المستقبل - الاحد 3 أيار 2009 - العدد 3293 -
حسن داوود
في فيلم "مخطوفون" لبهيج حجيج وحده إيلي شعيب تكلّم باللغة الفرنسيّة. بدا محايدا في أول الفيلم الذي جمعت فقراته كثيرين ممّن اختُطف أقرباء لهم في فترات يرجع أقربها إلى عشر سنوات على الأقلّ (من زمن تصوير الفيلم الذي يعود إلى العام 1998). تلك الأناقة لرجل في السبعين، حيث القبّة المنشّاة وربطة العنق المحكمة العقد، وذلك الوجه الذي يحرص على إخفاء ما ينفعل به صاحبه، والإجابات التي من نوع ما ينطق به وكيلٌ عن صاحب الحقّ، كلّ ذلك جعل إيلي شعيب شخصيّة غير قابلة لإبداء التعاطف. كان علينا أن ننتظر عودة فقرات الفيلم الأخرى إليه، مرّة بعد مرّة، لنرى في آخرها كيف أنّ ظنّنا بمعرفة الناس من هيئاتها لا يعدو كونه وهما، وكيف أنّ الوجوه ليست إلآّ أقنعة لأصحابها.
بدأ ذلك حين انتقل شعيب إلى الحديث عما كابده في أثناء بحثه عن إبنه المخطوف (أندريه). قال إنّه بذل كلّ شيء، كلّ ما كان يملكه، مضيفا إليه ما استدانه بعدما استنفد ما كان قد جمّعه. كانت هذه أوّل اهتزازة في شخصيّة الرجل حيث أوحى كلامه بما يناقض قيافته، كما أوحى أيضا بأنّ أثاث المنزل الذي نشاهده في الخلفيّة فاقد لجدّته وهو باق من زمن سبق، ناجيا من أزمة الإنفاق والإستدانة. في اهتزازة ثانية لصورة الرجل نراه وقد دمعت عيناه، هكذا بما لا يتلاءم مع طلّته الأولى في الفيلم، حين لم يخطر لنا أنّ هذا الوجه هو من أنواع الوجوه القابلة للبكاء. تلك الهيئة المحايدة، بل المعتدّة بحيادها المتعالي، راحت تتحوّل إلى نقيضها كما لم نشاهد في أيّ من الحكايات التراجيديّة التي غالبا ما تبدأ، لإظهار قسوة المصائر، بوضع ضحاياها في البدايات في نعيم التفاؤل والسعادة.
إيلي شعيب، الأب المفجوع بفقدان إبنه، لم يبدأ من هناك، حيث تبدأ التراجيديّات المعتادة. في مشاهد ظهوره الأولى بدا غير مكترث بمن سيشاهدونه وغير مُنتظر أيّ نوع من أنواع التعاطف. في اهتزازةٍ ثالثة وحاسمة لصورته رأينا الكاميرا تنتقل إلى تلك المرأة التي بدت لنا جَدّة في النظرة الأولى. كانت زوجته. وكان الفارق مهولا بين الإثنين بالمقارنات والأقيسة جميعها. كأنّها جارة عجوز أتت لتسأل عن شيء لا تعرف ما هو ولا ممّن ستطلبه. " أنظروا إليها" قال زوجها إيلي شعيب بما يشبه أن يكون تعريضا لها لما هي ذاهلة عنه، كما لتعريض نفسه للإحراج في وقت واحد معا.
تلك الطريق الموصلة إلى كشف الأقنعة سلكها، أو سُلِّكها جميع الذي اختارهم الفيلم، وهم سبع شخصيّات أو ثماني، من بين ذوي السبعة عشر ألف مخطوف في لبنان، بحسب تقدير ذكره إيلي شعيب نفسه. جميعهم رجالا ونساء، كشفوا عن ألمهم الذي لم تخفف السنوات العشر، أو الخمسة عشر التي انقضت على اختطاف آبائهم أو أولادهم، من وطأته. أحد هؤلاء، وكان يتحدثّ عن معاناته من اختطاف أبيه، أبعد الكاميرا بحركة من يديه، كأنما لكي يضع حدّا لانكشاف حزنه أمام مشاهديه. تلك المرأة التي لا تزال تنتظر عودة إبنها، سلّمت، في لحظة ما بدا لنا، طيلة ظهورها في الفيلم، أنّ قوّتها غير المذعنة لاحتمال ألاّ تعود لرؤية إبنها أبدا، فجعلت تبكي ساترة عينيها بكفّيها ليكون انكشافها أقلّ، شأنها شأن الشاب، بل شأن جميع من بلغوا ذلك الفصل الأخير من التراجيديا. بدت تلك المرأة أكثر الجميع تيقّنا من أن إبنها سوف يعود. أو أنّها بالغت في الإفصاح عن ذلك أو في الإعتقاد به، لإقناع نفسها ربمّا بأنّ العيش في الوسط بين الإنتظار وعدم الإنتظار، بين التصديق وعدم التصديق، مرهق إلى حدّ لن تستطيع احتماله. "رح يرجع.. طبعا رح يرجع.. أكيد" أخذت تردّد مقوّية نبرة صوتها بما لا يناسب أبدا حال امرأة تسأل العطف من سامعيها. كانت تحاول طمأنة نفسها بما يشبه أن يُطمئن أحدٌ أحدا سواه. أو أنّها كانت تسعى إلى أن تدفع نفسها، عامدة قاصدة، إلى أحد الإتجاهين اللذين أبقيانها في الوسط منهما.
أو ربما كانت نبرتها تلك مستعارة من كلام التنديد الذي نسمعه في التلفزيون حين يُعرض لنا مواطن يطالب دولته الغافلة عن إيفائه حقّه. فهي ربما ظنّت أن المطالبة باستعادة إبنها لا تختلف عن مطالبة الآخرين للدولة بأن تعبّد الطريق الموصلة إلى بيوتهم أو ردم الحفر التي تتسبّب بخراب سيّاراتهم. كأنّ الصوت العالي مفيد حتّى هنا، والآن بعد أن انقضت سنوات كثيرة على صدمة الفقدان الأولى. ذوو المخطوفين (وهي العبارة التي تسمّيهم والتي تعجز عن حمل المرارة والعذاب اللذين ملآ جوانب عيشهم كلّه) مقيمون جميعهم في تلك الحيرة التي تقسم كلّ منهم إلى إثنين. في الخزائن ما زالت الثياب كما كانت وقت رحيلهم. لم يتغيّر شيء في الترتيب الباقي على حاله، فالقمصان مطويّة وموضوعة في مكانها على الرفّ السفليّ، والثياب التحتانيّة ما زالت كما هي في الجوارير، وكذلك البدلات التي بينها واحدة لا تزال جديدة تحمل علامة جِدّتها، وكذلك ثياب التزلج ...
ذلك القرار الصعب بأن تُخلى الخزائن من البسة أصحابها مجهولي المصير لم يستطع أحد، في سنة 1998 أن يتّخذه. فلنفرض أنّهم رجعوا، تقول إحدى الأمهّات. أما الآن، وبعد انقضاء إحدى عشرة سنة أخرى، هذه التي توالت على ما قاله أولئك الناس في اللقاءات معهم، نجد أنفسنا وقد حوّلناهم هم، وليس أبناءهم ،إلى موضوع الإهتمام الأوّل. أي أننا نسأل أين هم، وما صار إليه مصيرهم، تماما كما جعلونا نسأل عن مصير ذويهم في الفيلم. وقد أُبلغنا فقط عن ذلك الرجل، والد المخطوف جدع، والذي ذكر الفيلم في نهايته أنّه مات قبل أن يعرف مصير إبنه: أحيّ هو أم ميت؟
نعرف أنّ كثيرين منهم ماتوا. ذاك أن نساء مثل أم تيسير، ألتي كنا نراها في المظاهرات معلّقة على صدرها صور مخطوفيها الأربعة، توقفنا، منذ سنوات كثيرة عن أن نسمع عنها شيئا. ربما لم تعد موجودة حتّى قبل 1998. فيلم بهيج حجيج دعانا إلى تذكّرها، نحن الذين نسيناها، أو تركناها هناك في الزمن الذي أمسى ماضياً مبقياً أهله فيه لا يتّصلون بنا ولا نتّصل نحن بهم. ذاك أننا، أنّني أنا شخصيّاً، توقّفت منذ زمن بعيد عن أن أسأل وداد حلواني: كيف هي أم تيسير؟ هل ما زالت مريضة؟ هل أعطب شيئا فيها سقوطها مغشيّا عليها في تلك المظاهرة؟
حتّى أنني لم أتمكن من أن أعثر على تلك المقابلة التي أجريتها معها في بيتها، المليء بالأولاد آنذاك، هؤلاء الذين كان عليها أن تعيلهم من شغلها في البيوت بعد اختطاف أهلهم، أولادها، في حملة إجرام واحدة.
في الفيلم رأينا ذلك الأرشيف الذي جمعته وداد حلواني وقد عتق واصفرّت جنبات أوراقه كما قالت. وكان هذا منذ أحد عشر عاما. ألآن في 2009 نجد أننا بتنا فاقدي الحماسة، إذ أقصى ما نستطيع القيام به هو التذكّر، التذكّر المتفرّق المتوزّع متفاوتة تفاصيله بين واحدنا والآخر.
فيلم بهيج حجيج " مخطوفون" عرض مساء الثلثاء، سويّا مع مقتطفات من فيلم ليلى كيلاني " أماكننا الممنوعة" في الهنغار- أمم، وذلك ضمن سلسلة "وجها لوجه ما كان" عن لبنان "وذاكرته حمّالة الحروب".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق