استحالة أن تخترع الفكرة الواحدة مرتين
المستقبل - الاحد 17 أيار 2009 - العدد 3306 - نوافذ - صفحة 9
حسن داوود
في شباط 2001 سطا أحدهم في باريس على حقيبة لي كانت في سيّارة أصدقاء، آخذا إلى أشياء أخرى احتوتها الحقيبة، مخطوط رواية أملت أن أكتب خاتمتها هناك. كانت تلك النسخةَ الوحيدةَ من الرواية، لذلك وجدت نفسي في صبيحة النهار التالي، طائفا مع صديقي جورج على من أُبلغنا أنّهم عصابات باريس أو سُرّاقها. أصدقاء آخرون، من لبنانيين وعرب طالت إقامتهم هناك، قالوا لي، كلّ بمفرده، إن من سرق الحقيبة سيأخذ منها ما يُثمّن ويباع قبل أن يرمي الباقي، ومنه روايتي، في نهر السين. وها أنني ما زلت إلى الآن، بعد انقضاء ما يزيد عن الثماني سنوات، أتخيّل تلك اليد ممتدّة إلى النهر، لتنفلش منها الأوراق مفلوشة في الهواء، قبل أن تهبط لتطفو على صفحة الماء.ربما كان هذا ما فعله السارق، أو ربما كان هذا المصير للرواية هو أكثر السيناريوات رفقا بما أضعتُ. ذاك لأنّ السارق لن يمنح روايتي تلك النهاية الجليلة فهو، على الأرجح، سيرمي أوراقها في سلة المهملات القريبة من حيث وقف ليستريح من ركضه، بادئا بتقليب ما في داخل الحقيبة. لكن، ما يهمنّي في الحالين، هو انّ الرواية اختفت ولن تعود، رغم سعيي، الذي راح يتراجع مع الوقت على أيّ حال، في الإتصال بصديقي وسؤاله: هل وجدتها يا جورج ؟ هل اتصلت بمكتب المفقودات؟.. متى كانت آخر مرّة.. متى كان آخر اتّصال؟
هلا، في مكتب الوزارة الذي نعمل فيه معا، ذكّرتني، بعد أن عدت من باريس، أنها كانت قد أبدت عن استعدادها مرّات لتصوير الصفحات. كان إهمالي لاستعدادها ذاك، بل لطلبها الملحّ في أحيان، عائدا إلى ظنّ عندي، أجده الآن وهما خالصا، أنّ المخطوطة يجب أن تكون كما هي، وأنّ صورتها المنسوخة عنها يجب أن تكون مطابقة لها على التمام. وهذا لن يكون متوفّرا ما دام أنّني أكتب كلّ يوم، مضيفا سطورا جديدة إلى الصفحات الأخيرة، وأنّني، في أيّ حال، لن أذهب إلى هلا في آخر كلّ صباح وأقول لها أن تصوّر ما قد كتبت.
كان قد ذهب بي الظنّ الواهم إلى أنّني، إن أغفلت التصوير، أو النسخ، يوما واحدا، لن تعود تفيدني النسخة التي ستحتفظ بها هلا. ذاك لأنني لا أستطيع أن أستأنف الكتابة من مكان سبق أن تعدّيته وصرت في ما بعده، حتى لو كانت المسافة الزائدة أقلّ من 500 كلمة. فأنا أقف حيث انتهيت ولا يمكنني الشروع بالكتابة إلا من هناك، هكذا تبعا لقانون الزمن العادي، زمن العيش العادي، الذي تستحيل العودة إلى قبل ما كان قد انقضى منه. إنّه وهم كما ذكرت أعلاه، بل واحد من الأوهام المرافقة لكتابتي.
لكنّ ذلك الوهم الذي صوّر لي أنّني لا أستطيع الرجوع إلى ما قبل فقرتين أو ثلاث أجْلته حقيقة لكنها أقرب إلى أن تكون مستحيلة التطبيق، هذه المرّة أيضا: «عد إلى كتابتها.. أكتبها من جديد..» صار يقول لي أصدقاء بعد انقضاء تلك الموجة البوليسيّة التي شملت الكثير من الأصدقاء الذين جعلوا يقولون لي :« في يوم ما ستجد الرواية مطبوعة بقلم كاتب مجهول».
وقد عدت إلى الرواية الضائعة في أكثر من محاولة واحدة. في المحاولة الأولى أنجزت سطرين كانا، عند انتهائي منهما، كافيين لأن يصدّاني عن المتابعة. ذاك أني انتبهت إلى أني لا أكتب بل أتذكّر، حيث أنّني، من دون وعي منّي، بدوت كأنّني أستعيد المطلع السابق ذاته، بنصّه وحرفه كما رحت أجدّ في تذكّره.
المحاولة الثانية، وكانت بعد نحو سنة أو أكثر قليلا، حفّزتْها مِزقة من ورقة جاءني بها إبني فراس. قال إنّه وجدها بين صفحات أحد الكتب وأنها كانت بارزة عنه، هكذا، كأنني كنت أضعها علامة لأعرف إلى أيّ الصفحات وصلت في قراءتي لذلك الكتاب. كانت السطور الثلاثة مكتوبة بخطّي الصغير الذي فوجئت ذات يوم، أنا نفسي، بصغره، وذلك يوم أن صدر كتابي أيام زائدة في 140 صفحة كانت أصلا، بخطّ يدي، 16 صفحة فقط. كان عدد الكلمات 113 كلمة في السطور الثلاثة التي تصف عبور السيّد مرتضى بين النساء المتجمّعات عند مدخل أحد البيوت. وهو، بصيغة المتكلّم، جعل يقول كيف أنّه أتيح له وحده، هو رجل الدين، أن يحفظهنّ، بنظرة واحدة، لكنها كافية ليحفظ في رأسه كلّ تفصيل أعجبه فيهنّ، ومن دون أن يغيّر شيئا في قوله أمامهنّ: ألسلام عليكم.
وقد أسقطت نفسي، مرّة أخرى، في ذلك التنازع السابق بين الكتابة والتذكّر. ما كنت قد كتبته في الرواية الضائعة من مشاهد، وحوادث(قليلة بالطبع وغير دراماتيكيّة، بحسب ما يصفني أو يصف كتابتي قرّاء كثيرون)، وأفعال، وحركات تميّز الشخصيّات، تحوّل إلى وجود مكتمل وراسخ ، ,لا يحتمل سياقا آخر غير الذي وضعتْه الكتابةُ فيه. كأنّ ما ألّفته تأليفا وما صنعت أشخاصه وحوادثه صار في قوّة ما عرفته في عيشي الحقيقي. بل إنه كان أكثر قوّة منه حيث أنّ ما حفظتْه ذاكرتي من عيشي منفتح على المخيّلة تغيّره وتتصرّف فيه، أمّا الحياة المصنوعة من مزيج التخيّل والتذكّر، الحياة التي أُنجزت كتابتها، فلا تقبل تغييرا أوتصرّفا.
ذلك «اللعب» بما نتذكره آملين أن نستخلص منه أدبا، لن يسمح بأن نعاوده لأنّه لايطرح ثمراته إلاّ مرّة واحدة. فهو، بعد أن يُكتب ويصير في نصّ، ينغلق على نفسه مثلما تفعل تلك الزهرات الكبيرة إذ تضمّ ورقاتها إليها. لكن ربّما تكون إعادة اللعب متاحة لغيري بعد أن استنفدت نصيبي منه في تلك المرّة الواحدة. كأن يأتي أحد سواي ليعيد تخيّل ما سبق لي أن ألّفته، هكذا ذاهبا في ما أراده نورثروب فراي، في رؤيته لدور النقد، إلى آخر مطافه:»أن يكون النقد تعليقا على النص»، أي أن يُقرأ االنصّ، أو يُكتب، كما لو أنّه يُبدع من جديد.
وهنا أجدني رادّا الكرة إلى من ما زالوا، إلى الآن، يحرّضونني على أن أعيد كتابة الرواية الضائعة: لكن لماذا لا تعيد كتابتها أنت؟ أقول لمن يكرّر لي ما سبق أن قاله أو كرّره. وأنا سأكون مستعدّا ان أروي له، مشافهة، ما أتذكّره من الرواية، وعلى الأخصّ، المطارح الأجمل فيها، تلك التي من نوع ما تحتويه السطور الثلاثة التي عثر عليها إبني.
وها أنّني الآن، على رغم معرفتي بهذا كلّه، أجدني جالسا، وأمامي الكومبيوتر هذه المرّة، محاولا أن أعيد كتابتها من جديد، ذلك الإصرار أراه أشبه بعارض يعاودني كلّما فرغت من كتابة رواية ووجدت نفسي، من بعدها، لا أعرف عمّا ينبغي لي أن أكتب. وأنا، لكي أقنع نفسي باستطاعتي ذلك، أقول إنّني سابدأ هذه المرّة من غير المشهد الأوّل الذي يصوّر السيّد مرتضى جالسا على (كنبايته) وناظرا إلى تلك الصورة المعلّقة على الحائط أمامه، جامعة أباه وجدّه وعمّه، الواقفين، مرتدين هم الثلاثة، زيّ العلماء.
أبدأ إذن من مشهد آخر بعد أن أقتنع به مختزنا ما يكفي من الطاقة التي تدفع إلى الإقبال على الكتابة. من دخول السيّد مرتضى إلى بيت أبيه الذي بات مقيما بمفرده فيه بعد موت امرأته وإبنه. أكتب مقطعا في ذلك. لا أكثر من ذلك المقطع الذي عاد بعده كلّ ما أتذكّره من الرواية، متفرّقا، إلى الإحتشاد والتجمّع، هكذا كأنّ المشاهد المتقطّعة تتزاحم حول الثقب الضيّق متسابقة على الدخول فيه.
ما لا أستطيعه، أيضا، هو أن أنسى ما أتذكّره. أن أعمل بحسب فتوى ذلك الشاعر العربي الذي أجاب مَن سأله ماذا عليه أن يفعل ليقرض الشعر: إحفظ خمسة عشر ألف بيت منه، ثم إجهد في نسيانها.
في هذه الفترة الفاصلة بين الإنتهاء من رواية والإهتداء إلى أخرى، ما زلت أقلّب الإحتمالات ملتقطا واحدة من تلك المهوّمات التي تزدحم حول الثقب الضيّق ذاك، ممسكا إيّاها من طرفها، مضخّما حجمها، وقائلا لنفسي: أبدأ من هنا. لكن ذلك الحمل المُعاوَد لم يلد، شأن سابقه، إلا فقرة واحدة. ذاك أنّ الحمل الحقيقي، الحمل الأوّل، قد أُجهض. وهنا أستعير تشبيها قالته لي إحداهنّ في وصفها لحال من أضاع شيئا بعد أن أتمّ إنجازه (وكان ذلك في معرض كلامها عن ضياع روايتي)، قالت إنّ ذلك أشبه بفقدان الحامل لجنينها. ذلك التشبيه أعجبني. صحيح أنّه غير متطابق تماما، وأنّ الدقّة تعوزه، لكنّه أقرب التشابيه إلى ما قد يخطر في الرأس.
[ مقطع من نص طويل كتب ليقدم كمادة تعليمية ضمن البرنامج العالمي للكتابة الابداعية في جامعة ايوا بالولايات المتحدة.
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق