الأحد، ٣ أيار ٢٠٠٩

عدالت آغا أوغلو بطلةً غصباً عنها في رواية لأليف شفق


صولة أدبية بين روائيتين تركيتين من جيلين مختلفين

عدالت آغا أوغلو بطلةً غصباً عنها في رواية لأليف شفق

حين قرأتُ رواية أليف شفق، "اللبن الأسود"، قبل أشهر، أدهشتني جرأة الكاتبة التركية الشابة عمراً والمتألقة خلقاً، على إدخال روائية تركية من الجيل الأقدم باسمها الحقيقي، في متن نصها الروائي. ومع أن هذا التوظيف لم ينطو على أي إساءة شخصية الى زميلتها، فقد فكرتُ في ما يمكن أن يثيره حدث مماثل في حياتنا الأدبية من زوابع وسجالات وربما إقامة دعاوى قضائية. فكرت مثلاً في روائي سوري كفواز حداد إذا وظّف شخصية زميل له من جيل أقدم كحنا مينة في إحدى رواياته بالاسم الصريح، فتوقعت "مقصلة أدبية" على صفحات الجرائد. لم يمض وقت طويل حتى زالت الدهشة. فقد قرأتُ تصريحات أدلت بها عدالت آغا أوغلو إلى صحيفة "الطرف" التركية، قبل أسابيع، هاجمت فيها زميلتها الشابة بشدة، متهمةً إياها باستغلالها وبتحريف مجريات اللقاء الذي جمعهما في بيتها. غير أن هذا الهجوم المتأخر كشف أمراً آخر هو أن آغا أوغلو لم تقرأ رواية زميلتها الشابة إلا حديثاً، الأمر الذي يشير إلى درجة استهتار الجيل القديم "المكرس" بأعمال الكتّاب من الأجيال الشابة. رواية شفق التي صدرت قبل عام ونصف عام (خريف 2007) وطُبع منها 110 آلاف نسخة في غضون تسعة أشهر، وكُتب عنها الكثير في الصحافة المحلية، لم تتنازل آغا أوغلو فتقرأها إلا بعدما أخبرها أصدقاء لها بأن اسمها مذكور في الرواية!
لا يتعلق الأمر إذاً بكاتبة مبتدئة ومجهولة، مهما تمتعت بموهبة، بل بكاتبة تعدّ، في مختلف المقاييس، من أهم كتّاب الرواية في تركيا اليوم، رجالاً ونساءً، وتفوق شهرتها شهرة آغا أوغلو. قد لا يكون مطلوباً من آغا أوغلو متابعة كل ما يُنشر من روايات في تركيا، وعددها كان في ارتفاع مستمر في الأعوام القليلة الماضية (369 رواية في عام 2006 وحده!)، فحتى الناقد المتخصص لا يستطيع قراءة كل هذا العدد من الروايات. لكن تجاهل عمل جديد لكاتبة مهمة كأليف شفق يشير إلى نوع من الاعتداد بالجهل لا أكثر.
أما اعتراضها على "استخدام" زميلتها لها أو "استغلالها"، فيشير إلى مشكلة أخرى لا تقل خطورة، هي فهم غريب للأدب يردّه إلى مجرد توثيق وقائع. فقد شكت الكاتبة الكبيرة من "تحريف" زميلتها الشابة لوقائع اللقاء الذي جمعهما، وتقديمها لها في صورة مغايرة لـ"صورتها الحقيقية".
قد تكون شفق لجأت إلى التخييل، فابتعدت عن التفاصيل الحقيقية للقاء، وبنت مشهداً يخدم وظيفته في بنية العمل الروائي. أما أن هذا المشهد مستوحى من لقاء حقيقي، فلا أهمية لذلك من وجهة نظر العمل الأدبي. تقول شفق بحق: "الرواية هي فن توليد الزمن من اللحظة، وهي في معنى من المعاني تخريب للحقيقة وتحريف لها، هي احتيال صادق على الحقيقة"! من حق آغا أوغلو أن تعترض على ذكر اسمها في رواية زميلتها قبل الحصول على موافقتها. هذا هو المأخذ الوحيد الذي يتمتع بوجاهة أدبية وأخلاقية، مما يمكن أخذه على أليف شفق. أما كيف وظّفت الاسم والمشهد، فهذا من حقها، وخصوصاً أنها لم تسئ إلى زميلتها في شيء.
كان ردّ أليف شفق معبّراً ومترفعاً. كتبت في ردّها الموجز الذي نشرته جريدة "الطرف" بعد يومين، تقول: "لا أريد الرد على الكلام الذي قالته عدالت آغا أوغلو في حقي، لأنني لا أستصوب السجالات الشخصية بين الكتّاب في وسائل الإعلام. علينا انتاج كلام بنّاء وأعمال أدبية وقصص جميلة. أعتقد أن على الخلاّقين، وفي الأخص النساء، أن يتضامنوا بعضهم مع بعض".
الغيرة أم ماذا؟
ترى ما هي الدوافع الأعمق التي جعلت آغا أوغلو تهاجم شفق بهذه الحدة؟ هل هي الغيرة الأدبية من زميلتها الشابة التي احتلّت صدارة المشهد الروائي التركي في غضون سنوات قليلة؟ أم هو الشعور الطبيعي بالنفور لأي شخص يرى نفسه وقد تحوّل إلى "موضوع" في عمل أدبي، وهي التي اعتادت على دور "الذات" الخلاّقة التي تخلق الشخصيات والعوالم الروائية؟ أم أنها شعرت بالاستياء فعلاً من الصورة التي ظهرت فيها في الرواية؟ تتطلب منا الإجابة عن السؤال الأخير، العودة إلى الفصل الذي تظهر فيه آغا أوغلو من رواية "اللبن الأسود".
اتصلت أليف شفق بعدالت آغا أوغلو وعبّرت عن رغبتها في التعرف إليها. ردّت هذه بلطف، ودعتها إلى تناول الشاي في بيتها. في الموعد المحدد ذهبت شفق وجلست الكاتبتان تتبادلان الحديث.
"لحظة ضغطتُ على جرس الباب، وفي يدي باقة من أزهار النرجس باللونين الأبيض والأصفر، لم يخطر في بالي قط أن هذه الزيارة البريئة سوف تخلّف لديّ انطباعات عميقة، وتشكّل بعد سنوات مصدر إلهام لإحدى رواياتي" (تكذّب آغا أوغلو زميلتها فتقول إنها جاءت وفي يدها زهرة هزيلة مما يقطف من أمام البيت، الأمر الذي كشف عن بخلها).
أهو الحدس، ما جعل شفق تصف زيارتها بالبراءة؟ لم تكتف هذه الزيارة بترك "انطباعات عميقة"، بل أكسبتها عداء زميلتها آغا أوغلو كما نرى من هذا السجال المتأخر. أم تشي كلمة البراءة بشعور غامض بالذنب لأن غايتها الحقيقية من الزيارة ليست التعارف، بل الحصول على مادة أولية من أجل عملها الروائي الذي تعمل عليه؟ لنتابع:
"صدمتني القاعة التي دعتني مضيفتي إليها، بهدوئها وترتيبها وعزلتها عن الخارج. دهمني الانطباع بأن كل شيء في هذه القاعة له مكان مدروس بدقة وتم الحفاظ عليه على مدى سنوات. قد أكون مصيبة أو مخطئة في ما شعرت به، فقد أحسستُ بنفسي كعنصر غريب وقع بطريقة ما داخل لوحة متناغمة بكل أجزائها، ضربة فرشاة نشاز سقطت سهواً على كمال اللوحة. ما عدت أعرف أين أضع يديّ وقدميّ وكامل كياني".
- يا لهدوء المكان! تقول شفق تعبيراً عن استغرابها. فتردّ آغا أوغلو قائلة:
- هذا لحسن حظي. يزعجني أقل صوت. يهمّني جداً أن يسود الصمت التام حين أكتب، وأن لا يوجد أحد غيري في الجوار.
ثم ترمق ضيفتها بفضول وتتابع قائلة:
- لست مثلي كما فهمت، فأنت تكتبين على طريق السفر. يبدو لي ذلك غريباً.
- "لم أجرؤ على إخبارها بأنني بخلافها، يزعجني الصمت والهدوء. ففي الصمت تنشط أصواتي الداخلية. أحمل في داخلي كورساً من الأصوات لا يهدأ ولا يكلّ من الكلام، أسمّيها "كورس أصواتي الداخلية". لذلك فأنا لا أستطيع الكتابة ما لم أكن محاطة بالضجيج. أفتح نوافذ غرفتي على مصراعيها لأستقبل كل ضجيج الشارع ومشاجرات الجيران وزعيق أبواق السيارات وأصوات الباعة المتجولين. فقط بهذه الطريقة أستطيع الكتابة بارتياح، بعد أن يطغى ضجيج الخارج على ضجيجي الداخلي".
ليس هذا مجرد وصف لطقس كتابة، أعتقد أنه تعبير عن موقف من الكتابة والحياة. الكتابة بالنسبة الى شفق هي انفتاح على فوضى العالم وصخبه، في حين توحي المقارنة بأن زميلتها المخضرمة تكتب في البرج العاجي الشهير، تغلق على نفسها محرابها الأدبي دون فوضى الواقع. لنتابع:
"لم أجرؤ أن أخبرها بأنني لم أعرف قط ذلك الشعور بالاستقرار في بيت واحد سنوات وسنوات، ومدّ جذوري عميقاً في المكان. منذ طفولتي اعتدت على التنقل من مكان إلى آخر، بين مختلف البلدان والمدن والقارات، وأنني محرومة من الشعور بالاستمرارية والاتصال. لست قادرة على حمل أشيائي الشخصية وكتبي حيثما تنقلت. أحيا وأنا أفقد في كل خطوة أشياء تخصّني. ثمة حقيبة وحيدة أحملها معي أينما سافرت، هي الأدب".
جيلان وعالمان
لا يقتصر الاختلاف بين نمط تعامل الكاتبتين مع الكتابة والحياة، على انغلاق الأولى وانفتاح الثانية على العالم الخارجي، بل يتعداه إلى اختلاف العالم ذاته بين جيلين، يمكن تحديدهما بالإحالة على ثنائية حداثة/ ما بعد حداثة. آغا أوغلو التي تنتمي إلى العالم الأول، تمثل جيل الاستقرار والتشبث بالمكان والعلاقة الحميمة مع الأشياء، عالمه وحيد وقابل للتفسير؛ في حين تمثل شفق جيل العالم ما بعد الحديث، المكان فيه رجراج، والعالم مركّب ولا يقبل التفسيرات الأحادية ويتحرر من المعنى. يتمتع الفرد الحديث الذي تمثله آغا أوغلو بوحدة داخلية وشعور بالطمأنينة والأمان، في حين يتشظى الفرد ما بعد الحديث إلى ذوات متعددة متراكبة قلقة.
تقدّم اليها مضيفتها الشاي في فناجين البورسلين مع طبقين من المعجنات. "في طبقي صفّان متوازيان من قطع المعجنات، الحلوة إلى اليمين والمالحة إلى اليسار، عدد القطع متساوٍ في الصفّين. فكرتُ في أنني لا يمكن أن أعدّ طبقاً بهذا التوزيع الدقيق في حياتي. لسبب ما، بدت لي هذه الفكرة مضحكة للوهلة الأولى، ثم مثيرة للحزن".
تكذّب المضيفة ضيفتها الشابة في هذه النقطة أيضاً، فتقول إنها لا تقدم الشاي المخمّر في بيتها أبداً. "يمكن أن أبذل عناية خاصة لو كان ضيوفي أمي أو خالتي، أما زملائي الكتّاب الذين يرتادون البيت بكثرة، فلا. لديّ دائما مشروبات كحولية وقهوة مصفّاة. أما التوزيع الدقيق للمعجنات، فهذا ما لا أتقنه. أي تشويه هذا! لقد صوَّرَت الأمر وكأنني نسّقت المعجنات في الطبق بطريقة الصف العسكري!".
لقد انكشفت أمام شفق فجأةً حقيقة طالما هربت من ملاحظتها، هي فوضويتها المفرطة. بدا لها التقابل مدهشاً بين استقرار مضيفتها وترحالها الدائم، كما بين انضباط الأولى وفوضاها هي. "مثل جميع المترحلين، علاقتي بالأشياء هشة وسطحية. هذا هو السبب في تأملي للأشياء في بيت زميلتي بهذا الاهتمام". نلاحظ في وصف شفق لنمط حياة زميلتها نوعاً من الحسد والتحسر على أمور ليست قادرة على امتلاكها، كالاستقرار في المكان والعلاقة الحميمة بالأشياء وإجادة بعض الأعمال المنزلية التافهة كتنسيق طبق معجنات مثلاً. لقد بدت لها هذه الفكرة مضحكة للوهلة الأولى، ثم محزنة. سبب الحزن هنا فقدان شيء لا يمكن تعويضه. أما غضب آغا أوغلو من هذه الصورة، وتكذيبها زميلتها بتحريف الوقائع، فيمكن فهمه بالنظر إلى رؤيتتها الإيديولوجية النسوية – التغريبية: يسوؤها تقديم الوجه الأنثوي "الطبيعي" لها، امرأةً تقوم بواجبات الضيافة على أتم وجه، وتتقن تحضير طبق للضيف. لقد اعترفت بأنها يمكن أن تبذل عناية خاصة من أجل أمها أو خالتها. أليس هذا غريباً؟ وما الضير في تقديم الشاي المخمّر للضيوف؟ لماذا قالت إن لديها دائماً مشروبات كحولية وقهوة مصفّاة؟ وأنهت "تصحيحها" لوقائع اللقاء بالقول إنها قدمت الى شفق كأساً من الزهورات، كما لو كانت تريد إهانة زميلتها. مردّ هذا الموقف فهم لـ"الحياة العصرية" يحيلها على مجموعة من الطقوس كشرب القهوة المصفّاة والكحول، في حين أن شرب الشاي أو تقديمه الى الضيوف هما من مألوفات الشخص "البلدي" أو التقليدي، في نظر الإيديولوجيا الاجتماعية التي تمثلها آغا أوغلو. في عبارة أخرى، يسوء آغا أوغلو، سليلة الإرث الجمهوري العلماني التحديثي لمصطفى كمال، أن تقدَّم في صورة امرأة تركية تقليدية. في حين نرى أن أليف شفق المنقطعة عن ذلك الإرث، تتصارع في داخلها "نساء كثيرات" (أصواتها الداخلية) من بينهن سيدة البيت "البيتوتية" والمرأة المتدينة (أليست بهذا التعدد الداخلي تعكس حقيقة الهويات المتعددة لبلدها، انقسامه بين الشرق والغرب، الإسلام والعلمانية، التقليد والحداثة، الديموقراطية ووصاية العسكر، وآسيا وأوروبا؟)
تنتبه شفق الى كل كلمة تقولها أمام "الكاتبة المخضرمة التي تحبها وتحترمها"، خشية أن تتفوه بحماقة ما. إنه شعور التهيب الذي قد يشعر به شخص فتي أمام شخص يفوقه خبرة في الحياة.
الأمومة أم الكتابة؟
المضيفة والضيفة ليستا في عجلة من أمرهما. لديهما وقت مفتوح للتعارف وتبادل الكلام في الأدب والأدباء والكتب وما إلى ذلك. يتطرق الحديث أيضاً إلى موضوع علاقة الكتابة بالأمومة، فقد حلّت آغا أوغلو هذه المشكلة بالامتناع عن إنجاب الأطفال لتتفرغ للكتابة، في حين كانت شفق في مرحلة الخيار الصعب مترددةً في ما عليها أن تختار. نعرف أنها تزوجت في ما بعد وأنجبت طفلين على التوالي، وهي مستمرة في الكتابة. ترى أيهما الخيار الأصح؟ تجيبنا شفق في الصفحات الأخيرة للرواية، حين تلتقي بزميلتها مرة أخرى في مناسبة عامة:
"التقيت بالعزيزة عدالت آغا أوغلو. ابتسمَتْ بدفء وأمسكت بيدي وقالت: "أتتذكرين ذلك الموضوع الذي تحدثنا فيه؟ فكرتُ لاحقاً فوجدتُ أنك فعلتِ الصواب بإنجاب الطفل. إنني أحترم خيارك".
امتلأت عيناي بالدموع وقلت لها: "أنت أيضاً فعلت الصواب حين فضّلتِ الكتابة على الأمومة. أشعر باحترام عميق للطريق الذي اخترته".
تتابع شفق معلقة: "ليس في هذا الأمر فصل دقيق وقاطع بين الخطأ والصواب. ما من وصفة تلائم جميع الحالات. كل الخيارات صحيحة بالنسبة الى كل حالة بمفردها. ثمة دروب مختلفة تماماً كأساليب الكتابة المختلفة. لكل أسلوب أصالته وتميّزه، وكل أسلوب يصدح بصوته الخاص".
لعل استياء عدالت آغا أوغلو يعود، في العمق، إلى وعيها بجدّة ما يقدّمه جيل أليف شفق، بالقياس إلى ما قدّمه جيلها هي، وذهب به الظن إلى أنه أقصى ما يمكن أن يبلغه الأدب من تجديد، وإذ به أمام التجارب الجديدة، يكتشف تقادمه، لكنه يأبى أن يعترف بذلك علناً، ويغضب إذا واجهه أحد بذلك.
تفسير آخر للغضب
تذهب الكاتبة نوراي سنجار مذهباً آخر في تفسير غضبة آغا أوغلو، منحازةً في تحليلها إلى موقف رافض لقيمة ما يقدّمه جيل أليف شفق، فتأخذ على التجارب الجديدة افتقارها إلى "الرسالة"، مفسِّرةً نجاحات الجيل الجديد بغياب النقد والنقاد والاعتماد على الدعاية الواسعة في وسائل الإعلام. تردّ صعود نجم أليف شفق، في السنوات القليلة الماضية، إلى أن ثمة من يدفعون بها إلى الواجهة بعد حصول أورهان باموق على جائزة نوبل للآداب، في عام 2006. نذكر في هذا الصدد أن آغا أوغلو هاجمت جائزة نوبل من حيث المبدأ حين برز اسم باموق كمرشح قوي لنيلها، فقالت إن الجائزة تذكّرها بالقنبلة النووية التي ألقيت فوق مدينة هيروشيما، داعيةً زملاءها الأتراك إلى عدم الركض وراء الجائزة وإلى الاقتداء بسارتر في رفضها.
من هي؟
من هي عدالت آغا أوغلو وما هو موقعها في الرواية التركية؟ ثمة إجماع على أهمية ما قدّمته آغا أوغلو الى الرواية التركية. يصفها كثيرون بأنها واحدة من أهم الروائيين في الحقبة الجمهورية. حتى الناقد الراحل فتحي ناجي الذي لم يكن يجامل أحداً، أغدق المديح على روايتها الأهمّ بإجماع النقاد "ليلة زفاف"، مع أنه انتقد روايتين أخريين لها بشدة بسبب ضعفهما الفني، وفقاً لرأيه.
ولدت في عام 1929 وبدأت حياتها الأدبية، في الستينات، بكتابة الشعر ثم النص المسرحي، فألّفت الكثير من المسرحيات المهمة. عملت في الإذاعة التركية سنوات طويلة إلى أن قدّمت استقالتها من هيئة الإذاعة والتلفزيون في أوائل السبعينات وتفرغت للكتابة الروائية والقصصية. نشرت روايتها الأولى في عام 1973 بعنوان "النوم في انتظار الموت"، فلاقت استحسان القراء والنقاد. ثم تحولت هذه الرواية إلى جزء أول في ثلاثية "الزمن الضيّق" حين أتبعتها بجزء ثان حمل عنوان "ليلة زفاف" (1979)، يعدّها النقاد أهم أعمالها الروائية، وثالث بعنوان "لا" (1987). ترصد آغا أوغلو في "ليلة زفاف" الواقع الاجتماعي – السياسي في تركيا في عقد السبعينات وفق رؤية نقدية تحلل أدوار مختلف الطبقات الاجتماعية من خلال شخصيات تمثلها. على أن هذا "التمثيل" لم ينتقص من كونها شخصيات روائية من لحم ودم. تمكنت آغا أوغلو، في هذه الرواية من معالجة الآثار الاجتماعية للانقلاب العسكري الذي وقع في عام 1971، من منظور مختلف عما قدّمه الإنتاج القصصي والروائي الغزير الذي تناول الفترة التاريخية نفسها وغلب عليه طابع أدب السجون والمعتقلات والتعذيب. وقد شكّل نقد اليسار والحركة الثورية، من خلال بعض الشخصيات، جزءاً مهماً من الجديد الذي انطوت عليه "ليلة زفاف".
لم تنجح آغا أوغلو، في رواياتها التالية، في بلوغ المستوى الفني الرفيع الذي بلغته في هذه الرواية. أما فكرياً فتعدّ الكاتبة نموذجاً نمطياً لمثقفي الحقبة الجمهورية الذين آمنوا بدورهم التقدمي والتنويري وأخلصوا للمبادئ الأتاتوركية في بناء الدولة القومية المستقلة ذات النظام العلماني والحياة العصرية. في منتصف التسعينات كانت من الأعضاء المؤسسين لجمعية حقوق الإنسان، وأثارت استقالتها منها، في عام 2005، سجالات واسعة، فربط البعض استقالتها بكون الجمعية أظهرت الكثير من المحاباة لحزب العمال الكردستاني الذي تعدّه الدولة إرهابياً، فلم تنتقد عملياته العسكرية بما يوازي انتقادها للإجراءات الحكومية القمعية؛ في حين انصبّ نقد المثقفين الأكراد لها على أنها أظهرت باستقالتها "وجهها الشوفيني".
لآغا أوغلو سوابق في الهجوم على زميلاتها من الكاتبات، فقد هاجمت عدداً من زميلاتها، فقالت عن الروائية عائشة كولين إنها "ليست أديبة بل كاتبة تحقيقات صحافية" وعن الروائية بنار كور إنها "من نوع بنات مديري المدارس اللواتي لا يعجبهن العجب".
من أحدث السجالات حول آغا أوغلو تلك التي أثارتها مأدبة الغداء التي دعا إليها الرئيس عبد الله غول، قبل أشهر، عدداً من المثقفين كانت هي بينهم، وهذا تقليد جديد استعاده غول من مصطفى كمال أتاتورك وخليفته عصمت إينونو. فقد صرحت في اليوم التالي لوسائل الإعلام قائلة: "أنا نادمة على مشاركتي في الوليمة. زملائي الآخرون لم يستعدوا جيداً لهذا اللقاء فوقع كل العبء عليّ واضطررت للتحدث طيلة الوقت ولم يتحدث أحد غيري تقريباً". في حين اشتكى زملاؤها ممن شاركوا في مأدبة رئيس الجمهورية من أنهم لم يجدوا فرصة للكلام لأنها استحوذت على الوقت كله. جدير بالذكر أن الروائية أليف شفق كانت بين المدعوين أيضاً، ولم تتكلم البتة على مدى أكثر من ساعتين استغرقها اللقاء برئيس الجمهورية. وحرصت آغا أوغلو على أن تهدي الى هذا الأخير عدداً من كتبها كانت أحضرتها معها.
وقد علّق أحد الكتّاب الظرفاء على تصريحات آغا أوغلو المذكورة بالقول: "يبدو أنها تفهم اللقاء برئيس الجمهورية نوعاً من الامتحان الذي ينبغي الاستعداد له مسبقاً"، مشيراً إلى أن المواضيع التي أثارتها لا تعدو كونها المواضيع التي تكتب عنها الصحافة بإلحاح يومي منذ سنوات، كموضوع حرية التعبير والمحاكمات التي يتعرض لها المثقفون بسبب تعبيرهم الحر عن آرائهم.
سوف يشعر قارئ هذه المقالة كم أن المشكلات الأدبية والثقافية متشابهة بين تركيا والمنطقة العربية. لعلها كذلك في مناطق أخرى من العالم. لكن الفارق الأبرز ربما هو أن عدداً من الكتّاب الأتراك يجدون من يقرأ أعمالهم، فتطبع بأعداد كبيرة من النسخ، في حين لا نجد ظاهرة مماثلة عندنا. يتمثل الفارق الثاني في وجود عدد كبير نسبياً من الكاتبات ينافسن زملاءهن من الرجال في المكانة والأهمية ¶

بكر صدقي

ليست هناك تعليقات: