الجمعة، ٢٩ أيار ٢٠٠٩

حديقة الصنائع


حديقة الصنائع

بيار أبي صعب
لم يبق رصيف لمتنزّه، جنينة لعاشق، واحة أمان لعجوز يحلم بالزمن الجميل. بيروت مدينة غارقة في مستنقع معدنيّ هائل. شوارعها تفيض بالسيارات التي تكاد تصل إلى غرف النوم. والسيارة عضو حيوي تابع لجسد اللبناني: هو لا شيء من دونها، إذ يفقد اعتباره الاجتماعي ومعناه وقدرته على الوجود. السيارة أيضاً أداة قتل رمزي لكل ما ومن حول سائقها، لكن تلك مسألة أخرى. «المدينة صارت كاراجاً كبيراً»، قال سائق التاكسي متقدماً بحذر عبر ممر ضيق، هو كل ما بقي للسير من ذلك الشارع العريض. نعم المدينة تختنق، تحاصرها «همجيّة» هي من خصائلنا الوطنيّة: مزيج من الأنانيّة والعنف الدموي وقصر النظر وقلّة الأخلاق. نعم بيروت فيها من السيارات أضعاف قدرتها على الاستيعاب. وهي على حافة كارثة حقيقيّة، تفاديها يتطلّب حلولاً جذريّة وسريعة. لكن هل أحد تلك الحلول يكون التضحية بآخر الرئات الخضراء أمام الجراد الزاحف؟
«حديقة الصنائع» ستصبح مرأباً. قررت بلديّة بيروت! على خطوتين من كليّة الحقوق التي ننتظر بصبر أن تتحوّل «مكتبة وطنيّة»، يختزن المكان بعض ما بقي من أيام العيش الهني. أنشأها السلطان عبد الحميد قرب المدرسة المهنيّة للصنائع والفنون عام 1908، وشهدت منذ ذلك الوقت على تاريخ بيروت الصاخب. هنا أعدم إبراهيم طرّاف، ومنها استوحى روجيه عسّاف مسرحيّة شهيرة، وإليها لجأ الهاربون من نار الحقد الاسرائيلي صيف 2006. من ينقذ اليوم البركة الكبرى المشتاقة إلى بطّ أيام الخير؟ ونافورة الحميديّة التي تحمل بصمات يوسف أفندي أفتيموس؟ وأشجار الزعرور والكينا، والجَكَرَندا الذي يفلش هذه الأيام أزهاره البنفسجيّة؟... لماذا لا نطرد السيارات من بيروت؟


عدد الجمعة ٢٩ أيار ٢٠٠٩


جريدة الأخبار

«فشر» ماو زيدونغ!

«فشر» ماو زيدونغ!

خالد صاغية
يبدو الجهد الاستثنائي الذي تبذله وزارة الداخليّة والبلديات وبعض مؤسسات المجتمع المدني لإضفاء طابع ديموقراطي على الانتخابات النيابيّة المقبلة، كما لو أنّه محاولة يائسة لإلباس هذه الانتخابات لباساً حديثاً. هي محاولة يائسة، لأنّ الجسم السياسي (والمجتمعي) عصيّ على لباس كهذا. فخُطب السياسيّين توحي كأنّنا أمام انتخابات مخترة. أمّا تأليف اللوائح، فبات مفضوحاً أنّه لم يتمّ وفقاً للانقسامات السياسيّة. ولا يخفي بعض أقطاب الفريقين نيّتهم إعادة التموضع بعد الانتخابات، كما لو أنّهم في نزهة داخل سوبر ماركت. وتخوض 14 آذار الانتخابات مثلاً من دون رموزها الأساسيين. وقد بزّت لائحتها في الأشرفية كلّ أخواتها لدى عرض البرنامج الانتخابي، إذ بدا أعضاؤها كمرشّحين لانتخابات بلديّة، همّهم تحسين الأرصفة.
بات إصرار اللبنانيّين على التمسّك بانقسامهم بين أنصار 8 و14 آذار، أشبه بمحاولة لستر الفضيحة. فقد تحوّل هذان التاريخان إلى «كودَيْن» يخفيان خلفهما كمّاً من الهراء والتفاهات.
وليتوَّج هذا المشهد، كان لا بدّ من الاستماع إلى مقابلة تلفزيونية جرت ليل أمس، وطرح فيها أحد قادة اللوائح الانتخابية سلسلة من العناوين التي تصلح لنهضة شاملة في البلاد. الغريب في الأمر أنّ ما طرحه القائد والزعيم ليس مدرجاً في سياق حملته الانتخابية، والنقاط التي تحدّث بها كانت موضوعة على الرفّ لسنوات قبل موعد الانتخابات. فهي، على ما يبدو، مجرّد عناوين إصلاحيّة يرفعها السياسيّ كلّما وجد نفسه مخنوقاً بواسطة النظام الطائفي الزبائني الذي يعمل هو نفسه على استمراريّته وإعادة إنتاجه.
ماذا يريد الزعيم الوطني بعدما أوصل البلاد، هو وأقرانه من زعماء الطوائف الأخرى، إلى حافّة الحرب الأهليّة؟ الإجابة بسيطة: يريد مجتمعاً مدنيّاً في مواجهة المجتمع الأهلي. يريد إعادة طرح عناوين الصراع الطبقي، والعمل النقابي. يريد الزواج المدني الاختياري، وقانوناً جديداً للأحوال الشخصيّة. يريد قانون انتخاب قائم على النسبيّة، ومجلس نوّاب غير منتخب على أسس طائفيّة، وإنشاء مجلس شيوخ «تتسلّى» فيه الطوائف. وأخيراً، يريد الآن «ثورة ثقافيّة». «فشر» ماو زيدونغ!


عدد الجمعة ٢٩ أيار ٢٠٠٩
جريدة الأخبار

الثلاثاء، ٢٦ أيار ٢٠٠٩

جمال الغيطاني: أشعر بالرضى عما حققت والذاكرة قضيتي الأولى

جمال الغيطاني: أشعر بالرضى عما حققت والذاكرة قضيتي الأولى

الأحد، ٢٤ أيار ٢٠٠٩

عن أوديت سالم فقيدة ذوي المخطوفين

عن أوديت سالم فقيدة ذوي المخطوفين

المستقبل - الاحد 24 أيار 2009 - العدد 3313 -



حسن داوود

في الصور التي تعلّقت على ذلك الشريط الطويل بمحاذاة "الخيمة"، بدت أوديت سالم كما لو أنّها سمحت لنفسها بأن تتصرّف بوحي من الكاميرا التي أمامها. في واحدة من الصور جاوزت الإبتسام إلى حدّ الضحك. في واحدة أخرى قرّبت وجهها من العدسة التي كانت مرتفعة عنها لكي يُؤخذ وجهها من الأعلى، هكذا بضرب من اللهو الذي لم تتحرّج هي، ولا الآخرون من المعتصمين في الخيمة، عن الذَّهاب فيه. حتّى إنّني، في زيارتي إلى هناك، متأخرّا يوما عن الموعد الذي حُدّد لتشييعها ، فكّرت أنها ربما كانت قد عاشت أوقاتا سعيدة بين أولئك الجالسين والجالسات، الذين جعلوا من المساحة الضيّقة التي تحلّقوا فيها، ما يشبه غرفة جلوس في منزل من منازلهم. أو في منزل من منازلهنّ، هنّ النساء اللواتي غلب عددهنّ عدد الرجال، واللواتي رحن يقمن بالضيافة مبتسمات فيما هنّ يقرّبن فناجين القهوة البلاستيكيّة، أو أكواب السفن أب، للوافدين القليلين الذين لم يسبق لبعضهم أن زاروا خيمتهنّ من قبل.
كنّ يجلسن مستعدّات لاستقبال المعزّين مشتملات بثياب سوداء لم أعرف إن كنّ قد ارتدينها لمناسبة فقدهنّ أوديت أم أنّ هذا شأنهنّ دوما، بعد اختفاء أولادهنّ أو أزواجهنّ. وللزائر مثلي ليس هذا هو التساؤل الوحيد الذي يعبر في الرأس، فحتّى عبارة " العوض بسلامتكم " تثير الشك إن كان ينبغي قولها هنا، إذ ربما تذهب (هذه العبارة) إلى أبعد من مناسبتها لتصل إلى أولادهّن، هنّ اللواتي قضين كلّ هذه السنوات في انتظارهم. أوديت سالم، مثلا، كانت منتظرة عودة ابنها وابنتها بحسب ما شاهدنا في فيلم بهيج حجيج الذي أعاد هنغار أمم عرضه منذ نحو أسبوعين أو ثلاثة. رأينا أوديت، في أحد المشاهد، واقفة أمام تلك الخزانة المفتوحة الدرف لتدلنّا على ثياب ولديها الغائبين منذ خمسة عشر عاما (حتى حينه، قبل عشر سنوات من الآن). قالت للفيلم إن الثياب ما زالت مرتّبة على حالها منذ يوم غيابهما وذلك من أجل أن يباشرا ارتداءها من لحظة ما يعودان. المُشاهد، أو السامع، الباحث عن شيء يهوّن به أمر أوديت عن نفسه، ربما يخطر له أن يفكّر أنّ اللذين كانا في عمر الشباب قد تغيّر جسماهما الآن ولن تلائمهما ثيابهما القديمة، وإن نظيفة ومكويّة ومرتّبة في الخزانة.
لكن ينبغي أن يطرد المرء من ذهنه، على الفور، أفكارا من نوع أنّ أوديت كانت تعتدّ بما كان عليه حال ولديها حين ذكرت شيئا عن ثياب التزلّج الباقية، هي أيضا، على حالها. ذاك أنّ واحدنا لا ينبغي له أن يخلص إلى الدلالات نفسها دوما، وأن لا يترك لعقله أن يكرّر رياضته الروتينيّة التي اعتادها. وقد نبّهني غازي عاد الملازم الخيمة قاعدا على كرسيّه النقّال إلى ذلك حين قال إنّ على بيت أوديت أن يظلّ على حاله، كما تركته هي، وكما تركه أولادها من قبلها، ليكون متحفا دائما. ذلك ما نبّهني، أيضا، إلى أنّ أوديت، في تلك المنطقة اليقظة من رأسها، تلك التي كانت تذكّرها أنّ حرصها على إبقاء الأشياء في مكانها، وفي زمانها، ليس إلا طقسا أو ممارسة رمزيّة للحزن المازج التسليم بالغضب، كانت تعلم، فيما هي تقول أنّها تبقي البيت مستعدّا لاستقبالهما، أنها، في الوقت نفسه، تبدأ بتأسيسه متحفا.
هناك في الخيمة بدا طيف أوديت حاضرا بشريط الصور المعلّقة على ذلك السلك الطويل، وبتلك الصورة الكبيرة التي ألصقت على أحد أطرافها صورةٌ صغيرة تجمع الشابين، ابنها وابنتها، وهما في مطلع عشريناتهما. كذلك كان طيفها حاضرا في النساء الجالسات المعلّقات على ثيابهنّ السوداء، هناك عند الصدر، صور مفقوديهنّ. كنت قد ظننت أنّهنّ تخلّين عن هذه العادة منذ أن غابت عن الجرائد صور أم تيسير التي اختطف زوجها وأبناؤها الثلاثة، وصور أم محمد، ذات الصور الأربع أيضا: "لم نعد نرى أم تيسير، هل ؟... " وقد خلّصني غازي عاد من التردّد في لفظ الكلمة الأخيرة بأن أجابني، مسرعا، أنّ أم تيسير ما زالت حيّة تُرزق لكنّها لم تعد تأتي إلى الخيمة. ربما بسبب الكبر، أو بسبب المرض، أو ربّما لأنّ الكلام الذي يقال هناك، بحضور صحافيين ومتكلّمين في القوانين وداعمين من جماعات حقوق الإنسان، يوقفها جانبا، على حدة، بانتظار ذَهاب المتكلّمين.
كما حضر طيف أوديت بمكان سقوطها وموتها، ذاك الذي التفتت إحدى النساء الجالسات بوجهها إليه، لتدلّني، بالتفاتتها تلك، أنّه هناك، على بعد خطوات من هنا، مشيرة، بإصبعها هذه المرّة، إلى القرب الذي دُهست فيه أوديت. ولم تعلّق المراة بشيء بعد ذلك.هنا، بين من ينتظرون عودة أبنائهم، لن تسمع جملة من نوع أنّ أوديت " ارتاحت ". هذه تقولها المرأة الموظّفة في الوزارة، أو تلك المرأة الأخرى التي قالت، مستهولة ما حصل لأوديت في حياتها، أنّها لا تستطيع أن تتخيّل نفسها في مكانها. أما المعتصمات بالخيمة، المنتظرات أخبارا ستصل، إن وصلت، إلى هناك أوّلا، فلن يقلن جملة مثل هذه، ولا جملة أخرى يُرحن بها أوديت من نوع أنّها، هناك حيث صارت بعد دهسها، ستلتقي ولديها أخيرا.
ذاك لأنهنّ لا يطقن أن يصرن قليلات. كما أنّهنّ، في منطقة من وعيهنّ، يخفن من رحيل المعتصمات قبل عودة المخطوفين. ذلك سيعني لهنّ كما لو أنّ الزمن فات فوتا مضاعفا بطيّه جيل الأهل وتركه أبناءهنّ ضائعين منسيين في ماضيه. كانوا، نساء ورجالا، قليلين في الخيمة. البوستر الضخم الذي اتّسع لنحو 1500 صورة، والذي وُضعت نسخة منه قبالتهم، لا يعكس الإحتشاد الذي فيه احتشادا مماثلا حول ما أعطي إسم الخيمة. وأنا، في زيارتي الأولى، لن أستطيع أن أسأل أحدا من المداومين هناك: هل مات الكثيرون؟ قاصدا رفاقهم الذين كنّا نراهم كثيرين في التظاهرات التي كانوا يقومون بها.
في كلّ نزول لي بسيّارتي عابرا نفق سليم سلام، في الذهاب والإياب، لا أجدني مخفّفا سرعتي لألقي نظرة على "حديقة الإسكوا ". أعرف، أو أحفظ، أنّهم نصبوا خيمتهم هناك وأنّهم يجتمعون حول الصور المالئة المكان لكنّني، مثلي مثل غيري، تركتُ لهم أمرهم يدبّرونه بأنفسهم. ينبغي للواحد منّا أن يكون من عدادهم، أن يكون "ذا" مخطوف لينضم إليهم، هم " ذوو المخطوفين ". ذاك لأنّه من اللحظة التي يحلّ فيها أمر بجماعة تصير هذه الجماعة منفصلة عن غيرها من الجماعات وغريبة عنها. وها إنّ الجماعات لا عدّ لها. أولئك الذين يحتشدون في مطاعم الداون تاون، على مسافة أمتار من حيث نُصبت الخيمة، جماعةٌ. أولئك الذين يفضلون السكن في الأشرفيّة على السكن في الحمرا جماعةٌ. الذين ينتظرون الفانات ليركبوا فيها في ساحة الكولا جماعةٌ. الذين ينتظرون أن تعطى لهم حِصّتهم من التعويضات المقرّرة للمهجّرين جماعةٌ، وجماعة أخرى أولئك الذين أسعفهم الحظّ وقبضوا حصّتهم. أولئك الذين على لوائح الشطب في محافظة بيروت جماعة وجماعة أخرى أولئك الذين لم ينقلوا قيدهم إلى بيروت مثل أقربائهم... ما زال يفاجئني ما قاله الكاتب الإسرائيلي دايفيد غروسمان يوم سأل سامعيه من الجمهور البريطاني: كم عدد سكان بريطانيا ؟ وإذ راحت إجاباتهم تأتي متفاوتة بين أربعين مليونا أو ثلاثة وأربعين أو خمسة وأربعين، قال متعجّبا، بل ومستفزّا: غريب كيف أنّكم لاتعرفون كم أنتم... نحن في إسرائيل نعدّ بعضنا بعضا كلّ يوم.
وأنا، لحظة ما سمعت ذلك تراءى لي أنّنا، هنا في بيروت مثلا، كثيرون، ومزدحمون في كلّ من الأمكنة والأحوال التي ذكرتها أعلاه، كما في أمكنة وأحوال أخرى كثيرة ممّا يجعل أمر تعدادنا مرهقا.
لكنّني، مع ذلك، قد قمت بواجبي تجاه من تلقّوا العزاء برحيل أوديت سالم، فقيدة ذوي المخطوفين.

يهوديّـــــات

logo
المصدر: جريدة الأخبار (http://www.al-akhbar.com)

يهوديّـــــات

أنسي الحاج
في مقابل إرهاب أن تكون معادياً للساميّة، هناك إرهاب أن تَتّهم باللاساميّة كلّ خصم لك. وأسوأ ما يمكن أن يحصل هو الانفجار الدموي ضد اليهود. معروفٌ ماذا يجب أن يفعل المسيحيون والمسلمون لتفادي الانزلاق إلى هذه الجريمة، لكن السؤال، السؤال الدائم منذ التوراة هو: هل يتمكّن اليهود من التغلّب على نزعة الانتحار التي كانت على الدوام تقودهم إلى تجاوز الحدود، أم أن سحر الانتحار أشدّ تأثيراً على هذا الشعب المتيَّم بالذنْب، من نداء الحياة؟
■ ■ ■
المثالي يكون بالاعتراض «سلميّاً»، في إطار العقل، وإلاّ كان اضطهاد اليهودي جواب المهزوم «الحقيقي» على الهازم «الحقيقي».
■ ■ ■
تخبرنا التوراة أن يعقوب أَحبَّ زوجته راحيل حبّاً جارفاً حتى قيل إنه أحبّها أكثر من اللّه. وفضَّل ابنه يوسف على جميع إخوته فحسده هؤلاء وتآمروا عليه.
هذا الحبّ الشديد للخليقة (وقد عالجه توماس مان في رواية) يتكرّر في التوراة، حيث لا يتمكّن الله دائماً من أن يحجب وجه الإنسان عن الإنسان. إنها بَشَريّة الصوفيّة اليهوديّة، بشريّة توغل (كما عند إبراهيم وإسحق ويعقوب) في المثالب والارتكابات حتى تبلغ دَرَكاً بالغَ الانحطاط في بعض المواقف، لكنَّ صدقها يضفي عليها مهابة، إذ هي تقول في بساطتها الملحميّة الملموسة لمسَ اليد: أنا بشر، هذه حقيقتي، ولن أُرائي أو أُنافق للّه، وإذا اقتضى الأمر سأقاتله، ولن يتخلّى عني ولو حاججته، وسأخطئ وأفسق وأخون، ولن يسحب عني الربّ يده، فهو الذي يعرفني، وهو الذي أعرفه، وعهدنا معاً عهد مَن يكون الأقوى بالآخر...
في حكاية المعركة بين يعقوب وملاك الربّ، حيث كانت الغلبة ليعقوب فكافأه الربّ، رموز لا يرتوي منها الخيال.
■ ■ ■
قوّة سينيكيّة ـــــ دينيّة ميّزت اليهودي عن سائر الإبراهيميين وغير الإبراهيميين. حيويّة التحدّي وعصبيّة التميُّز. وهما لا تنسيانه ضعفه ومذلاّته. إنه الموحّد وإنه كذلك عابد المال. الصبور الجبّار على المنافي وشتّى صنوف الجَلْد، بما فيها الجَلْد الذاتي، والجَشِع الملتوي الغليظ الرقبة. الملهَم والتائه. الغنيّ والفقير. المسيطر والصعلوك. التقيّ المتزمّت والخليعُ المستهتر. كاره الآخرين والمكروه بين الآخرين. المنبوذ الهدّام والهادم نفسه، انتحاراً أو تشوّهاً، من فرطِ اتهام الذات. الذات المعتبرة نفسها قطب الرحى، والذات القاتلة نفسها سباقاً إلى احتكار كأس الضحيّة.
ماديّة في العلاقة بالله، في تملُّكه، وخيانته وتسييسه، ماديّة هي نقيض الروحانيّة المسيحيّة والتجريد الإسلامي، لكنها، رغم فظاظتها، تنطوي على صورة للّه أكثر جدليّة من صورة الله عند الآخرين. ينسحق النبي اليهودي أمام ربّه انسحاقاً ليس بعد مازوشيّته مازوشيّة، ولا يمنعه ذلك من مناقشة ربّه ومعارضته وإشعاره بالذنب. فالله الذي كان يمتحن ولاء الآباء بطلب أبنائهم قرابين تلاشى مع يعقوب ليحلّ محلّه إلهٌ يصارع الإنسان وينغلب أمامه ثم يباركه. وإذا حككنا أكثر تحت القشرة قد نجد في ربّ كهذا ملامحَ مَن يحتقر الضعف ويستهويه خصم ينازله. إلهُ الغضب، لكن الإنسان الذي أمامه هو أيضاً إنسان الغضب. ما من شفقة عقائديّة هنا وإنما شفقة موسميّة، أخلاقيّة، أو عشائريّة كما تَصرّف يوسف الحسْن في مصر حيال إخوته. ما من ضعف طوباوي إنما ضعف منمّط. والنجاح مباركة إلهيّة. أمّا الانتقام فسُنّة، والشرّ ليس إلاّ مسألة نسبيّة، بل قل عرقيّة.
مناخات «معاصرة». قيمٌ استعادتها هوليوود وعمّمتها. قيمٌ يراد لها، عبر السينما بالأخصّ لأنها الأوسع تأثيراً، أن تسود فوق القيم المسيحيّة والإسلاميّة، فضلاً عن الآسيويّة.
عندما يقال «الحضارة اليهوديّة ـــــ المسيحيّة» يُرتكب مزجٌ ليس في صالح ولا واحدة من الديانتين. مزجٌ أقدمَ عليه فلاسفةٌ ومفكّرون ثاروا على «الضعف» في المسيحيّة واعتبروه هو نفسه موجوداً في التراث اليهودي.
في التراث اليهودي ضعف، لكنه ليس دعوة تبشيريّة ولا غاية في ذاته. المسيحيّة مجّدت الضعف تخلّصاً من «القوّة» اليهوديّة والوثنية. الإله المسيحي والإسلامي الرحمن الرحيم فتحَ مع البشر صفحة جديدة أوصدت الباب على الإله اليهودي العنصري العديم الرحمة. في هذا، اليهوديّة دينٌ أكثر معاصَرَة. معاصرة لأوروبا القوميّات ولأميركا الجبروت. كما كانت معاصرة للشيوعيّة البولشفيّة المنتصرة بالدم على روسيا القيصريّة ومسيحيّتها المحتدمة.
■ ■ ■
المشبوه في الكتابة سواء الدينيّة أو الانتي دينيّة هو النيّة التي نستشعرها لدى صاحبها في حماية ديانته. النزيه في انتقاد الأديان أو رَفْضها هو الموقف الشامل في انتقاده ورفضه: حين تصادف يهوديّاً يهاجم اليهوديّة بالقوّة (والصدق) والحجّة والمتابعة التي يهاجم بها المسيحيّة والإسلام، حينئذٍ تكون قد وجدتَ الحرّ المتجرّد وليس المغرض المستتر.
وطبعاً الأمر نفسه حين تصادف مسيحياً كذا وكذا ومسلماً إلخ.
المزعج في الموقف الملتبس (وهو منتشرٌ في العالم العربي كما هو شائع بين يهود العالم بمَن فيهم علمانيّوهم وملحدوهم) هو دعوة التحرّر التي يُراد بها تحرير «الخصم» من تعصّبه، فقط «الخصم». وأمّا تعصّب الذي يحرّرك فهو المزداد تحصّناً وراء «التحرير».
العلمانيّ الشموليّ مريح لأنّه يحرّر من التعصّب كلياً، واللامتعصّب يُعْديك رحابة: تتبادلان إنكار الذات لتعودا إلى استرجاعها بعد أن يكون كلٌّ منكما قد تنازل أمام الآخر عن خبثِ أناه، وهي أنا مركّبة على كلّ حال.
وكم قليلٌ بيننا البارّ المعطاء هذا. وفي هذا الموضوع (كما في سواه)، الأهمّ ممّن يقرأنا هو الواحد منّا، نحن الكَتَبَة، ونحن نكتب، بل ونحن نفكّر في خلواتنا ونُحسّ قبل أن نكتب: أين، في أيّ أُفق، بأيّة خلفيّة، من أجل ماذا يكون تفكيرنا وكلماتنا. نحن، نحن الكَتَبَة، أوّل مَن يعرف وأكثر مَن يعرف متى نكون صادقين.

■ الرمل الذي يخون الخطى

تعليقاً على مقال الشفقة («الحبّ الكامل»)، أرسلتْ يمنى فرح كلمة أُحبّ أن أوردها هنا:
«الشفقةُ ضربٌ من الرقّة، لكنْ قد يرقّ الإنسان لمَن لا يشفق عليه، وقديماً كانوا يئدونَ البنتَ فيرقّون لها، لأن ذاك طبعٌ إنسانيّ، لكنهم لم يكونوا يشفقون عليها، إذ لو أشفقوا لما وأدوها. وأنا أدعوكَ إلى تجاوزِ هذا المستوى اللغوي إلى مستوى يفلسف الشفقة بجعلها «صرف الهمّة إلى إزالة المكروه عن الناس»، وعندها تصبح حقّاً إنسانيّاً لا مجرّدَ تعاطف اختياري، فحينما نسمع دويّ انفجار يجب أن نشعر بالشفقة لا بالخوف أو الرهبة، مثلاً، باعتبار الشفقة واجباً إنسانياً. وهكذا تتآلف قلوب المجتمع الواحد كما تتآلف قلوب النوع الإنساني في كل العالم. وهكذا يتحقّق الحبّ الكامل حقّاً».

لا حاجةَ إلى تعليقٍ على التعليق، فهو حفرٌ وتنزيل. بعض القرّاء أفضل من مقروئيهم، مثل يمنى فرح. وأنا ممتنّ لهذا التصويب، ولعلّ من أسباب افتقاري إليه انفصالاً بيني وبين أرض الواقع. وهذا ما عبّرت عنه يمنى في تعليق على مقالي الأخير «لا تُغنّوا العودة» عندما كتبت تقول: «أصبحتُ كثيرةَ الحَذَر من كتابةٍ تكون لها أحياناً صفة الرمل الذي يخون الخطى...».

■ جاذبيّة الثبات

يمارس علينا ذوو الثبات جاذبيّة التمرّد عليهم واللعب من ورائهم. لا صعود بدون جبل. أنت لا تَطْلب من الجبل الحركة بل الجمود لتتحرّك أنت. الهواءُ هواءٌ لأنّ العناصر الأخرى تعطيه هُوّيته. تعطيه حريّته.
أحياناً يُخيّل إليكَ أنّ التماوجَ بين ليلٍ ونهار، بين إغماضٍ وإبصار قد توقّف، وأنّ الزمنَ تَجمَّد. انتهى التجاذب. انتهت الجدليّة. وقد تختنق حينئذٍ لشعوركَ بانغلاق الغرفة. يتمنّى الشعراءُ أن يَجْمد الزمن وفي الحقيقة هذا هو عَدوّهم، فالزمن المجمَّد قَبْر.

■ تخيّلات

أيّ قَدْر من الخطر هو ذاك الذي يمكن أن يقال عنه إنه الأقصى؟ هو ما تعايشه في لحمك وعظمك، ما يعمل فيك نخراً، ينهشك ويمشي فيك وتنطق باسمه. تنطق، أو تسكت باسمه.
طموحك أن تتحدّى به، وأن ترقى بالمعاناة إلى الجبروت، فتقهقه على حطام نفسك. أو تنحدر إلى أودى وديانك بدوخةِ سكْر العاصفة عوضَ أن تنتحب انتحاب التدهور.
مجرّد تخيّلات... هي وحدها ما يتجاوز حدود اللحم والعظم.


عدد السبت ٢٣ أيار ٢٠٠٩

عنوان المصدر:
http://www.al-akhbar.com/ar/node/137199

الأحد، ١٧ أيار ٢٠٠٩

مقابلة مع المطران غريغوار حدّاد


مقابلة مع المطران غريغوار حدّاد

استحالة أن تخترع الفكرة الواحدة مرتين

استحالة أن تخترع الفكرة الواحدة مرتين

المستقبل - الاحد 17 أيار 2009 - العدد 3306 - نوافذ - صفحة 9


حسن داوود

في شباط 2001 سطا أحدهم في باريس على حقيبة لي كانت في سيّارة أصدقاء، آخذا إلى أشياء أخرى احتوتها الحقيبة، مخطوط رواية أملت أن أكتب خاتمتها هناك. كانت تلك النسخةَ الوحيدةَ من الرواية، لذلك وجدت نفسي في صبيحة النهار التالي، طائفا مع صديقي جورج على من أُبلغنا أنّهم عصابات باريس أو سُرّاقها. أصدقاء آخرون، من لبنانيين وعرب طالت إقامتهم هناك، قالوا لي، كلّ بمفرده، إن من سرق الحقيبة سيأخذ منها ما يُثمّن ويباع قبل أن يرمي الباقي، ومنه روايتي، في نهر السين. وها أنني ما زلت إلى الآن، بعد انقضاء ما يزيد عن الثماني سنوات، أتخيّل تلك اليد ممتدّة إلى النهر، لتنفلش منها الأوراق مفلوشة في الهواء، قبل أن تهبط لتطفو على صفحة الماء.
ربما كان هذا ما فعله السارق، أو ربما كان هذا المصير للرواية هو أكثر السيناريوات رفقا بما أضعتُ. ذاك لأنّ السارق لن يمنح روايتي تلك النهاية الجليلة فهو، على الأرجح، سيرمي أوراقها في سلة المهملات القريبة من حيث وقف ليستريح من ركضه، بادئا بتقليب ما في داخل الحقيبة. لكن، ما يهمنّي في الحالين، هو انّ الرواية اختفت ولن تعود، رغم سعيي، الذي راح يتراجع مع الوقت على أيّ حال، في الإتصال بصديقي وسؤاله: هل وجدتها يا جورج ؟ هل اتصلت بمكتب المفقودات؟.. متى كانت آخر مرّة.. متى كان آخر اتّصال؟
هلا، في مكتب الوزارة الذي نعمل فيه معا، ذكّرتني، بعد أن عدت من باريس، أنها كانت قد أبدت عن استعدادها مرّات لتصوير الصفحات. كان إهمالي لاستعدادها ذاك، بل لطلبها الملحّ في أحيان، عائدا إلى ظنّ عندي، أجده الآن وهما خالصا، أنّ المخطوطة يجب أن تكون كما هي، وأنّ صورتها المنسوخة عنها يجب أن تكون مطابقة لها على التمام. وهذا لن يكون متوفّرا ما دام أنّني أكتب كلّ يوم، مضيفا سطورا جديدة إلى الصفحات الأخيرة، وأنّني، في أيّ حال، لن أذهب إلى هلا في آخر كلّ صباح وأقول لها أن تصوّر ما قد كتبت.
كان قد ذهب بي الظنّ الواهم إلى أنّني، إن أغفلت التصوير، أو النسخ، يوما واحدا، لن تعود تفيدني النسخة التي ستحتفظ بها هلا. ذاك لأنني لا أستطيع أن أستأنف الكتابة من مكان سبق أن تعدّيته وصرت في ما بعده، حتى لو كانت المسافة الزائدة أقلّ من 500 كلمة. فأنا أقف حيث انتهيت ولا يمكنني الشروع بالكتابة إلا من هناك، هكذا تبعا لقانون الزمن العادي، زمن العيش العادي، الذي تستحيل العودة إلى قبل ما كان قد انقضى منه. إنّه وهم كما ذكرت أعلاه، بل واحد من الأوهام المرافقة لكتابتي.
لكنّ ذلك الوهم الذي صوّر لي أنّني لا أستطيع الرجوع إلى ما قبل فقرتين أو ثلاث أجْلته حقيقة لكنها أقرب إلى أن تكون مستحيلة التطبيق، هذه المرّة أيضا: «عد إلى كتابتها.. أكتبها من جديد..» صار يقول لي أصدقاء بعد انقضاء تلك الموجة البوليسيّة التي شملت الكثير من الأصدقاء الذين جعلوا يقولون لي :« في يوم ما ستجد الرواية مطبوعة بقلم كاتب مجهول».
وقد عدت إلى الرواية الضائعة في أكثر من محاولة واحدة. في المحاولة الأولى أنجزت سطرين كانا، عند انتهائي منهما، كافيين لأن يصدّاني عن المتابعة. ذاك أني انتبهت إلى أني لا أكتب بل أتذكّر، حيث أنّني، من دون وعي منّي، بدوت كأنّني أستعيد المطلع السابق ذاته، بنصّه وحرفه كما رحت أجدّ في تذكّره.
المحاولة الثانية، وكانت بعد نحو سنة أو أكثر قليلا، حفّزتْها مِزقة من ورقة جاءني بها إبني فراس. قال إنّه وجدها بين صفحات أحد الكتب وأنها كانت بارزة عنه، هكذا، كأنني كنت أضعها علامة لأعرف إلى أيّ الصفحات وصلت في قراءتي لذلك الكتاب. كانت السطور الثلاثة مكتوبة بخطّي الصغير الذي فوجئت ذات يوم، أنا نفسي، بصغره، وذلك يوم أن صدر كتابي أيام زائدة في 140 صفحة كانت أصلا، بخطّ يدي، 16 صفحة فقط. كان عدد الكلمات 113 كلمة في السطور الثلاثة التي تصف عبور السيّد مرتضى بين النساء المتجمّعات عند مدخل أحد البيوت. وهو، بصيغة المتكلّم، جعل يقول كيف أنّه أتيح له وحده، هو رجل الدين، أن يحفظهنّ، بنظرة واحدة، لكنها كافية ليحفظ في رأسه كلّ تفصيل أعجبه فيهنّ، ومن دون أن يغيّر شيئا في قوله أمامهنّ: ألسلام عليكم.
وقد أسقطت نفسي، مرّة أخرى، في ذلك التنازع السابق بين الكتابة والتذكّر. ما كنت قد كتبته في الرواية الضائعة من مشاهد، وحوادث(قليلة بالطبع وغير دراماتيكيّة، بحسب ما يصفني أو يصف كتابتي قرّاء كثيرون)، وأفعال، وحركات تميّز الشخصيّات، تحوّل إلى وجود مكتمل وراسخ ، ,لا يحتمل سياقا آخر غير الذي وضعتْه الكتابةُ فيه. كأنّ ما ألّفته تأليفا وما صنعت أشخاصه وحوادثه صار في قوّة ما عرفته في عيشي الحقيقي. بل إنه كان أكثر قوّة منه حيث أنّ ما حفظتْه ذاكرتي من عيشي منفتح على المخيّلة تغيّره وتتصرّف فيه، أمّا الحياة المصنوعة من مزيج التخيّل والتذكّر، الحياة التي أُنجزت كتابتها، فلا تقبل تغييرا أوتصرّفا.
ذلك «اللعب» بما نتذكره آملين أن نستخلص منه أدبا، لن يسمح بأن نعاوده لأنّه لايطرح ثمراته إلاّ مرّة واحدة. فهو، بعد أن يُكتب ويصير في نصّ، ينغلق على نفسه مثلما تفعل تلك الزهرات الكبيرة إذ تضمّ ورقاتها إليها. لكن ربّما تكون إعادة اللعب متاحة لغيري بعد أن استنفدت نصيبي منه في تلك المرّة الواحدة. كأن يأتي أحد سواي ليعيد تخيّل ما سبق لي أن ألّفته، هكذا ذاهبا في ما أراده نورثروب فراي، في رؤيته لدور النقد، إلى آخر مطافه:»أن يكون النقد تعليقا على النص»، أي أن يُقرأ االنصّ، أو يُكتب، كما لو أنّه يُبدع من جديد.
وهنا أجدني رادّا الكرة إلى من ما زالوا، إلى الآن، يحرّضونني على أن أعيد كتابة الرواية الضائعة: لكن لماذا لا تعيد كتابتها أنت؟ أقول لمن يكرّر لي ما سبق أن قاله أو كرّره. وأنا سأكون مستعدّا ان أروي له، مشافهة، ما أتذكّره من الرواية، وعلى الأخصّ، المطارح الأجمل فيها، تلك التي من نوع ما تحتويه السطور الثلاثة التي عثر عليها إبني.
وها أنّني الآن، على رغم معرفتي بهذا كلّه، أجدني جالسا، وأمامي الكومبيوتر هذه المرّة، محاولا أن أعيد كتابتها من جديد، ذلك الإصرار أراه أشبه بعارض يعاودني كلّما فرغت من كتابة رواية ووجدت نفسي، من بعدها، لا أعرف عمّا ينبغي لي أن أكتب. وأنا، لكي أقنع نفسي باستطاعتي ذلك، أقول إنّني سابدأ هذه المرّة من غير المشهد الأوّل الذي يصوّر السيّد مرتضى جالسا على (كنبايته) وناظرا إلى تلك الصورة المعلّقة على الحائط أمامه، جامعة أباه وجدّه وعمّه، الواقفين، مرتدين هم الثلاثة، زيّ العلماء.
أبدأ إذن من مشهد آخر بعد أن أقتنع به مختزنا ما يكفي من الطاقة التي تدفع إلى الإقبال على الكتابة. من دخول السيّد مرتضى إلى بيت أبيه الذي بات مقيما بمفرده فيه بعد موت امرأته وإبنه. أكتب مقطعا في ذلك. لا أكثر من ذلك المقطع الذي عاد بعده كلّ ما أتذكّره من الرواية، متفرّقا، إلى الإحتشاد والتجمّع، هكذا كأنّ المشاهد المتقطّعة تتزاحم حول الثقب الضيّق متسابقة على الدخول فيه.
ما لا أستطيعه، أيضا، هو أن أنسى ما أتذكّره. أن أعمل بحسب فتوى ذلك الشاعر العربي الذي أجاب مَن سأله ماذا عليه أن يفعل ليقرض الشعر: إحفظ خمسة عشر ألف بيت منه، ثم إجهد في نسيانها.
في هذه الفترة الفاصلة بين الإنتهاء من رواية والإهتداء إلى أخرى، ما زلت أقلّب الإحتمالات ملتقطا واحدة من تلك المهوّمات التي تزدحم حول الثقب الضيّق ذاك، ممسكا إيّاها من طرفها، مضخّما حجمها، وقائلا لنفسي: أبدأ من هنا. لكن ذلك الحمل المُعاوَد لم يلد، شأن سابقه، إلا فقرة واحدة. ذاك أنّ الحمل الحقيقي، الحمل الأوّل، قد أُجهض. وهنا أستعير تشبيها قالته لي إحداهنّ في وصفها لحال من أضاع شيئا بعد أن أتمّ إنجازه (وكان ذلك في معرض كلامها عن ضياع روايتي)، قالت إنّ ذلك أشبه بفقدان الحامل لجنينها. ذلك التشبيه أعجبني. صحيح أنّه غير متطابق تماما، وأنّ الدقّة تعوزه، لكنّه أقرب التشابيه إلى ما قد يخطر في الرأس.

[ مقطع من نص طويل كتب ليقدم كمادة تعليمية ضمن البرنامج العالمي للكتابة الابداعية في جامعة ايوا بالولايات المتحدة.
*

لا تُغنّـــــوا العـــــودة


لا تُغنّـــــوا العـــــودة

أنسي الحاج

كذباً أكذب
كم أودّ لو أكون في منتهى الصراحة، ولكني لم أتخلّص من رغبة انتزاع الموافقة. كيف للمرء أن يجمع بين الوحشيّة والودّ، بين الاستهتار والمسؤوليّة؟ لم أعد أصدّق نفسي حين تدّعي أنها لا تعبأ بالبحث عن الإعجاب. كذباً أكذب. قد أخلط بين العدوانيّة والاستغناء، لكن العدوانيّة شكل آخر من أشكال استرعاء النظر، بل هي أشدّها أنانية. في الوقاحة عصيان، وفي العصيان فروسيّة، لكنهما هما أيضاً شكلان من أشكال إثبات الذات المسرحيّة.

خارج المنافسة
اثنان لا يُنافَسان في السينما: الولد والحيوان. يخطفان الاهتمام ويستحيل إلاّ التركيز عليهما. السبب أنهما لا يمثّلان ولا يتكلّمان بل يكونان وكينونتهما قاصمة. وإذا التقى الاثنان فالولد هو القطب الأكبر.
الحياة كلّها بحثٌ عن اللحظة اللامسرحيّة. عن فجر الشعور قبل التنفُّض من آثار النوم. بحثٌ عن أصالة الحيوان وبراءة الولد. وأكثر ما يُمْتَحنان في معرض التمثيل.
أكثر ما يكون المرء صادقاً حين لا يعرف الفرق بين الصدق والكذب. وحين لا يعبأ بالناظرين إليه، أو يكون موقفه من «الجمهور» في أدنى درجات التأثّر. يصيبك لأنه لا يتعمَّد إصابتك.
أبعد حدود الصدق هو الحيوان. أمّا الوَلَد فعابر صدْق.

مصر الأمل والضوء
تتردّد أصداء معركة في مصر حول جائزة أدبيّة. وخارج مصر حول جائزة أخرى. اتهامات وشتائم. حتّى في هذا يصعب على العرب تجاوز الأنانيات. ويصعب على المتتبّع القبول بمشاهد التهالك على الحصص والأمجاد، وكلٌّ يحسب قضيته عالماً بذاته، وهي لا تعدو كونها أزمة لبضعة أشخاص لا يطيق الواحد منهم صورة الآخر، ولا يمنعهم تباغضهم من تبادل الاعتراف بعضهم ببعض باعتبارهم أغصان شجرة واحدة، فهم أعداء ولكن لا وجود لأحد سواهم.
ليس اللبنانيون بأفضل حالاً من المصريين في الانكفاء على إقليميتهم. شعار العروبة الأدبيّة الجامعة ادّعاءٌ لم يستطع الارتقاء إليه في التاريخ الأدبي العربي غير قلّة ممَّن حقّقوا الشعار بإشعاع أدبهم. وإذ قد يشفع للمصريين كثافة عددهم وضخامة قضاياهم الاجتماعيّة، فلا يشفع للبنانيين غير انفتاح السوريين والعراقيين وبعض الخليجيين والمغاربة على أدبهم وانجذابهم إلى حيويّة بيروت. ولولا الطابع الشمولي للحداثة، التي هدمت حدوداً ووصلت ما بين الهموم والتطلّعات، لظهرت المشكلة في صورها الأكثر انغلاقاً.
التحيّة، في هذه المناسبة، لنخبة من الشعراء والقصّاصين والأدباء المصريّين الذين اخترقوا حُجُب الإقليميّة، وأشعروا أدباء الأقطار العربيّة الأخرى بشراكةٍ طال الشوق إليها، وردّوا الروح إلى عبارة «الأدب العربي». هذا الإنجاز ما كان ليحصل لولا مصر. كان دائماً ثمّة روابط بين العراق وسوريا والأردن وفلسطين ولبنان، وإلى حدٍ ما البحرين وبعض المغرب. أمّا مصر الأدبيّة والفكريّة فكانت إلى الأمس القريب حاضرة على الأغلب بغياب اهتمامها وبغَيظ المشرقيّين من هذه اللامبالاة. ويوم أبدى طه حسين إنصافاً لبيروت قبل سبعين عاماً هبّت على اللبنانيين والشوام عاصفة من الزهو لم تلبث أن أخمدتها الأيام... إلى أن نهضت ثورة الحديثين في مصر وصوّبت مجرى الأشياء.
هؤلاء الحديثون الذين يعانون الأمرّين على أيدي مناوئيهم من الرجعيّين والسلطويّين في مصر، والذين هم الآن الأمل والضوء لإخوتهم وقرّائهم في الدنيا العربيّة. ومن أكبر الأوسمة على صدورهم انصرافهم عن الأوسمة، وأجمل جوائزهم احتقارهم لجوائز تهيمن عليها، ولو اختلفت، أغصان شجرة واحدة.

سيوران يُشرّح فرنسا
أعيد في باريس نشر جواب وضعه عام 1941 إميل سيوران، الفيلسوف الروماني الأصل، في خضمّ تلك الحقبة المتلبّدة بالغضب والإحباط، رداً على سؤال: لماذا لم تعد فرنسا تقود العالم؟ ويجد المعنيّون بفرنسا، ونحن منهم، في هذه المحاولة، أجوبة عن تساؤلات عديدة لا تزال معاصرة.
يقول: «لا أظنّ أني سأعبأ بالفرنسيين لو لم يعانوا ما عانوه من ضجر خلال تاريخهم. لكن ضجرهم خلو من العنصر اللانهائي. إنه ضجر الوضوح، سأم الأشياء المفهومة (...) القرن الأكثر فرنسيّة هو القرن الثامن عشر. إنه الصالون وقد أضحى كوناً (...) إنه أيضاً القرن الأكثر تضجّراً، والذي تمتّع بأكثر ممّا ينبغي من وقت، ولم يشتغل إلاّ لتمضية الوقت (...) فرنسا حظيتْ بامتياز النساء الذكيّات، اللواتي أدخلن الغوى إلى الفكر، والسحر السطحي واللذيذ إلى المجرّدات.
(...) ماذا أحبّت فرنسا؟ الأساليب، مِتَع الذكاء، الصالونات، العقل، الكمالات الصغيرة. التعبير يتقدّم الطبيعة. إنها ثقافة الشكل وقد استجمعتْ القوى البدائيّة وراحت، فوق كل انبثاقٍ شغوف، تفرش صباغ الرهافة بعد إمراره على مصفاة الفكر».
ثم يقول: «الذكاء والفلسفة والفن في فرنسا تنتمي إلى عالم المفهوم (...) إن فرنسا هي رَفْضُ السرّ. إن أكثر ما يُشبهها هي اليونان القديمة. ولكن، في حين كان الإغريق يزاوجون بين الذكاء والنفحة الميتافيزيكيّة، لم يمضِ الفرنسيون إلى هذا البُعد، لم يستطيعوا ـــــ هم المغرمون بالمفارقات في أحاديثهم ـــــ أن يعيشوا مفارقة واحدة بوصفها حالة أو موقفاً (...) عندما كانت فرنسا قادرة على تحويل المفاهيم إلى أساطير، لم يتعرّض جوهرها الحيّ للخطر (...) إن خَلْق الأساطير وتبنّيها، والكفاح والتألّم والموت في سبيلها، هذا هو ما يبرهن على خصب الشعب. لقد كانت «أفكار» فرنسا أفكاراً حيويّة، قاتل الفرنسيون من أجلها قتال الجسد والروح. ولئن كانت فرنسا تحتفظ بدور حاسم في تاريخ أوروبا الفكري فلأنها عيّشت أفكاراً عديدة، وأخرجتها من العدم التجريدي للحياد المطلق. إن الإيمان معناه الإحياء.
لكنّ الفرنسيّين ما عادوا يستطيعون الإيمان ولا الإحياء. ما عادوا يريدون الإيمان مخافة أن يبدوا مضحكين. إن الانحطاط هو نقيض عصر العظمة: إنه إعادة تحويل الأساطير إلى مفاهيم».
ويضيف: «الشعب لا ينتظر شيئاً. إذاً، مَن ذا الذي سيقترح عليه شيئاً، وماذا يقترح؟ لا تعيش الشعوب حقّاً إلاّ بنسبةِ ما تُشْبَع بالمُثُل العليا، حتّى لا يعود في قدرتها التنفُّس تحت وطأة المعتقدات. الانحطاط هو فراغُ المُثُل العليا، اللحظة التي يستتبّ فيها القرف من كلّ شيء: إنه عدم احتمال المستقبل، أي: شعور إفلاسي بالزمن، مع النتيجة المتحتمة لذلك: نَقْص الأنبياء، وضمن ذلك، نقص الأبطال (...).
«لقد أنهك الفرنسيون ذاتهم بفرطِ الوجود. ما عادوا يحبّون أنفسهم لأنّهم يشعرون شعوراً فائقاً بأنهم انوجدوا (...) إن الانفصال عن القيم والعدميّة الغريزيّة يجبران الفرد على اعتماد طريق الملذات الحسيّة. عندما لا يعود الإنسان يؤمن بشيء تصبح الحواس ديانة. وتصبح المعدة غاية. إن ظاهرة الانحطاط لا تنفصل عن الأكل (...) المآكل تحلّ محلّ الأفكار (...) من آخر فلّاح إلى أرقى المثقّفين، باتت ساعة الطعام الطقس اليومي للفراغ الروحي. إن تحويل حاجة فوريّة إلى ظاهرة حضاريّة خطوة خطرة وعارض خطير. لقد كان البطن مقبرة الإمبراطوريّة الرومانيّة، وسوف يكون حتماً مقبرة الذكاء الفرنسي...».
على هذا المنوال يُشخّص سيوران ملامح «الأزمة البنيويّة والقاتلة» للواقع الفرنسي. وأكثر من واقع، خاصة على شاطئ المتوسّط، يتقاسم مع المجتمع الفرنسي العديد من الظواهر التي يتوقّف عندها الفيلسوف المتشائم. وسواء خيراً أم شرّاً، عندما تقول «فرنسا» تقول شمساً للعالم. لهذا، ولغيره، عوارضها تُقلق. ولأنّها، مهما تأزّمتْ، لا تُعْدَم ضمائر من صميمها تُقرّعها، نظلّ نردّد إقناعاً لأنفسنا بأن لا خوف على تلك الشمس.
وفي كلّ منّا، فرنسيّي الهوى كنّا أم غير ذلك، شيءٌ كثير من فرنسا.

أين تمضي الصبايا؟
أين تمضي الصبايا؟
يتدفّقن في الشوارع كالشلّالات، وفجأةً تُقفر بدونهن الأرض...
أين تمضي الصبايا؟
لمَ الاستعجال، والشَعْرُ يطوف بالهواء كما يطوف الهواء بالصدور العطشى؟
ألا يرين الضجر حولهنَّ فتلوي قلوبهنّ على رفاق الدرب؟ أم أنهنَّ يعتبرن ضجر الآخرين شرطاً ضروريّاً لازدهارهن؟
ولكنْ لا نَسَلْ أين تمضي الصبايا، فحيث يمضين سيلقين العقاب على طيشهنّ ضجراً أشدّ من ضَجَر الرجال، ضجر الممثّل بعد أن يخلو المسرح من الجمهور...
وهكذا يهبط الليل على الجميع.
وأين يمضي الجميع بعد أن يساويهم الليل في احتلال قلوبهم؟
تبّاً لكِ أيّتها الأجساد، نحكي عن الحريّة، ولا نستطيع أن نفعل بكِ ما نريد...

لا تُغنّوا العودة
لا سقوط ولا صعود، إذاً أين؟
وماذا سيتعلّم واحدنا عن الآخر، بعد، أكثر من الابتسام؟
كانت قديماً حركة عمياء، حركة لا حلم، حركة لا طموح، حركة حتميّة عمياء. ولم تتعدَّ تَنَفُّضَ الجناحين غبّ الولادة.
بالصدفة ما كان. بالصدفة أو بالقَدَر، أيُّ فرق؟ أو بالعَمْد، أيُّ فرق؟
كرهتُ الوداع لأنه يعيد الأمور إلى نصابها. ما أشقى العودة! لا تُغنّوا العودة! تَغنّوا دوماً بالرحيل! ولو بدون رحلة، ما الفرق؟
ليت العالم انتهى قبل أن تقول شيئاً.
الشمع الأحمر في البداية والشمع الأحمر في النهاية.
هكذا كان يمكن أن يلتقي الحضور والغياب في انعدام الفَرْق.


عدد السبت ١٦ أيار ٢٠٠٩


إدوارد سعيد وتلك الإقامة بين الثقافات

إدوارد سعيد وتلك الإقامة بين الثقافات

السبت، ١٦ أيار ٢٠٠٩

مقابلة مع جورج قرم


مقابلة مع جورج قرم