عن أوديت سالم فقيدة ذوي المخطوفين
المستقبل - الاحد 24 أيار 2009 - العدد 3313 -
حسن داوود
في الصور التي تعلّقت على ذلك الشريط الطويل بمحاذاة "الخيمة"، بدت أوديت سالم كما لو أنّها سمحت لنفسها بأن تتصرّف بوحي من الكاميرا التي أمامها. في واحدة من الصور جاوزت الإبتسام إلى حدّ الضحك. في واحدة أخرى قرّبت وجهها من العدسة التي كانت مرتفعة عنها لكي يُؤخذ وجهها من الأعلى، هكذا بضرب من اللهو الذي لم تتحرّج هي، ولا الآخرون من المعتصمين في الخيمة، عن الذَّهاب فيه. حتّى إنّني، في زيارتي إلى هناك، متأخرّا يوما عن الموعد الذي حُدّد لتشييعها ، فكّرت أنها ربما كانت قد عاشت أوقاتا سعيدة بين أولئك الجالسين والجالسات، الذين جعلوا من المساحة الضيّقة التي تحلّقوا فيها، ما يشبه غرفة جلوس في منزل من منازلهم. أو في منزل من منازلهنّ، هنّ النساء اللواتي غلب عددهنّ عدد الرجال، واللواتي رحن يقمن بالضيافة مبتسمات فيما هنّ يقرّبن فناجين القهوة البلاستيكيّة، أو أكواب السفن أب، للوافدين القليلين الذين لم يسبق لبعضهم أن زاروا خيمتهنّ من قبل.
كنّ يجلسن مستعدّات لاستقبال المعزّين مشتملات بثياب سوداء لم أعرف إن كنّ قد ارتدينها لمناسبة فقدهنّ أوديت أم أنّ هذا شأنهنّ دوما، بعد اختفاء أولادهنّ أو أزواجهنّ. وللزائر مثلي ليس هذا هو التساؤل الوحيد الذي يعبر في الرأس، فحتّى عبارة " العوض بسلامتكم " تثير الشك إن كان ينبغي قولها هنا، إذ ربما تذهب (هذه العبارة) إلى أبعد من مناسبتها لتصل إلى أولادهّن، هنّ اللواتي قضين كلّ هذه السنوات في انتظارهم. أوديت سالم، مثلا، كانت منتظرة عودة ابنها وابنتها بحسب ما شاهدنا في فيلم بهيج حجيج الذي أعاد هنغار أمم عرضه منذ نحو أسبوعين أو ثلاثة. رأينا أوديت، في أحد المشاهد، واقفة أمام تلك الخزانة المفتوحة الدرف لتدلنّا على ثياب ولديها الغائبين منذ خمسة عشر عاما (حتى حينه، قبل عشر سنوات من الآن). قالت للفيلم إن الثياب ما زالت مرتّبة على حالها منذ يوم غيابهما وذلك من أجل أن يباشرا ارتداءها من لحظة ما يعودان. المُشاهد، أو السامع، الباحث عن شيء يهوّن به أمر أوديت عن نفسه، ربما يخطر له أن يفكّر أنّ اللذين كانا في عمر الشباب قد تغيّر جسماهما الآن ولن تلائمهما ثيابهما القديمة، وإن نظيفة ومكويّة ومرتّبة في الخزانة.
لكن ينبغي أن يطرد المرء من ذهنه، على الفور، أفكارا من نوع أنّ أوديت كانت تعتدّ بما كان عليه حال ولديها حين ذكرت شيئا عن ثياب التزلّج الباقية، هي أيضا، على حالها. ذاك أنّ واحدنا لا ينبغي له أن يخلص إلى الدلالات نفسها دوما، وأن لا يترك لعقله أن يكرّر رياضته الروتينيّة التي اعتادها. وقد نبّهني غازي عاد الملازم الخيمة قاعدا على كرسيّه النقّال إلى ذلك حين قال إنّ على بيت أوديت أن يظلّ على حاله، كما تركته هي، وكما تركه أولادها من قبلها، ليكون متحفا دائما. ذلك ما نبّهني، أيضا، إلى أنّ أوديت، في تلك المنطقة اليقظة من رأسها، تلك التي كانت تذكّرها أنّ حرصها على إبقاء الأشياء في مكانها، وفي زمانها، ليس إلا طقسا أو ممارسة رمزيّة للحزن المازج التسليم بالغضب، كانت تعلم، فيما هي تقول أنّها تبقي البيت مستعدّا لاستقبالهما، أنها، في الوقت نفسه، تبدأ بتأسيسه متحفا.
هناك في الخيمة بدا طيف أوديت حاضرا بشريط الصور المعلّقة على ذلك السلك الطويل، وبتلك الصورة الكبيرة التي ألصقت على أحد أطرافها صورةٌ صغيرة تجمع الشابين، ابنها وابنتها، وهما في مطلع عشريناتهما. كذلك كان طيفها حاضرا في النساء الجالسات المعلّقات على ثيابهنّ السوداء، هناك عند الصدر، صور مفقوديهنّ. كنت قد ظننت أنّهنّ تخلّين عن هذه العادة منذ أن غابت عن الجرائد صور أم تيسير التي اختطف زوجها وأبناؤها الثلاثة، وصور أم محمد، ذات الصور الأربع أيضا: "لم نعد نرى أم تيسير، هل ؟... " وقد خلّصني غازي عاد من التردّد في لفظ الكلمة الأخيرة بأن أجابني، مسرعا، أنّ أم تيسير ما زالت حيّة تُرزق لكنّها لم تعد تأتي إلى الخيمة. ربما بسبب الكبر، أو بسبب المرض، أو ربّما لأنّ الكلام الذي يقال هناك، بحضور صحافيين ومتكلّمين في القوانين وداعمين من جماعات حقوق الإنسان، يوقفها جانبا، على حدة، بانتظار ذَهاب المتكلّمين.
كما حضر طيف أوديت بمكان سقوطها وموتها، ذاك الذي التفتت إحدى النساء الجالسات بوجهها إليه، لتدلّني، بالتفاتتها تلك، أنّه هناك، على بعد خطوات من هنا، مشيرة، بإصبعها هذه المرّة، إلى القرب الذي دُهست فيه أوديت. ولم تعلّق المراة بشيء بعد ذلك.هنا، بين من ينتظرون عودة أبنائهم، لن تسمع جملة من نوع أنّ أوديت " ارتاحت ". هذه تقولها المرأة الموظّفة في الوزارة، أو تلك المرأة الأخرى التي قالت، مستهولة ما حصل لأوديت في حياتها، أنّها لا تستطيع أن تتخيّل نفسها في مكانها. أما المعتصمات بالخيمة، المنتظرات أخبارا ستصل، إن وصلت، إلى هناك أوّلا، فلن يقلن جملة مثل هذه، ولا جملة أخرى يُرحن بها أوديت من نوع أنّها، هناك حيث صارت بعد دهسها، ستلتقي ولديها أخيرا.
ذاك لأنهنّ لا يطقن أن يصرن قليلات. كما أنّهنّ، في منطقة من وعيهنّ، يخفن من رحيل المعتصمات قبل عودة المخطوفين. ذلك سيعني لهنّ كما لو أنّ الزمن فات فوتا مضاعفا بطيّه جيل الأهل وتركه أبناءهنّ ضائعين منسيين في ماضيه. كانوا، نساء ورجالا، قليلين في الخيمة. البوستر الضخم الذي اتّسع لنحو 1500 صورة، والذي وُضعت نسخة منه قبالتهم، لا يعكس الإحتشاد الذي فيه احتشادا مماثلا حول ما أعطي إسم الخيمة. وأنا، في زيارتي الأولى، لن أستطيع أن أسأل أحدا من المداومين هناك: هل مات الكثيرون؟ قاصدا رفاقهم الذين كنّا نراهم كثيرين في التظاهرات التي كانوا يقومون بها.
في كلّ نزول لي بسيّارتي عابرا نفق سليم سلام، في الذهاب والإياب، لا أجدني مخفّفا سرعتي لألقي نظرة على "حديقة الإسكوا ". أعرف، أو أحفظ، أنّهم نصبوا خيمتهم هناك وأنّهم يجتمعون حول الصور المالئة المكان لكنّني، مثلي مثل غيري، تركتُ لهم أمرهم يدبّرونه بأنفسهم. ينبغي للواحد منّا أن يكون من عدادهم، أن يكون "ذا" مخطوف لينضم إليهم، هم " ذوو المخطوفين ". ذاك لأنّه من اللحظة التي يحلّ فيها أمر بجماعة تصير هذه الجماعة منفصلة عن غيرها من الجماعات وغريبة عنها. وها إنّ الجماعات لا عدّ لها. أولئك الذين يحتشدون في مطاعم الداون تاون، على مسافة أمتار من حيث نُصبت الخيمة، جماعةٌ. أولئك الذين يفضلون السكن في الأشرفيّة على السكن في الحمرا جماعةٌ. الذين ينتظرون الفانات ليركبوا فيها في ساحة الكولا جماعةٌ. الذين ينتظرون أن تعطى لهم حِصّتهم من التعويضات المقرّرة للمهجّرين جماعةٌ، وجماعة أخرى أولئك الذين أسعفهم الحظّ وقبضوا حصّتهم. أولئك الذين على لوائح الشطب في محافظة بيروت جماعة وجماعة أخرى أولئك الذين لم ينقلوا قيدهم إلى بيروت مثل أقربائهم... ما زال يفاجئني ما قاله الكاتب الإسرائيلي دايفيد غروسمان يوم سأل سامعيه من الجمهور البريطاني: كم عدد سكان بريطانيا ؟ وإذ راحت إجاباتهم تأتي متفاوتة بين أربعين مليونا أو ثلاثة وأربعين أو خمسة وأربعين، قال متعجّبا، بل ومستفزّا: غريب كيف أنّكم لاتعرفون كم أنتم... نحن في إسرائيل نعدّ بعضنا بعضا كلّ يوم.
وأنا، لحظة ما سمعت ذلك تراءى لي أنّنا، هنا في بيروت مثلا، كثيرون، ومزدحمون في كلّ من الأمكنة والأحوال التي ذكرتها أعلاه، كما في أمكنة وأحوال أخرى كثيرة ممّا يجعل أمر تعدادنا مرهقا.
لكنّني، مع ذلك، قد قمت بواجبي تجاه من تلقّوا العزاء برحيل أوديت سالم، فقيدة ذوي المخطوفين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق