسى دائمًا ما امتازت به عبقريّةُ المجتمعات الإسلاميّة بالتكيّف الكبير، لا مع وجود أهل الكتاب وحسب، وإنّما مع الوجود الوثنيّ أيضًا مثلما كانت الحالُ في الهند، أو في بلاد فارس قبل أن تتحوّل إلى الديانة الإسلاميّة. والمفارقة هنا أنّ قبولَ التعدّدية الدينيّة هذا (ضمن معايير بطبيعة الحال) قد قُضي عليه بالصورة التي تُقدِّمها اليومَ المجتمعاتُ الإسلاميّةُ عن نفسها، وهي صورةُ رفضِ التعدّدية وجهلِ التعامل معها؛ في حين كانت أوروبا المسيحيّة هي النموذجَ الذي لم يتحمّل التعدّديةَ الدينيّة، فقُضي على وجود اليهود والمسلمين هناك، مع أنّهم [الأوروبيين] يُلْقون اليومَ علينا دروسًا في التعامل مع قضيّة التعدّديات! وهذه المفارقة الموجعة تدلّ على مدى الانحطاط الذي أصابنا مجدّدًا بعد النهضة العربيّة الأولى.
كيف ترى إلى علاقة الإصلاح الدينيّ بالسلطات الحاكمة؟
هي قضيّةٌ عويصةٌ ومعقّدة. وبالاختصار، وبسبب عدم وجود مؤسّسة دينيّة مماثلة للمؤسّسة الكنسيّة في الإسلام، فإنّ العلماء في معظم الأحيان كانوا يَخضعون لسيطرة الحاكم المدنيّ، وكانوا في بعض الأحيان يقفون في وجههم إذا طغوا. إلاّ أنّ النموذج التاريخيّ في الحكم هو أنَّ قبضة الحاكم المدنيّ ـ أأميريّاً كان أمْ ملكيّاً أمْ سلطانيّاً ـ هي المهيمنة، وهي التي توجِّه اجتهاداتِ الفقهاء، وبخاصةٍ عندما فَقدت الحياةُ الثقافيّةُ والدينيّةُ بريقَها وحرّيتَها الفكريّة.
ولكي تستمرّ السلطةُ في بلداننا بلا منازعٍ أو مراقبٍ أو مُحاسب، فإنّها تحتاج جمودَ الفكر وإخضاعَه إلى المفهوم الضيّق للشريعة، أو للثقافة "الأصيلة" الإسلاميّة الطابع، أو لما تقتضيه حياةُ المسلم من تصرّفاتٍ معيّنةٍ يجب أن تحترمها السلطاتُ القائمةُ مهما مارست الاستبدادَ. ولذلك نرى دائمًا أنّ بعضَ رجال الدين المتشدّدين هم الذين يتمّ توظيفُهم من قِبل أهل السلطة، وذلك لردع أيّ نيّةٍ في إعادة الحيويّة والحريّة إلى مجتمعاتنا.
صحيح أنّ المجابهة مع الاستعمار، ولاسيّما أيامَ النفوذ الناصريّ في المنطقة، كانت قويّة. غير أنّ هذه المجابهة انطفأتْ بالتدريج، رغم استثناءاتٍ قليلة. وهذا الانطفاء أعطى دفعةً قويّةً للحركات التي نسمّيها "أصوليّة،" فحلّت محلَّ رياح القوميّة العربيّة التحرّريّة. ولا بدّ هنا من ذكر أنّ حريّة الاجتهاد قد ازدهرتْ في أواخر النظام الملكيّ في مصر وأيّام الناصريّة، إذ رأينا العديدَ من مشايخ الأزهر يميلون إلى إعادة النظر في تقاليد عديدة، بل في الحياة الاقتصاديّة نفسها، من دون أن يتعرّضوا للمضايقة كما كانت الحالُ أيّامَ النهضة العربيّة. فلنتذكّرْ فقط ما حصل عندما وضع علي عبد الرازق كتابَه، الإسلام وأصول الحكم، الذي حُرق وسُحب من الأسواق، ولنقارنْ ذلك بحريّة الاجتهاد في الخمسينيّات والستينيّات، وبخاصّةٍ في بلدٍ كمصر!
وكيف تبرِّر، إذًا، القمعَ بحقّ الإخوان المسلمين في تلك الفترة؟
أنا لا أُنكر أنّ النظام المصريّ [الناصريّ] مارس القمعَ السياسيّ، ومارسه بالشدّة نفسها تجاه الشيوعيين بالرغم من المساعدة التي قدّمتها موسكو إلى مصر. ولكنْ لا ننسى أنّ الإخوان حاولوا اغتيالَ عبد الناصر. لذلك أرفض تمامًا مقولة إنّ عبد الناصر اضطهد الدينََ من خلال اضطهاده الإخوانَ؛ فلقد كان القمعُ آتيًا من نظامٍ ديكتاتوريّ يسْري على أيّ فئةٍ يشعر أنّها تهدَّده.
ألا تعتبر أنّ ما تسمّيه انفتاحًا ناصريّاً على حريّة الاجتهاد الدينيّ مرتبطٌ بمصلحته فيه، من حيث القيمُ "الحديثةُ" التي رفعها شعاراتٍ له، كالقوميّة والاشتراكيّة؟
لا أنكر ذلك. ويمكن في هذا السياق أن نفسّر العديدَ من الاجتهادات التي أتت من مشايخ من داخل الأزهر (خالد محمد خالد مثلاً)، ومنها أنّ الإسلام أقربُ إلى الاشتراكيّة منه إلى الرأسماليّة؛ وهذه ظاهرة تؤكّد استقلاليّةَ الفقهاء بالنسبة إلى السلطة المدنيّة السائدة. غير أنّ التغيير في الاجتهادات كان يتطلّب جرأةً، نظرًا إلى المنظور الضيّق السائد في المجتمعات الإسلاميّة] للاجتهاد. وأودّ أن أذكّر هنا بأنّ العديد من العلماء التنويريين العرب، قبل الكواكبي أو غيره، حَمّلوا العنصرَ التركيّ مسؤوليّةَ جمود الفكر والتقوقع على تطبيقٍ مقيّدٍ وضيّقٍ للشريعة الإسلاميّة.
هل تعتبر أنّ الفكر المسيحيّ المشرقيّ شهد أيضًا "حركةَ إصلاح" كالتي نناقشها عند الفكر الإسلاميّ؟
إذا نظرنا إلى المسيحيّة الشرقيّة العربيّة فإنّ أوضاعَها لا تقلّ رداءةً عن أوضاع الإسلام! فالانحطاط أصاب الكنائسَ، كما أصابها التنافسُ في ما بينها. وما أراه خطأً شنيعًا هو نسيانُ أنّ مهدَ المسيح هو في فلسطين، وأنّ على المسيحيين الشرقيين قبل المسلمين واجبَ الدفاع عن فلسطين وعن وجود المسيحيين فيها. ولئن نسي الغربُ المسيحيّ هذه الحقيقةَ الساطعةَ ولا يريد أن يتعرّفَ إليها، نظرًا إلى ما حصل لليهود خلال الحرب العالميّة الثانية، أو إلى فشل الحملات الصليبيّة، فإنّه كان على المسيحيّة الشرقيّة أن تقودَ المسيرةَ العربيّةَ لوقف المشروع الصهيونيّ. صحيح أنّ بعضَ المسيحيين في بدايات القرن العشرين حَذّروا إخوانَهم العربََ المسلمين من خطورة المشروع الصهيونيّ؛ وصحيح أيضًا أنّ ميشال شيحا في لبنان أثار الوعيَ اللبنانيّ بخطورة الصهيونيّة، وأنّ العلاّمة الأب يواكيم مبارك كان من الشخصيّات البارزة التي تصدّت بكلّ جرأةٍ في أوروبا لتبريرات الصهيونيّة وتحالفها مع الولايات المتّحدة. غير أنّ الكنائس لم تتحرّكْ بشكلٍ جدّيّ، ولم تسْعَ إلى استعمال نفوذها لدى المسيحيّة الغربيّة لإيقاف هوسها بالمشروع الصهيونيّ. وأعتقد أنّ هذا جزءٌ من انحطاطٍ مؤسّسيّ كبير.
وفي بعض الكنائس الشرقيّة سيطر الانشدادُ إلى الغرب بشكلٍ أعمى، أو سيطر في كثير من الأحيان الخوفُ المتعاظمُ من سيطرةٍ إسلاميّةٍ على المسيحيين تعيدهم إلى نظام أهل الذمّة. وهناك، لسوء الحظّ، أدبيّاتٌ عديدةٌ تصوِّر، بشكلٍ مخالفٍ للوقائع، حياةَ المسيحيين في المجتمعات الإسلاميّة؛ وتمّ ذلك تحت تأثير الأدبيّات الفرنسيّة، بشكل خاصّ، في القرن التاسع عشر، ويتمّ اليومَ تحت تأثير الأدبيّات الصهيونيّة الهوى. هذا بالإضافة إلى المشهد الحاليّ مع صعود الحركات التكفيريّة، التي تستعمل لغةً حادّةً مشتعلة، فتخيف المسيحيين؛ وهم محقّون في خوفهم، مع أنّهم لا يروْن مصدرَ هذه الحركات في الحرب الباردة، عندما كانت الولاياتُ المتّحدة الأميركيّة هي التي تَستخدم بعضَََ التشدّد الإسلاميّ لمناهضة المدّ الشيوعيّ في العالم العربيّ والإسلاميّ! وفي كثير من الأحيان بقيت المؤسّساتُ الكنسيّة، وجزءٌ كبيرٌ من الرعيّة، في حالة خوفٍ وانزواء.
المشهد، إذنْ، لا يثير التفاؤل: من انقراض المسيحيين في فلسطين على أيدي الصهيونيّة، إلى الحرب اللبنانيّة الأهليّة الطويلة التي هَجّرتْ أعدادًا كبيرة من الطرفيْن، فإلى المشهد في العراق حيث راح يتضاءل بشكلٍ كبيرٍ عددُ المسيحيين بعد الغزو الأميركيّ، وإلى ظهور التنظيمات التكفيريّة في لبنان، والأحداث الدمويّة المتواصلة بين الأقباط والمسلمين في مصر بعد حياةٍ مشتركة لقرون، وتراجُعِ أعداد المسيحيين في سوريا. وهذه العوامل مجتمعةً تفسِّر، إلى حدٍّ ما، تقوقعَ الكنائس الشرقيّة وشللَها.
كيف تعلّل تمركزَ الحركات الإصلاحيّة الدينيّة في القرن الماضي في العالم العربيّ؟
خلافًا للرؤية المحجوبة، ما تزال هناك معاركُ فكريّةٌ طاحنةٌ ذكرتُها سابقًا من أجل حرّيّة الاجتهاد والتعامل مع النصّ الدينيّ. وهناك أعمالٌ ضخمةٌ لا يُنظر إليها، لا في الغرب في الأكاديميّات الاستشراقيّة، ولا بالشكل الكافي عندنا: من نصر حامد أبي زيد في مصر، إلى محمد شحرور في سوريا، إلى محمد محمود طه الذي شَنَقَه نظامُ النميري في السودان، وإلى أسماء عديدةٍ لها إنتاجٌ غزيرٌ يُحارَََب ولا يهتمّ به الإعلاميّون والأكاديميّون لأنّ كلّ الانتباه مشدودٌ إلى الحركات السلفيّة والحركات التكفيريّة على الطريقة الـ "بن لادنيّة." وهذا يصبّ طبعًا في مصلحة الغرب والصهيونيّة، وذلك في تأكيده صوابيّةَ الطرح السخيف بأنّ النزاعات في الشرق الأوسط تدور كلّها حول صِدام الحضارات والأديان... لا حول الهيمنة الغربيّة، والاحتلالات، والاغتصاب الصهيونيّ، واستباحة أراضي العرب منذ أيام بوناپرت إلى اليوم، وعدم تطبيق مبادئ القانون الدوليّ على إسرائيل، بينما تُطبّق (بشكلٍ مشوّهٍ، بل إجراميّ) على العراق عبر فرض الحظر الاقتصاديّ الشامل على الشعب العراقيّ فأودى بحياة مئات الآلاف من فقرائهم.
في هذا السياق هل نجد حركاتٍ إصلاحيّةً دينيّةً قامت عند الكنائس الشرقيّة بموازاة الحركات الإسلاميّة؟
الكنائس الشرقيّة ذاتُ تراثٍ تنافسيّ في ما بينها، يعود إلى الخلافات اللاهوتيّة العميقة في القرون الأولى من المسيحيّة. وابتداءً من القرنيْن السادس عشر والسابع عشر بدأت الإرساليّاتُ الأجنبيّةُ تتوافد إلى المنطقة وتؤثّر بشكلٍ كبيرٍ في هذه الكنائس وتُدْخلها رويدًا رويدًا في قنوات نفوذ الدول الأوروبيّة الكبرى وروسيا (بالنسبة إلى الروم الأورثوذكس). كما توغّلتْ أيضًا الإرساليّاتُ الپروتستانتيّةُ وشقّت العديدَ من الكنائس الشرقيّة. ثم إنّ كنيسةَ روما تمكّنتْ من شقّ الكنيسة الأورثوذكسيّة في حلب في القرن الثامن عشر. وهذه العوامل مجتمعةً أدّت إلى بلبلةٍ كبيرةٍ في صفوف المسيحيّين العرب، وجعلت العديدَ منهم يخرجون من طور نفوذ الكنيسة القويّ ليُسْهموا في تأسيس الحركات القوميّة العربيّة. وهناك مثلاً ظاهرة جبران خليل جبران، الذي ندّد، من جهة، بممارسات الكنيسة ورجال الدين، واستلهم، من جهة أخرى، الكثيرََ من أدبيّات الغرب حول ثنائيّة العالم: بين غربٍ مسيحيّ مادّيّ فَقَدَ روحانيّاتِ الدين والصوفيّة، وشرقٍٍ بقي متمسّكًا بها ورافضًا لماديّات الغرب. وهذه ثنائيّةٌ خياليّةُ الطابع وصفتُها بإسهابٍ في أحد مؤلَّفاتي (شرق وغرب: الشرخ الأسطوريّ، بيروت: دار الساقي، 2003).
وفي هذا المضمار لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مفهوم "الأصالة" مستورد هو أيضًا من الأدبيّات الرومنطيقيّة الألمانيّة، لا من صلب الأدبيّات العربيّة. بل إنّ كلّ إشكاليّات "الأصالة" و"التجديد" هي إشكاليّاتٌ مفخّخةٌ مستوردةٌ أيضًا من أدبيّات الغرب.
بالعودة إلى بدايات القرن الماضي، هل يمكن اعتبارُ ما كُتب ونُشر وسُمّي "إصلاحًا دينيّاً" إصلاحًا دينيّاً بالفعل؟ ولماذا بقي على مستوى النخبة فقط ولم يتحوّل إلى حركة فاعلة، بحيث تمّ القضاءُ عليه واستيعابُه بيسر؟
لا شكّ أنّنا نعني في هذا الموضوع الإصلاحَ الدينيّ عند المذهب السنّيّ؛ فمعرفتنا بما حصل عند المذهب الشيعي أقلُّ بكثير، ويجب سدُّ هذه الثغرة في ثقافتنا العربيّة. هذا من جهة. أمّا من الجهة الثانية، فلا شكّ أنّه كانت هناك روحٌ تحديثيّةٌ في إطار إشكاليّة الخروج من التخلّف، وهي إشكاليّة أصبحت النخبةُ العربيّةُ واعيةً بها مقارنةً بما كان قد حصل في أوروبا من نهضة عملاقة منذ القرن السادس عشر. وهذه الروح سمحتْ بالتركيز على عبقريّة الشريعة الإسلاميّة من حيث إمكانيّة تأقلمها مع ظروف الزمان والمكان، والابتعاد عن التقيّد باجتهادات متشدّدة لا تتيح للمجتمعات العربيّة أن تتكيّف مع زمن الحداثة وتحدّيات الهيمنة الاستعماريّة. وهذا ما فعله محمد عبده وقاسم أمين وأحمد أمين والكواكبي وعلي عبد الرازق وغيرُهم من كبار العلماء.
غير أنّ هذه النهضة الاجتهاديّة بقيتْ محصورةً لدى النخبة. وهذا هو وجهُ القصور الأكبر في النهضة العربيّة والتنوير الإسلاميّ المرافق له، ويعود إلى عدم اهتمام النخبة العربيّة، وبخاصة في مصر وبلاد الشام، بالقضاء على الأميّة، ولاسيّما في الأرياف. وذلك هو خلافُ ما فعله اليابانيّون بعد ثورة إمبراطور المييجي عام 1868، حيث تقرّرتْ مجابهةُ الغرب بعد فتنة طويلة بين التقليديين والحداثيين في اليابان، وتقرّر استيرادُ ما ينفع المجتمعَ اليابانيّ من علومٍ وتصرّفاتٍ اجتماعيّة جديدة مرافقةٍ لها. وكانت سياسةُ محو الأميّة لدى الفلاحين (وكانوا الأغلبيّة السكّانيّة الكبرى) من أهمّ أولويات الإصلاح، وذلك كي تُقام الإصلاحاتُ المؤسّساتيّة والمجتمعاتيّة على أرضيّةٍ صلبةٍ لا تَسمح للفئات المتشدّدة بتأكيد "الأصالة" اليابانيّة في مواجهة الحداثة الغربيّة "المنافية للتقاليد،" ولا للقوى الاجتماعيّة المتضرّرة من التغيير والإصلاح (والمتّكلة على الفئات الريفيّة والمدينيّة الفقيرة لصدّ موجة التحديث الجديدة) بأيّ ردّ فعل.
لسوء الحظّ أنّ هذا لم يحصلْ عندنا كما قلتُ. فلا محمّد علي، ولا جمال عبد الناصر، ولا الأنظمة العربيّة المختلفة، تمكّنتْ من القضاء على الأميّة بشكلٍ كامل، وإخراج العالم الريفيّ العربيّ من وضعه التاريخيّ كفئةٍ مهمّشة وفقيرة ومتمسّكة ـ من ثمّ ـ بالأوجه السلبيّة لتقاليدَ عديدةٍ كانت النهضةُ العربيّةُ تهدف إلى القضاء عليها. ونحن نَعْلم أنّ ثمة، إلى اليوم، جيوبًا واسعةً جدّاً من الأمّيّـة المطْلقة في مصر والمغرب والسودان على سبيل المثال، ومن شبه الأمّيّـة في معظم الأقطار العربيّة.
أضفْ إلى ذلك ما حصل من ابتعاد بعض مريدي الإمام محمد عبده، وعلى رأسهم الشيخ رشيد رضا، عن تراث الإمام والتنويريّين الآخرين، والتقوقع على اختيار وجه الشريعة المتشدّد تحت تأثير المذهب الوهّابيّ الذي اعتمدتْه المملكةُ السعوديّةُ الناشئة. وقد برز منذ ذلك الحين مجدّدًا إلى الساحة الصراعُ بين المصلحين والتنويريين المحبِّذين للحداثة ولتجديد روح الشريعة ولقراءة القرآن الكريم بروحيّته ورمزيّته لا بالحَرْفيّة الجامدة؛ وبين المتشدّدين الذين وَجدوا مساندةً كبيرةً وملجأً وتمويلاً من الدولة السعوديّة، التي تعتمد المذهبَ الوهّابيّ وتسعى إلى نشره في كلّ الأقطار الإسلاميّة والعربيّة.
وممّا ضاعف من هذا الصراع عنصران مهمّان. أولاً، إخفاقُ النخبة العربيّة الإصلاحيّة في إقناع الدول الغربيّة الاستعماريّة بأن تعدّل من سياساتها تجاه الدول العربيّة والإسلاميّة، فتتركَ لها حرّيتها وتنسحبَ سياسيّاً وعسكريّاً من الديار العربيّة. وثانيًا، تشجيعُ بريطانيا لآل سعود في الخليج، وعدمُ تقديم المساعدة للعائلة الهاشميّة التي كانت تَحْكم مكّةَ أمام زحف التحالف السعوديّ الوهابيّ. وكما نعْلم فقد كان لهذا الحدث تأثيرٌ بالغٌ على المنطقة العربيّة، إذ تأسّست المملكةُ العربيّة السعوديّة سنة 1925 بعد أن سيطرتْ على مكّة والمدينة وجدّة ومناطقَ شاسعةٍ من الجزيرة العربيّة. وقامت المملكةُ كدولةٍ دينيّةِ الطابع، اعتمدتْ طريقةً متشدّدةً جدّاً في تطبيق الطريقة الوهّابيّة في العودة إلى الجذور، أيْ إلى عهد الخلفاء الراشدين.
وقد نشأ صراعٌ ذو أوجه سياسيّة وعسكريّة مأساويّة في الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، في عهد التوسّع العقائديّ العروبيّ، سواء على الطريقة الناصريّة أو البعثيّة أو طريقة القوميين العرب، مع المملكة وحلفائها في الأنظمة العربيّة الأخرى والغرب. وكانت نتائجُ هذا الصراع واضحةً للعيان في حرب اليمن وانقسام اليمن إلى يمنيْن، وفي المعركة حول حلف بغداد، وغيرها من الأحداث. وكانت للحرب العربيّة ـ الإسرائيليّة عامَ 1967 آثارٌ ضخمةٌ غيّرتْ وجهَ المنطقة، خصوصًا في ظلّ ارتفاع أسعار النفط أربعةَ أضعاف سنة 1973، وظهورِ المملكة العربيّة السعوديّة زعيمةً للعرب ومؤسِّسةً لمنظمة الدول الإسلاميّة (وهي منظّمة تأسّستْ لمنافسة منظّمة دول عدم الانحياز التي لم تكن مبنيّة على الرابطة الدينيّة إطلاقًا، ولمنافسة الجامعة العربيّة التي لم يُبنََ ميثاقُها على رابطة إسلاميّة هو كذلك). وهكذا تمّت الغلبةُ المطلقةُ لمدرسة رشيد رضا وللتشدّد الدينيّ، وأُعيد تأسيسُ الدين رابطةً أساسيّةً في حياة المجتمعات العربيّة، وأصبحت النهضةُ العربيّة والحركةُ التنويريّة تراثًا مهمَّشًا ومقصِيّاً في ثقافة الأجيال الجديدة من العرب.
زدْ على ذلك أنّ الإنجازات التي حصلتْ في بعض الدول العربيّة المتأثّرة بالناصريّة أو بالحركة القوميّة العربيّة بأشكالها الأخرى ـ وهي إنجازاتٌ تتعلّق بالقضاء على الأميّة، وتطبيقِِ الإصلاح الزراعيّ لتحسين الأوضاع المعيشيّة للفلاّحين، وحركة التصنيع المتسارعة أيّام عبد الناصر ـ قد تمّ القضاءُ عليها في عهد أنور السادات وسياسة الانفتاح. ومن ثمّ اعتمدتْ مختلفُ تيّارات الإسلام السياسيّ وجهةَ نظرٍ معاديةً لما سُمّي "الاشتراكيّة العربيّة،" وانحازت إلى نظامٍ رأسماليٍّ بلا ضوابط، وبشكلٍ خاصٍّ إلى نظامٍ رأسماليّ يعتمد نموذجًا تنمويّاً مبنيّاً على توزيع إيرادات الريْع المختلفة بشكلٍ غير عادل، أَسْهم في إعادة تركيز الثروات في أيدٍ قليلةٍ متحالفةٍ باستمرار مع الفئة الحاكمة، سواء أكانت ملكيّةَ الطابع أمْ جمهوريّةً. وقد عمّ الاقتصادُ الريعيُّ المنطقةَ العربيّةَ على حساب الاقتصاد المنتِج، فأصبحت الاقتصاداتُ العربيّةُ أسيرةَ مستوى أسعار النفط، وأسيرةَ تحويلات المغتربين العرب المتزايدة أعدادُهم مع تفشّي البطالة، وأسيرةَ المساعدات الخارجيّة، وإيرادات السياحة والريع العقاريّ، وإيرادات توظيف فائض الرساميل في الأسواق الماليّة الدوليّة، أو (ابتداءً من الثمانينيّات) التوظيفات في البورصات المحليّة النامية، المتأثّرةِ بدورها بعمليّات الخصخصة في قطاع الاتّصالات (على الأغلب) أو فائض الأموال العربيّة بذاتها عند كلّ موجة من ارتفاع أسعار النفط.
وممّا لا شكّ فيه أنّ هيمنةَ هذا النموذج الاقتصاديّ غير المنتِج، والذي يُولّد باستمرارٍ المزيدَ من البطالة وهجرةِ الكفاءات وهجرة الفقراء، تساعد على استمرار الاستبداد السياسيّ بأشكاله المختلفة. ذلك أنّ تحالفَ رجال الأعمال مع أهل الحكم، وتركُّزََ الثروات في أيدٍ قليلة، وتركّزَ وسائل الإعلام الجديدة في أيدي رجال أعمال متحالفين مع الحكّام أو الأمراء، كلّ ذلك أمّن الاستقرارَ للأنظمة السياسيّة العربيّة وأقفل بابَ الانقلابات والتغيير نهائيّاً. وتمّ توظيفُ التشدّد الدينيّ في الحفاظ على هذا النمط التنمويّ الريعيّ الطابع.
ومن التناقض الذي تولّد عن هذا النموذج الحركاتُ التكفيريّةُ الإرهابيّةُ العبثيّةُ الطابع في دولٍ عربيّةٍ عديدة، ودولٍٍ إسلاميّةٍ أخرى كباكستان وأندونيسيا. وهذه الحركات تعبِّر في النهاية عن السخط العميق تجاه عدم عدالة توزيع الإيرادات وأرباح الاقتصاد الريعيّ، خاصّةً أنّ الفقهاء اهتمّوا بشكلٍ كبيرٍ في القرن الأوّل من الإسلام بتطوير قواعد تؤمِّن عدالةَ توزيع النشاط الاقتصاديّ الناجم عن الغزوات والحركة التجاريّة النشطة والنشاطات الأخرى غير الإنتاجيّة الطابع. لذلك عندما عاد الاقتصادُ العربيُّ ريعيّ الطابع، وفي ظلّ جوّ التشدّد الدينيّ، جاء الاحتجاجُ على قضايا التوزيع والعدل الاقتصاديّ على شكل أنّ "الإسلام هو الحلّ" في الأقطار العربيّة السُّنيّة، وجاء من الثورة الإيرانيّة بإبراز "قضيّة المحرومين."
هل نسمّي كلَّ حركةٍ دينيّةٍ إصلاحًا؟ وبالتالي ما العلاقة بين الفكر الوهّابي الـ "بن لادنيّ" والنزوع الدينيّ المسيحيّ الجديد في العالم الغربيّ؟
لا أعتقد أنّ هناك حركاتٍ دينيّةً بمعنى حركاتِ تنويرٍ تعمل على نشر عبقريّة الدين كمُثُلٍ عليا، وكإطلالةٍ إنسانويّةٍ على شراسة حياتنا في الدنيا. إنها [أي الحركات الدينيّة] تسميةٌ مخادعةٌ لأنّها جميعَها حركاتٌ سياسيّةُ الطابع، تستغلّ الفراغَ الفكريّ الذي نعيش فيه، وتستغلّ انهيارَ المقوِّمات الثقافيّة للعرب أو لشعوبٍ أخرى تدين بالإسلام. أهدافُها محض سياسيّة، حتّى إنّها حين تمارس العنفَ الأعمى تستهدف المسلمين أنفسَهم. وأنا أستثني هنا، بطبيعة الحال، حركاتِ المقاومة ضدّ الاحتلال، التي تحارب محتلاً وغاصبًا تحت الراية الدينيّة، لأنّ الراية القوميّة كما وصفناها سابقًا قد أخفقتْ في جمع العرب لمجابهة التحدّيات الخارجيّة الفظيعة، ولأنّ وجود إسرائيل أيضًا يتستّر وراء الديانة اليهوديّة لإخفاء الاغتصاب والعنف المتواصل، ولأنّ العالم أصبح أسيرَ نظرةٍ جيوبوليتيكيّة تُبرز الدياناتِ لتبرِّر الحروبَ والاغتصاب. وهذا ما تفعله الولاياتُ المتّحدة منذ أيّام الحرب الباردة. فقد وَظّفت الدينَ بشكلٍ مكثّفٍ في محاربة الشيوعيّة، وشجّعتْ كلّ الحركات الأصوليّة في المسيحيّة والإسلام واليهوديّة، بالإضافة إلى الهندوسيّة أو البوذيّة بشكلٍ أقلّ. وعندما انهار الاتّحادُ السوفياتيّ كانت هذه الحركة السياسيّة، المتعدّدةُ الأطراف والعابرةُ للجنسيّات والقوميّات، قد اتّخذتْ ديناميكيّةً مستقلّة، بحيث لم يقتصر الأمرُ على العجز عن إيقافها بشكلٍ سريع، بل استمرّت في التوسّع انطلاقًا من الولايات الأميركيّة نفسها. ذلك أنّ القوميّة الأميركيّة هي ذاتها مبنيّةٌ إلى حدّ بعيد على نظرة توراتيّة ترى في فتح القارة الأميركيّة، وإبادةِ السكّان الأصليين، وعدًا جديدًا من الربّ إلى الغزاة المتشدّدين دينيّاً من المذهب الپروتستنتيّ الذين كانوا يأتون من إنكلترا (Puritans). وهذا ما يفسّر ما نشهده من صلةٍ أكثر من وثيقة بين الولايات المتّحدة وإسرائيل. والسكوتُ الأميركيّ التامّ عن التوسّع الاستيطانيّ الإسرائيليّ والعذابِ والقمعِ والقهرِ والاضطهادِ التي يتعرَّض لها الشعبُ الفلسطينيّ هو سكوتٌ نابعٌ من أسباب دينيّة إيمانيّة الطابع ترى في عودة اليهود إلى فلسطين تمهيدًا لعودة المسيح إلى الأرض. وهذا الاعتقاد موجود لدى العديد من الكنائس الپروتستانتيّة. بالإضافة إلى أنّ الأوروبيين، بسببٍ من علاقتهم المضطربة باليهوديّة الأوروبيّة، يرتاحون أكثر إذا كانت لليهود دولتُهم، ويروْن من واجبهم المعنويّ والأخلاقيّ مساندةَ هذه الدولة، ولو خالفتْ في ممارساتها كلَّ مبادئ القانون الدوليّ الحديث ومفهوم الإنسانويّة الحديث.
هنا يمكن أن نرى أنّ الأصوليّات المتشدّدة في الأديان السماويّة الثلاثة تجتمع في نظرةٍ توراتيّةٍ إلى الكون، وكلُّ واحدةٍ منها ترى أنها هي التي تجسِّد الرسالةَ الدينيّةَ الحقّة التي يجب نشرُها لصالح البشريّة. وتسود الساحةَ الإعلاميّةَ الآن هذه النظرةُ التوراتيّةُ المعتمدةُ على قراءةٍ حرفيّةٍ للنصّ التوراتيّ، على حساب نظرات الديانات الأخرى، فتصبح الآراءُ والاجتهاداتُ التنويريّة المسالمة والمعتدلة مهمَّشةً. وفي بعض الأحيان يُعرَّض أصحابُ التنوير إلى المضايقات وإلى شتَّى أنواع التهجُّم، خاصّةً في اليهوديّة وفي الإسلام حاليّاً، رغم الأعداد الكبيرة من المتنوّرين مثل اليهود المعادين للصهيونيّة، أو مثل المسلمين الداعين إلى تجنّب القراءة الحرفيّة للنصّ القرآنيّ والعمل على القراءة الرمزيّة ومعانيها، أو مثل بعض المفكّرين الكاثوليك والپروتستانت الذين يقفون بشدّةٍ ضدّ الطروحات المتشدّدة في الديانة المسيحيّة، وبشكل خاصّ تلك التي تؤدّي إلى تدعيم الكيان الصهيونيّ بشكلٍ أعمى على حساب حقوق الإنسان العربيّ.
هل الإصلاح الدينيّ ينطلق، فعلاً، من داخل المؤسّسة الدينيّة وحدها؟ وأيُّ دور للعلمانيين فيه؟
أنا لا أحبّ تقسيمَ الناس بين دينيين وعَلمانيين. فكثيرٌ من المؤمنين الدينيين ذوو تصرّفٍ علمانيِّ الطابع، أيْ يكنّون احترامًا كبيرًا للاختلاف الدينيّ أو المذهبيّ أو السياسيّ. وفي المقابل نجد العديدَ من العَلمانيين، هنا أو في الغرب، يمارسون تعصّبًا أعمى تجاه الاختلاف في الرأي أو العادات، أو تجاه أشكال معيّنة من الممارسة الدينيّة، دون أن يَسْعوا إلى الحوار والانفتاح. هذا بالإضافة إلى أنّ كلمة "علمانيّة" صارت ترمز في ثقافتنا العربيّة الراهنة المنحطّة إلى الإلحاد وعدم الاكتراث بالقيم الروحيّة؛ وهذا خطأٌ طبعًا، لكنّ العديد من العلمانيين "النضاليين" يثْبتون بأقوالهم وتصرُّفاتهم وجهةَ النظر هذه. ففي كثير من الأحيان يصبح العلمانيون العرب منتمين سياسيّاً إلى هويّة ثقافيّة سياسية غربيّة محضة، لا تأخذ في الاعتبار تراثَنا ومشاكلَنا، ولاسيّما المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة الطابع، ويردّدون شعاراتٍ جوفاءَ كالتي نسمعها في كلام صانعي القرار الغربيين والنخبة المثقّفة الغربيّة التي تدور حولهم. إنّ جزءًا كبيرًا من الخطاب العلمانيّ العربيّ يتجاهل تمامًا قضايا الكرامة الوطنيّة، ومكافحة الاستعمار الغربيّ، وعدوانيّة إسرائيل، ومعاناة الفلسطينيين واللبنانيين من جرَّاء هذا الكيان الغاصب، وكذلك قضايا العدالة الاجتماعيّة، والقضاء على الأميّة، وإرساء قواعد اقتصاد منتِج. لقد أصبح أصحابُ هذا الخطاب مثلَ المبشّرين، يردّدون شعاراتٍ جوفاءَ وينسوْن حقيقة أوضاع أمّتهم العربيّة أو قطرهم العربيّ!
أمّا الإصلاح الدينيّ فهو، كما ذكرنا في البداية، وقبل أيّ شيءٍ آخر، إصلاحُ الفكر، وتطويرُ الثقافة، وبناءُ التراكم المعرفيّ. فالإصلاح الدينيّ لا يمكنه أن ينجح خارج استعادة الفكر والعلم والمعرفة. وفي هذا المضمار يمكن أن يكون لرجال الدين والعلماء دورٌ بارزٌ، كما كان الحال في فترة النهضة العربيّة الأولى. ونحن نرى في الساحة العربيّة بعضَ الفقهاء من أصحاب المواقف المتنوّرة والمتكيّفة مع العالم المضطرب الذي نعيش فيه. غير أنّ القضيّة ليست قضيّة دينيّة، بل قضيّة صياغة تدريجيّة لمنظومة فكريّة عربيّة ترتاح إليها الأغلبيّةُ الكبرى من العرب والأعراق الأخرى التي تعيش معهم منذ أقدم الأزمنة مثل الأكراد والبربر، كما يرتاح إليها المسيحيّون العرب بتعدّديتهم الكبيرة، والمذاهبُ الإسلاميّةُ المختلفة التي تعيش حاليّاً حالةً من النفور والحذر والخوف في ما بينها، وهي حالة تُنْذر بالكثير من المشاكل السياسيّة الطابع. ومن أجل إرساء دعائم هذه المنظومة يجب أن نقضي على الانقطاع في تراثنا الحديث، ونعيد الصلةَ مع ما حقّقتْه النهضةُ العربيّةُ الأولى في القرن التاسع عشر. وعلينا أيضًا أن ننظر إلى ما حصل للعرب عند نسيان تراثهم الأقدم، بعد أن سيطر عليهم العنصرُ غيرُ العربيّ ابتداءً من القرن الحادي عشر، وأن نستعيدَ أيضًا تراثَنا الفلسفيّ العظيم الذي كان من أحد أسباب النهضة في أوروبا (ولم يكن كذلك عندنا)، وأن نعيد بناءَ تاريخنا بكلّ أبعاده، وألاّ نقع في الوسواس الدينيّ المتواصل كعنصر هويّةٍ أحاديِّ الجانب. والحقيقة أنَّ الهويّة البشريّة في أيّ بقعة من هذا العالم هي، باستمرار، هويّةٌ مركّبة: لا شكّ في أنّ للدين دورًا فيها، ولكنّ هناك عواملَ متعدّدةً إلى جانبه، اجتماعيّة ومناطقيّة ومهنيّة واقتصاديّة وسياسيّة.. إلخ. وعندما يكون العنصرُ الدينيّ مختصّاً بديانة تمتدّ عبر القوميّات والأعراق واللغات، فلا يمكن أن تُبنى هويّةٌ جماعيّةٌ في مجموعةٍ لغويّةٍ واحدة على العامل الدينيّ وحده، وإلاّ ذابت الهويّةُ العربيّةُ في هويّةٍ إسلاميّةٍ خياليّةِ الطابع أكثر ممّا هي واقعيّة، وهي روحيّة أيضًا قبل أن تكون سياسيّة. ولا شكّ في أنّ الرابطة الروحيّة مهمّة، إلاّ أنها لا تكوِّن بمفردها هويّةَ مجتمعٍ ما.
نَسْمع كثيرًا عن وجود ثقافة إسلاميّة تَحْكم تصرّفاتنا كعرب، ولكنّني لا أعتقد ذلك. نعم، هناك تراثُ الفكر الدينيّ الذي شارك فيه الفرسُ والأتراكُ وشعوبٌ أخرى عديدة. ولكنْ يجب ألاّ نخلطَ بين الفكر الدينيّ والعقيدة المتفرّعة من الفكر الدينيّ، وبين الثقافة التي هي مفهومٌ أوسعُ بكثير: فهذه تعتمد أساسًا على لغة مشتركة بين الناس، وعلى أنماطٍ خاصّةٍ بالمجموعة التي تتشارك اللغةَ، في الهندسة المعماريّة وفي شتّى أنواع الفنون، وفي العادات الاجتماعيّة، وإنْ تشابهتْ تلك العاداتُ في الأعياد الدينيّة الطابع بين العرب وغير العرب من المسلمين. والحقيقة أنّ صياغة منظومة ثقافيّة عربيّة يجب أن ترتكز على توضيح المفاهيم التي نستعملها، وبخاصّةٍ في مجال تحديد هويّتنا. كذلك لا يكفي تجديدُ التراث بمعناه الدينيّ بشكلٍ خاصّ، بل علينا أن نقومَ بقراءة جديدة للتراث، لننطلقَ إلى منظومة فكريّة مبدعة تحرِّر الطاقاتِ الفكريّةَ الكامنةَ لدينا، وتَسْمح لنا بأن نقضي على الاقتصاد الريعيّ لندخلَ عالمَ الإنتاج، ولكي نتمكّن من بناء تضامنٍ بين الأنظمة العربيّة بحيث نصبح مجموعةً محترمةً في النظام الدوليّ، وبحيث نتمكّن عسكريّاً من الدفاع عن أنفسنا مادمنا نتعرّض للغزوات والاحتلالات، من قِبل إسرائيل والدول الغربيّة.
فما فائدةُ الفكر السائد إذا كان يُخفق في تأمين كرامة الإنسان وحرّيته؟! ولذلك علينا أن نغيِّر تقاليدَنا الفكريّة الجامدة لنُطْلق حركةً نهضويّةً جديدةً تَشْمل كلَّ أوجه حياتنا العربيّة المعاصرة.
شكرًا، باسمي وباسم الآداب، يا د. جورج على هذه المقابلة الغنيّة الرائعة.
بيروت
Links:
[1] http://www.adabmag.com/adab
[2] http://www.adabmag.com/epublish/1/6
[3] http://www.adabmag.com/node/203
[4] http://www.adabmag.com/node/201
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق