وحدها عزيزة لم تجد رفيقة تؤانس إدمانها
المستقبل - الاحد 10 أيار 2009 - العدد 3299 - حسن داوود "راحت عزيزة، فيما كان أبناؤها يتحلقون حولها، تبحث في كيس من قماش عن ملعقة بدت وسخة حين أخرجتها، ثم أخرجت بعد ذلك المسحوق الذي ستتناوله وقشة لرشفه. إبنها ميروايس، الذي في سن السادسة، كان واقفاً الى يسارها، فيما أخته سونيا التي في العاشرة تقف الى جهة اليمين. بعينين زائغتين، بدأت عزيزة بمسح عود الكبريت على علبته، لكن لم تحدث الشرارة. ثم جربت مرة ثانية، ولم تُفلِح. عندها أخذت سونيا بيديها علبة الكبريت وأشعلت عوداً أعطته لأمّها المستعجلة، غير القادرة على الانتظار. أحنت عزيزة جسمها بعد ذلك، وبدأت بتنشق الدُخان الأزرق". لكن مع ذلك الوصف الذي كتبه ديكستر فيلكنز في صحيفة نيويورك تايمز، يوم 6 أيار الجاري، تظل الصورة المرفقة بمقالته أبلغ وأكثر دلالة بكثير. كان الوالدان، فيما هي تستنشق الهيرويين، ينظران إليها، محدقين، كأنهما، على صغرهما، يعلمان ماذا تفعل أمهما، تلك التي رقّت بشرتها وتجعّدت بما يجاوز كثيراً عمر امرأة أنجبت ابنها الأصغر الذي لم يتجاوز عمره سنة ونصف السنة. "لا أقدر أن أمنع نفسي من تناوله"، قالت لفيلكنز: "حين تأتيني الحاجة إليها، يكون ذلك أشبه بهجوم مفاجئ.. لا أستطيع مقاتلة الأفيون، إنه أقوى مني". لكن ما غرقت فيه عزيزة لن يكون خطراً على الآخرين في الخارج. ذاك لأنها لا تغادر بيتها، شأن النساء جاراتها اللواتي لا يخرجن إلا لجلب الضروريات. خطرها، أو خطر عدواها، يقع على أولادها فقط، هؤلاء الذين، مثلها، لا يغادرون البيت. هذا مع أنها مدركة لذلك الخطر. منذ نحو ستة أشهر ذهبت الى عيادة استشارية تختص بمعالجة المدمنين. لم تمكث في مركز التأهيل الذي أحالتها إليه العيادة إلا أربعاً وعشرين ساعة فقط. لا يُسمح لها بالبقاء هناك أكثر من ذلك، حيث إن المدمنين كثيرون وما هو متاح لهذه المراكز قليل. يوم واحد لن يكون كافياً على الإطلاق وإن كانت عزيزة قد توهّمت غير ذلك. في بلدان العالم الأخرى يبقى المدمنون في المستشفيات أو مراكز التأهيل مدداً قد تصل الى ثلاث سنوات، ولا يُفلحون جميعهم في التخلص من مرضهم. الجديد في مقالة فيلكنز هو انتقال عدوى الإدمان الى النساء في أفغانستان. كان عزلهن في البيوت وإلقاء مسؤولية الأولاد عليهن يدفعهن دفعاً الى أن يتحلين بالحكمة، الضرورية، ما دام أن الرجال، والأولاد أيضاً في أعمار تبدأ من العاشرة، قد أخذهم الأفيون. "الأفيون صديق لي"، قالت عزيزة التي كأنها بدأت تعاطيه مختارة. فقط جرعة واحدة أعطتها إياها امرأة كانت كافية لإدمانها. وكما أن حظر خروج النساء منع عزيزة من العمل بعد مقتل زوجها بحادث اصطدام منذ سنتين، أبقاها هذا الخطر من دون "رفقة إدمان" التي تضمّ الرجال عادة. إنها مدمنة في عزلتها، وعليها أن تتدبر الجرعتين في اليوم وهي باقية في منزلها. لن تستطيع أن تنضم الى تجمعات الرجال، أولئك الذين صورتهم الكاميرات أو وثّقت مآسيهم في أفلام ما زالت تتزايد أعدادها بتزايد انتشار الأفيون بين الأفغان. ولن تجد النساء المدمنات مثل ذلك المأوى الذي يجمع ألفي رجل مدمن في اليوم، إضافة الى الآخرين الستمئة المقيمين هناك في ذلك البناء المتصدّع، المثقّب بالرصاص، الذي كان ذات يوم "المركز الثقافي السوفياتي". كان الرجال منقسمين الى حلقات في ذلك المكان الشاسع والغارق في أوساخه، كما يقول فيلكنز، لكن من دون أن تصدر من كثرتهم إلا أصوات خافتة قليلة. لا يكلم أحدهم الآخر، واجتماعهم في حلقات لا يجعلهم صحبة إذ قلما ينتبه أحدهم الى وجود الآخرين حوله. في وصفه لأحوالهم قال فيلكنز إنه لا يعلم إن كان بين أولئك موتى، أو إن كان بينهم من وصل الى الموت أم أنه ما زال منتظراً على حافته. "إدمان الأفيون في أفغانستان يزداد انتشاراً مع زيادة إنتاجه"، يقول فيلكنز الذي يذكر أن أفغانستان تنتج تسعين في المئة من حصيلته العالمية. هكذا، وبحسب المعادلة التي وضعها فيلكنز، بات عدد المدمنين هناك متخطياً مئتي ألف، بحسب الدراسة التي أجرتها الأمم المتحدة منذ أربع سنوات. ذاك أن التسعين في المئة لا تصدّر كلها الى البلدان المستهلكة لتبقى كميات كثيرة منها هنا، في مكانها"، لذلك يمكن لفقراء كابول وسواها من مدن أفغانستان وقراها أن يحتملوا الإدمان، أو أن يقطعوا شوطاً في تلبيته على الأقل. يمكن للفقر والحروب أن يوصلا البشر الى ما كان يصعب تخيّلهم فيه. من ذلك مثلاً أن يتحوّل ما هو شذوذ عن التآلف العائلي الى عنصر من مكوناته: إنها الأم هذه المرة، في حالة عزيزة، وليس الإبن الضال أو الزوج المتخلّي. ثم إن ما تريه الصورة هو إظهار ما كان ينبغي له، في حال حصوله، أن يجري في الخفاء. كما أنه هنا، بين عزيزة وأولادها، يجعلنا نفكر في الطعام الذي هو بديل الأفيون في بيت عزيزة، أو أنه، فيما هو يأكل عزيزة أو يمتصّها، يأكل الطعام الذي ينبغي له أن يُعطى لأولادها. ثلاثون سنة من الحرب أوصلت الى الصورتين، إحداهما الصورة المرفقة وثانيتهما صورة مكان الموت أو سردابه الضخم كما يصفه فيلكنز. الحرب الموصلة الى الأفيون يموّلها الأفيون نفسه. كما أنه يشارك في قتالها، ما يحسب الطالبان الذين يرون أنهم يصدرون محاصيلهم من الأفيون الى بلدان الغرب الكافرة. ولا يهم طبعاً، بحسبهم، أن يُطعم الأفغانيون من ذلك السمّ، فهؤلاء، مدمنو المركز السوفياتي المهدم، ومعهم عزيزة، لن يفيدوا مجتمع الطالبان في شيء. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق