مقابلة مع المطران غريغوار حدّاد
(أجراها: يسري الأمير)
كيف يفسّر سيادةُ المطران حدّاد مفهومَ الإصلاح الدينيّ؟
كيف أفهم الدينَ أوّلاً؟... وبعد ذلك كيف أفهم إصلاحَه؟ الدين تجسيدٌ تاريخيٌّ للإيمان. والإيمان يتجاوز التاريخ. والتاريخ علاقةُ الإنسان بما يتجاوز الإنسان، أيْ بما يُسمّى عادةً "الله." الدين تجسيدٌ لهذه العلاقة في الأمور البشريّة؛ إنه علاقةُ الإنسان بذاته، وبالآخر، وبالمجتمع. وهو يتجسّد في الصلاة والصوم والمحبّة واحترام الآخر... إلى آخره من الأمور التي تكون في حياة الإنسان الشخصيّة والجمعيّة.
ولمّا كان للدين بعدٌ تاريخيّ، أيْ تجسيدٌ مختلفٌ في كلّ زمان ومكان، فإنّ كلّ دين يمكن أن يتطوّر بطرق مختلفة. ولأنّ الإنسان متنوّع، لأنه ابنُ تاريخه وبيئته، فيمكنه أن يأخذ من الدين ما يظنّه مؤاتيًا، أو يتجاوب مع بعض حاجاته. لذلك يمكن أن يسري هذا الحكمُ على ما هو أفضل، وعلى ما هو أقلّ صلاحًا؛ فيصبح للدين تعبيرٌ مختلفٌ بحسب كلّ إنسان، ونشأته، وحاجاته، وإمكانيّة حكمه على ما هو حسنٌ وما هو أحسنُ وأقلُّ حسنًا.
هنا يدخل مفهومُ الإصلاح: إنه الحكْم على ما وصل إليه الدينُ في زمانٍ ومكانٍ محدّديْن، وفقًا لمعايير مَن يسمّي نفسَه "مصلحًا دينيّاً." ولهذا السبب فإنّ الإصلاح أيضًا يتنوّع وفقًا للزمان والمكان. فالإصلاح الإنجيليّ أو الپروتستانتيّ في المسيحيّة بدأ في القرن السادس عشر مع مارتن لوثر، الذي أراد إصلاحَ ما توصّلتْ إليه المسيحيّةُ من تفاسير أسّستْ للتعبير السلطويّ للدين الكاثوليكيّ، أيْ الفاتيكان والباباوات الذين تعاقبوا على الفاتيكان، فجاء إصلاحُه محاولةً لإرجاع الدين ـ أو التعابير الدينيّة الكاثوليكيّة ـ إلى الأصل، أي الإنجيل. فأخذ يُشذِّب ما ظنّه انحرافًا في الإيمان بالمسيح. وهكذا نشأ ما سُمّي بالإصلاح، وكأنّه اسم علم جديد.
هل تَعتبر ما قام به مارتن لوثر إصلاحًا نابعًا من انزعاجه الفكريّ ممّا أسميتَه "انحرافات،" أم أنّ هناك صدًى اجتماعيّاً لحركته؟
لا شكّ في أنّ مارتن لوثر كان هو أيضًا ابنَ عصره وزمانه ومكانه. ولمّا كانت لديه متطلّباتٌ روحانيّةٌ لم يجدْها في التعابير الكاثوليكيّة، فقد جاء الإصلاحُ على يده من خلال حاجاته النفسيّة والروحيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. فهل يمكننا أن نحْكم على إصلاحه وكأنّه ذو نوعٍ من المطلقيّة أو العصمة عن كلّ خطإ؟
الحقّ أنّ متطلّبات الإنسان الروحيّة عديدةٌ جدّاً، ومن المستحيل الحكمُ على أيّ إصلاح وكأنّه يعبّر عن الحقيقة المطلقة؛ فكلّ إصلاح هو أيضًا نسبيّ. ونحن نرى أنّ الإصلاح الپروتستانتيّ تطوَّرَ، بدوره، على مدى القرون الأربعة الأولى. كما تعدّد ما يمكن تسميتُه بـ "الشيع الپروتستانتيّة أو الإنجيليّة،" ويُقال إنّها في الولايات المتّحدة الأميركيّة تتجاوز الثلاثمائة أو الأربعمائة، وكلّها تدّعي الإصلاحَ وتظنّ أنّها جاءت بالإصلاح الأصحّ، وتقع معاركُ كلاميّةٌ بين هذه الشيع المختلفة.
ومنذ ثلاثين سنة إلى اليوم، نشأ ما يُسمّى بـ "الحركة المسكونيّة" التي تَجْمع بين التعابير المختلفة للمسيحيّة، من كاثوليكيّة وپروتستانتيّة وأرثوذكسيّة إلخ. وهي لم تسعَ إلى القيام بمعارك لاهوتيّة، بل إلى محاولة تفهّم الآخرين، واكتشافِ ما يمكن أن يصلوا فيه إلى جوامعَ مشتركةٍ بينهم. وعندما تقول الكنيسة بتعبيرها التقليديّ "الكنيسةَ الواحدةَ الجامعةَ المقدّسة الرسوليّة،" فإنّ أعضاءَ الكنيسة المسكونيّة، في المقابل، لم يعودوا يفتّشون عن كيفيّة الوصول إلى الوحدة التي تلغي الشيعَ المختلفة، بل يسعوْن إلى التنسيق بين التعابير المختلفة، والمؤسّسات الكنسيّة المختلفة، وكأنّ هناك نوعًا من الإصلاح الجديد الذي تمكن تسميتُه بـ "الإصلاح المسكونيّ."
كما إنّ هناك تيّارًا لا يزال خجولاً في المسيحيّة يَعتبر أنّ المسيح لم يأتِ كزعيمٍ للمسيحيين، بل كقيمة مطْلقة في العلاقة بين الله والإنسان. ومن ثمّ فقد أخذ هذا التيّار يتجاوز حدودَ المسيحيّة إلى اللّقاء مع باقي الأديان، وأصبح المسيحُ في هذا التيّار وكأنّه يجسِّد الروحانيّة التي يسعى إليها عالمُ اليوم في تجاوزه للأديان ولتعابيرها التاريخيّة.
أليس الإصلاح الدينيّ بهذه الطريقة مخيفًا للمؤسّسات الدينيّة القائمة؟
هو مخيف بشكل مؤكّد للأديان، ولرؤساء الأديان، ولّلذين يتحجّرون في طريقة إيمانهم. لكنّ هذا الإصلاح هو الباب المفتوح لجميع الذين يريدون أن يحيوْا إيمانَهم في العمق، من حيث هو العلاقةُ بالله وبالإنسانيّة جمعاء. ومن الممكن أن تحلّ مرحلةٌ نأمل أن تذهب أكثرَ فأكثرَ نحو الانفتاح والقبول بالآخر وتجاوز الحَرْفية التاريخيّة للأديان، فتجد التعابيرَ المشتركةَ القادرة على أن توحِّد بين المؤمنين بالله والإنسان.
وماذا سيبقى من الكنيسة والشعائر و"الخصوصيّة الدينيّة" للطوائف؟
تبقى الروحانيّةُ التي كان من المفترض أن يكون الدينُ، كلُّ دينٍ، تعبيرًا عنها! ولهذا السبب يمكن أيضًا الوصولُ إلى مطْلقيّة الله وحده، أيْ لا إله إلاّ الله، واعتبار كلّ ما هو غيرُ الله نسبيّاً. يمكن أن تلتقي كلُّ التيّارات أو التوجّهات الدينيّة عند هذا الصعيد الروحانيّ. ولا بدّ أن تمرّ المؤسّساتُ الدينيّةٌ في هذا العصر من الجمود إلى الانفتاح، وإلى القبول بالنسبيّة والتعدّديّة. وقد تكلّم إنجيلُ يوحنّا بما يمكن أن نعتبره تنبّؤًا لما ستصل إليه البشريّة: "فعندما سألت السامريّةُ المسيحَ (والسامريّون كانوا فرقةً يهوديّةً يعبدون اللهَ على جبل غاريزين، بينما اليهودُ يعبدونه عند الهيكل الأوراشيليميّ) "أين يجب أن نعبدَ اللهَ، هنا أمْ في أورشليم؟" أجابها: "لا في هذا الجبل ولا في أورشليم!" فالله هو الروح، ويجب أن يُعْبَدَ بالروح وبالحقّ. هكذا كان المسيح يُعلن تجاوزَه لليهوديّة والسامريّة وكلّ الديانات، للوصول إلى الله، الذي هو الروح، وتجب عبادتُه بالروح وبالحقّ.
هنا يلتقي الإيمانُ بالعَلمانيّة، التي هي استقلاليّةُ مكوِّنات العالم عن مكوِّنات الإيمان أو الأديان. وهكذا تطوّرت الأديانُ نحو الروحانيّة، وتطوّرت النظمُ المجتمعيّةُ نحو العلمانيّة، ويمكن أن يلتقي التطوّران هكذا.
وفقَ تصوّر الأديان هذا، مَنْ يضبط الشعائرَ الدينيّةَ وممارساتها التي يحتاج إليها الفردُ المؤمن؟ ثم إنّك تتحدّث عن تطوّر الأديان باتّجاه التوحّد والتفاعل، فيما نرى أنّ الأديان المختلفة، والمذاهبَ ضمن الدين الواحد، تتشقّق أكثر فأكثر بحركةٍ عكسيّة!
ما أقترحه جزء من التطوّر. هناك تطوّر نحو التقسيم والتفتّت؛ وهناك نزوعٌ آخر نحو التلاقي، وأسمّيه المسكونيّة. التلاقي هو للمختلفين ولتجاوز الاختلاف. أما يزال هذا التيّار أضعفَ من التيّار التقسيميّ؟ نعم. لكنْ، مثلما أنّ العالم أصبح "قريةً صغيرةً" كما يُقال، ولغتُها الإنترنت، فإنّ بإمكان الإنترنت أن يصبح وسيلةً في خدمة تيّار التوحيد والتنسيق أو المسكونيّة.
أمّا عن حاجة الناس إلى الشعائر، فإذا كانت الحريّةُ مطلقةً لكلّ فرد، فإنّ في مقدوره حينها أن يختار الشعائرَ التي تعطيه نوعًا من السلام الداخليّ ومن الارتياح، وبحيث يَعتبر كلُّ إنسانٍ نفسَه متّحدًا بالإنسانيّة جمعاء، فلا يعود يتأثّر بالاختلافات في العقائد والشعائر.
وما شروطُ اقتناع الناس من الأديان المختلفة بمثل هذه النظرة؟
أسميتُه التيّارَ الضعيفَ حاليّاً. والمطلوب ممّن يقتنعون به أن يثابروا على الاقتناع، على الرغم من الصعوبات والمضايقات والانتقادات. وكان الله يحبّ الصابرين.
هل تعتبر مثلَ هذه الحالة المسكونيّة ضرورةً للعَلمانيّة؟ أمْ أنّ استخدامَ تعابير وشعارات تطاول أحوالَ الناس الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة يمكن أن تَحُول دون تغيير عقائد الناس الدينيّة؟
العَلمانيّة غيرُ كافية حتمًا، ولهذا السبب يجب أن تلتقي مع كلّ متطلّبات الناس الاجتماعيّة والاقتصاديّة، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينيّة والطائفيّة. وبما أنّ عالم اليوم على الصعيد الاقتصاديّ والماليّ أخذ ينهار، فقد تكون هذه فرصةً جديدةً من أجل بناء اقتصادٍ غير الاقتصاد الرأسماليّ المتوحّش.
مَنْ يقوم ويُبشّر بهذا الإصلاح الدينيّ؟ رجالُ الدين أم العلمانيون؟
كلُّ مَنْ يغنّي على ليلاه. الإصلاحيون الدينيون لا شكّ سيُكْملون مسيرتَهم، والعَلمانيون نأمل أن يزدادوا يومًا بعد يوم من أجل بناء المجتمع المدنيّ السليم.
ألا ترى أنّ العَلمانيّة تلتقي مع الإلحاد أكثرَ ممّا تلتقي مع الإيمان التقليديّ؟
لا، "تيّار المجتمع المدنيّ" بدأ منذ عشر سنوات يضمّ مؤمنين مسلمين ومسيحيين وملحدين ولاأدريين.
كيف تطوّر الفكرُ الإيمانيّ للمطران حدّاد من الإيمان التقليديّ إلى ما نسمعه؟!
تطوّر شيئًا فشيئًا، عبر القراءات أوّلاً: الإنجيل، والعالِم اليسوعيّ، "تيار دو شاردان" الذي تبنّى نظريّةَ داروين في تطوّر الإنسان ليس انطلاقًا من الفرد كما يقال، بل من أبسط الخلايا إلى أكثفها وأكثرِها وعيًا؛ فكلّما تكثّف التركيبُ الجسديّ علا تكثيفُ الوعي.
بيروت
Links:
[1] http://www.adabmag.com/adab
[2] http://www.adabmag.com/epublish/1/6
[3] http://www.adabmag.com/node/205
[4] http://www.adabmag.com/node/202
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق